صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الأقدام

مبارك عامر بقنه
@M_BU200


يَتراكضون، يُهرولون، يسقطون، ينهضون ويركضون مرةً أخرى، ومن لم يَستطِعِ النهوضَ، فإنه يسير على ركبتَيْه؛ لينجوَ من الدهس، ولعله يَلحَقُ بهم، لا يدرون أين يسيرون؟ وإلى أين يتَّجهون؟ هم دومًا هكذا يركضون، لا تقفُ أقدامهم عن الركض إلا حين يُتعِبُهم المسير، ويغلبُهم النوم، وإذا استيقظوا ركضوا مرةً أخرى، لا شيء يُوقِفُهم، يركضون في الليل والنهار، وفي البَرْدِ والحرِّ، وفي الجوع والشِّبَع، كلُّ شيء يحفزهم ويدفعهم لمزيد من الركض، لا ينجزون شيئًا؛ لأنهم لا يعرفون إلا الركض، لا يعلمون أنهم يملكون عقولًا من أجل أن يُفكِّروا بها، لقد أصابهم الحُمْق ولكن لا يشعرون، لم يتوقفوا لحظةً ليسألوا أنفسهم: لماذا دائمًا نركض؟ لماذا لا نقف؟ متى نقف؟ لم يعطوا أذهانَهم فرصةً لهذه الأسئلة البديهة، ومَن توقَّف وتساءل فسوف يُسحَقُ بالأقدام.

بينما هم يركضون تنحَّى شاب بسيط عن طريق أقدامهم المتحجرة والمُتشقِّقة من وطء الأحجار، تجنَّب هذه الأرجل؛ كي ينجو من سَحْقِها، وحين ابتعد قليلًا رأى شيئًا غريبًا لم يكن يشاهدُه وهو يركض بين الجموع، رأى أنهم يركضون على أحجار وزجاج وأشواك، كان يظنُّ وهو يركض أن الأرض مزروعةٌ بالأعشاب الخضراء النَّضِرة، كان يظنُّ أنهم يسيرون على أوراق الورد، فلم يكن يشعر بشيء من هذه القواطعِ الحادَّة، التفت إلى أقدامه خائفًا وَجِلًا هل تمزَّقت من الركض؟! قبض قدمه وقلَّبها بين يديه، أصابتْه الدهشة حين رأى قدمَه متقطِّعةً مُتمزِّقةً، قد تراكم عليها قطعٌ من الدماء المُتخثِّرة، نظر إلى الأخرى فوجدَها كأختها، أخذته الحيرة وتساءل بخوف: لماذا لم أشعُرْ بالألم؟! كيف تتقطَّعُ قدمي ولم أشعُرْ بها؟! هل فقدت الإحساس في قدمي؟! هل أنا مريض؟! تناول قطعةً معدنية بجواره، وأخذ يمسح بها قدمه كي يرى هل يحس ببردِها، أغمض عينيه، وأخذ يمسح بالقطعة المعدنية تحت قدمه، وحين لامست قدمه صرخ من شدة الألم، في هذه اللحظة خالطه شعور غريبٌ؛ شعور بالفرحة أنه لا يزال يُحسُّ بقدميه، وشعور مختلِطٌ بالدهشة أنه لم يكن يُحسُّ بها من قبل وهو يركض، وشعورٌ غريب جدًّا: لماذا أحسَسْتُ بها الآن فقط؟

ازدادَ تحديقُه في قدميه، فربما يظفرُ بجواب يُخرِجُه من هذه الحيرة الغريبة، استلقى على ظهره، وأخذ ينظرُ إلى السماء لعل فكرَه يبتعدُ عن هذه الاندهاشات المتتالية؛ فيجد جوابًا يُخرِجُه من الحيرة التي أصابته، تأمَّل كثيرًا ولكن دون جدوى، رفع رأسه بثُقْلٍ، وبالكاد رفع بقيَّة جسده المرهق كي يرى الناسَ هل لا زالوا يَرْكضونَ، نظر إليهم ورآهم يركضون بأقدام عاريةٍ مدفوعين دفعًا سريعًا لا يلوون على شيء، ازدادت حيرتُه، وكثُرتْ أسئلته، قرَّر أن يَبتعِدَ عنهم فهو يخشى أن يقتربوا منه فيدهسونه دون أن يشعروا بوجوده، حاول الوقوفَ، ولكنه لم يستطع لشدة آلام قدميه، فهو يشعر كأنه فوقَ جمرٍ مُلتهبٍ، جثا على ركبتَيْه، وأخذ يسيرُ عليها بثقل شديد مبتعدًا إلى مكانٍ أكثر أمانًا، أخذ يجرُّ أقدامه بثقل شديد كأنه يجرُّ عَرَبةً مُحملةً بأثقال، وصل بعد جهدٍ جهيد إلى مكان آمن، ألقى بنفسه على الأرض، حاول تناسيَ آلامه؛ ليفكِّر في سبب فَقْد إحساسِه حين كان يمشي على الشوك والزجاج والأحجار دون شعور بالألم.

أتعبَه التفكيرُ كثيرًا، فجَنَح بفكره بذهنه يَمْنةً ويَسْرةً؛ كي تهدأ نفسُه، ويسكن فكرُه، فهو يرى أن التفكيرَ المُتواصِلَ في قضية ما لا ينتج أفكارًا جديدة، بل يَنحصِرُ عقله في أفكار محدودة هكذا كان يظنُّ، قَبَض على قدمه برفق ليُنظِّفَها، متحمِّلًا الآلام التي يجدُها، وقرَّر أن يقف على قدَمَيْه وأن يسير عليهما، فهو رجل ذو شَكيمة لا يريد شيئًا يُسقطُه، شجَّع نفسه قائلًا: كنت أسيرُ على قدمي بقوة فوق أشياء حادَّة، فلِمَ لا أسير الآن عليها بلطف وأتحمل آلامها؟
وقف بصعوبة والألم يُمزِّقه إربًا، سار بتثاقلٍ شديد، يمشي قليلًا ويقف قليلًا حتى وصل لمُبتغاه، كان يريد أن يشترِيَ أدوية يعالجُ بها قدميه، اشترى ما أراد من مراهمَ وقطن وشاشٍ، عالجَ قدميه بنفسه، فهو متمرِّس في العلاجات الأولية؛ بسبب التحاقه بالكشافة المدرسيَّة، حيث أخذ دوراتٍ عدَّةً في الإسعافات الأولية، لفَّ على قدَمَيْه القطن والشاش، وسكن ألمها قليلًا، ووجد راحة نوًعا ما تُمكِّنه من السير الطبيعي بقدر الإمكان.

سار متثاقلًا نحو الشاطئ يريد مكانًا بعيدًا عن ضجيج الناس؛ ليُهيِّئ لعقله صفاء يمكنه من معرفةِ ما حلَّ به، وصل إلى الشاطئ، وجلس على صخرة كبيرة، مُبعدًا قدَمَيْه عن مياه البحر، جلَسَ ينظر بهدوء في أمواج البحر المندفعة بقوة، كأنها لا تريدُه أن يجلس بجوارها، كانت الأمواج تتتابَع بشدة، ولكنها لا تَصِل إليه، والرياح شديدة تكادُ تدفعُه عن الصخرة، لكن دِفْئَها جعَلَه يتماسَكُ ويَمكُثُ على الصخرة، رفع بصره بعيدًا نحو مياه البحر لا يريد شيئًا يُقلِقُه، أو يصرف ذهنَه عن التفكير، مضى يتأمَّل في أمره، فليس لديه وقتٌ أن يتأمل في الوجود من حوله؛ فهو يرغب في جواب سريع مُقْنع؛ لتهدأ نفسه المضطربة، استغرقَ في أفكاره ناسيًا ما حوله، وبينما هو كذلك إذا بصوتٍ يخترق أصواتَ الأمواج، صوتٍ أعاده من شروده، صوت رخيم هادئ، نظر بثقل ناحيةَ الصوت، فإذا بفتاةٍ لم تكمل العقد الثاني من عمرها واقفةً بجواره تنظر إليه بعينَيْنِ زرقاوين، ساذجتين، لم ترتقِ الصخرة ولكنها كانت بجواره يُمكنُه سماع صوتها بشكل واضح وسط هذه الأمواج، تبسَّمت ابتسامة غريبة لم يجد معنًى ولا تفسيرًا لابتسامتها الغريبة، فقد كانت ابتسامة ممزوجةً بسخرية وتعالٍ، قال في نفسه: لمَِ هذا التعالي في ابتسامتها؟ سألها مباشرة بصوت هادئ: هل ناديْتِني؟
قالت دون تردد: نعم.
ثم صمتَتْ قليلًا، ثم قالت: لقد أذهلني وجودُك هنا، فجئت أسألُك، فأنتم لا تجلسون في هذه اللحظات على الشاطئ.
شعر أن لديها شيئًا يمكن أن يستفيدَ به منها، وخصوصًا أنه يبدو عليها السذاجة، فأراد أن يستدرِجَها في الحديث، فلعله يظفرُ بجواب لديها يُريحُ عقلَه الذي كاد يجنُّ، فقال لها بصوتٍ رقيق: مَن تقصدين بـ"أنتم"؟
تفاجأت بهذا السؤال، فالتفت إلى البحر؛ كي لا يرى تفاجُؤها، فقالت بكلمات واثقة: أقصد أنتم هؤلاء الذين تركضون في خدمتنا.
فقال مندهشًا فَرِحًا كأنه سيحظى بأجوبة على أسئلته المحيِّرة: كيف نركض في خدمتكم؟ وكيف عرفتِ أنني من هؤلاء الذين تذكرين؟
نظرت إلى أقدامه مبتسمةً: انظر إلى قدمَيْك، فقد مزَّقها الرَّكْض من أجلنا، وانظر إلى ملابسك الرَّثَّة التي تقطعت في خدمتنا، فنحن نعرفُكم بملابسكم المهترئة، وأقدامكم المتَّسِخة المريضة.
صوَّب عينَيْه إلى ملابسها، فرآها ترتدي ملابسَ باهظةَ الثمن، وبدا جزء من جسدها مكشوفًا، تاركة خصلاتِ شعرها الذهبي يغطي بعضًا من كتفها العاري، رمق قدميها ليراها مرتديةً حذاء ورديًّا تزيَّن بخطوط حمراء متناثرةٍ على شكل دوائر صغيرة متباعدة عن بعضها البعض، أخذ يتأمَّل في الحذاء، فقد نسي شكلَ ومعنى الحذاء، وظن أن الناس كلَّهم حفاة.
آب من ذهوله بقولها: حدَّثني أبي أنكم يجب أن تخدمونا، يجب أن تموتوا من أجلنا، أنتم لا تستحقون الحياةَ إلا بالقدر الذي تخدموننا فيه، فحين تعجزون عن خدمتنا، حين تقفون عن الركض من أجلنا، فإنكم تستحقون الموت.
قال لها: يعني أنتم سرُّ وجودنا؟ أنتم...
قاطعته بشيء من الانفعال: نعم، أنتم لا تعرفون للحياة قيمة من دوننا، أنتم في نظرنا كالبهائم، نستخدمُكم كما نستخدم البهائم، فبشرتُكم السمراء، وشعركم الجَعْد، وقامتُكم القصيرة – دليلٌ على أنكم خُلقتم من أجل خدمتنا نحن أصحاب البشرة البيضاء.

قال لها محاولًا كتمَ غضبِه كي يجعلَها تستمرُّ في حديثها: هذا يعني: أنكم عنصريُّون؟!
قالت بسذاجة: لا أعرفُ ماذا تقصد بعنصريِّين، ولكننا متميِّزون عنكم، فأبي يُحدِّثني أنكم عبء ثقيل على البشرية، يجب الخلاصُ منكم، ولكننا رفقنا بكم وأكرمناكم بخدمتنا.

قال متسائلًا والألم يعتصره: وكيف نخدمكم؟
ضحكت بمِلْء فِيها: أنتم كالعَجَلة نقودُكم حيث نشاء، نجعلكم تحرثون أرضَنا، وتزرعونها، ثم نعطيكم من ثمرها بثمن تدفعونه لنا، أنتم أدوات نستخدمها للحراثة وللبناء وللتجارب، فكلُّ رَكْضكم هو من أجل أن تجمعوا مالًا لتحملوه لنا كي نعطيكم من بقايا ما لدينا من أشياءَ زائدة عن حاجتنا لا نريدها، ونحن لا نعطي إلا الأقوياء منكم؛ لذلك يَسْحق بعضكم بعضًا، الضعفاء والفقراء لا نريدهم، يجب أن يموتوا ويُسحقوا؛ لأننا لا نستفيد منهم شيئًا، وأنتم الذين تسحقونهم؛ كي نزيدكم تمزُّقًا وتفكُّكًا، تقتلونهم بأيدكم؛ لئلا تتحدوا ضدَّنا.

سكتت قليلًا، فقد شعرت بالإرهاق وهي تثرثر، فكأن ثَرْثَرتَها هي هوايتها المفضلة، لقد وجد في كلماتها كثيرًا من الأجوبة لأسئلته الغامضة، عدَّل من جلسته، وأراد أن يسألها، ولكنها استمرَّت في حديثها وهي تنظر للبحر بزهوٍ قائلة: أنتم لا يمكن أن تتحدوا ضدَّنا أبدًا؛ لأنكم تركضون دون هدف، تسيرون ولا تعلمون أين تذهبون، فقط تريدون أن ترضونا، هذا هدفكم وغايتُكم، هكذا يقول أبي؛ لذا نحن لا نخشاكم، فأنتم تسيرون بأجساد ليست لكم، وإنما هي لكم في الظاهر، فأنتم قد أعطيتمونا أجسادَكم؛ لذا لا تشعرون بالألم وأنتم تسيرون عليها، فهي ليست ملكًا لكم، ونحن لا نخشى من أجساد نملكها.

سكتت كعادتِها حين يجهدُها الكلام، تريد أن تأخذ نفسًا، وتستمر في هذرتها، ولكنه هو الذي تنفَّس الصُّعداءَ، فقد كشفتْ له غموضًا ما كان ليجدَ له جوابًا لولا كثرة كلامها، أخذت لتنطلق في حديثِها، ولكنه قاطَعَها بغضب واضحٍ؛ فقد نفد صبرُه، قائلًا لها: يكفي، لا أريد سماعَ شيء آخر، فقد أجبتِ عن كل ما أريد معرفتَه، لا أريد مزيدًا من الألم، دعيني أخبرك بشيء لم يخبرْك به أبوك: لا يمكن أن تعودَ لنا أجسادُنا إلا حين تعودُ لنا عقولُنا، ولن تعودَ لنا عقولُنا إلا حين نقفُ نتأمَّل ونفكر، ونشعر أننا بشرٌ لنا قيمتنا وكيانُنا، لقد سلبتم منا التفكيرَ العميق، وجعلتمونا نفكِّر في القضايا الهامشية التي لا تُخرِجُنا عن سلطتكم، جعلتمونا نشعرُ أنكم أفضلُ منَّا، بكذبكم وخداعكم تريدون أن تبثُّوا في أنفسنا أنكم الأفضل؛ لنبقى لكم تَبَعًا لا قيمة لنا، لا تريدوننا أن نفكِّر لِنظلَّ في صراعاتنا من أجل خدمتكم، أنتم تعلمون أننا الأفضل؛ لأننا أكثرُ خيرًا وعطاء، وأكثر صبرًا وتجلُّدًا، نحن لا نتعالى ولا نستكبر مثلكم، ولكنكم تخفون كلَّ هذا لتبقى لكم السيطرةُ، أشكركِ كثيرًا، أشكركِ على ثَرْثَرَتِك، فأنتم دائمًا صامتون تكتمون الحقيقة، وقليلًا ما يفلت لساُنكم بشيء من الحقيقة، لقد أيقظتْني كلماتُك، وعرفتُ مقدارَ الجُرم الذي ترتكبونه في حقِّنا، ولكن لا بد يومًا أن تعودَ الأجساد والأرواح لأصحابِها، فنتحرَّر من طغيانكم وحقدكم، شكرًا لهذه الأقدام التي كشفت لنا الحقيقة، والآن أرجوكِ دعيني وحدي، فالوَحْدة، والبعد عنكم هو طريق نجاحنا وخلاصنا.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

مبارك عامر بقنه

  • مقالات شرعية
  • مقالات تربوية
  • مقالات فكرية
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية