اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/rida-samadi/22.htm?print_it=1

الصحوة الإسلامية وتحديات الدور التربوي

رضا أحمد صمدي

 
عندما سقطت الخلافة العثمانية ظنت الدول الصليبية التي خططت وسعت لإسقاط الخلافة أن الإسلام قد قضى نحبه ، وأن المسلمين لن تقوم لهم قائمة بعد ذلك ، وقد استغرقت خططهم أكثر من قرن من الزمان ، بدءا من الحملة الفرنسية على مصر ، وانتهاء بمؤتمر لوزان الذي اشترطت فيه القوى العظمى إلغاء الخلافة حتى تعترف باستقلال تركيا بعد أن مزقتها الحروب المدبرة لإنهاك الدولة العثمانية كقوة عظمى .

ولم تكتف القوى الصليبية والصهيونية العالمية بهذا التفكيك السياسي الذي يعني عدم وجود سلطة سياسية دولية تدافع عن مصالح المسلمين ، بل سعت إلى تفكيك الوحدة العقدية التي احتمى بها المسلمون في شتى بقاع الأرض ، يظللهم دين واحد ، وتجمعهم عبادة واحدة وقبلة واحدة ، فاخترعت لهم دينا يظنون معه أنهم مستمسكون بالدين الحق ، وفي نفس الوقت ساعون في جادة التقدم والحضارة ، فانتشر الفكر السياسي العلماني الذي يقوم على تحييد الدين في المجال السياسي والاقتصادي وحصر مفهوم التدين في أداء العبادات المحضة وصرف اهتمام المسلمين عن الأحكام الشرعية في الجوانب الأخرى كالمعاملات والجنايات والسياسة وما إلى ذلك .

فبعد الانحلال السياسي ، تبعه انحلال عقدي وأخلاقي وفكري واجتماعي ، ظهر أنه مدبر من القوى الصليبية والصهيونية لجعل المجتمعات الإسلامية ذات سحنة غربية في كل منطلقاتها .

بل إن المشروع الصليبي تجرأ لدرجة دعوة المسلمين في بلاد الإسلام إلى النصرانية ، وكان التنصير يمارس دورا قذرا كالدور الاستعماري ، بل كانا في الحقيقة صنوان .

وتجاور مع هذا المشروع التنصيري مشروع ثقافي آخر لاستقطاب العقليات المفكرة ، وذلك بمسخ تلك العقليات والانتحاء بها ثقافيا إلى قبلة غير قبلة المرجعيات المعصومة التي يحترمها المسلمون .

فكان الاستشراق الذي غزا جامعات العالم الإسلامي بأبحاثه وباحثيه ، وارتقى في سلم التوجيه الثقافي حتى غدا متحكما في صياغة الفكر الإسلامي عبر قارات العالم .

ومن خلال هذا الثالوث ( الاستعمار السياسي والتنصير والاستشراق ) أصبحت الأصقاع الإسلامية ترزح تحت الاحتلال الصليبي سياسية وعقيدة وفكرا .

وتمطى الكفر وتبختر ، وصار يحرك أحابيله في أرجاء الكرة الأرضية عبر سطوته التي صار يرتعد منها المسلمون ،وعبر الأصابع الخفية التي كان يحركها من وراء ستار شخصيات مسلمة ليوهم بها جمهور المسلمين أن الفاعل لتلك الأحابيل في الحقيقة هم قادة المسلمين فتخف وطأة المعارضة ، وتمضي الخطة في طريقها دون عنت أو مواجهة .

وعندما انتفض جسد الأمة ليزيح عن كاهله وطأة الاستعمار بما ورثه من خراب اقتصادي وذل اجتماعي وهوان سياسي استطاعت الدول الاستعمارية أن تمسك بزمام تلك الانتفاضة ، فما من ثورة قامت إلا واستطاعت أن تطويها تحت جناحها ، أو تسحقها سحقا ، فما لبثت الدول الإسلامية أن رجعت خاضعة وذلت طائعة للاستعمار في صورته الجديدة ، متغلفا بستار قانوني دولي كعصبة الأمم ثم هيئة الأمم ، ومجلس الأمن ، وسيطرة الدول الدائمة العضوية فيه .

لم تكن الصورة مختلفة بعد الاستعمار ، أي بعد حصول الدول الإسلامية على استقلالها عما كان عنه قبل الاستعمار ، بل إن الدول الإسلامية كانت في إبان الاستعمار ذات شخصية مستقلة ، بينما هي بعد الاستعمار تنماع في فكر الغير وعقيدته وسلوكه وطريقة حياته ، بل في أخلاقه ومثله .

كانت هذه الصورة سوداء قاتمة للغيورين على حال هذه الأمة ، بينما كانت صورة مشرقة بهية لأصحاب التبعية والتقليد ، فما لبث أصحاب المعسكر الأخير يستعلن بهويته الحقيقية ، وهي النفاق الأكبر ، بل الإلحاد المحض ، وصار الدين يحارب من قادة الدول كما لم يحارب من المستعمريـن ، وطفق المنافقون ( الذين تسربلوا من قبل بسربال الديانة ) يحصدون البقية الباقية من معالم الشريعة ، حتى ظن كل الناس أن الإسلام يحتضر ، وصار من يمشي في عواصم الدول الإسلامية الكبرى لا يجد كبير فرق بينها وبين عواصم الغرب الكافر أو الشرق الملحد .

وتحت وطأة هذا الواقع الأليم ، وفي كثافة ضباب الانحلال الذي عم الأرجاء ، وعبر ظلمة ليل التيه البهيم ، يبزغ نور خافت ، ظنه الناس نجما بعيدا لا حَظَّ للأرض منه إلا التماعة بعـد التماعة ، وإذا بهذا النور يتعاظم حتى اكتمل ، فإذا هي شمس الإسلام الساطعة ، عادت في واقع الكفر العنيد والفسق العتيد ، لتنذر كل الناس أن نور الله باق ، ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) .

علت صيحة النذير في كل أرجاء العالم ، في جوف الكعبة ، وعند محراب الأزهر ، مرورا بمآذن كل الدول الإسلامية وانتهاء بأبراج كنائس أوروبا وأمريكا .

لقد كان نورا باهرا ، متى بدأ بالتحديد ؟ لا أحد يدري ، ولكنه عندما سطع أول مرة ، لم تقف أمامه قوة ، ولم تحل إية إرادة بينه وبين الانتشار .

لقد كانت صحوة للأمة الإسلامية من سكرها الذي عاشت فيه عقودا متطاولة ، ويقظة من نومها الذي دام سنين عددا ، وانتباهة من غفوتها التي ظلت فيه دهرا مديدا ، ولكنها صحوة صاحبتها غضبة ، ويقظة قارنتها ثورة ، وانتباهة على إثرها بدأ الزحف المتواصل الذي لم ينقطع حتى الآن .

لقد كان الحدث السعيد الذي بهر العالم ، وحيت به الأمة الأسلامية بعد موات ، وعلى خلاف توقعات كل المتوقعين ، وبرغم إرجاف المرجفين ، وتخذيل المنافقين ، نهض شباب الأمة ، بل وشيوخها وأطفالها ونساؤها يعاضدون هذه الصحوة ، كل على قدر ما يستطيع ، ولكنها كانت صيحة جماعية تطامنت لها الجبال ، وخضعت لها رقاب المستكبرين ، وأصبحت واقعا لا ينكره إلا سكير أو عنيد ، أو من ينتظر أن تزهق روحه تحت سنابك الصحوة ليتأكد أنها حق ( وأن الله موهن كيد الكافرين ) .

( نجاحات وإخفاقات )

إن هذه الصحوة نشأت في رحم الجو الاستعبادي الذي جثم على العالم الإسلامي إبان العهود الاستعمارية ، فتمالأت العقول المفكرة والمدبرة تلتمس لهذه الصحوة أنموذجا تقتدي به ، وقبلة تيمم شطرها نحوه .

ولا يجوز أن نجحد أنه قد كان في صفوف تلك الصحوة دخلاء ومتطفلون ومتسلقون بل وعملاء وخونة ، وبعض المخلصين من أبنائها انطلت عليه أحابيل الأعداء فسلك طريقا في مساعدة الصحوة أدى بها فيما بعد إلى انحرافات ومجازفات .

وقبل أن يسوء الفهم فإننا لا نستطيع أن ننكر أن الصحوة عندما بدأت حققت انتصارات متوالية ، وزحفت زحفا مؤزرا في كل الأرجاء ، مما ينبئ عن مقدار القبول الذي حظيت به في قلوب الناس .

وفي عصر كان التغريب فيه دين الأكثرية ، صار الإسلام يكتسح القلوب دون عائق ، وصارت الجماهير الإسلامية تنادي صراخا وهمسا ( كل على قدر استطاعته ) بالعودة إلى دين الله تعالـى .

وكان هذا في حد ذاته انتصارا باهرا ونجاحا ساحقا ، بالمقارنة بما كانت تعانيه الأمة من ضعف وهوان وتبعية .

لقد نجحت الصحوة في إعادة ملامح العقيدة الصافية إلى قلوب الناس ، عقيدة أهل السنة والجماعة ، والسلف الصالح من الصحابة والتابعين ، نعم … لقد انتصرت هذه العقيدة ، وكان لها النصر المؤزر في كل الميادين ، ودون توجيه من موجه ، أو إرشاد من مرشد ، لقد اتجهت الصحوة منذ مهدها إلى كتب التراث العتيقة ، تبحث عن الـمَعين الذي نصر أجيال المجد الإسلامي القديم ، فوجدت أن نصرهم إنما انبنى على منهج عقدي وعبادي وأخلاقي ثابت ، هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقرون الفضل والخير التي مدحها النبي صلى الله عليه وسلم نصا ، والتي ظهر انتصارها على من عداها تاريخا .

كما نجحت الصحوة في زرع العاطفة الدينية في قلوب الناس ، فأصبح التدين أمرا يتمناه كل مسلم ، لولا ما يضعه أعداء الله أمام الدين من عوائق وتهديدات وتخويفات .

كما نجحت الصحوة إلى حد بعيد في التميز والاستقلالية ، ولا يمنع ذلك من إثبات وقوع الصحوة في بعض من الأخطاء المنهجية التي قدحت في هذا التميز أو تلك الاستقلالية .

ونجحت الصحوة كذلك في الانتشار عبر كل الميادين ، أفقيا ورأسيا ، كما وكيفا ، وكان هذا الانتشار سببا في تكثير أعدائها وممالأة شانئيها ضدها ، حتى اجتمعت قوى الكفر في العصر الحديث على إعلان القرن العشرين والحادي والعشرين زمن المواجهة مع الإسلام بعد أن تخلص الغرب من العدو الشيوعي ، وتفرغ لعدوهم المسلم اللدود .

وبإزاء كل هذه النجاحات كان هناك الكثير من الإخفاقات أيضا ، وفي نفس المجالات التي حققت الصحوة نجاحاتها .

ولأجل ما قدر الله تعالى في أفعالنا من النقص ، ولعزة الكمال بين الأناسي ، ولأجل ضعف خبرات الصحوة ، وقلة إمكانياتها ، وكثرة مؤامرات أعدائها ، وتسلط الكثير من ذوي الأهواء في إدارة شئونها ، رأينا الكثير من الإخفاقات ، ولمسنا مشاهد الفشل في العديد من الميادين التي خاضتها الصحوة ، لقد كان قدر الفشل يجري دون تقصير في بعض الأحايين ، ولكنه كثيرا ما كان يصيب الجهود بسبب التقصير الواضح وعدم الاستعداد .

وكانت إصبع الاتهام تتجه بحدة وشدة إلى جيل الشباب الذي يمثل الصحوة في معظم بلدان العالم ، وتنامى دوره في قيادة دفة الصراع الحضاري بين الإسلام وخصومه ، ما هو موقفهم من هذه الإخفاقات ؟

وأحسب أن من محاسن الصحوة الإسلامية أنها نجحت في الآونة الأخيرة إلى حد بعيد في تقبل النقد الذاتي ، ومحاسبة النفس ، والبحث عن القصور والعيوب التي كانت سببا في توالي الإخفاقات ، ولم يعد أحد من المنتسبين إلى الصحوة يستنكف عن مراجعة النفس في ما يأتي وما يذر إذا تبين له وجه الحق فيما نصح فيه ، إلى من أغواه هواه ، وأرداه ضلاله وعجبه بنفسه .

وكان السؤال الملح الذي صار يطرح في كل مكان ، ويتداوله العلماء والدعاة أينما حلوا أو ارتحلوا : ما هو حال شباب الأمة ، وإلى أين يتجهون ، وما هو دورهم إزاء هذه الورطة والمحنة التي تعانيها الأمة ؟

( الشباب إلى أين ؟ )

يمكننا أن نعدد في عجالة الكثير من المخاطر التي تهدد جيل الشباب المسلم ، والتي هي كفيلة بزحزحته عن عقيدته ودينه أو إجباره على التنازل عن الكثير من أحكام شرعه الحنيف .

لكن أخطر ما يواجهه الشباب اليوم ذلك الزحف الفكري الوافد الذي يتغلف ببهرج الدنيا وشهواتها وملذاتها ، ولكنه يحمل بين طياته إطارا عقديا وفكريا مدروسا ، ويجذب المنساق إليه رويدا رويدا ( عن طريق تلك الشهوات والملذات ) ليصبح رهين تلك العقيدة وتلك الفكرة .

ذلكم هو التغريب بمعناه الواسع ، أي الغزو الثقافي والفكري الغربي الذي صار يزحف بجحافله على الأصقاع الإسلامية ، ليس بدباباته وأعتده وأسلحته بل بطريقة حياته كلها ، برؤيته إلى الكون والوجود والحياة ، وطريقة المعيشة ، والأفلام والفن والأدب والأخلاق والفلسفة والعلوم التكنولوجية وكل ما يخطر بالبال من ظاهر الحياة الدنيا ، إنه تغريب لكل مظاهر الحياة .

وكان من الطبيعي أن أول من ينساق إلى هذه الحملة الشرسة وينخدع بمظاهرها هم الشباب الغر الذي لم يتسلح بسلاح العقيدة ولم يتحصن بحصن الإيمان والاستقلالية ، فانساق وراء زخرف الحضارة الغربية منبهرا بأضوائها ، مشدوها بعجائبها ، مخلوبا بتقنيتها العالية .

لقد كان التغريب أخطر ما واجه الأمة الإسلامية على مر التاريخ ، ذلك أنه لم يستخدم العسكرية صورة للعداء ، ولا القنبلة والدبابة وسيلة للحرب ، ولم يحتل الأراضي أو يسيطر على البحار ، بل اتخذ الأساليب الناعمة والخادعة في احتلال قلب المسلم نفسه ، فضمن إغواء الأمة دون أن يريق قطرة دم ، بل وسخر من أبناء الأمة ممن يتكلمون بلسانها ومن جلدتها ليكونوا أحبولة من أحابيله ، فزاد الاغترار ، وأحكمت حيل المخاتلة ، وصار الكفر متسربلا بزينة الألفاظ ، ويدعو إليه من اسمه أحمد ومحمد ، وربما كان يلبس عمامة ويمسك مسبحة .

يقول الأستاذ أنور الجندي : لقد علمتنا التجارب أن المقلدين من كل أمة المنتحلين أطوار غيرها يكونون منافذ لتطرق الأعداء إليها وتكون أفئدتهم مهبط الدسائس نتيجة لتعظيم الذين قلدوهم ويكون هؤلاء المقلدون طلائع الجيوش الغالبة وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل ويفتحون الأبواب ويثبتون لهم الأقدام ويمكنون السلطان [1].

ويقول شيخ الأزهر السابق محمد الخضر حسين رحمه الله : ودلت التجارب على أن زائغ العقيدة متى ملك جاها أو سلطة فتن الأمة في دينها وانتهك حرمات شريعتها ولم يخلص النظر في إصلاح أمرها ولاقى منه المؤمنون اضطهادا والجاحدون أصحاب الأهواء مناصرة وإقبالا ، فيكون داعيا عمليا إلى الخروج على الدين ، فتموت الفضيلة والغيرة على الحقوق العامة ويتقطع حبل اتحاد الأمة إربا [2] .

نعم .. لقد صار هذا حال شباب الأمة ، فمع الفتن الصريحة الجارفة عن الدين ، فهناك فتن الشبهات التي أوقعت شباب الأمة في أفكار منحرفة تتظاهر بتعاطفها مع الدين ولكنها في عداد أول أعدائه .

ولم يعد خافيا على أي عين مراقبة ما يجول في مجتمعاتنا المسلمة من انجراف حاد تجاه الفكر الغربي وطريقة الحياة الغربية ، ولو شئنا لقلنا الصليبية ، فالفكر الغربي في حقيقته ما زال متلبسا بموروثات دينية صليبية .

وليت الأمر اقتصر على أغرار الشباب ممن لا عداد بهم في دنيا الناس ، ولكن تعدى إلى النماذج الفذة التي تميزت بتخصصات مختلفة كالعلوم والأدب ، فسرى هذا التغريب إلى صميم الاتجاه الثقافي ، الذي غدا بوقا للصليبية الغربية ، يستخدم مصطلحاتها وينادي باتجاهاتها الفكرية دون حياء أو خفر [3].

وكانت ثالثة الأثافي أن سرى في جسد الصحوة الإسلامية اتجاه ديني غربي سمى نفسه باتجاه الإسلام المستنير ، واستطاع أن يغزو كثيرا من صروح الدعوة ، وأن يخدع بعض الدعاة ويضمهم إلى صفوفه بغرض استغلال تلك الرموز في تشويه الأصالة التي تميزت بها الصحوة منذ نشأتها .

وصار هذا الاتجاه يتبنى كل دعوة تغريبية ويغلفها بغلاف المصطلحات الشرعية مموها دعوته بشعار المصلحة ، وتجديد الدين ، وتغير الفتوى بتغير الزمان ، ومراعاة الظروف ، وضرورة التفتح وعدم الانغلاق ونحو ذلك من العبارات التي يظهر منها لكل نابه أن المراد إنما هو جر الحبائل للوقوع في شرك التغريب الذي يريد أن يعيد صياغة إسلامنا ليكون إسلاما أليفا لا يقاوم الظلم ، ولا يثور على الباطـل ، ولا يكره الكفر والشرك .

وصنف منذ هذا الاتجاه لا يخفى صلاحه وإخلاصه ، ولكنه مني بهزيمة نفسية قوية أمام التغريب ، فدعته تلك الهزيمة أن يتبرأ من كل ما يعتبره المجتمع الغربي همجيا في الإسلام ، وصارت حقائق الدين تصاغ من جديد لتوائم الفكر الإسلامي الذي يراد عرضه على الغرب ، وصرنا نسمع مثلا من يقول إن الجهاد في الإسلام رخصة وليس عزيمة ، أي أنه مشروع عند الضرورة وحالة الدفاع فقط ، مع أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن جهاد الطلب فرض كفاية عند الاستطاعة على المسلمين في كل زمان .

وصرنا نسمع من يقول إن الطلاق في الإسلام محرم بالأصالة ، وأن الرجل لا يجوز أن يطلق زوجته إلا في حالة الضرورة القصوى ، فلم يفترق هذا المذهب عن الكثلكة التي حرمت الطلاق ثم أباحته للضرورة القصوى ، فأين إسلامنا يا قوم ؟!! [4].

ولأجل هذا كله اعتبرت الموسوعة الميسرة [5] مبدأ التغريب : هجمة نصرانية صهيونية استعمارية في آن واحد التقت على هدف مشترك بينها وهو طبع العالم الإسلامي بالطابع الغربي تمهيدا لمحو الطابع المميز للشخصية الإسلامية .

ولا شك أن الضحية الأولى هم شباب الأمة الذين صاروا يتساقطون أفواجا أفواجا أمام هذا الزحف الفكري الصليبي ، فكان من نتائجه تلك ذوبان الشخصية الإسلامية ، وتشويه معالم الشرع في قلوب المسلمين ، ونشوء جيل مسلم خائر غير قادر على حمل رسالة الإسلام إلى الإنسانية ، وتوقف المد الإسلامي الذي كان منتظرا منه أن يكون منقذ البشرية من وهدتها وورطتها .

وقد اختلفت الرؤى حول كيفية صد هذا الخطر الداهم ، ومقاومة هذا الزحف العنيد ، فكان كل يدلي بما رآه قريبا من إحساسه الدعوي ، ويمحص ما يراه أنفع وأجدى في العلاج والحل .

لكن مع سبر كثير من كتابات ودعوات العلماء والدعاة والمصلحين في الآونة الأخيرة أستطيع أن أجزم مطمئنا أن الجمهرة الغالبة صارت تميل إلى أن ما تعانيه الصحوة الآن من بطء في السير وقصور في الأداء ، وفشل في بعض الميادين مرده إلى عدم الاهتمام بشريحة الشباب التي تمثل الطاقة الهادرة في أية حركة اجتماعية .

وبعيدا عن الإحصائيات الإسكانية التي تثبت أن نسبة الشباب والمراهقين في الدول الإسلامية يبلغ النصف في معظم الدول ، وفي بعض الدول فإنه يفوق النصف ، أقول : بغض النظر عن هذه الحقيقة فإن أحدا لا يماري في أن شريحة الشباب هي أقوى شريحة في المجتمع وعليها تعول كل الخطط التنموية في بناء الحضارات ونشدان التقدم .

وإزاء هاتي القناعتين :
(1) أن شباب الصحوة يعاني كسادا في الجانب التربوي .
(2) وأن شريحة الشباب هي أهم شريحة في المجتمع .

يمكننا أن نشير بأصبع الاتهام الجريئة إلى كل من يقصر في هذا الدور التربوي ، بدءا من الاهتمام بالمشكل كمشكل ، وانتهاء بتطبيق منهج تربوي متكامل إزاء هذه الشريحة .

( الحل : تربية ربانية من نوع فريد )

إن التحدي الحضاري الضخم الذي تخوضه أمتنا الآن يجب أن نستعد له بجملة من الإنجازات التي يجب أن تتأسس قبل أن نفكر أصلا في خوض هذا الصراع ، وليست هذه الإنجازات من قبيل ما نجهله أو نعجز عن تحقيقه ، بل هي حقائق متفق عليها في أدبياتنا ، ومشروعات لم يجر أي نزاع بين أي اتجاه من اتجاهات الصحوة حولها ، فالإجماع منعقد على ضروريتها ، والاتفاق واقع حول لزومية تنفيذها .

إنني مع الاستقراء الطويل والدقيق لأدبيات الصحوة الإسلامية أستطيع أن أجزم أن الشيء الوحيد الذي اتفقت عليه كل اتجاهات الصحوة كخطوة أصيلة في بناء الأمة المسلمة القوية القادرة على استعادة أمجادها ، والنهوض من كبوتها إنما هو التربية .

ومهما اختلفت الرؤى حول هذا اللفظ ومعناه ، ومهما تباينت المعاني الاصطلاحية حول مدلوله وعمقه فسيبقى أن القدر المتفق عليه من معناه أن يعاد بناء الشخصية المسلمة ، وهذا كاف في إثبات أهمية التربية كحل وحيد لهذا العرج الإصلاحي الذي تعاني الصحوة الإسلامية .

ويبقى بعد ذلك احتياجنا أن نثبت أن التربية التي تحتاجها الصحوة لا بد أن تتوفر فيها ثلاثة أمور أساسية حتى نضمن حصول الثمرة منها ، كما نضمن تناسبها مع مقاصد الصحوة الإسلامية بل الروح الإسلامية التي تتقمصها الصحوة .

تلك الأمور هي :

(1) العقيدة القوية بما تتضمنها من إيمان كامل بمرجعية الكتاب والسنة .

(2) العلم بما يتضمنه من كفاية وأهلية للقيام بالحجة الشرعية ، ونعني بالعلم كل ما أفاد نصرة الدين ، ولكن يتأكد العلم الشرعي باعتباره مادة النذارة وحجة الرسل وأتباع الرسل .

(3) الجهاد ، والحركة ، والبذل ، باعتبار الثلاثة مظهر من مظاهر قوة المعتقد ، والطريق الوحيدة للإصلاح والتغيير .

وهذه الأمور الثلاثة هي ركيزة الجهد التربوي الذي ننشده ، بل هي الملامح الأصيلة التي بها نضمن تنشئة جيل قادر على حمل أمانة الدين وتبليغها للكون .

وهذه الأمور الثلاثة تجمعها الربانية التي أمر بها الله تعالى في قوله : ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) .

فالربانية كانت في مقابل الشرك الذي نفاه الله عن دعوة المرسلين ، وهو ركن العقيدة المذكور ، والربانية مأخوذة من ربان السفينة ( كما حققه ابن جرير الطبري رحمه الله ) أي قائدها ، والقائد لا بد له من جهاد وحركة وبذل ، وإلا ما صلح للقيادة أصلا ، كما أن الآية نصت على دراسة الكتاب وتعليمه ، وهو أساس العلم المشروط فيما سلف .

إن ربانية التربية هي الحل الوحيد لاستنهاض جيل الشباب في كل مكان ، ولجعل هذا الجيل متأهلا لاستنهاض الأمة وقيادتها نحو الريادة والمجد .

وليس من ريب أن أية محاولة تربوية تنحِّي هذه الملامح محكوم عليها بالفشل ، مأذون لها بضياع الجهد والتعب ، فأجدر بمن تصدر لهذا الدور الجلل أن يعاود الفكرة في ما ذكرنا من المعاني ، وفيما سنسطر في هذا الكتاب ليتأسس جهده على بينة ، وليكمل بناؤه على هدى ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

وهذه المعاني التي ذكرناها متسلسلة أردنا بها أن نثبت أن الصحوة في قد بلغت حدا من الضرورة يملي عليها أن تعزم عزمة جادة في درب التربية الربانية ، فليس من بديل لهذه الغثائية التي نعانيها إلا الاهتمام بالكيف ، وتحسين النوع ، والرقي بمستوى المهارة لدى جيل الشباب ، وما من سبيل لخوض الصراع الحضاري الضاري الذي بدأ معتركه إلا بحشد الإمكانيات كلها لإبادة كل جينات الفشل وبقايا المعوقات والصفات المثبطة التي تخلد بالصحوة ورجالها إلى الأرض ، وتحول بينهم وبين الزحف الظافر باليقين القاهر .

وهذه التربية إذا أردنا لها ظفرا ونجاحا فلا بد أن تقوم على أساس من العلم متين ، ونعني بالعلم منهجيته ، بمعنى أن تقوم التربية على منهج واضح المعالم والملامح ، وليس خاضعا للتجارب الفردية ، والأهواء الذاتية ، بل مراعيا لنص الوحي ، متابعا لطريق المعصوم ، متحريا لأمارة الحق التي لها نور من أدلة الشرع وهدى من البينات والفرقان .

نعم .. إن جانبا ليس بالقليل من التربية مبني على الممارسة ، والممارسة أصلا يجب أن تخضع لمرجعية الشرع ، فلا حركة ولا جهاد إلا ببرهان وبينة ، كما أنه لا عبادة إلا بدليل ، ومع أن الأصل في المسلم أنه متحرك لدينه ، إلا أنه يتحرك وفق ما رسمه له الشرع ، لا ما يرسمه له هواه ، وتمليه عليه أمانيه .

فمع تضافر التجربة والممارسة بإزاء البرهان الشرعي تتولد الشخصية الربانية التي استهدت بنور الوحي ، وارتسمت منهج المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وراعت حقيقة الشريعة ، فكان سعيها نورا على نور ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) .

وهذه الأوراق محاولة لتقعيد هذه التربية الربانية ، والانتحاء بها عن الارتجال إلى النظام والدقة ، ودعوة للمربين أ يمارسوا هذه التربية الربانية بنوع من وضوح الرؤية ، بعيدا عن الاقتراحات التي صارت وليدة الظرف ، والتجارب التي صارت رهينة المشكل ، فأضحت عمليتنا التربوية أشبه ما يكون بعملية جراحية يمارسها طبيب مبتدئ أو جراح غير متخصص فهو يثخن في المريض الجراح راجيا أن تفلح تجربة من تجارب مشرطه ومبضعه ، والضحية هو المريض المسكين .

إن من مقاصد وضع هذه الأوراق أن نشاهد بداية حملة جادة لجعل التربية الربانية شغلا شاغلا لشباب الصحوة تعلما وتعليما وتثقفا ، فينشغل الكل منذ أن عرف طريق الله بما يؤهله لبلوغ هذه الربانية المنشودة .

ومن مقاصدها دفع الغثائية التي تعانيها أمتنا ، والاتجاه نحو الجودة التربوية ، بوضع مواصفات دقيقة لها ، واشتراط شروط قاسية لتحصيلها ، وليست الشخصية المسلمة الكاملة بأبخس من المصانع التي تحتاج إلى شهادة الآيزو لتثبت جودة منتجاتها للناس .

لقد صار الإتقان سمة العصر ، وما لم تواجه أمتنا عدوها برجال أعدوا إعدادا متقنا ، وبعدة متقنة التجهيز فإنها بذلك تغامر في معركة خاسرة ، وتخوض تجربة معروفة النتائج ، ولا بد أن نقف وقفة صدق مع أنفسنا لنختار لأمتنا ، فاختيارنا لأمتنا هو اختيار لأنفسنا .

----------------------------------------------
[1] الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي لأنور الجندي ص224. نقلا عن المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية لعبد الله الشبانة .
[2] رسائل الإصلاح (1/101) نقلا عن المرجع السابق .
[3] راجع : حصوننا مهددة من داخلها والإسلام والحضارة الغربية كلاهما للدكتور محمد محمد حسين ، وأدب الردة لجمال سلطان ، وعودة الحجاب ؛ الجزء الأول للشيخ محمد إسماعيل .
[4] يراجع ما كتبه جمال سلطان في كتابه : أزمة الحوار الديني .
[5] الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة إصدار الندوة العالمية للشباب الإسلامي . انظر صفحة 715 .

 

رضا صمدي
  • رسائل ومقالات
  • كتب وبحوث
  • صــوتـيـات
  • الصفحة الرئيسية