اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/rida-samadi/33.htm?print_it=1

مفازة الجهل

رضا أحمد صمدي

 
بسم الله الرحمن الرحيم


لا يزال الجهل يفرض أهميته على مباحث أهل العلم حين يعرفونه مع ضده : العلم ! ما هو الجهل ؟ هل هو عدم العلم ؟ ويكون العلم هو عدم الجهل فيحصل الدَّور ؟ أم أن الجهل هو فراغ الذهن ، والعلم امتلاؤه ، فيكون كل ما اختزن في عقل الإنسان علما وإن كان حَشْوا ؟! أم أن الجهل هو عدم إدراك الشيء والعلم إدراكه فيكون العلم تصوريا لا تصديقيا ؟! العلم له وجود ، على الأقل ذهني افتراضي ، فهل الجهل له وجود ؟ ! تستطيع أن تشير إلى الكتب والمراجع والمصادر العلمية وتقول : هذا هو العلم ، لكن ما هو الشيء الذي تستطيع أن تشير إليه وتقول هذا هو الجهل ؟ قد يقول قائل : أشر بأصبعك لرأس جاهل وقل : هذا هو الجهل ! لا إخال هذا يصح ولو على سبيل التخييل ، فالجاهل هو من قام به الجهل ، وقيام الجهل به هو محل النزاع والخلاف : هل هو قيام حقيقي أم أنه في مقابل قيام العلم بالعالم ، فقيام العلم بالعالم سهل تصوره ، فيكون من السهل تعريفه.
وعندي .. أن أفضل قانون لتعريف الجهل هو أنه الخلو أو الفراغ القائم بذهن الإنسان في الزمن الذي قبل المعرفة والعلم إلى حصول المعرفة والعلم ، أو المسافة بينهما، فلو افترضنا أن إنسانا كان ذهنه خاليا عن العلم بمسألة ، فابتدأ في تعلمها ، وأثناء تعلمها لم يتم له العلم بها حتى يقضي زمنا ( ولو دق ) في تحصيل العلم بالمسألة ، فمنذ خلو الذهن من المسألة إلى حصول العلم بها في زمان معين هو الجهل .
والجهل بهذا الاعتبار ليس هو ما يقوم بالإنسان الجاهل الذي خلا ذهنه عن العلم بالمسألة، ولكنه قد يكون الخلوّ الذي تحقق عند جاهل فاستخدمه عالمٌ فكان جهلا، أو هو الخلو عن العلم بالمسألة في زمان معين فاستُعمل هذا الخلو في زمان آخر انتشر فيه العلم فكان جهلا أيضا .
فنسبة الجهل للزمان أو المسافة التي حصل فيها الخلو يجعل الجهل وجوديا لا عدميا بدرجة ما ، ويلوح أن هذا الجهل الوجودي أنسب لمن قام به العلم ولكنه استخدمه في تقرير باطل ، فلا يقال عن العلم الذي قام به علم ، بل هو جهلٌ كونَ ذلك الزمان الذي قرر فيه الباطل في تلك المسألة خاليا ذهنه عن الحق فيها وما ليس بحق فليس بثابت ولكن تقريره للباطل بطرائق العلم في ذلك الزمان المحدد وفي تلك المسافة قبل أن يحصل له العلم الثابت بها وجوديٌّ فصلح أن يقال عنه إنه جهل وإن تكرر استخدامه .
كما يلوح أن ربط الجهل بالزمان يجعله صفة منفكة لا لازمة ، فليس الجهل شيء يثبت على صاحبه أبد الدهر ، وإنما ينتفي الجهل عمن قام به بعد خروجه من حَيِّزِ زمانِ الخلوِّ عن العلم إلى حيزِ زمانِ التَّحَقُّقِ به .
وعلى هذا المَهْيَع رأينا صفة الجهل في القرآن ، فلم يَرِدْ مُفْرَدُ الجهل هكذا ( الجهل ) في القرآن ، بل جاء قائما بشخص على صيغة اسم الفاعل ( الجاهل ) إفرادا وجمعا، وأَشْعَرَ في كل موضع جاء هكذا أنه إنما تحقق الجهل في شخصٍ زمانَ خُلُوِّ ذهنِه عن العلم، لأن المُقَابِلَ لَهُمْ (أي الجهلة) هُمْ من قام بهم العلم أي خرجوا من حيز الزمان الذي حصل فيه الخلوّ من العلم . وقد ورد بصيغة المصدر (جهالة ) كقوله تعالى : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ السُّوْءَ بِجَهَالَةٍ . وهو واضح في اعتبار الزمان في صفة الجهل ، ولكن الأصرح في اعتبار الزمان في الجهل هو ما ورد بصيغة المصدر الصناعي ( الجَاهِلِيَّة ) فهو صريح وواضح في اعتبار الزمان في معيار الجهل ، وهو من أنبغ الألفاظ في القرآن، حيث غَدَا مَوْرِدَا ثَرَّاً من موارد العلم والفَهم بنى عليها العلماء الكثير من الأصول والقواعد العلمية والفكرية.
إن زمان الجهل يتنقل مع الإنسان في العلم الكسبي كله ، أو في مسألة دون أخرى ، أو في فن دون فن ، لكن المجزوم به أيضا أن حياة الإنسان ابتدأت بزمان الجهل ، قال تعالى : ( وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُوْنِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُوْنَ شَيْئَاً ) فكانت بداية الإنسان جهل ، وقد يستمر مع الجهل إذا استمر زمانَه لا يتعلم ، وقد يتوقف الجهل لحصول العلم ثم يعاود الجهل مرة بعد أخرى ، وعليه صح أن يكون الإنسان جاهلا ، ثم عالما ، ثم يعود جاهلا … أو أن يكون عالما في وجه دون وجه …
وعلى هذا ابتنى الأولون مفهوم العلم على الزمان والمسافة ، فقالوا : مع المحبرة إلى المقبرة ، وقالوا : اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد ، ويقولون عن جهود طالب العلم في تحصيله : رحلته في طلب العلم، وفي الحديث : مَنْ سَلَكَ طَرِيْقَاً يَلْتَمِسُ فِيْهِ عِلْمَاً سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيْقَاً لِلْجَنَّةِ . ويقال عن الجاهل : هذا بعيد عن العلم ، فكأن بينه وبين العلم مسافة ، والذي خلا ذهنه عن العلم ولكنه أدرك أهميته يرى ما بينه وبين العالِم كأنه مفازة وبيداء، ويرى العالِم كأنه واحة فيحاء في الأفق ويحتاج إلى اجتياز هذه البيداء للوصول إليها .
وعلى هذا الاعتبار فَضُل المتعلم على الجاهل أيضا ، لأن المتعلم رأى مفازة الجهل فعزم على قطعها ولو بعد حين ، أما الجاهل فهو من لم ير المفازة أصلا بينه وبين العلم والعالم ، ولم يدر بخلده أن هناك مسافة يجب أن يقطعها ليصل لمرتبة العلم والعلماء ، بل الأشقى من رأى تلك المفازة بينه وبين العلم فضاء واسعا يحدوه للعبث بجهله واللعب بخطله ، فهو على هذا قائم في تلك المفازة ، عاكف في ذلك الزمان الذي هو وعاء الجهل ومحيطه لا يقطعه بتعلم فيعلم ، ولا يدركها عُمقها وبُعدها فيستعدّ .
إن أخطر آفة حينئذ ألا يفهم الجهل إنسان فيتقمصه زمانَه ولا يشعر، ويتقلده دهرَه ولا يَخْبُر ! فهو يحسب نفسه بمفازة من الجهل أن يجهل ، فَلِمَ يُرْثَى لحاله وهو يظن نفسه عالما ، وما صَدَّقَ نفسَه عالما لأن العلم قام به ، ولكن لأنه ظن نفسه بعيدا عن الجهل ، ذلك أنه أدرك أن الجهل هو مجرد الخلو عن العلم ، لكنه يدرك من نفسه أنه غير خال من العلم ، ، فأنى يجد الجهل إليه سبيلا ؟!

على أن كثيرا من أولئك الذين استنكفوا أن يوصفوا بجهل إنما أُتُوا من ظنهم أن الجهل مذموم بإطلاق، والحق أن من الجهل ما هو واجب لا محيص عنه، ومندوب يُتَمدَّح به ، ومباح لا يضر ولا ينفع ، فالواجب كمثل جهل الإنسان بكيفية صفات ربه وحقيقة ذاته سبحانه ، فهذا لا يُتصور خلو أحد من البشر منه ، لا جرم كان الاعتقاد المتأسس على الجهل بذات الرب وكيفية صفاته هو عين العلم بالله الذي سعى إليه السلف الصالح ونادوا على الخليقة إليه .
وأما الجهل المندوب الذي يُتمدح به فهو الجهل الواقع بالفعل ، فقد ندب الشرع إلى الاعتراف به وعدم الحياء من حقيقته وإعلام الناس به وادعاء ضده وهو العلم حال الخلو منه مذموم ، وهذا هو الجهل الذي تَفِرُّ منه غالب الخليقة، ويَأْبَوْنَ أن يُوْصَفُوا به مع أنهم مُتَلَبِّسُون به لا محالة ، فيستحيل على كل إنسان أن يعلم كل شيء ، ففقدانه لأي جزء من العلم هو جهل به لا محالة ، وادعاؤُه تَشَبُّعٌ بِزُوْرٍ ، فكان مذموما والحالة هذه ، وهذا هو الجهل الذي تمدَّح به السلف الصالح ولم يروا فيه مَعَرَّةً أو مَلامَةً ، بل حَضُّوا تلاميذهم على الجهر به وعدم الحياء منه ، رُوِي عن عمرو بن الخطاب أنه قال: إذا سئل أحدُكم عن شيء لا يعلمه فلْيَقُل: لا أدري ،وقال ابن عباس : إذا تَرَك العَالِمُ قولَ لا أَدري أصيبتْ مَقَاتِلُه،وسئل مالك بن أنس عن مسألة فقال لا أدري ، فقال له السائل : أنت الإمام مالك لا تدري ؟! فقال مالك : نعم ، لا أدري ، وأخبر من وراءك أنني لا أدري .واستفاض كثيرا عن أحمد في فتاواه ورواياته أن يقول : أَجْبُنُ عَنْه ، أي لا أجرؤ أن أقول فيه بشيء ، وذلك لعدم حصول العلم به تصورا أو تصديقا .
قال بعض الشعراء :


سأَقَضْيِ بحَقٍّ يَتْبَعُ الناسُ نَهْجَــهُ … وينفَعُ أهلَ الجهلِ عنـد ذَوِي الخُبْرِ
إذا كنت لا تـدري ولم تَسَلِ الذي … تُرَى أنَّه يدْرِي، فكيف إِذَنْ تَدْرِي


وهذا النوع من الجهل على الحقيقة مُستراح الناس وقرة عين العلماء وذوي الفضل ، وقال بعض أهل الحكمة : لو سكتَ من لا يدري استراح الناس ، وقال أحدهم : لقد حسّنتُ عندي – لا أدري – حتى أردتُ أن أقولها فيما أدري .
والجهل في هذه المرتبة قَسِيْمُ العلم ، بل علامته وشرطه ، قال عمر بن عبد العزيز : من قال عند ما لا يدرِي: لا أدرِي فقد أحرَزَ نصف العلم . ووجّهه بعض أهل العلم بأن الذي له على نفسه هذه القوة فقد دلنا على جودة التثبت وكثرة الطلب وقوة المنة.
وأما الجهل المباح فهو الذي لا يُذم صاحبُه ، كأن يجهل فنا من الفنون ليس في جهله ضرر يُحذِّر الشرع منه وليس في تعلمه فائدة يُرَغِّبُ الشرع فيها، فمثل هذا يَرْجِعُ شأنه لقياس الناس ومعرفتهم بمصالحهم ولا يمكن أن يتعلق به الذم والمدح .
وإذا عُلم هذا استبانت جِناية الكثير من الناس على العلم حينما تَسَنَّمُوا فيه مُرْتقى تطامَن له النواصي وتخضع له الهمم ، فبعض الناس يرى المعرّة كل المعرّة أن يتقادم في الإسلام عهده، وتشيب في الطاعة ناصِيَتُه وهو لمّا يُلجأ إليه في الملمات ، فيظن المرجعية بالأقدمية ، وهو لا يفتأ يَذْكُرُ سِنّه للناس وأنه أكبر من فلان وفلان من العلماء فكيف لا يكون أعظم منهم خبرة وعلما ؟! وبعضهم يُرزق همة طلب العلم فيقتني كتبا تمتلئ بها جَنَبَات داره ولم يقرأ منها كتابا بتمامه بل يَشْتَارُ منها كما النحل من الأزهار فيظن أنه قد صار موسوعيا يستحق أن يقول لكل ملمة : أنا لها أنا لها . وبعض الطلبة يقرأ الكتب الكثيرة ويظن أنه فهمها على الوجه فيستدل منها وينقُل وهو يحسِب أنه إمام علمه وفنه ، وما أُتِيَ البائسُ إلا من اغتراره بجمعه، واعتداده بفهمه واستقلاله عن التلقي ، وإعراضه عن التدرج والترقي ، فقراءته للنص ينقصها التدقيق، وفهمه للعبارة يعتريه التسرع والمبادرة، وما ظَنَّهُ عِلْمَا حَصَّلَهُ من قراءته لهذا الكتاب أو ذاك فمَحْضُ أَوْهَام لا فَيْضَ إلهام ،وهذا أمر عاينّاه في بداية الطلب، فقبل الدرس كنا نقرأ الكتاب أو النص ونظنّ أننا قد بلغنا الغاية في فهمه، حتى إذا قرأناه على الأشياخ والمتصدرين للتعليم والتفهيم ظهرت لنا الخَلَّة والحاجة، وأن التأني في قراءة النص وفهمه وعدم الجزم السريع بالمعنى والمقصود هو أول باع في مفارقة الجهل والعِيّ . وحال كثير من قراء النصوص ومدعي الفهم أنهم يعتبرون كل ما فهموه من النص هو مقصود صاحب النص ، ويبادرون إلى الجزم به وتسفيه مخالفيهم وأغلبُهم تتخطفه العَجَلَة فلا يرى إلا النص الذي قرأه وزعم أنه فهمه ، فإذا عورض بآخر طفق يتأوله ويضغط عليه حتى يوائم فهمَه للنص الأوحد الذي قرأه ، ثم إذا عورض بآخر أنكره وبثالث جحده، ولربما آل به الأمر إلى نسبة الخطأ إلى النصوص المعصومة أو نسبة الصواب إلى النصوص المدخولة.

ولقد رأينا من هذه الفئام عصابةً استبان لها وللناس عيُّها في فهم لغة العرب، وذلك أنها لا تحسن تكتب بعربية قويمة المباني متماسكة المعاني ، فعربيتهم كبيوت خالية أو أسمال بالية ، فإذا قرأوا عبارة قطعوها عما قبلها وبتروها عما بعدها ، فإذا خوصموا بالسياق بَقُوا (انقطعوا)، وإذا روجعوا ببدهيات اللغة بُهتوا ، بل إنهم يكتبون الشيء ويقرِّرُون نَقِيْضَه ، ويَقْرِضُوْنَ النَّثْرَ وَيَنْثِرُوْنَ قَرِيْضَه !
وهؤلاء السجايا لا تكون إلا فيمن أُقْصِيَ عن صريح العلم ، ونُفي عن قُرَاحِ الفَهم فكان بينه وبين العلم مَفَازَةً من الجهل يَصْعُب اجتيازها ، لأنه طَفِقَ يُراوِح تلك البيداء لا يقطعها ، يمشي الهُوَيْنَا بين ذلك الكَثِيْبِ وذَاك الجَبَل ، يعلو تلا ويَهْبِطُ واديا ثم يُعَاوِدُ الكرَّة يومَه بَلْ دهرَه، فلا تُبْلَى عليه أَمَارَةٌ من أمارات العلم بل تَتَبَدَّى على مُحَيَّاه كآبة منظر الساعي بلا مَقْصِد، ووَعْثَاءُ الظَّاعِنِ الذي لا يقيم.
ولو تأملنا حال المسافر في البيداء وجدنا في سفره فائدة ، فكذا الجاهل إنْ مَضَى يطلب العلم وهو بَعْدُ على سَفَرٍ فقد برئ من الجهل المذموم، وتَعَلَّقَ بفائدة الجهل، واستحق المدح عليه من هذا الوجه، فلا يضره أن يُقال جاهل لأنه لَمَّا يَتَعَلَّم ، ولا جاهل لأنه لا يعرف ، ولا يُحسِّن مِنْ صورته أن يُقال مُتَعَلِّمٌ أو في سبيل التعلم ، وإنما يُمتدح من هذا الوجه تفريقا بينه وبين من قام على الجهل وقَنِعَ به ، أما من سَعَى في اجتياز مفازته وعبور بيدائه غيرَ متشبع بما لم يُعْطَ ولا مُدَّعِيا ما ليس له فقد برئ من المذمة البتة .

وهذا الفقه وَعَاه سلفنا وارْتَضَعوه ارْتِضَاعَاً ، وما كانوا يحتاجون إلى الشرح والبسط والتفسير فيه ، وقد كان الواحد منهم يقضي شَطْرَ عُمُرِه في تعلُّم سُوْرَةٍ ولا يرى أنه قد أبطأ أو قصّر ،كالذي رُوي أن عمر بن الخطاب تعلم البقرة في اثني عشرة سنة ، وجُلُّ الصحابة روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بين مُقِلٍّ ومُكثر ، ولكن قل منه من يفتي ، وقلّ منهم من كان مكثرا في الفتوى.


وَقَدْ كَانُوْا يُقَالُ لَهُمْ قَلِيْلٌ … فَصَارُوا الآنَ أَقَلَّ مِنَ القَلِيْلِ


وعلى هذه الوَتِيْرَة سار مَنْ تبعهم بإحسان ، فجعلوا لِلْعلم حُرْمَةً يجب صيانتها عن عَبَثِ المُتَسَرِّعين وجِنَايَة المُتَسَلِّقِين ، وهذا كُلُّه مَرَدُّه لِقَانُوْنِ الوَحْي المعصوم الذي اشتَرَطَ مُتَلَقِّيَاً وهو النبي أو الرسول، ومُتَلقّىً عنه وهو جبريل، وتَلقِّيا وهو الإسناد ، وقد قال أهل العلم في حرمة تلقي العلم أنه كالشرط إن انتفى؛ انتفى العلم ، وفي ذلك أنشدوا :


من يأخذِ العلْمَ عن شيخٍ مَشَافَهَةً … يَكُنْ عَنِ الزَّيْغِ والتَّحْرِيْفِ في حَرَمِ
ومن يَكُنْ آخِذَاً للعلْمِ مِنْ صُحُفٍ … فَعِلْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ كالعَدَمِ


وإذا علمنا أن الوحي نزل مُنجّما في ثلاث وعشرين سنة بَانَت لنا حكمة العلماء في تَطْوِيْلِ مدة الطَّلَبِ بين التلميذ والعالم حتى تَتَأَكَّدَ التَّلْمذة والصُّحْبة ويتكثّف التَّلقِّي لمنافع العلم وفوائده .
ومن هنا أخذ السلف قانون الإسناد وجعلوه من الدين فقالوا : الإسْنَادُ مِنَ الدِّيْنِ ، وَلَوْلا الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ . فكأنهم جعلوا بين المرء وبين شيخه الذي سيأخذ عنه العلم جادّة وطريقا ، ثم بينه وبين الوحي الذي يُراد تبليغه بَيْدَاء ومَفَازَة ، والإسناد كأنه ظَهْرُ المسافر ودابّته ، ولا يخفى على لبيب أن المسافة هنا في البُعد الزماني لا المكاني ، من حيثُ ما يجب اجتيازه ليتأهل في الأخذ عن شيخه والرواية عنه ، ثم فيما يجب اجتيازه عبر شيوخ شيوخه ليصل إلى غاية السند وهو النص المعصوم .

وكما أن المسافر المجتاز للمفازة لا بد له من خِرِّيت مُتَبَصِّرٍ في مسالك الطريق الوَعْر ، احتاج الجاهل إلى مثل ذاك الخرّيت يهديه إلى مواطن النفع ومواقع الزلل ليجتاز مفازة الجهل.

إن الجهلَ في أطواره كالمرض في جسم الإنسان لَدَى نموه ، فكلما اشتد بالتغذية عودُه وتَعوّد على الرياضة قيامُه وقعودُه كان عن آفة السُّقْم أبعد وإلى حُلّة العافية أقرب، وكذا المرء كلما اشتدت في دروب الفَهم محنتُه وتوسّعت في جَادّات العلوم رحلتُه كان عن سُوْح الجهل أقصى وإلى واحة العلم أدنى، وهذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ . قال الألوسي رحمه الله : وحُكى عن كثير من اللغويين أن الضُّعف بالضم ما كان في البدن والضَّعف بالفتح ما كان في العقل ، والظاهر أنه لا فرق بين المضموم والمفتوح وكونهما مما يوصف به البدن والعقل ، والمراد بضعف الثاني عين الأول.

فإذا كانت قوة البدن مع قوة العقل تخضع لصَنعة الله وقضائه فلا مَفَرَّ من الاعتقاد أن ما يَعْتَرِي الإنسانَ من جَهْلٍ وعِلْمٍ وقوة وضعف في العقل والفكر مردُّه إلى أصل الخلقة ، فلا تَثْرِيْبَ على مَنْ فَقَدَ عَقْلَه ، كما لا جناح على من ضَعُفَ فِكْرُه عن بلوغ المراتب العليا ، لا جَرَمَ كانت الحماقة والبلاهة والفهاهة أقداراً مكتوبة لا نُنْحِي باللائمة على من تلبسوا بها، بل نَعْطِفُ عليهم ونَحُوْطُهُم بمزيد إيْلاف وتسلية ، أما أولئك الذين ابْتُلُوا بالفهاهة وضعف العقل لكنهم أبوا إلا أن يُلحِقوا أنفسهم بسُدَّة العقلاء ، عَلِمُوا مِنْ أنفسهم أنهم بِمَفَازَة من العلم ولكنهم رَامُوا مُسَامَتَةَ العلماء فلايجوز في مُطَّرِدِ الأحوال أن نعاملَهم بمثل ما نعاملُ البُلْهَ والسفهاء ، فالأبله والسفيه لو تَسَوََّّر مال غيره لَزِمَ على وَلِيِّه أن يَحْجُرَ عليه ، ولو اعتدى على حرمة الآخرين لزم على راعيه أن يَمْنَعَهُ بل ويَغْرَمُ ما أتلفه ولو بغير عمد ، فما بالكم بالسفهاء والبلهاء الذين غُرْبَتُهُمْ في العلم كَغُرْبَةِ المُعْتَزِلِيّ بين الحنابلة ! ألا يستحقون حَزْمَا في الزَّجْرِ وجَزْمَا في الحَجْرِ ؟! إن تلك المفازة التي يجب أن يقطعها الجهلاء في تحصيل العلم لا تُحِل لهم أن يتسوّروا حُرْمَةَ العلم والعلماء ويَدَّعوا لأنفسهم الوَصاية على الدين والتوقيع عن الله رب العالمين ، ولئن فعلوا فما إِخالهم على خَلَّةٍ يستحقون بها قطع تلك المفازة، بل أُراهم سَيَضِلُّوْنَ في التِّيْه عمرَهم، يرتَعُوْن في القِفَار كما السَّوام ، كلما وقفوا على أَكَمَةٍ اسْتَراحُوا واجْتَرُّوا، فلا وِرْدَ لهم ولا صَدْرَ إلا على واحة إثر واحة ، فأين لمثلهم القرار ؟

وفي دنيا الناس ِإخَالُ أغلَبَهُم في تلك المفازة ، أعني مفازة الجهل ، ولكنهم بين سائر في قافلة يقودها خِرِّيْتٍ بصير بالدروب ، وبين شاذ ونادّ عن صحبه وذويه ، فريثما يتيه ويضل ، وبين متزود بزاد أو مُتَّكِّلِ على سراب يحسبه الظمآن ماء ، وهذه الدنيا؛ فانظر في فئام الناس فيها تجدْهم كما وصفتُ لك، ولن تعدم في سَفْرتِك واجتيازك لهذه المفازة أن تراني أو ترى غيري ممن قد يلتبس عليك حالهم فلا تعرّج عليهم وتقف عليهم متأملا، فقد يسبقونك وأنت لا زلتَ في الساقة ، فجُدَّ في السَّيْرِ واطْوِ المَرَاحِلَ وتَزَوَّدْ بِخَيْر الزاد واعتمد على رب العباد ، فهو نعم المولى ونعم المصير .


 

رضا صمدي
  • رسائل ومقالات
  • كتب وبحوث
  • صــوتـيـات
  • الصفحة الرئيسية