صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







فتاوى وتقريرات وتوجيهات المجاهيل

رضا أحمد صمدي

 
المحمود ربنا جل جلاله والمصلى عليه محمد وآله ...
هذه مقدمات شرعية ، وتقريرات علمية سلفية أردت بها بيان حكم الشرع وعمل السلف في ممارسة العلم والعمل والدعوة وقيادة الأمة من حيث اتخاذ المجاهيل أسوة، واعتماد غير المعروفين قدوة ، حبرتها درءا للغائلة التي فشت وانتشرت في عصرنا، خاصة في المنتديات العلمية وغير العلمية ، في أرض الواقع المحض ، أو عبر الواقع الافتراضي الصرف ، على بسيطة المعاملات الحقيقية ذات الوجود الخارجي ، أو عبر تعقيدات المداولات الوهمية ذات الوجود الذهني ، كل ذلك حتى نحمي بيضة الشريعة من تحريف المزورين ، وتربص المبدلين ، وتضليلات المجاهيل من ذوي العلم والجاهلين ... وليعلم قارئ هذه المقدمات أن ما تخلص إليه من نتيجة لا تنال إلا ذي السريرة القبيحة ، ولن تقض إلا مضجع من حاك الإثم في صدره وكره أن يطلع عليه الناس ، أما نقي القلب والقالب فلا يتوجه إليه اعتراض لأن قوله وعمله ومنهاجه سيكون مستقيما سالما من أي منع أو انتقاض .

فنقول وبالله التوفيق للقول والعمل المقبول :

(1)

لا زالت معالم الشريعة واضحة بينة لكل من انتهج سبيل النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة ، واتبع سبيل المؤمنين من بعد تبين له الهدى ، وقد جعل الله تعالى محجة هذا الدين بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك تعمد سلوك نهج الغواية وعرف أنه متنكب لطريق أهل الإيمان

(2)

وقد حبى الله تعالى هذه الأمة من سبل العصمة ما هو متاح لكل من أراد الحق وتمسك به ، ومن أهم وسائل العصمة التمسك بأهداب الشريعة ، والرجوع إليها في الصغير والكبير ، وعدم الزيغ عنها واستبدالها ، قال الله تعالى : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم واشد تثبيتا ) ، وقال تعالى : ( والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المحسنين ) ، وقال تعالى : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ، وقال تعالى : ( فاستمسك بالذي أوحي إليك)

(3)

ومن أمارات الثبات لزوم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما قل وجل ، واتباع ما كان عليه السلف الصالح لأنهم أنموذج الصلاح والتقوى والعلم والعمل والجهاد ، زكاهم الله تعالى في كتابه فقال : ( فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ) ، وزكاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) . باستقراء التاريخ لم يأت في الأمم مثلهم عقيدة وخلقا وسلوكا وعلما وعملا وجهادا وحكما ، فحق لنا أن نجعلهم قدوة لنا ، وأن نعتصم بما كانوا عليه ، فمنهجهم في الجملة معصوم ، وما أجمعلوا عليه فهو في حكم المقطوع المحسوم ، وما نال منهجهم صفة العصمة إلا باتباعهم الوحي المعصوم بوسائله وطرائقه في تحصيل العلم النافع والعمل الصالح ...

(4)

فكل وسائل العصمة لا تتحصل إلا بالعلم النافع والعمل الصالح ، فأما العلم النافع فقد أمرنا الله تعالى به في كتابه فقال : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) وقال تعالى : ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ) ، وحض عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( من سلك يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ) ، وقال : ( إن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) .

(5)

ولما كان العلم النافع سببا من أسباب العمل الصالح ، والعمل الصالح من أسباب الثبات والعصمة والتمسك بالمنهاج الصحيح لهذا الدين الحنيف ؛ لزم أن نتعرف على أسباب تحصيل العلم النافع ، وقد ذكر العلماء هذه الأسباب في كتبهم ، كالحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله في مواضع متفرقة منه ، كما ذكره الحافظ ابن القيم في غير موضع من كتبه وخاصة في مفتاح دار السعادة ، ولكننا نعرج هنا على سبب مهم بل أساس من أسباب العلم النافع وهو ضرورة معرفة قائل العلم ونسبته إليه واشتهار صاحبه به قياما به وبذلا له وتضحية في سبيله ، ولعمري هو من بدهيات مايجب أن يعرفه كل طالب علم ، وخاصة علم الشريعة الذي ليس ككل العلوم .

(6)

ولأجل هذا الأمر انتفض الصحابة والتابعون والسلف الصالح رضوان الله عليهم لحفظ الشريعة بذب كل غريب عنها ، وصرف كل متهجم عليها ، والتبرؤ من كل مجهول يريد أن ينتسب أو ينسب إليها ما ليس منها ، بل إنهم تبرءوا من علم كل مجهول وإن كان علمه وقوله مما يصح نسبته إلى شرع الله معنى وعقلا ...
وعلى هذا الأساس قامت علوم الحديث والإسناد ، فأصل المحدثون منذ وقت مبكر مبدأ الأسناد ، ومعرفة الرواة ، وتعديلهم ، وتوثيقهم ، حتى تُتَلَقَّى شريعة الله صافية نقية ، لا دخل فيها ولا دخن وقد روي عن أكابر التابعين مقولات باترة في هذا الباب ، مثل القول المتواتر عن محمد بن سيرين : إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ، ومثل ما اشتهر عن ابن المبارك قوله : إن هذا الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ،ولكن إذا قيل من حدثك : بقي ( أي انقطع ) . وقد قال الشاطبي :
إن معنى قول ابن المبارك ( الإسناد من الدين ) ليس هو قول المحدث حدثني فلان عن فلان مجردا ، بل يريدون ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين يحدث عنهم حتى لا يسند عن مجهول ولا مجروح ولا متهم إلا عمن تحصل الثقة بروايته أهـ
وقال أبو عمرو الأوزاعي : ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد .

(7)

وهذه العناية بالإسناد لأجل أن يُتَحَصَّلَ العلم نقيا مبرأ من التحريف والنقص ، ولذلك كان السلف لا يأخذون إلا عمن اشتهر بالعلم ، وبعضهم كان يتشدد فلا يأخذ إلا عمن عرف فضله ونبغ أمره ، وكانوا يمتثلون الأثر المعروف :
يحمل هذا العلم عن كل خلف عدوله ينفون عنه انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وتحريف الغاوين . وقد روي مرفوعا وموقوفا ومقطوعا .

(8)

ومن تأمل وتدبر في تراث السلف أدرك هذا واضحا بينا ، فكتب الرجال تعج بقول النقاد : مجهول ، لا يعرف حاله ، لا أعرفه ، لا يعرفه الناس ، غير معروف ، وقولهم عن الروايات : منكرة ، غير معروفة ، غير مشهورة ، ونحو هذا ..
فإن دل على شيء فإنما يدل على ما نحن بصدده من ضرورة الاستعلان بالحق وأنه قيمته في الصادع به ، وأن الحق متى جهر به مجهول نقص قدره في أعين الناس :
ألم تر أن السيف ينقص قدره ..... إذا قلت إن السيف أمضى من العصى ؟
وكان انتحال أسماء الغير وكناهم وألقابهم وتغرير الناس بذلك من أبشع الأوصاف عند نقاد الحديث ، وكانوا يسمونه تدليسا ، واعتبره كبارهم أخا للكذب مع أن المدلس ربما نقل حديثا صحيحا ، إلا أن تعمية الإسناد بعدم ذكر رواته على الوجه المعلوم الواضح الصريح ، بحيث يحصل الالتباس بين الثقات والضعفاء يعد خطأ فادحا ، فلو كان صاحبه ذا نية سليمه فإنه لن يلسم من قدح التدليس الذي هو سبب من أسباب التضعيف ، ولو كان ذا نية فاسدة فهو متهم وربما هو كذاب في شرع الله تعالى ، فماذا سنختار بعد هذا ؟؟؟

(9)

وكان الأخذ عن المجاهيل سمة المبتدعة ، وصفة الزائغين في الشريعة ، فكان لا يحرصون على براءة العلم من التحريف ولكن يحبون غرائبه وعجائبه ، فلم يتقصوا في تحصيله ، بل كيفما أتاهم العلم الذي يعلي ذكرهم ويرفع شأنهم بين الناس تلقفوه ، وطاروا به كل مطار ، ولأجل هذا ذم السلف القصاصين ، وهم الوعاظ الذي لا يهتمون بالعلم الصحيح المسند الموثق ، بل يروون كل ما دخل آذانهم ، وقرأته أعينهم ، حتى لو كان من أبطل الباطل ، ما دام مرغوبا عند الناس محبوبا إليهم .

(10)

الفتنة التي حدثت بين الصحابة كان مؤججها مجاهيل ، يتخفون وراء أسماء مستعارة ، ورسائل مزورة منتحلة ، وكانت الأقاويل تنتشر هنا وهناك بين هذا وذاك على وجه الغيبة والنميمة إفساد بين المسلمين ، وما أن تلتئم كلمة الصحابة إلا ويحدث ما يفشل خطة الصلح ، وهذا كله مسطور مشهور في كتب السير والتاريخ ، بل إن بدعة الرفض نشأت عن المجاهيل الأخباث الذين لا يعرف لهم نسب ولا علم ولا أصل ولا فصل ، أليس متولي كبر الرفض من أصله يهوديا تسمى بعبد الله بن سبأ ، ولما بحث الناس في حقيقته لم يجدوا إلا شخصية تخفت وراء دعاوى ورسائل وفتاوى وأقاويل .
أوليس إخوان الصفا ممن نشر الفلسفة والإلحاد كانوا يتخفون وراء الأسماء المستعارة والشخصيات المجهولة ، أوليس الأدباء الماجنون والشعراء المفسدون كانوا ينتحلون هذا الاسم وذاك حتى يعيثوا في الأرض الفساد ، أولم تنتشر الزندقة من هذا الباب ، أولم تدخل الفلسفة في هذه الأمة من هذا الطريق ؟؟؟ وما تلك الأسماء التي ذكرها المؤرخون عن الزنادقة والفلاسفة المجاهيل إلا دليلا على فداحة الجرم الذي نجترحه بالسماح لمثل هذه النوعية أن تجترئ على شريعة الله الغراء حتى ولو بالقول الحق المبين ..

(11)

وليس يفسد العالم شيء أكثر من الغوغاء والدهماء وسفلة الناس ممن لا يقدرون العلم والعلماء ، فلو انصاع لهم العلماء ضلوا ، ولو انقادوا لهم زلوا ، ولا يزالون بالعلماء في كل نازلة يجرونهم إلا القول على الله بلا علم إغراء وتخويفا وتهديدا وتشويقا ، وليس لهم من رغبة إلا أن يجروا العلماء في صفوفهم ، فلأجل هذا لم يصمد لهم إلا من تلقى العلم النافع طاهرا زلالا نقيا زكيا ، فإنه من تلقاه على هذه الحال لا يضعف أمام الخطوب ، بل يقويه علمه ، لأنه تلقاه صحيحا نقيا راسخا ، وهذا هو الحري بأهل العلم في كل زمان أن يفعلوه .

(12)

وفي زماننا كثر مدعو العلم ومنتحلوه ، ونعقت به غربان الآطلال في كل نازلة ، حتى صار ينتسب له الفسقة ومردة الجن والإنس وشياطين السهول والجبال والمدن والقرى ، بل صار المجاهيل ( اسما وحالا ) أشهر من نار على علم ، فاعجب لهذا التناقض ، وهذا هو عصر أشراط الساعة ، حصول المتناقضات ، يشتهر البعض بأسماء مستعارة ، ويجهل الناس اسمه بل ذاته ، بل حاله ، بل علمه ، بل خلقه ، بل كل شيء عنه ، ومع ذلك يعتبرونه مبرزا ، ويقدمون قوله على أقوال المشاهير ، ويرفعون ذكره فوق ذكر الأعلام ، فحق للعلم أن يتوارى حياء أن ينتسب إليه دعي جاهل جهول مجهول ، بل وتوارى العلماء ورثة الأنبياء صيانة لمقاهم من أن يتجرأ عليه مثل أولئك الأغمار الأغرار الذين تحصنوا وراء الأسماء المستعارة المجهولة ، فجدعوا وسبوا وشتموا وهاجوا وهيجوا ونقروا وباضوا وصفروا ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .

(13)

إن هذا ليدعونا أن نقف وقفة جادة صارمة أمام هذه الهجمة الشرسة من أدعياء الدين ، نعم ، لأنهم يدعون الانتساب إليه ولم ينقادوا لأصوله ، وتكلموا باسمه ولكنهم كانوا أول من أضر به وحاربه وأنزل به المفاسد .
ولقد كانت مثل هذه النازلة ( أعني الأخذ عن المجاهيل وتبريزهم وتقديم أمرهم )
مشتهرة في زمان الفتن والهرج ، خاصة أوقات زوال الدول ونشوء الدول ، حيث تكثر الرسائل المنتحلة ، ويكثر القادة المجاهيل الذين لا يعرف الناس لهم أصلا ولا فصلا ولا نسبا ولا تاريخا ، وربما قاد المجاهيل أمما وشعوبا لسنين طوال لا يعرف عنهم أتباعهم شيئا ، مثل قادة العباسيين عند نشوء الدولة ، وكذلك القادة العلويين ، وكان أول من ابتدع بدعة القائد المجهول الشيعة الرافضة الإمامية عليهم من الله ما يستحقون حين أوجبوا على المسلمين أن يؤمنوا بإمامة المهدي المنتظر المختفي في سرداب سرمن أى ، حتى إنهم غلوا وعطلوا الشريعة حتى يظهر .

(14)

فالمبدأ أن الحق لا يقوله إلا مجاهر به ، لأنه ليس فيه ما يستحيى منه ، بل امتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم المجاهر به المضحي بنفسه من أجله ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) ، فمن توارى وراء اسم مستعار ، وشخصية مجهولة ، وسب وشتم وجدع وقطع ، ووعظ ونصح ، وأرغى وأزبد ، وأبرق وأرعد ، فلا الحق نصر ولا الباطل دحر ...
بهاء الحق في الجهر به من صاحبه ، ونصاعته في الانتساب إليه وعدم الخوف من الصدع به ، وهو مسلك الأنبياء والمرسلين ، وأتباعهم أجمعين أبصعين ، فما علمنا نبينا تخفى وراء اسم مجهول ،ولا رسولا توارى خلف لقب مستعار ، ولا سمعنا بصاحب حق طالب به من وراء ستار ، وقد علم العقلاء أن لصاحب الحق مقالا ، فأما من وجل من وقفة الحق ، وهاب من تبعاته فليس جديرا بأن يكون منتسبا إليه ، وكان السكوت أولى به وأليق له ...

(15)

وقد ابتلينا في هذا العصر بما اتسع خرقه على راتقه ، ولم نجد لهذا الخلة ما يسدها إلا ضرورة الإنكار والإفصاح ، فقد عظم الخطب ، وزاد البلاء ، وعظمت الفتنة ، وتهلهلت البدعة وتوسعت ، وكل ذلك بسبب أخذ جماهير الناس عن المجاهيل ، فحكام الدول إذا أرادوا تثبت أمر أشاعوه عن طريق المجاهيل ، ومعارضوهم إذا أرادوا معارضة شيئا استتروا وراء الأسماء المستعارة . فتأمل كيف تتناقل وسائل الإعلام في كل دول العالم المتحضرة أخبارهم بقولهم : وقال مراسلنا ، وأفاد مراسلنا ، ولا يعلم الناس من مراسلهم وما دينه وما حقيقته وما حاله ؟
وتأمل كيف لو أراد الحكام إيجاد تيار لقضية حرضوا عليها كاتبي الأعمدة في الصحف والمقالات من أصحاب الأقلام المستعارة والأسماء المجهولة الرمزية فتصير الحبة قبة ، ولو سألت من قببها قالوا : فرطوش ، فمن فرطوش هذا ؟ إنه اسم مستعار يكتب في عامود ثابت في أشهر صحيفة في البلاد ... وهلم جرا وكذبا وتدليسا ...

(16)

وفي عصرنا الحاضر صرنا نرى كثيرا من قادة الجماعات ، المسلمة وغير المسلمة ، لا يعرف الناس لهم أصلا ولا فصلا ، ووقع في هذا اللبس بعض من أهل السنة ، فصار بعض أهل العلم منهم يتخفى وراء الأسماء المستعارة زعما أنه يصون العلم أو يصون نفسه عن جهالات المجاهيل ، ونسي أنه بذلك يقنن شرعية التوجيه عبر المجاهيل ، وهذا باب شر لو اعتبرناه
من دين الله تعالى لتهدم بنيانه إصلا إثر إصل ، وركنا إثر ركن .
وقد يكون الأمر واسعا في حق من اتخذ مثل هذه الأسماء المستعارة ليتبلغ به علما أو عملا ينفع نفسه ، أما أن يتبلغ به مكانة يدلف منها إلا عقول الناس وقلوبهم بفتاوى وأشياء ينسبها للعلم والشرع ، ويأبى أن يعترف بنسبتها إليه أو يتحمل مسئوليتها الأدبية والشرعية ، فهذا ما لا يجوز قبوله ولا السكوت عليه ..

(17)

وما كتبنا هذا إلا بعد أن حصلت الفتنة العظيمة من الفتاوى التي لا نعرف أصلها وفصلها ، حتى صار ينقل عن المشاهير بعض المجاهيل فحرفوا فتاوى المعروفين المعلومين ، كانت عبرة لكل معتبر أن يرجع لمنهج الأنبياء والمرسلين وسلف الأمة الصالحين ..
لا ننكر أن في صفوف أهل الحق من يستخدم هذه الطريقة لينشر الحق ، ولكن ... كم رأينا من منتحلين للحق تسللوا من بين الصفوف بنفس الطريقة حتى اتسع الخرق على الراتق .
ولا ننكر أن كثيرا من هؤلاء المجاهيل المنتحلين الكذبة على الدين من يقول الحق ، ولكن ... أليس في حقهم دخن ودخل ، وكم رأينا المخاتلة والمخادعة في أولئك المجاهيل الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة .

(18)

إن المعيار الذي وضعه السلف لهو أفضل المعايير في معرفة الحق ، وليس يعكر عليه ما يروى عنهم : اعرف الحق تعرف أهله ، فالحق يعرف بما تضمنه من الوحي المبين ، فإذا عرفناه وجدنا أهله شاخصين ، ومن يرفع رايته مجاهرين ، ولم نجدهم متخفين في السراديب ، أو كالسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ...
إذا رأيت الرجل ينطق بالحق فأمارة كونه حقا أن تراه منافحا عنه مجاهرا به مستعلنا بنفسه ، وإن تخفى بجسده ، إلا أنه لا يتخفى وراء شخصية غيره ، ولا ينتحل صفات الآخرين أو أسماءهم أو ألقابهم أو كناهم .

(19)

فظهر مما قررنا من الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة والمعقول الواضح الصريح أن العلم فضله عظيم ، ودرجته سامية عالية ، وأنه سبيل النجاح والفوز في الدارين ، وأنه سبب حصول العصمة والتوفيق في القول والعمل ، وما كان هذا حاله فلا يليق أن ينسب إلى من عرف بالصلاح والقبول ، لأن ذلك أمارة السلامة من التحريف والتبديل ، وعلامة البراءة من التجديف والتضليل .

(20)

ونخلص من مجمل ما سبق إلى أن واجب العلماء والدعاة وطلبة العلم والخطباء وقادة الأمة في كل ميدان أن يستعلنوا بالحق وأن يجهروا به ولا يستتروا عنه ولا يتخفوا منه ، وأن يُعْلِموا الناس بحامله ( أي حامل الحق ) وأن ينادوا عليه غير وجلين من تبعاته ، وواجب الأمة أن تنشد الحق ممن عرف به ، وأن معرفة الحق لا تغني عن معرفة أهل الحق ، فقد يتخفى أهل الباطل وراء الحق ويتسترون بسرباله ، وكم ضلت في الأمة فئام بأقاويل الحق رفعها من أرادوا به الباطل ، فكان من سبيل الضمانة لبلوغ المحجة البيضاء والطريقة الغراء أن نتلمس الحق في شعاب أهل الحق لا أن نفتش عنه بين دهاليز أهل الباطل ، ولا أن نفرح به إن وجدنا في سراديب من لا نعرف حالهم ودينهم وعدالتهم ...
ولله الأمر من قبل ومن بعد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم ، والحمد لله رب العالمين ...

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
رضا صمدي
  • رسائل ومقالات
  • كتب وبحوث
  • صــوتـيـات
  • الصفحة الرئيسية