اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/otibi/43.htm?print_it=1

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية (2) مشروعية الموازنة ؟

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

د. سعد بن مطر العتيبي

 
مشروعية الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية وشروطها

قبل الدخول في الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية يحسن الجواب على سؤالٍ يكثر وروده بين طلبة العلم عند ذكر الموازنات والحديث عنها ، وهو :
هل تشرع الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية ، أو بين الأحكام الشرعية والقوانين الوضعية ؟ متساءلين : أليس في ذلك تنقصاً للشريعة ؟!
وهي وجهة نظر لبعض الأساتذة الكبار ممن ألفوا في الفقه السياسي ، ختمها بقول الشاعر :
ألم تر أنَّ السيف يُزري بقدره *** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
وقد علّقتُ عليها في موضعها بما أظهر لي أنَّ محلّ الخُلْف مختلف .. ذلك أنّ التعليلات التي أوردها تدور على المقارنات التي تجافي الحق والفكر ، وتتجاهل جذور الإختلاف في المنشأ والمنهج والهدف والخصائص ، وهو أمر أصّل علماء الإسلام ضرورة التنبّه إليه بوصفه أحد ضمانات العدل الشرعي عند الموازنة ، كما سيتضح إن شاء الله تعالى .

من هنا أشير وأنبِّه إلى بعض دلائل مشروعية هذا العمل في الجواب التالي :


الموازنة بين الحق والباطل ؛ لإحقاق الحق ونشره وبيان فضله وعلُوِّه على غيره ، وكشف الباطل وبيان بطلانه وإزهاقه ، منهج قرآني ، يرِد بأساليب متنوعة من مثل قول الله تعالى : ( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .
وقوله سبحانه : ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .
وقوله جل وعلا : ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) ، وقوله عز وجل : ( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .

وقوله : ( أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) ، وقوله تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ) ، وغيرها من الموازنات التي وردت في القرآن الكريم .
وهذا المنهج قد سلكه علماء الإسلام ودعاته ، في مؤلفاتهم ، وبحوثهم ودراساتهم ، في القديم والحديث (1) .
وقد سئل سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله : " هل المقارنة بين الشريعة والقانون يعد انتقاصاً للشريعة ؟ " .

فأجاب الشيخ رحمه الله : " إذا كانت المقارنة لقصدٍ صالحٍ ، كقصد بيان شمول الشريعة ، وارتفاع شأنها ، وتفوقها على القوانين الوضعية ، واحتوائها على المصالح العامة ، فلا بأس بذلك ؛ لما فيه من إظهار الحق وإقناع دعاة الباطل ، وبيان زيف ما يقولونه في الدعوة إلى القوانين أو الدعوة إلى أنَّ هذا الزمن لا يصلح للشريعة أو قد مضي زمانها – لهذا القصد الصالح الطيب ، ولبيان ما يردع أولئك ويُبين بطلان ما هم عليه ؛ ولتطمئن قلوب المؤمنين وتثبيتها على الحق .
لهذا كله لا مانع من المقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية إذا كان ذلك بواسطة أهل العلم والبصيرة المعروفين بالعقيدة الصالحة وحسن السيرة وسعة العلم بعلوم الشريعة ومقاصدها العظيمة "(2) .

وبيان الفروق بين الشريعة والسياسات الوضعية ، فرع عن منهج الموازنة بينهما ( الدراسات المقارنة ) (3) .
ومبنى هذا العلم عند علماء الإسلام يقوم على العلم ، لا على مجرد العاطفة ؛ يقول أبو العباس ابن تيمية : " الحكم بين الشيئين بالتماثل أو التفاضل يستدعي معرفة كل منهما ، ومعرفة ما اتصف به من الصفات التي يقع بها التماثل والتفاضل " (4) .

ومن فقْد هذا الشرط جاء الخلل في كثير من ( الدراسات المقارنة ) التي يجريها بعض الحقوقيين ممن لم يدرسوا الشريعة ، أو أخذوها من بعض المراجع المتأخرة ، و حاولوا فهم كلام علماء الإسلام على ضوء ذلك ، دون دراية بمصطلحاتهم ؛ بل إنَّ منهم من يحيل في المسائل الشرعية إلى بعض المراجع الأجنبية ، تأثراً بها . وكذلك الشأن في الدراسات التي يجريها بعض طلبة العلم الشرعي مع نقص علمهم بالمسألة القانونية وارتباطاتها ، مما جعلهم يُجْرُون موازنات بين أحكام لمسائل مختلفة ؛ فالحقوقيون ربما انخدعوا بالقوانين الوضعية لقلّة علمهم بالشريعة ومزاياها ، وطلبة العلم الشرعي ربما انخدعوا بها لقلّة علمهم بالقوانين ونقائصها ، أو ربما ضعفوا في رد الباطل ودحضه .
قال أبو العباس ابن تيمية : " يمتنع مع العلم والعدل في كل اثنين : أحدهما أكمل من الآخر في فنٍ يقر بمعرفة ذلك الفن للمفضول دون الفاضل . وقولنا مع العلم والعدل ؛ لأنَّ الظالم يُفَضِّل المفضول مع علمه بأنَّه مفضول ، والجاهل قد يعرف المفضول ولا يعرف الفاضل ؛ فإنَّ كثيراً من الناس يعلمون فضيلة متبوعيهم : إمَّا في العلم أو العبادة ، ولا يعرفون أخبار غيره ، فهؤلاء ليس عندهم علم ؛ ولهذا تجد كثيراً من هؤلاء يرجح المفضول ، لعدم علمه بأخبار الفاضل ؛ وهذا موجود في جميع الأصناف ، حتى في المدائن ، يفضل الإنسان مدينة يعرفها على مدينة هي أكمل منها لكونه لا يعرفها " (5) ، وقال : " فمن عنده علم وعدل : فينظر في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل ، أو في معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزات غيره ، أو في شريعته وشريعة غيره ، أو في أمته و أمة غيره ، وَجَدَ لَه من التفضيل على غيره ما لا يخفي إلا على مُفْرِطٍ في الجهل أو الظلم " (6) فلا بد من العلم والعدل .

ولهذا قيَّد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فتواه السابق ذكرها جوازَ الموازنة ( المقارنة ) بين الشريعة والقانون بأن تكون " بواسطة أهل العلم والبصيرة المعروفين بالعقيدة الصالحة ، وحسن السيرة وسعة العلم بعلوم الشريعة ومقاصدها العظيمة " (7) .

والفروق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية فروق جلية ، واختلافات جوهرية ، تتفجر من مقتضى النظر الذي تُحمل عليه الكافَّة في كل منها ، بدءاً من المصدر والأصول ، وانتهاءً بالمسائل ودقائق الفروع ، وهذا ما لا يمكن الإحاطة به ، ولا هذا محل التفصيل فيه ؛ لذا أكتفي بذكر خطوط عريضة في بيان الفروق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية ، وذلك بدءاً من الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .


---------------------------
(1)ينظر على سبيل المثال : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ، لأبي العباس ابن تيمية : 5/134 وما بعدها ؛ و بحث : كيف حاد العالم الإسلامي عن صراط الشريعة وكيف يمكن العودة إليه د. محمد عبد الجواد محمد [ ضمن كتابه : بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون] : 62 وما بعدها ، وما يأتي من شواهد .
(2)مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ، له رحمه الله : 4/48-58 .
(3)استعمال لفظ ( الموازنة ، أو المقابلة ، أو الاعتبار ) ونحوها ، أولى من استعمال لفظ ( المقارنة ) ؛ لأنَّه لفظ مُحْدَث وافد ، لا يسنده الوضع اللغوي للفظ : ( قارن ) ؛ إذ المقارنة هي المصاحبة ، فليست بمعنى : فاضل ، التي تكون بمعنى : وازن ، إذ الموازنة بين الأمرين : الترجيح بينهما . ينظر : معجم المناهي اللفظية ، د. بكر بن عبد الله أبو زيد :420-421 ، ط3 ؛ ومعجم الأخطاء الشائعة ، لمحمد العدناني : 203 ، ط2 . فالأولى عدم استعمال لفظ ( المقارنة ) ، واستعمالُ الألفاظ التي تدل على المعنى الصحيح . والشيخ أبو العباس ابن تيمية يسمي هذا المنهج : " الاعتبار ، والقياس العقلي ، والموازنة ، يوزن الشيء بما يناظره ، ويعتبر به قياس الطرد وقياس العكس " . الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح : 5/139-140 ، لأبي العباس ابن تيمية .
(4)الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح : 5/132 .
(5)المصدر نفسه : 5/131-132 .
(6) المصدر نفسه : 5/133 .
(7)مجموع فتاوى ومقالات متنوعة : 4/58 ، ط-1413.


نشر في موقع المسلم http://www.almoslim.net/

 

د.سعد العتيبي
  • مقالات فكرية
  • مقالات علمية
  • أجوبة شرعية
  • الصفحة الرئيسية