اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/nashmi/22.htm?print_it=1

المخرج من الفتن

نبيل بن عبد المجيد النشمي

 
بسم الله الرحمن الرحيم


إذا صح أن نُطْلِق على زماننا هذا أنه "زمن الفِتَن"؛ لأنَّنا نصبح على فتنة، ونُمْسي على أخرى، فإنَّه من الطبيعيِّ والْمَنطقي أن يكون البحثُ عن مَخْرجٍ منها فريضةَ الوقت وحتميَّة الزمان والمكان، وتقع المسؤوليَّة الكُبْرى على أولئك الذين تبوَّؤوا مواقع النُّصح والتوجيه والإرشاد، والأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر في أيِّ موقعٍ كانوا، وقد يَصِل بِهم الأمر إلى الوجوب العَيْنِيِّ بِحَسَب الموقع والفتنة؛ إذِ الفتنة في بعض صُوَرِها ما يكون كفرًا، والعياذ بالله.

ولم تعد الفِتَن مقتصرة على شريحة دون أخرى، ولا في قضيَّة دون قضيَّة، فالشَّهوات والشُّبهات هجمَتْ من كلِّ باب، بل من كلِّ منْفَذ، ولو كسَمِّ الخياط، والمعصوم مَن عصَمَه الله - سبحانه وتعالى.

ومِن أشدِّ ما تَحمله الفِتَن أن يُبتلى بِها رأسٌ في الدِّين والعلم، أو في الرأي والمكانة؛ إذْ بسببه يضلُّ أقوام، ويصبح موقفه حجَّة وبرهانًا على سلامة ما هم فيه، وردًّا على من ينكر عليهم.

ولذا فالحاجة إلى كشف الفِتَن وتعريتها وتبيين أضرارِها والدلالة على سبُلِ الوقاية منها لا تَقِلُّ أهَمِّية عن الحاجة إلى تعليم أمور الدِّين والْمُطالبة بتنفيذ أحكامه؛ إذِ الفِتَن أصلاً تَذْهب بالدِّين كُلِّه أو بعضه.


وإذا كان معروفًا أنَّ من الحكمة ألاَّ يشهر المنكر،
وألاَّ يشيع ذكْرُه بين الناس؛ حتَّى لا يَستهين به البعض، ويستسيغ وجوده، فإنَّ هذه الحكمة في زمن الفضائيَّات والإنترنت والعولَمة تُصْبح نوعًا من الغباء، وضربًا من البلادة، فالفتنة تقع في الغرب وبين عشيَّةٍ وضُحاها، وإذا صداها في الشَّرق يُسابق الرِّيحَ، وأنصارُها في ازديادٍ مستمر.

لن أقف عند تفاصيل الفِتَن أو أمثلة عليها، فوضوحها وكثرتها يكفيان دلالةً على ذلك، وما أراه مُهمًّا أيضًا هو الحديث عن المخرج، والبحث عن طريق النَّجاة.

وكما قيل:
لا تسأل عمَّن هلك كيف هلك؟ ولكن عمَّن نَجا كيف نجا؟!

فما المخرج من الفتن؟


ما الْمَخرج لأبٍ يَخاف على ابتنه ذاتِ الثمانيةَ عشر ربيعًا الفتنةَ، وهي ذاهبةٌ إلى الجامعة، أو في مهمَّة شراءٍ من السُّوق، أو في جلسة مُطالعة على الإنترنت؟!
وماذا يَفْعل؛ ليحمي ابنه الْمُراهق من فِتَن الفضائيَّات، أو المواقع الإباحية، أو الشُّبهات الْمُتساقطة كالمطر؟!
ما حيلةُ الدُّعاة والمصلحين؛ لِيُوقفوا زحْفَ إغراءات الشَّهوات ومَزالق الشُّبهات، التي تنتشر كالنَّار في الْهَشيم؟
ماذا عساهم أن يقدِّم المفكِّرون والتربويُّون؛ لِيَضعوا حاجِزًا بين الشباب وبين زحف الفِتَن؟

إنَّ قوانين العقوبات الوضعيَّة في أيِّ بلد لَم تَمْنع الجريمة، فالجريمةُ في زيادة مطَّرِدة على مستوى العالَم، حتَّى في الدُّول الأكثر انضباطًا وتفعيلاً للقوانين.

والقبضة الحديديَّة في التربية على طول الخطِّ تأتي بنتائج عكسيَّة.

وتعزيز وسائل المراقبة وتقوية جانب المتابعة الخارجية أشدُّ عجزًا من أن تُحْكِم السَّيطرة، ويمكن التحايل عليها.


إذًا: فما المخرج؟

أوَّلاً:
لِيَكن في يقيننا أنَّ ديننا الحنيف، الذي منَّ الله به علينا وهدانا إليه - أنَّ هذا الدين لَم يَترك هذه القضية - وحاشاه - دون حلٍّ، ومَن عَجز عن معرفة الحلِّ والْمخرج، فالسَّبب منه، والضَّعف فيه وفي قدراته.

ثانيًا:
إنَّ مَن يُعيد النَّظَر في تاريخ هذه الأمَّة منذ وُلِدت سيَجِد في مَقاطعه ومَفاصله أنَّ الأمة مرَّت بِفِتَن زلزلت الأرض من تحتها، وخرجت منها بعد ذلك كالذَّهب، وإنْ هلك في الطريق من أفرادها مَن هلَك.

ثالثًا:
إنَّ قراءة منهج التغيير الذي تغيَّر به الكون على يد منقذ البشرية - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُعد عملاً ضروريًّا لمن يهتمُّ بتغيير النُّفوس وإصلاحها، ولو على مستوى شخصي.

وعليه:
فإن المخرج - والله أعلم - مما نحن فيه وما هو قادم من الفتن يتلخص فيما يلي:

تقوية العلاقة بالقرآن: على مستوى الأمَّة وعلى مستوى الفرد؛ قراءةً وتدبُّرًا وحفظًا وعناية وصلاة وتحكيمًا، فهو كتابُ هدايةٍ وحمايةٍ وشفاء لِما في الصُّدور من حُبِّ الشهوات أو نوازغ الشُّبهات، فمن أراد أن يَحْمي نفسه أوَّلاً، فلْيَكن له برنامَجٌ جادٌّ مع القرآن، ولْتَكن هناك جلسات ولقاءات متتالية وعلاقة متينة مع القرآن، وأخصُّها التدبُّر، وأرجاها في قيام الليل.

تقوية الرقيب الدَّاخلي: مَخْرج أكيدُ المفعول، فهو الذي جعل من الصحابِيِّ - رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين - الذي كان يشبع يومًا ويجوع أيامًا؛ يرى الكنوز، ويَحملها كاملة دون أن تُسوِّل له نفسه أن يأخذ منها مثقالَ ذرَّة، ولو أخذ، ما عَلِمَ به بشرٌ، لكنَّه الرقيب الداخلي لله - سبحانه وتعالى - والذي جعل منه أيضًا حجَرًا أصمَّ أمام أجْمل نساء قومها، جاءَتْه راغبةً فاتِنَة عارضة.

وبعيدًا عن التصنيفات غير المُنْصِفة، وعن النظريات غير الواقعيَّة، فإنَّ تَديُّن الفرد، ووازِعَه الداخليَّ، وإيمانه بِمُراقبة الله له، وقوَّة خشيته منه - سبحانه - وتيَقُّنَه بِما عند الله من نعيمٍ للطَّائعين، وعذابٍ للعاصين - أقوى أسباب الحماية من السُّقوط أو الانْحِراف، فإذا كانت قاعدةُ "
إنِّي أخاف الله" لسانَ حال المرء، فإنَّها أقوى الحواجز، وأمْتَنُ الأسوار بينه وبين سيْلِ الشَّهوات وتيَّار الشُّبهات.

والعلاقة بين تقوية الوازع الذاتِيِّ،
وبين القرآن، وأنه المصدر الرَّئيس له - أوضح من أن تَحْتاج إلى استدلالٍ، وآكَدُ مِن أن تستدعي ذِكْرَ تفصيلها هنا؛ ولذلك يعود الأمر إلى أنَّ الْمَخرج الأساسيَّ من الفِتَن، والسِّياجَ الواقي منها، بل والماحق لَها هو القرآن، فالْحَمد لله الذي جعَلَنا من أُمَّة القرآن، وله الحمد على نعمة القرآن، كما حَمِدَ نفْسَه على ذلك، فقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1].

فيا مَن تبحث عن المخرج لنفسك وبَنِيك ومَن حولك أو حتَّى لأُمَّتِك: القرآن بين يدَيْك، أبْدِعْ في تقوية علاقتك وعلاقتهم به، وحبِّبْه إليهم، وابْذلْ في ذلك ما استطعْتَ، وقبل ذلك توجَّهْ لِمَن بيده القلوب أن يُعينك ويوفقك، وأن يجعل القرآن ربيع قلبك، ونورَ صدْرِك، وجلاء حزنك، وذهاب هَمِّك وغمِّك، وادعُ لنا معك.

نسأل الله أن يُجنِّبنا الفِتَن، ما ظهر منها وما بَطَن، اللهم إنا نعوذ بك من فِتَن المَحيا والممات
والحمد لله ربِّ العالَمين



 

نبيل النشمي
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية