اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/mubarak/20.htm?print_it=1

كيف تولد الأفكار للكتابة ؟

تعريب: مبارك عامر بقنه

 
بسبب صعوبة إيصال ما يريد الكاتب قوله عن طريق الكتابة، إذ يتطلب من الكاتب أن يصيغ الفكرة في سياق متكامل حتى يستطيع القارئ فهم ما يحاول الكاتب قوله، متطوراً في موضوعه، وهذا التطور غالباً ما يشكل للكتاب المبتدئين أعظم العقبات. فيتبادر هنا سؤال: هل هناك طرق مساعدة لنمو الأفكار؟ هل توجد وسائل تقودنا لتوليد الأفكار بدون تقييد للقدرات العقلية؟
الجواب: بدون شك، هناك الكثير، فمثلاً أرسطو وضع ثمان وعشرين طريقة، ولكن في التطبيق العملي قليل منها الذي يمكن تطبيقه. وفي القرن العشرين أوجد الكاتب البليغ Kenneth Burke وسيلة سهلة يمكن تطبيقها على كل الأوضاع، وسماها الخمسة Pentad مجموعة من خمسة مصطلحات كلها تقود إلى أسئلة منطقية ذات علاقة. وهذه المصطلحات الخمسة هي : الفعل، والعامل المساعد، والمشهد، والوسائل، والغايات.

وعند الإجابة على الأسئلة التي تنبعث من هذه المصطلحات ينشيئ لديك مجموعة أفكار للكتابة، والتي يمكن تطبيقها على أي موضوع . والآن سوف نشرح هذه المصطلحات الخمسة:


أولاً: الفعل:
وهو أي شيء حدث أو يحدث، ولكن ليس بالضرورة أن يُحدد بعمل بدني أو مادي، فأي شيء يوجد يعتبر "حدث" فالقصيدة التي حدثت كانت فعل، وتستمر "حدث" طالما الناس يتفاعلون معها. والتفكير الشخصي يعتبر فعل، وكذلك الاكتشاف العلمي.
فالفعل ـ غالباً ـ هو نقطة بداية التفكير، فلو أردت الكتابة عن الفساد الأخلاقي أو الانفجار السكاني فالتفكير الأولي ربما يكون عاماً وكبيراً وغامضاً. والتفكير الأولي يعطي صفة شخصية ، والعموم والخصوص من الأفكار هي التي تحتاج إلى تطور. ولتطوير ذلك هنا بعض الأسئلة:
ماذا حدث؟
السؤال ينطبق على حدث في الماضي، وبالرغم أن هذا السؤال يبدو سؤالاً بسيطاً يسهل الجواب عليه؛ إلا إنه في الغالب يشكل إحدى الأسئلة الصعبة. فلو عشرة من الناس سُئلوا: ماذا حدث؟ فإنهم ربما يعطونك عشرة إجابات مختلفة، وهي تعكس وجهات نظر مختلفة. وكلما بعد الحدث كلما كانت الحقائق أغمض. ويقضي الإخباريون والصحفيون معظم وقتهم أولاً في محاولة اكتشاف ماذا حدث. فمعرفة ماذا حدث ربما تحدث إجابة مختلفة عما كنت تتوقع.
ماذا يحدث؟
ينطبق السؤال على أي حدث يحدث في الوقت الحاضر، وهو أيضاً يشمل الإجابات أي التفاعلات. ونحن نرى أن التلفاز جعلنا أشد انتباه لما يحدث حولنا أكثر من أي وقت مضى. ومقدرتنا للرؤية لا توحي دائماً ما يحدث لأننا نرى فقط أجزاء ونكمل نحن باقي الكل. ففي الأحداث الجارية لا نعرف دائماً ماذا يحدث، فمثلاً اغتيال جون كندي في ذلك الوقت ظهر سؤال هل هناك مؤامرة؟ هل هناك أحداث يمكن ملاحظتها غير التي تظهر في الفلم أو في التلفاز؟ الآن نعرف ذلك. وفي التحليل الأدبي نرى أن الكاتب عادة ما يخبرنا عما يريد أن نعرف ماذا يحدث؟ وبالتالي نحن يجب علينا الاستدلال عن الأشياء التي لم يخبرنا بها.
ماذا سيحدث؟ أو ماذا يمكن أن يحدث؟
ينطبق السؤال على التأمل في أي حدث لم يحدث بعد، والإجابات غالباً تكون مبنية على ماذا يحدث، إلا إنها تظهر قدرة المفكر لتوليد الأفكار أو الحقائق غير المتوفرة لديه وفي أي اتجاه تتحرك الأشياء؟ وعلى أي أساس تبنى معرفتنا؟ وهذا النوع من التفكير ليس تخرصا ولكنه ببساطة عمل منطقي على أساس بناء معرفي. إنها إحدى امتع الطرق الكتابية.
ما هي؟
ينطبق السؤال على أي عمل أو تفكير يتطلب فيه تعريف. ما الوجودية؟ وما الإدراك الخارج عن نطاق الإدراك الحسي الطبيعي؟ ما الخصائص والمميزات والكفائيات التي تتميز بها عن الأشياء الأخرى؟ لكي نقول عن شيء ما أنه كذا؛ فإنه إيضاً من الضروري أن نصنفه عن كل الأشياء الأخرى المشابهة له.

ثانياً: العامل المساعد:

الفعل لا يمكن فصله عن العامل أو الفاعل المسؤول عن الفعل. وليس بالضرورة أن يكون الفاعل شخص، فالعاصفة مثلاً استخدت كفاعل في عمل شكسبير، أو العواطف كالخوف والمحبة والطمع والحقد ربما تكون العامل أو القوة المحركة التي تتحكم في الفعل. والعامل قد يكون عاملاً مضاداً أو عاملاً مساعداً كالأعداء والأصدقاء. والعامل داخل ورقة الكتابة هو المؤلف، فمن الكاتب؟ وما شخصيته؟ وما مصالحه الذاتية؟ فالمصالح الذاتية قد تهيمن على الكاتب وهذه طبيعة بشرية . وإذ نحن نذهب لتوليد الأفكار المرتكزة على الفاعل، فنحن لدينا بعض الأسئلة الأساسية لنسأل أنفسنا حول مصدر الفعل.
من عمله؟ ومن يعمله؟
تنطبق الأسئلة على أي وضع يكون العامل فيه غير معروف . أعداد كبيرة من الناس تقرأ القصص البوليسية، وقصص القتل الغامضة، وبإلحاح نقلب صفحات الكتاب لنكتشف من هو الفاعل. وغالباً ما تُعطى الإجابة، أما في أوضاع الحياة الحقيقية فالإجابة تكون تأملية وبعد تفكير فمثلاً إحراق الممتلكات العامة عمداً، من المسؤول عن ذلك؟ الحرب في قارة آسيا، بسبب من؟ الفساد عموماً، من المسؤول عنه؟
ماذا عمل؟
ينطبق السؤال على كل القوى المجهولة التي تسبب الأفعال والأفكار. وهذا ربما ينطبق على طرق مجردة من المرجعية للناس كما في الحس الجمعي: المجتمع، الحكومة الجيش، العنصر الرديكالي، الضغط الديني. وهذه عوامل مستمرة، فهم يواصلون العمل بعد غياب الأفراد الممثلون لهم في وقت معين، وخصوصاً عندما نحاول تحديد الأسباب أو نحاول نفلسف التقدم التاريخي المستمر للإنسان.
ما نوع العامل؟
ينطبق هذا السؤال على العامل الذي يُعرف. يُسأل عن كل المعلومات المتعلقة بنشاط العامل، والكفاءات التي يملكها كفرد أو مع مجموعة . مثلاً لو انتج أحدهم أفضل الكتب مبيعاً، فالسؤال العام: من الكاتب؟ وليس عن اسم الكاتب ولكن عن هويته، فوصف العامل يتداخل بسرعة مع كل الأسئلة لأننا ربما نذهب لنفسر الخلفية العائلية للكاتب، وتأثيرات ذلك عليه، وتقنيات الكاتب والغايات وأمور أخرى. وبالإجابة على كل الأسئلة الأساسية عن الشخص ربما تكون قادراً على توليد سيرة كاملة.

ثالثاً: المشهد:

بعد دراسة الفعل والعوامل فإننا نتجه إلى المشهد، وهو أي شيء يوجد في المحيط التابع للحدث، فإنه يوجد خلف الستار عوامل يحدث فيها الفعل، وأي شيء يحدث في وقت معين؛ فإنه ربما لا يمكن أن يحدث في وقت آخر. فالزمان والمكان مهمة في المشهد، فهي امتداد للحس، فالمشهد يمثل البيئة التي يحدث فيها. فنحن نستطيع أن نفكر في مساحة محددة أو معينة مثال ذلك: حرم الجامعة، فما التفاصيل المهمة؟ وبطريقة تجريدية، نحن نستطيع نتحدث عن المناخ الأخلاقي. فهذه المشاهد أقل إدراكاً، ولكنها تكون ذات معاني لو أنها شرحت وبينت. وما يحدث في التعليم العالي ربما يكون أفضل أن يفهم عن طريق الرجوع لما حدث في الماضي . فالوقت عبارة عن كمية متصلة تجعل التاريخ ذات علاقة، فما يحدث الآن هو على الأقل متعلق بما حدث وانتهى. حتى ولو كان هناك انقطاع جذري، فالرجوع إلى المشهد العام، الماضي والحاضر ، وسائل لتوليد الأفكار. والأسئلة حول المشهد سهلة وموجهة:
أين حدث؟ أين يحدث؟ وأين سيحدث؟
الإجابة على هذه الأسئلة لا يعني فقط مجرد ذكر أسماء الأماكن؛ وإنما وصف الحالات، وتجاوز السطح الظاهر لتحديد الظروف الملائمة الصحيحة، وإعطاء تفصيلات وصفية. فمثلاً ما المشهد الألماني عندما جاء هتلر إلى السلطة؟ وأين الأماكن التي تشبهه الآن؟ في أي الحالات المحتملة ظهور الديكتاتورية مرة أخرى في المستقبل؟ العمل الأدبي يركز على بعض النقاط لأن الكاتب لا يمد القارئ ببيئة مألوفة، فالكاتب ربما يخلق أوضاع استثنائية في أماكن فريدة وفي أوقات حرجة لكي يظهر كيف أن الإنسان يستطيع أن يعمل تحت ظروف غير طبيعية. لذا تجاهل المشهد في تفسير هذه الأعمال يحدث إخفاق جزئي في فهم الفعل.
متى حدث؟
الأين ومتى مرتبطتان بقوة ويصعب فصلهما، والزمن عامل حرج في تشكيل الأفعال والتي ما نرجع كل الاختلافات للزمن. فزمن مالكوم أكس يختلف عن زمن لوثر.. فما يوجد زمن معين ربما لا يوجد في زمن آخر وذلك لتغير الظروف. إذن الزمن عنصر أساسي لجذب انتباه الكاتب والتركيز عليه.
ما الخلفية؟
ينطبق السؤال على خلفية الفعل، المشهد التاريخي ، فهو إذن ينطبق على الأفعال التي تحدث في الماضي بالإضافة إلى ما يحدث الآن. كل الأفعال تعود إلى أفعال أخرى، إما تتطور منها أو تتفاعل مضادة ومغايرة لها.

رابعاً: الوسائل:

لتقريب الموضوع بشكل عام فإننا نحتاج إلى دراسة أكثر لكل الأفعال المتطلبة لوسائل ، وطرق لإنجاز الهدف، وأدوات للتطور، ومصادر للتنفيذ، وأجهزة للعمل ، والعوامل غالباً ما تكون قابلة للملاحظة، فبأي الوسائل أو الطرق يحدث الفعل؟ الوسائل تثير جدلاً ، فيوظف البحث الطبي لتشريح الأحياء. وآلة الحرب تستخدم المتفجرات والغازات والدبابات والرجال. وتعتمد الحكومة على القوانين، والضرائب والجيش ، والسلطة. والتعليم العالي يعتمد على متطلبات الدراسة، والاختبارات ، والمعدلات، والمحاضرات، والبحث، والتجارب. فوسائل أي فعل يخضع دائماً للتغيير والتجارب، وبالتالي يخلق هناك تفاعلات مقلقة. فالأدب الذي يمارس بأدوات جديدة يقلق الرأي الشعبي، مما يجعل القارئ يقاوم التغيير. وفي ظل التطبيقات الضخمة للوسائل لكلا المصطلحين: التجريدي والمادي، فإن الأسئلة الأساسية تولد عدد لا نهائي من التفكير.
كيف العامل عمله؟
ينطبق السؤال على الأفعال التي يكون فيها العامل شخصاً. في عام 1970م كانت الثورة الفكرية النسوية عن وضع المرأة في مجتمعاتنا، كيف أنجزوا ذلك؟ لو اكتشف الإنسان علاجاً للسرطان، كيف حقق ذلك؟ هذا الاهتمام بالوسائل لا يمكن أن يتجاهل لأننا دائماً نجعل الغاية تبرر الوسيلة . في عام 1945م أصدر الرئيس ترومان قراراً لإلقاء قنبلتين على مدينتين يابانيتين . فإبادة الأرواح والتدمير الهائل كانت مادة للجدل، لكن الحرب الطويلة انتهت.
ما الوسائل المستخدم؟
ينطبق السؤال على العمليات والمنتجات. فنقل القلب أصبح حقيقة منذ عام 1970م فما الوسائل التي استخدمت لتحقيق العملية بنجاح؟ هل استخدم الإنسان خنزير غينيا في العمليات مبكراً؟ وهذه الأسئلة المتعلقة بـ " كيف" تشمل " من" . تقرأ مقالة في الصحيفة، ما الجدل المستخدم لتأييد رأي الكاتب؟ في الغالب أي مثال يمكن ذكره ، الوسائل هي مادة الفعل.

خامساً: الغاية:

أخيراً، في عملية التوليد، فإنه لا يمكن القول أن كل شيء يحدث يكون لديه غاية . فبعض الأشياء تحدث مصادفة وبعضها يحدث عن طريق سلسلة متفاعلة . كل الأحداث ربما يكون لها سبب، لكن ليس كل غاية قابلة للتمييز؛ لأن الغاية تستلزم العامل أو الفاعل الذي صمم الفعل مع النية، ونحن لا نرضى فقط بالملاحظات بل نحقق ونشرح ونوضح ونجعل الغاية تحتكم إلى تطفلنا العقلي.
والغاية دائماً ترتبط بشكل أساسي مع الوسيلة. ومع الزمن فإن الوسائل والغايات تندمجان: فالوسائل تصبح غايات. فربما يعمل الإنسان لتوفير المال لعمل أشياء معينة يهدف إليها؛ ولكن مع استمرار العمل يصبح العمل بذاته هدف ؛ بل ربما يكون العمل هو الغاية الكبرى لكل مجهوداته، ولن يكون لديه المتعة.
يرى كثير من الأفراد والمجموعات إنه من الضروري إظهار الغايات، إذ بدون ذلك فإنهم لا يكسبون تأييداً، ولا يحرزون على المصادر التي تحدث الفعل، وحتى وإن كانت الغاية واضحة فإننا نستطيع دائماً توليد الأفكار بواسطة إعادة السؤال.
لماذا؟
لماذا العامل فعل ذلك؟ الأسئلة الشخصية تحفزنا لنسأل: لماذا عُمل؟ أسئلة الغايات والهدف لأي حركة أو مؤسسة أو ظاهرة يكون العامل فيها مجهولاً. ولماذا: يمكن أن تسأل أسئلة متعددة: لماذا عن الشخص، لماذا عن الزمان و المكان، لماذا عن الوسائل. والسؤال لماذا يقودنا إلى معظم التفكيرات الميتافيزيقية حول الكون نفسه، والتي معرفتنا عنه محدودة وبدائية تستند إلى المشاهدة والملاحظة... وحتى فيما يتعلق بذواتنا فمن، وماذا، وأين ، ومتى ، وكيف ، ولماذا، أسئلة أساسية لكل ما يتعلق بالتفكير.

ــ السؤال المنفي.
الشكل المنفي للسؤال ينور الفكر ، ويشكل العقل في قناة جديدة من التفكير. أمثلة ذلك : في أي مكان في العالم لم يحدث فيها حرب خلال الخمسين سنة الأخيرة؟ في أي مجموعة من الناس لا يوجد فيها مرض السرطان؟ ويمكن إيجاد أسئلة أخرى منفية بجوارها. ولكن لا يهم كم يكون عدد الأسئلة ... ولكن ينبغي أن لا تبهم نموذج الأسئلة الخمسة الأساسية.

للتواصل : mubarak200@hotmail.com

--------------------------------------------
[1] اقتطفت هذه الكلمات من كتاب "A Contemporary Handbook Of Rhetoric, Language, And Literature" من الفصل الرابع، وقد ترجمتها بتصرف ، ووسمتها بهذا العنوان " كيف تولد الأفكار للكتابة؟"
[2] وهذا مذهب الماديين إذ لا يشترط عندهم صحة الوسيلة وشرعيتها، ولا شك بفساد هذا المذهب المخالف للفطرة السليمة والشرع والعقل.
[3] لا شك أن كل ما يحدث في هذا الكون هو من تصريف الله عز وجل وهو يحدث بتقديره وعلمه ولحكمة وغاية. وقد ندرك هذه الحكم والغايات وقد لا ندركها، فالزعم أن الأمور تحدث مصادفة ليس لها غاية، هو إبطال لحكمة الله وتقديره لما خلق. وهذا من مقررات المذهب المادي.


 

مبارك عامر بقنه

  • مقالات شرعية
  • مقالات تربوية
  • مقالات فكرية
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية