صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الاسترواح بالنزهة

 

د. نايف بن أحمد الحمد



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فكنا قبل بضعة أيام نشكو إلى الله -تعالى- جدب بلادنا وقلة الأمطار، واستسقى المسلمون؛ اتباعا لهدي نبيهم -صلى الله عليه وسلم- حالة تأخر المطر؛ فمنَّ الله -تعالى- على بلادنا بهذه الأمطار العامة المتتابعة -فضلاً منه ورحمة- فاستبشرنا بها، وكنا قبلها مبلسين (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم50)

وفي هذه الورقة يحسن الحديث عن أمر يتعلق بهذه الأجواء الجميلة ألا وهو الاستجمام والنزهة قال -تعالى- عن أولاد نبيه يعقوب -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (يوسف12)
قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "أما الخروج إلى البادية أحيانا للتنزه ونحوه في أوقات الربيع وما أشبهه: فقد ورد فيه رخصة" وذكر حديث شرح التالي. فتح الباري 1/116
عن شريح الحارثي قال: قلت لعائشة -رضي الله عنها-: هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبدو؟ قالت: نعم، كان يبدو إلى هذه التلاع. رواه أحمد (24307) وأبو داود (2478) وصححه ابن حبان (550) قال الخطابي: "التلاع جمع تَلعة وهي ما ارتفع من الأرض وغلظ، وكان ما سفل منها مسيلاً لمائها "ا.هـ معالم السنن 2/234 جامع الأصول 4/532
وقال سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ابْدُوا يَا أَسْلَمُ، فَتَنَسَّمُوا الرِّيَاحَ، وَاسْكُنُوا الشِّعَابَ)، فقالوا: إنا نخاف يا رسول الله أن يضرنا ذلك في هجرتنا، قال: (أَنْتُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُمْ) أحمد (16553) وابن أبي عاصم (2372) ولفظه (شمو الرِّيَاحِ، وَاسْكُنُوا الشِّعَابَ)

وعن حنظلة -رضي الله عنه- قال: - قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) ثلاث مرات. رواه مسلم (2750) قيل: "ساعة وساعة للترخيص أو للتحفظ؛ لئلا تسأم النفس عن العبادة"ا.هـ مرقاة المفاتيح 4/1550

وقد جاء عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلفنا الصالح الترغيبُ في الاستجمام قال أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-: "أَجِمُّوا هَذِهِ الْقُلُوبَ وَاطْلُبُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّهَا تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ" رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (659)
وقال الزهري -رحمه الله تعالى-: "الْأُذُنُ مَجَّاجَةٌ وَالنَّفْسُ حَمْضَةٌ، فَأَفِيضُوا فِي بَعْضِ مَا يَخِفُّ عَلَيْنَا" رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (658)

ومما أنشد أبو العتاهية:
لَا يُصلحُ النَّفسَ إذ كَانَت مُدَبَّرَةً ... إِلَّا التنقلُ من حَالٍ إلى حَالِ([1])

فالاستجمام "مَنْدُوب إِلَيْهِ بَين الإخوان، والأصدقاء والخلان. لما فِيهِ من ترويح الْقُلُوب، والاستئناس الْمَطْلُوب"([2])

وللنزهة والاستجمام آداب ينبغي التحلي بها، منها:

النهي عن النزول على جواد الطريق: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِيَّاكُمْ وَالصَّلَاةَ عَلَى جَوَادِّ الطَّرِيقِ، وَالنُّزُولَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا مَأْوَى الْحَيَّاتِ، وَالسِّبَاعِ) أحمد (14277) وصححه ابن خزيمة (2548) ورواه ابن ماجه (329) بلفظ (إِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى جَوَادِّ الطَّرِيقِ، وَالصَّلَاةَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا مَأْوَى الْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعِ) قال الحافظ ابن حجر: "ابن ماجه عن جابر، بإسناد حسن"ا.هـ التلخيص الحبير 1/185

ومنها أن لا نقول دعاء النزول: عن خولة بنت حكيم -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ) رواه مسلم (2708)

ومنها الأذان وإقامة الصلاة: عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال له: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ وَبَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. البخاري (3296)

ومن هذه الآداب اجتماع الرفقة في مكان متقارب خاصة عند النوم وتناول الطعام : قال أبو ثعلبةَ الخُشَنيُّ -رضي الله عنه-: كان الناس إذا نزل رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- منزلاً- تفرَّقُوا في الشِّعَابِ والأوْدِيةِ، فقال رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلم-: (إنَّ تَفَرُّقَكُم في هذه الشِّعابِ والأوديةِ إنما ذلكمُ من الشيطانِ)، فلم ينزلْ بعدَ ذلكَ مَنزلاً إلا انضَمَّ بعضُهم إلى بعض، حتى يقال: لو بُسِطَ عليهم ثَوبٌ لَعَمَّهُم. رواه أبو داود (2628) وصححه ابن حبان (2690) والحاكم (2540) ووافقه الذهبي.

ومن ذلك الأدب عند التخلي وقضاء الحاجة باجتناب أماكن جلوس الناس وظلهم : عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ) قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: (الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ) مسلم (269)
وعن معاذِ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقُوا المَلاعِنَ الثلاثةَ: البَرازَ في المَوَارِدِ، وقارِعَةِ الطَريقِ، والظّلِّ) رواه أبو داود (26) ورواه أحمد (2715) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-

ومن هذه الآداب المحافظة على نظافة المكان:
عن أنس -رضي الله عنه-عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) رواه البخاري (13)

والنهي عن الاعتداء على الأشجار بلا حاجة: عن عبد الله بن حُبشي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ) رواه أبو داود (5239) والنسائي في الكبرى (8557) قال المناوي: "أبو داود والضياء..وإسناده صحيح"ا.هـ التيسير 2/438  وقال أبو داود: "هذا الحديث مختصر، يعني مَن قطع سدرة في فلاة يَستظل بها ابن السبيل، والبهائم عبثا، وظلما بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار"ا.هـ

وكذلك عدم إفساد الطرق بالتفحيط وإثارة الغبار على الناس : عن حذيفة بن أسيد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ) رواه الطبراني في المعجم الكبير (3050) قال الهيثمي: "إسناده حسن"ا.هـ مجمع الزوائد 1/204 وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5923)

ومن ذلك النهي عن تغيير العلامات والحدود الموضوعة في الطرقات وأماكن التنزه: عن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ) رواه مسلم (1978) قال ابن هبيرة -رحمه الله تعالى-: "أما تغيير منار الأرض قد ..يكون أيضًا من الأعلام في الطرق التي يهتدي بها المسافرون، فلا يحل لأحد تغييرها فيؤول إلى إضلال الناس عن طريقهم ومقاصدهم"ا.هـ الإفصاح عن معاني الصحاح 1/275  وانظر: النهاية في غريب الحديث 1/183 فيض القدير 6/4

ومن آداب التنزه أن يتحلى المتنزِّه بالأخلاق المناسبة للنزهة: قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: "الوقار في النُّزْهَة سُخْفٌ"ا.هـ البيهقي في مناقب الشافعي 2/212
 ورواه السلفي في الطيوريات (39) بلفظ "التَّصَاوُن في النُزْهة سُخْفٌ"ا.هـ
حضر ابن مجاهد وجماعة من أهل العلم في بستان، وداعب -وقد لاحظه بعضهم- فقال: "التعاقل في البستان كالتخالع في المسجد". معجم الأدباء 2/522 الوافي بالوفيات 8/130

ثم الحذر كل الحذر من أن تنتهي تلك النزهة بمأساة وذلك كحال مَن يخوضون بسياراتهم في الأودية والشعاب أثناء جريانها أو السباحة فيها؛ فينتج ما لا تحمد عقباه قال -تعالى-: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة195) وقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء29)

وأختم بأهمية التذكير بشكر الله -تعالى- على نعمة الأمن والأمان، ونعمة هذه الأمطار؛ فبالشكر تدوم النعم قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (إبراهيم7) وقال تعالى: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان12) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ صَوْتُ مِزْمَارٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ وَصَوْتُ رَنَّةٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ) رواه البزار (7513) والضياء في المختارة (2200) قال المناوي: "بإسناد صحيح"ا.هـ التيسير 2/95 والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 جمع وترتيب نايف بن أحمد الحمد 1/3/1440هـ

-----------------------------
([1]) الدر الفريد 11/241 صبح الأعشى 14/329
([2]) المراح في المزاح/35

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د. نايف الحمد
  • مقالات دعوية
  • الصفحة الرئيسية