اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/mubarak/24.htm?print_it=1

جدل حول الديمقراطية

 مبارك عامر بقنه

 
كتب الدكتور محمد الأحمري مقالاً كان شامة سوداء، نطق فيه خلفا، حتى شككت إن كاتب المقال هو الدكتوري الأحمري

أوردها سعد وسعد مشتمل *** ما هكذا تورد ياسعد الإبل

وما كنت أود أن اكتب رداً أو تعليقاً؛ لأن المقال يظهر نقضه في طياته، ولكن أسائني الصورة المهزوزة الظلالية عن الديمقراطية والطرح المفتقد للمصداقية والمبني على الإعجاب دون الاعتبار للضوابط الشرعية، فوصف الديمقراطية بأنها أفضل نظام عرفه البشر أو أنه لن يكون أحسن منه هو من مضغ الجهل والمغالطات. فما نعتقده ديانة أن النظام الإسلامي هو أفضل نظام عرفته البشرية، فهو نظام تكاملي متسق معه الهيئة البشرية والطبيعة الإنسانية شمولي في أحكامه يضمن للإنسان ـ في ظله ـ أن يعيش حياة كريمة سامية. ولست بذلك أهدف إلى المقارنة بين الديمقراطية والإسلام؛ فالسيف ينقص قدره إن قيل إنه أمضى من العصا ولكن إظهاراً لما نعتقده ونؤمن به؛ لأن هذه  الواضحات البيانات دخلها لوثة الشك لدى بعض المفكرين الإسلاميين.

ونحن نرفض الديمقراطية لأنها نظام يجعل الحكم لغير الله، ويجعل التشريع من حق الناس، فالمجالس التشريعية هي التي تقرر الأحكام، فتحل وتحرم ما شاءت، فتحرم التعدد مثلا وتبيح بيع الخمر وتناوله ـ كما يحدث في بعض الدول الإسلامية ـ فلا يستطيع القضاء أن يتدخل في الأمر لأن الأمر مشرع بالجواز من قبل المجلس التشريعي أو البرلمان، فتعطل وتبدل وتغير أحكام الله تعالى باسم الديمقراطية. فهل يقبل مسلم بذلك فضلا عن طالب علم أو مفكر إسلامي مع صراحة الآيات الدالة بأن يكون الحكم لله تعالى كما قال تعالى :" إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون"  وقوله تعالى :" إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون  " وقوله تعالى :" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " وقوله تعالى:" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة ومعروفة. وليس حديثي عن تقرير هذه المسألة ولكن بيان أن الديمقراطية نظام يجعل الحكم للشعب وليس لله تعالى فهو نظام ينازع الله في خصوصيته. فمدح الديمقراطية والثناء عليها هو من باب القدح في الشريعة؛ لأن المقابل لها هو شريعة الله ولا يمكن أن يجتمعان بحال.

وبيدوا أن الخلل الذي حصل في النظرة إلى الديمقراطية بأنها أحسن الأنظمة وهو المقارنة مع واقع المسلمين دون الاحتكام إلى الأصل، وهذا مزلق خطير.  فقول د. محمد حامد الأحمري :" من الخير للبشرية، أن مثالها، يوم تطورت، كان الديمقراطية، وهل كان يمكن بغيرها أن يتطور المجتمع الإنساني؟ لا يبدو ذلك ممكنا، ولم يعهد نموا مستمرا معروفا في تاريخ البشرية بدونها، وتجربة الراشدين زمن رشدنا الوحيد كما قررته وسمته القرون الواعية المفضلة، كانت تعي أن الاختيار العام هو سر النجاح، وأن التغلب والتوريث وثنية كسروية وقيصرية تترفع عنها، فلما غلبتنا الوثنية بررها بل شرّعها ضعفاؤنا لطغاتنا."

يظهر في كلامه بجلاء اختزال لمفهوم الديمقراطية، فالديمقراطية ليست مجرد اختيار وانتخاب؛ بل هي تبديل لشرع الله وجعل الحاكمية لغير الله تعالى. وهل التجربة الراشيدية ـ وهي  ليس تجربة بل هي تطبيق لدين الله تعالى ـ غيرت وبدلت في النظام وجعلت الحكم للناس وأن لهم حق التغيير والتبديل، ألم يقل أبو بكر: " والله لو منعوني عقالا لقاتلتهم عليه" ألم يجعل الحكم لله تعالى وحده، فلم يكن هناك مجلسا تشريعيا يحل ويحرم كيف شاء. فالنظام الراشدي ليس نظاما ديمقراطياً بل هو نظام إسلامي. فليس سر نجاح الراشدين في الانتخاب العام وإنما في تطبيق شرع الله، فعمر بن عبدالعزيز لم ينتخب انتخاباً عاماً ومع ذلك نجح نجاحاً باهراً في حكمه لأنه ببساطة امتثل شرع الله في حكمه وهذه من البينات الواضحات ولكن حب المرء للشيء يعمي ويصم عن معرفة الحق.

وليس رفض الديمقراطية هو قبول الديكتاتورية؛ كلا. فكلهما أوثان وأصنام صنعها البشر عندما لم يهتدوا بشريعة ربهم. فنحن نرفض كل حكم لغير الله تعالى، وأما وسائل الاعتلاء للسلطة فليس ميزة بحد ذاته فقد يعتلي السلطة عن طريق الانتخاب والتصويت من ليس أهلا لها، فيمجده الإعلام ويعلي من قيمته حتى لا يكاد الناس يعرفون إلا هذا فينتخبونه بعد أن حسّن الإعلام صورته. فالعبرة بما يحكم الناس وكيف يسوسهم وكيف يقيم العدل بينهم ويحقق شريعة الله فيهم.
وتعجب عندما تقرأ قوله :" وفي هذا خير أن يدرك الجميع أن المثال الأعلى للحكم هو الحكم الديمقراطي وأن ما عداه من أنظمة لا تستحق أن تذكر في الأخبار أي أخبار إلا أخبار المقهورين، أو المغلوبين على أمرهم، من أهل الهوامش الفاشلة أو المتخلفة."

أطلاق الأعلية للديمقراطية وتزكيتها بهذه الصورة لا ريب أن وراءه اضطراب عقدي وخلل في فهم شريعة الله تعالى. فنحن نرى أن الأعلية لشريعة الله تعالى :" أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " وأي حكم يخالف شريعة الله تعالى هو حكم جاهلي ولا شك. فليس هناك أعلى وأحسن وأرقى وأسمى من حكم الله تعالى. وعلامة الخذلان أن يستقبح الرجل ما كان عنده حسنا، ويستحسن ما كان عنده قبيحا. وإطلاق الألفاظ على عواهنها دون إدراك لمدلولاتها شناعة لا ترتضى، والأحمري يدرك معنى قوله أن الديمقراطية هي المثل الأعلى مع عدم استثناه الشريعة الربانية وتعميمه بحكمه أن الخيرة في النظام الديمقراطي يظهر أنها ليست نفثات قلم وإنما إظهار ما دفن في القلب لأنه كرر وعاد ذلك. وهذا الإعجاب المطلق بهذا النظام الجاهلي دون تقييد يدل على قلة الديانة وبساطة التفكير وقوة التقليد وسيطرة الواقع.

وأقوال العلماء الربانيين فيمن فضل أي نظام على النظام الإسلامي معلومة مشهورة، ولا ريب أن الديمقراطية ليست مجرد انتخاب وحرية تصويت؛ بل هي دين، يتحاكمون الناس وفق قوانينه، فهي تضاهي شريعة الله تعالى. وهنا اذكر بعض أقوال العلماء ـ على سبيل الاختصار ـ فيمن رأى حكما أفضل أو يساوي حكم الله تعالى.
قال محمد الآلوسي في تفسيره:" لا شك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع ويقول هو أوفق بالحكمة وأصلح للأمة... فلا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بيّن المخالفة للشرع منها ويقدمه على الأحكام الشرعية منتقصاً منها[1]"
ويقول الشنقيطي رحمه الله تعالى :" وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض .
كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف ، وأنهم يلزم استواؤهما في الميراث . وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم ، وأن الطلاق ظلم للمرأة ، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ، ونحو ذلك .

فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم - كفر بخالق السموات والأرض ، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله " [ الشورى : 21 ] ، "قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ " [ يونس : 59 ] ، " وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ "[ النحل : 116 ][2]"

ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى :" وهؤلاء المشرعون مالم يأذن به الله تعالى،  إنما وضعوا تلك الأحكام الطاغوتية لاعتقادهم أنها أصلح وأنفع للخلق، وهذه ردَّة عن الإسلام، بل إن اعتبار شيء من تلك الأحكام ولو في أقل القليل عدم رضا بحكم الله ورسوله، فهو كفر ناقل عن الملة[3]"

وأنا أذكر هذا للتذكير لأن قول الأحمري صريح بأن الديمقراطية هي أفضل نظام، فهو يقول :" أن المثال الأعلى للحكم هو الحكم الديمقراطي وأن ما عداه من أنظمة لا تستحق أن تذكر " فهذا تصريح خطير جداً، أقف أمامها استغراباً وتعجباً كيف كتبها الدكتور وقررها!!!

ويستطرد ويقول :" أخي أستاذ العقيدة، قبل أن تفكر في وضع نماذج للوثنية التي تجر الشعوب للوراء وتحطم الكرامة والعقل، لا تنس أن تجعل بجانب وثن التمر والحجر والطين والفرج والفار مثل الأنظمة الوراثية المتعصبة. إنها تصنع من الغبي الوارث إماما معصوما!"
"أستاذ العقيدة" هذه اللفظة لن تجد في معاجم أهل الديانة وإنما تسربت إلى فكر الدكتور من قراءته المعاصرة دون إعتبار للمدلولات، فيفهم القارئ من هذه اللفظة أن الدكتور ليس من أهل العقيدة، وعليه أن يكف أن المجادلة في هذه القضايا. ويفهم القارئ من هذه اللفظة الاستهزاء بأهل العلم والدين وهذه إشكالية تربوية، وتستغرب كيف يستهزئ بأهل العلم وكأنهم هم السبب في تخلف الأمة، ويحملهم ما لم تجنيه أيديهم، وهذا من تعدي الكاتب وظلمه، فإن كنت ديمقراطي فكن نزيها في قولك، أليست النزاهة من شروط نجاح الديمقراطية؟ فالأنظمة المنحرفة لم يبررها العالم العقدي أو يسوغها بل هو يقرر كفر الأنظمة التي لم تحكم بشريعة الله تعالى فهو يعلن الولاء لله تعالى، ويجعل الحاكمية لله تعالى، والعالم العقدي ليس له سلطة تنفيذية في التغيير، وإن كنت تريده أن ينشئ ثورة على الأنظمة ويهيج الناس على الخروج على الحكام من أجل الحرية والديمقراطية فهو لن يفعل لأنه يقيس الأمور بالمصالح والمفاسد، وينضبط بالشرع في تعامله مع الحكام الظلمة. فقد جاء في صحيح مسلم عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم" قيل يا رسول الله: أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال:" لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة" فرجل العقيدة يأخذ بهذا الحديث في التعامل مع الحكام الظلمة والفسقة. فهل ستأخذ بهذا الحديث أم أن هناك أحداث تاريخية خالفت الحديث فنأخذ بالحدث التاريخي ونقدم الرؤية العقلانية والتوجه الديمقراطي ونؤخر الحديث النبوي ، لست أدري؟ ولكن أعلم من يقول بهذا القول يلزمه أن يضعف أو يؤول تأويلا باطلاً ما رواه البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت قال:" بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم" ولكننا لسنا مثل الكاتب فنحن لا نأخذه بلازم قوله حتى يصرح بذلك. ولكن نقول: قد يؤول به الأمر إلى تأويل الأحاديث الصحيحة تأويلا شاذا أو تضعيفها حتى يسير في منظومة فكرية متسقة وإلا حصل له الاضطراب الفكري والتناقض المنطقي.

وفي حديثه تلبيس وخلط في الأمور، فيدخل السنة في الشيعة، ويدخل الوثنية في الإسلام، فالكاتب يفتقد إلى العدل في الحكم، فضلا عن تجاهله بمقاصد الشريعة. وما كان هذا الحديث أن يكون حول الديمقراطية لو أننا رجعنا قليلاً للنصوص الشريعة ووقفنا معها موقف أهل السنة وليس موقف المعتزلة التي سيطر عليها التفكير العقلاني فقدمت رأيها على النص. ونحن وإن كنا نرى أن هناك خللا كبيراً في العالم الإسلامي إلا إنه ليس مبرراً أن ندعو إلى صحة النظام الديمقراطي الرافض لشريعة الله فالخطأ لا يصحح بخطأ وإنما يصحح بالدعوة والعودة إلى المسار الصحيح، وهو المسار الإسلامي الذي مثله الخلفاء الراشدون وكان إنموذجاً للبشرية قاطبة لها أن تحتذي به فكراً وسياسيةً وأقتصاداً واجتماعاً. هذه لمحة سريعة كتبتها على عجل وإن كنت أعلم أن في مقال الدكتور فلتات يتطلب التوقف عندها ولكن حسبك ما سطر القلم. والله المستعان.
 
للتواصل: mubarak200@hotmail.com

------------------------
[1] نواقض الإيمان القولية والعملية (318)
[2] أضواء البيان (3/329)
[3] فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم:12/ 500.
 

مبارك عامر بقنه

  • مقالات شرعية
  • مقالات تربوية
  • مقالات فكرية
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية