اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/muzeini/20.htm?print_it=1

الراحل نصر حامد أبو زيد

د. خالد بن عبد الله المزيني


توفي هذا اليوم الاثنين 23 رجب 1431هـ الكاتب المصري المعروف نصر حامد أبو زيد، وهو أستاذ جامعي له مكانته لدى قطاع كبير من مثقفي العصر، ولا تمنعنا مكانته هذه من مناقشة قصة أفكاره بروح (رياضية) موضوعية، ولولا أن بعض الإعلاميين العرب جعله من المجددين في هذا العصر لما تكلفت كتابه هذه المقالة، فالراحل أبو زيد يعد من دعاة الخروج على نهج الاستدلال الإسلامي الذي سار عليه أئمة الفقه والحديث منذ عصر صدر الإسلام، وقد كانت تسيطر عليه فكرة مركزية وجّهت أفكاره، وهي فكرة التاريخية الماركسية في دراسة أصول الشريعة وحقائق التاريخ، ويتكلف كثيراً في اقتناص الوقائع الإسلامية التي يؤيد بها فكرته، ولو بضرب من التأويل بعيد، وربما ساعده على ذلك ضيق العطن لدى (بعض) المعاصرين من الإسلاميين في التعاطي مع التراث واعتمادهم آليات الاسترجاع الأجوف وحشذ النصوص في غير موضعها، مما شجع قلم الراحل أبي زيد على إحداث اختراقات في جدار المنظومة الشرعية طارت بها الدوائر المعادية فرحاً.

وقد كتب الراحل نصر أبو زيد يدعو إلى قراءة جديدة للقرآن الكريم على طريقة اليساريين العرب، زاعماً أن هذا الكتاب الكريم ما هو إلا " نص لغوي "، و" منتج ثقافي " يعني بِلغتنا "مجرد كلام"، وأن من يدعو إلى نهج القرآن والاحتكام إليه فهو لا يعدو أن يكون مؤدلجاً دوغمائياً، وأنه لا يمكن فهم القرآن إلا من خلال إخضاعه لقانون التطور الطبيعي، فنصوص القرآن والتفسيرات اللاحقة له خاضعة للصيرورة التاريخية، ولأجل نزع القدسية عنها لا بد من تفسيرها بطريقة تربطها بالأحداث السياسية، لنقول للناس إن مرجعياتكم الشرعية ما هي إلا كتلة مؤدلجة لتكريس سلطة الاستبداد المستتر وراء النصوص، وأن عباءة الزهد عند أئمتكم تتدثر وراءها براغماتية فجة. وأن مقررات القرآن قابلة للتطوير بحسب ما يبدو للعقل الحر من كل قيد إلا قيد الرغائب والأهواء الوقتية، يا لها من تهمة صلعاء تسربت إلينا فصارت فطوراً يومياً في صحفنا الغراء !. وقد أصدر الراحل نصر أبو زيد عدداً من الكتب التي تعد مرجعاً لكل باغ وعادٍ على مصدرية القرآن العزيز، ومنها: " الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة (1982م) "، و "نقد الخطاب الديني (1992م) "، و "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية (1992م) "، و "مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن (1993م) "، و "التفكير في زمن التكفير (1995م) "، وقد طبعت كتبه وانتشرت أيما انتشار، هذا وقد أصدرت محكمة النقض بالقاهرة عام (1416هـ) موافقتها على الحكم بالتفريق بين الراحل أبي زيد وزوجه بناءً على دعوى الحسبة التي رفعها المستشار صميدة عبد الصمد (اسم على مسمى)، لنشره أبحاثاً تثبت ردته عن الإسلام [انظر: المجتمع العربي المعاصر؛ د. حليم بركات، مركز دراسات الوحدة العربية (897)].

إن خرافة العقل الحر من سلطة النص المقدس، وإن بدَت للبعض ذات جاذبية كونها تدغدغ النفوس الساخطة على الفساد، لا تعدو أن تكون أسطورة اخترعتها الماركسية الدهرية، وإلا فإنه لا وجود للعقل الحر كما يصوره بعض الأفلاطونيين العرب، خذ مثالاً الأنظمة الغربية التي ألغت سلطة النص المقدس، لقد استعاضت عنه بقيود القوانين التي كتبها رجال القانون وشرّاحه كما في النظام اللاتيني المدوّن، أو بالسوابق القضائية كما في النظام الانجلوسكسوني، وهؤلاء وأولئك مستعبدون لقواعد ملفقة من تراكمات قانونية تفتقر إلى التمنهج العقلي، فأين العقل الحر في هذا العالم !.

ومن المغالطات المنهجية التي تورط فيها الراحل نصر أبو زيد في المجال الفقهي الهجوم الشرس الذي شنه على الإمام محمد بن إدريس الشافعي، متهماً إياه بالأدلجة !، وأنه أول ساعٍ في توسيع سلطة النصوص الشرعية، وتضييق دائرة العقل، بربط الاجتهاد والقياس بالنصوص، وادعى أن الشافعي بتوصيفه القياس على أنه كاشف للحكم، يسعى إلى " تكريس سلطة الماضي، بإضفاء طابع ديني أزلي " [الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية (146)، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط ثالثة، 2003م] في خطابه، وهذا ما أدى في نظر الراحل أبي زيد إلى " تكبيل الإنسان، بإلغاء فعاليته وإهدار خبرته " [نفس المرجع].

وهذا التجَنِّي المثير يروج دوماً على "التاريخانيين" من شباب اليوم، وعلى من يروم التطفل على أحكام الشريعة من كهوله، وعلى الضائقين بحدود الدين من متنفذيه، لأنَّ ما قامَ به الإمام الشافعي قطع به الطريق على كل متقوِّلٍ في الشرع بغير علم، واستنَّ منهجاً في البحث ينظِّم للناظر طرائق الاستنباط، ويزهق مسالك الحجاج الفاسد. وبما أنَّ الراحل نصر أبو زيد كان ينتمي إلى التيار اليساري [ظاهرة اليسار الإسلامي؛ لمحسن الميلي، دار النشر الدولي، الرياض، ط أولى، 1414هـ]، ويعتقد أنَّ القرآن الكريم ذاته نصٌّ تاريخي، فيقول: " إنَّ الخطاب الإلهي خطابٌ تاريخي، وبما هو تاريخي فإنَّ معناه لا يتحقق إلا من خلال التأويل الإنساني، إنه لا يتضمن معنىً مفارقاً جوهرياً ثابتاً، له إطلاقية المطلق، وقداسة الإله "اهـ، من: [النص، السلطة، الحقيقة؛ د. نصر أبو زيد (33)]، وهذا يفيد أن الراحل كان يروم إسقاط كثيرٍ من التكاليف القرآنية الشرعية بحجة الصيرورة التاريخية، وقد باحَ الدكتور في موضعٍ لاحقٍ من كتابه هذا بنحو ما ذكرته، كما في كتابه المذكور ص (139).

لم يكن الراحل نصر أبو زيد يستنكف عن الدعوة إلى الثورة، لا على منهج الإمام الشافعي وإخوانه من أئمة الإسلام، بل على مصادر الشريعة نفسها، وكان يصرح بأنه " قد آنَ أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر ـ لا من سلطة النصوص وحدها ـ بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفوراً، قبل أن يجرفنا الطوفان "[النص، السلطة، الحقيقة؛ د. نصر أبو زيد (33)]، بهذه الكلمات ختم الراحل نصر أبو زيد رسالته حول الإمام الشافعي، وقد أشبعها تحاملاً على المنهج المحكم الذي استوحاه الإمام الشافعي من مصادر الشريعة، في حين أن المنصفين يعلمون أن الإمام الشافعي قد قرر غير مرة مشروعية القياس الصحيح، ووسع القول فيه وجعله موازيا لمفهوم الاجتهاد !، ومنع القياس بمجرد الهوى والتشهي، لأنه يصبح حينئذ مصدراً غير موضوعي، فلا يوثق به، وهذا ما تقرره أصول القانون الوضعي، انظر مثلاً: الرسالة للإمام الشافعي (24،23).

ولم يذكر لنا أبو زيد ما الطوفان الذي سيجرفه إذا هو لم يقم بالتحرر من النصوص الإلهية والنبوية المحكمة، أما هذه الأمة ـ بحمد الله تعالى ـ فهي تسير على هذا المنهج الراسخ منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، ولم يجرفها طوفانٌ، ما عدا بعض الهنات التي وقعت فيها بعض أجيالها، لا بسبب استمساكها بالنصوص، بل بابتعادها عنها، فكلما كانت من النصوص ومعانيها ومقاصدها أبعد، كانت أقل وأذل، وكلما استمسكت بكتابها كانت أعزّ وأغلب، قال تعالى: ( أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ) [هود (17)] ، وقال عزّ اسمه: ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) [الزخرف (43)] ، قال ابن كثير (4/129)في معنى الآية: " أي: خُذْ بالقرآن المنَزَّلِ على قلبك، فإنه هو الحق، وما يهدي إليه هو الحق، المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم "اهـ.

كما زعم الراحل نصر أبو زيد، أنَّ تصدي الإمام الشافعي لنقد الاستحسان الأصولي المبني على التشهي المجرد دون دليل، إنما هو موقفٌ " أيديلوجي" على حد قوله من هذا الإمام، " يعكس رؤيةً للعالَم والإنسان، تجعل الإنسان مغلولاً دائماً بمجموعة من الثوابت، التي إذا فارقها حَكَمَ على نفسه بالخروج من الإنسانية " [الإمام الشافعي وتأسيس الأيديلوجية الوسطية (139)]، هذه هي النتيجة التي حاول الراحل تقريرها في خاتمة كتابه الذي عنونَه ب"الإمام الشافعي وتأسيس الأيديلوجية الوسطية "، وقد حشا الكتاب بطائفة من التهم الموجهة إلى منهج هذا الإمام في التأصيل الفقهي، خصوصاً في كتابه الفذ "الرسالة". وفي اعتقادي أنه لم يجئ اختيار الراحل لرسالة الشافعي في الأصول عبثاً، خصوصاً حين نتذكر أنها اللبنة الأولى في التأليف في علم أصول الفقه، واستهدافها بالهجوم يوفِّر على خصوم السنة النبوية والفقه الإسلامي جهوداً جمة.

إن اتهام الراحل أبو زيد للإمام الشافعي بأنه المؤسس لسلطة النص، وأنه هو الذي جعل لنصوص الكتاب والسنة المرجعية في مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، إنها تهمة باردة لا تساعده عليها حقائق التاريخ وبدهياته، فمن المعلوم أن مدرستي الحديث والرأي كانتا جميعاً تحتكمان إلى (النصوص)، ولم يكن الخلاف بينهما في مدى حجية النص الشرعي، بقدر ما كان النزاع في مدى ثبوته لدى كل منهما، وإلا فالجميع متفقون على أنه إذا تعارض الرأي والنص الثابت؛ يقدم النص الشرعي حتماً. ولقد كان من أهم بواعث الخلاف بين المدرستين قلة الأحاديث التي بلغت أهل الرأي، مقارنةً بتلك التي اشتغل بها أهل الحديث حفظاً وتفقهاً، قال أبو العباس ابن تيمية: " قال أبو يوسف وهو أجل أصحاب أبى حنيفة، وأول من لقب قاضي القضاة لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل - أي مسألة مقدار الصاع النبوي، وترك صدقة الخضروات، والأحباس، وقد أشار إليها المؤلف قبل ذلك -، وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، رجع أبو يوسف إلى قوله، وقال: " لو رأى صاحبي مثل ما رأيت؛ لرجع مثل ما رجعت "، فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة، كما هو حجة عند غيره، لكنَّ أبا حنيفة لم يبلغه هذا النقل، كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث، فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه، وكان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد وتركا قول شيخهما، لعلمهما بأن شيخهما كان يقول: (إن هذه الأحاديث أيضاً حجةٌ إن صحت) أي إن بلغته صحيحة، لكنها لم تبلغه.

ومن ظنَّ بالإمام أبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم بالظن أو بالهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث الوضوء بالنبيذ في السفر، مخالفةً للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس، لاعتقاده صحتهما وإن كان أئمةُ الحديث لم يصححوهما [مجموع الفتاوي؛ لابن تيمية (20/305،304)]، ثم قال ابن تيمية: " وقد بينا هذا في رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وبينا أن أحداً من أئمة الإسلام لا يخالف حديثاً صحيحاً بغير عذر، بل لهم نحوٌ من عشرين عذراً، مثل أن يكون أحدهم لم يبلغه الحديث، أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم، أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ أو ما يدل على الناسخ وأمثال ذلك ". وكلا المدرستين تنتسب إلى طائفةٍ من علماء الصحابة رضي الله عنهم، فقد تفقه أهل العراق على ابن مسعود رضي الله عنه وأصحابه، وتفقه أهل المدينة على زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهما وأصحابهما، كما بسط القول فيه ابن القيم في فاتحة إعلام الموقعين.

والإمام الشافعي لما كان قد تفقه على المدرستين حكى إجماعهم على الاحتكام إلى السنة، فقد قال: " أجمع الناس على أنَّ من استبانت له سنةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعَها لقول أحدٍ من الناس " [إعلام الموقعين؛ لابن القيم (1/21)]، فزعم الراحل نصر أبو زيد أن الإمام الشافعي قد اخترع أصل الرجوع إلى النص الشرعي ترده هذه الحقائق الثابتة.

ثم إن الإمام الشافعي لم يمنع العقل من دورِه الذي هو دورُه حقاً، وهو التفقه في النص، واستنباط الأحكام منه، بل لم يمنع الاستحسان بمعناه الصحيح كما تقدَّم، وإنما منع استبداد العقول بالأحكام دون الوحي، وهذا لو عَقَلَ الكاتبُ قسيمٌ للاستبداد السياسي. هذا في مجال الشرعيات، أما في مجال الدنيويات فلم يمنع الإمام الشافعي ولا غيره من الأئمة من العمل والإبداع فيها، بل إن النهج الذي رسمه لهو أقرب الطرق في حفز العقول على الابتكار، إذ قد كفاها مؤونة الفكر والتنقيب في الغيبيات والتعبدات وما اندرج تحتها، وفرَّغها للبحث فيما تحته عملٌ، مما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وفي هذا السياق تأتي مقولته المشهورة: " حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم فى العشائر والقبائل، يقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام "اهـ [مناقب الشافعي؛ للبيهقي (1/452)، الانتقاء؛ لابن عبدالبر (1/80)، البداية والنهاية؛ لابن كثير (10/254)].

أخيراً لا يسعنا إلا أن نقول إن طريقة الراحل أبو زيد من جرى مجراه في تناول القرآن وعلومه على أنه درس لاهوتي أكاديمي لم تصنع منهجاً موضوعياً يصلح لمحاكمة الأفكار والتفسيرات، كما أنه لم يقنع القطاع العريض من أبناء الأمة سواء كانوا مشتغلين بالإسلاميات من شتى الأطياف الفكرية، أو عوام المثقفين من الجمهور المحايد، وعسى أن يكون رحيله فرصة لمراجعة الأفكار التي يطرحها هذا الفريق، ومحاكمتها إلى المحكمات الشرعية والقطعيات العقلية. والله تعالى أعلم، وصلوات الله وسلامه على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأزواجه وذريته وأتباعه بإحسان، والحمد لله رب العالمين.

 

د. خالد المزيني
  • خواطر وتأملات في إصلاح البيوت
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية