اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/rida-samadi/5.htm?print_it=1

وجاء دور شباب الصحوة

رضا أحمد صمدي

 
إلى جميع الأخوة الأحبة ، وخاصة من آزرني في مقدمة رسالة : وجاء دور شباب الصحوة ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
كانت الرسالة مكتملة عندي منذ أسابيع ، وكنت أقدم قدما وأؤخر أخرى في نشرها عبر المنتديات ، وأفكاري للأسف متمردة ، ولكنني والله على الأمة شفيق ، أحاول استجلاء الماضي لفهم الدروس التي من الممكن أن نستفيد منها لمستقبلنا ، مررت بأطوار حرجة في عمر الصحوة ، وخضت غمار تجارب مرة جلعتني في مكان قريب من الواقع الذي نحياه ، لم أكتب من برج عاجي ، بل عشت المأساة ، وذقت مرارتها ، وها أنا أحكي لكم صورتها وأروي طعمها ، ولا أكتفي بذلك ، بل أصف لكم ما أراه جديرا بالتأمل والتبصر .
والنصح لعامة الأمة دور كل مسلم فيما يراه حريا بالنصح والتوجيه ، إن كان خيرا وحقا فالحمد لله على التوفيق ، وهلموا للعمل ، وإن كان شرا وخطا فأنا أول البرآء منه ، وأستغفر الله العظيم من جدي وهزلي وخطئي وعمدي وسري وعلانيتي ، وكل ذلك عندي . وعندما رأيت بعض التجاوب من الأخوة لهذه الرسالة عقدت العزم على نشرها ، آملا ممن قرأها إن وجد خيرا أن يعمل بها ، وإن وجد عيبا أن ينصحني فيه ، والأجر للجميع مع الاجتهاد وحسن النية موفور بإذن الله تعالى ، ولكم أصدق الوداد وأطيب التحية ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله الذي حَفِظَ دينَه بحفظ أوليائه من الفتن ، ورَفَعَ شأنَه بتمحيص الذائدين عنه في أَتُّونِ المحن ، وجَعَلَ سبيلَ نصرته بَذْلَ الغالي والرخيص من الثمن ، فَتَمَايَزَ أهلُ الصدق عن أصحاب الدعاوى ، وعُرِضَتْ في سوق الآخرة أثمان المشترين ، فما بين مُسْتَغْلٍ ومُسْتَرْخِصٍ وما بين غَيُورٍ مُشْتَاقٍ، وزاهدٍ مُرْتَاب ، والسلعة الثمينة الغالية عَرَفَهَا أَرْبَابُها ، فما تَوَانَوا في تقديم النفس رخيصة لِنَوَالِها ، وجِيْفَةُ الدنيا خُدِعَ فيها طُلابُها ، وهَلَكَ على عَتَبَاتِ زِينَتِهَا عُبَّادُها .
وأُصلي وأسلم على مَنْ أَعْلَى الله به راية الحق والدِّين، ورفع بجهاده شأنَ الإسلام والمسلمين ، وشَمَخَ للعدل أَنْفٌ طالما كان رَاغِمَاً ، ودَالَ للظلم حُكْمٌ طالما كان على صدر العباد جَاثِمَاً ، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المَيَامِين ، وأزواجه الطاهرات وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فإن جَلالَةَ الخَطْبِ كثيرا ما تُلْهِي المصابَ عن التفكُّر في عواقب الأمور ، وتَصْرِفُهُ عن تَبَصُّرِ أفضل طرائق العمل والسلوك، ولهذا كان الصبر الصحيح الصادق المُبَرَّأِ عن أي تَكَلُّفٍ إنما يكون عند الصدمة الأولى كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم .
وهاهي الأمة تَسْتَجْلِي مستقبلا مليئا بالتحديات والصعوبات ، مُحَاطَاً بالأعداء من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ ، تَمَالأَتْ عليها قُوى الشر مِن فوقها ومِن تحتها ، وتجمَّعتْ مكائدُ الحاقدين لاستئصال شَأْفَتِها ، ومع كل هذا ما زالت أمتُنا بحمد الله صابرة صامدة ، تَنْعَمُ بِعُلُوِّ الراية ، وتَمَيُّزِ المُعْتَقَد ، وتَنَامِي تيار الصحوة الإسلامية في كل أوصالها .
وكان حَادِيها والمُمْسِكُ بزمامها صفوةً من القادة والأئمة، سخرهم الله هُداةً للخلق ، يصحِّحون لهم سيرهم أو إسراءهم ، ويُقَوِّمُون لهم ما اعْوَجَّ من شأنهم وانحرف من أمورهم.
ولكننا في السنين المتعاقبة الماضية صِرْنا نرى الأجَلَ يَتَخَطَّفُ حُدَاةَ الرَّكْب واحدا بعد آخر ، وكلما قَلَّتِ الأيادي الممسكة بالزِّمَام ، ضَعُف الخِطَامُ ، وسَهُلَ شرود الراحلة وشُمُوسُها ، بل انحرافُ القافلة وضلالُها.
ولقد كان نصيب أهل السنة من هذا المصاب أَجَلَّ وأعظم ، حتى إن العقلاء قد اجتمعت كلمتهم على تسمية العام المنصرم والجاري بعام الحزن لموت ثلاثة من أئمة الهدى، هم الشيخ عبد العزيز باز وعلى إِثْرِه الشيخ الألباني ثم من بعده الشيخ محمد الصالح العثيمين رحم الله الجميع .
ولقد تباينت ردود الأفعال ما بين غير آَبِهٍ أوعَابِئٍ وذَاهِلٍ ومُتَحَيِّر ، أو ما بين مُقَلِّلٍ من فَدَاحَة الخَطْب ومُغَالٍ في هَوْلِهِ وشدته ، لكن حالة الجزع لا يمكن أن تُخْطِئَها عَيْنٌ ، وتَفَصُّمُ عُرَى الصبر أَضْحَى قَابَ قَوسٍ أو قوسين ، ولما كانت المرحلة المقبلة التي تَسْتَشْرِفُها الصحوة مليئة بالتحديات، ولما كان وجود أئمة الهدى ومراجع الفتوى من ضروريات الدين ، ولما كانت الأزمة التي تعانيها الصحوة هي أزمة وجود القائد والقدوة التي تجتمع عليه الكلمة وينحسم به أي خلاف يطرأ في الساحة ؛ أحببتُ أن أبذل لنفسي وللصحوة وشبابها نصيحةً فيما يجب عليهم تجاه المرحلة القادمة ، خاصة أن الطَّرح الموجود بين فصائل الصحوة ما زال يغلِب عليه طابِع الرثاء المحض ، وصار صوت الشَّجَن هو الأعلى من بين كل الأصوات ، ولم أر حتى الآن مبادرة علمية وعملية للاستفادة من هذا الظرف النادر الذي وجدت فيه الآمة .
وهذا الطرح الدعوي الذي أطرحه في هذه الرسالة قائم على مقدمتين يقينيتين ، والنتيجة متوقفة على مدى توافر اليقين عند العامل بتلك المقدمتين ، فمن عمل بهما مستيقنا صِحَّتَهُما ظهرت النتيجة قطعا بحول الله وقوته ومعونته .
أما المقدمة الأولى فهي أن الأمة تعيش مرحلة عصيبة من مراحل حياتها ، وأن هذه المرحلة تستتبع يقظة وتحفزا وانتهازا للفرص ، وأن هذا الوضع يملي علينا شباب الصحوة المزيد من العمل والحركة لبلوغ أهدافنا وغاياتنا .
أما المقدمة الثانية فهي أن فصائل الحركة الإسلامية - وأخص بالذكر من انتسب لمنهج السلف الصالح واعْتَصَمَ بمعتقد أهل السنة – قد استكملوا من أسباب القوة وإمكانيات النصر ما يؤهلهم لبَدْء مرحلة المواجهة الحكيمة المُدَبَّرة .
إن النتيجة التي لا بد أن تتمخض عنها المقدمتان هي أن القيادة والإمامة لا بد أن تظهر تلقائيا وتتولَّد ضرورة ، إذْ مِن غير المعقول أن يرضى العقلاء بسير كسير راحلة عمياء ، أو حركة كخبط العشواء ، فالقدرة مع تمام التبصر بالتحدي يولِّد التهيؤ للمواجهة بالضرورة ، ولا يمكن لعقلاء الحركة الإسلامية إذا صَحَّت المقدمتان المذكورتان أن يرضوا بمواجهة الباطل في مرحلتنا القادمة بدون قيادة تمضي بهم نحو النصر المبين ، أو بدون إمامة تحسم النزاع بينهم في كل ما يشتجرون فيه .
إن هذه الرسالة ستحاول أن تعالج هذه القضية ، بمقدمتيها ونتيجتها لا من جهة نظرية علمية ولكن من ناحية عملية إجرائية، وستحاول الرسالة أن تستجلي بعض الغموض الذي يَكْتَنِفُ أهمية هذه القضية لأنه ما زال هناك من تَشَبَّعَ بنحلة القدرية حتى في مسالك الجهاد وطلب العلم، وأوكل حال الأمة لتصاريف الأقدار ناسيا أن أسباب النصر من تلك التصاريف التي قدرها الله ، وأن طرائق القوة والمَنَعَة من حِيَلِ القدر التي عَلِمَهَا الله وسَطَرَهَا في كتاب مبين ، وشاءها وخلقها في عباده، والمتعامي عنها بحجاب الثقة المزعومة في قضاء الله مُسْتَتِرٌ في الحقيقة بِضَعْفِ نفسه وخَوَرِهَا، هارب من واقع شخصيته المتخاذلة .
والحال أن واقعنا يعاني إما من خَائِفٍ مُرْجِفٍ ، أو خائنٍ مُخَذِّلٍ ، أو خائرٍ مُتَحَيِّرٍ ، والوَثْبَةُ التي تنتظرها أمتنا لا يمكن أن تعتمد على هؤلاء الثلاثة ، بل تحتاج إلى قَلْبٍ هَصُوْرٍ، وعَزْمٍ جَسُور ، وهِمَّة لا تَخُور ، وطُمُوحٌ إلى معالي الأمور ، وصاحب تلك الخصال لا بد أن يكون صاحب تصور واضح لحال الأمة وواقعها وما يجب عليها القيام به ، وما يجب عليه تجاه أمته ، فالفرد إذا كان كالأمة ، كانت الأمة كالفرد في تماسكها والتئام شملها .

صفة المفتي في هذا الزمان

اتفقت كلمة الأصوليين على ضرورة أن يكون المفتي مسلما عدلا سليم الحواس في الجملة بحيث يقدر على تمييز ما يعرض عليه والحكم عليه بدون تقصير في الفهم ، وأن يكون صاحب اجتهاد وقدرة على استنباط الأحكام من النصوص الشرعية في الجملة .
هذا القدر مجمع عليه في الجملة ، وقد يحصل الخلاف في بعض التفاصيل والشروط مثل البلوغ ، وسلامة بعض الحواس مثل البصر والسمع ، أو في مستوى الاجتهاد الذي ينبغي أن يصل إليه.
كما اتفقت كلمة الفقهاء على أن تنصيب المفتي فرض كفاية على المسلمين لا يحل لأهل بلد أن يخلو إقليمهم من مرجوع إليه في أمور الدين والدنيا .
وقد شرط الأئمة شروطا علمية في المجتهد المفتي سنتعرض لها فيما يُستقبل من العناوين ، ويهمنا هنا أن نقرر ما يجب توافره في مفتي هذا الزمان إضافة إلى ماشرطه أئمتنا رحمهم الله .
ولا شك أن الفقهاء كانوا يتحدثون عن واقع يعيشونه ، وظروف لم يتصوروا خلافها أو بالأحرى لم يكونوا مُلْزَمِين أن يتصوروا خلافها .
ففي عصرنا حيث يكون تطور تقنية الاتصالات سببا قويا في جعل أقاليم المسلمين شديدة التواصل ، وإمكانية التقارب في الفكر والعلم والعمل أقوى وأشد ، فإن تصور إلزام كل بلد بوجود مفت يكاد يكون أمرا غير ممكن إن لم يكن مستحيلا بحكم الظرف الذي تعيشه الأمة .
وإذا كانت الأقاليم الإسلامية تنعم بالمجتهدين والمفتين في كل مكان في غابر الأزمان فذلك لأن مناهجهم وطرائق العلم عندهم كانت على النحو الذي يَشْحَذُ هِمَّة الطُّلاب ، ويسارع بالذكي منهم نحو النبوغ والتفوق ، ناهيك عن أن علوم الشرع كانت هي السائدة الرائدة ، وهي صاحبة الكلمة ، وكان للفقهاء سلطانهم المبسوط في شئون الدولة ، شأنهم شأن الحقوقيين في هذه الأزمنة ، وعلى نفس ما لمادة الحقوق من مكانة في المجتمع الآن كان للفقه والاجتهاد الشرعي وجاهته المرموقة في غابر الأزمان .
وبناء على ما شرحناه فإن واقع العصر يقضي بكفاية وجود عدد من المفتين القادرين على إفادة الأمة في القضايا الكبرى ، بحيث يعتبر هؤلاء أصحاب الاجتهاد المطلق ، وأصحاب الكلمة العالية في كل قضايا الدين والدنيا ، وذلك بما أوتوا من قدرة على النظر في أدلة الوحي المطهر ، وبما عهد عنهم من ممارسة للقضايا ، وبلاء في نفع الإسلام والمسلمين .
وهؤلاء المفتون الذي نعنيهم بالكلام هنا يختلفون عن المفتين في الأزمنة الغابر من وجوه ، أهمها :
- أن لهم دور في هذا العصر يقارب دور الإمامة العظمى ، في توجيه المسلمين ، والتحدث باسم الإسلام بين الخلق، وذلك لأن الخلافة مغيبة ، وقد تقرر أنه إذ خلت الأقاليم من خليفة بيده القياد ، فعلماء البلاد هم ولاة العباد . وأي حاكم لإقليم استقل بحكمه على طرائق العصر المعروفة لا بد أن يرجع في أموره وشئونه إلى هؤلاء المفتين ، ولا بد أن يصدر عنهم في كل مُهِمَّة ومُلِمَّة ، وهذا متوجه على الحكام على جهة اللزوم الشرعي حتى يكتسب حكمهم الحق في طاعة العباد لهم ، ويكتسب قانونهم المسنون صفة الشرعية في توافقه مع ما شرع الله تعالى . ومثل هذا الأمر الذي ذكرناه تشير إليه نصوص كثيرة من الشرع المطهر كتابا وسنة ، وأصرح شيء في الباب قول الله تعالى : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم .. ) فأوجب الله طاعة أولي الأمر بعد طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن كان أولي الأمر من أهل الاجتهاد في في نصوص الشرع فلا كلام ، لأنهم هم المقصودون من كلامنا هنا ، وإن كانوا غير مجتهدين، فإن كلمة أهل العلم مجتمعة على وجوب رجوع هؤلاء الحكام إلى أهل الاجتهاد والفتوى ليرشدوهم ويعينوهم في أمور الحكم ، فآل الأمر إذاً إلى ضرورة رجوع الخلق حكاما ومحكومين إلى المجتهدين والمفتين ليحكموا لهم ويفتوهم في أمور الدنيا والدين .
- ويفترق مفتي هذا الزمان ومجتهده عن الأزمان الغابرة في أنه يقود مسيرة الجهاد الإسلامي في العصر الحاضر بكل صوره ، وإليه تئول مسئولية إرجاع الحاكمية لشرع الله عبر كلمته النافذة بين الناس ، ودعوته المتوغلة في شرائح المجتمع ، وصوته المسموع عند فصائل الصحوة الإسلامية المباركة .
- كما يفترق مفتي هذا الزمان أنه يعالج قضايا لم تكن من مهام مفتي الأزمان الماضية ، مثل جهاده في الرد على العلمانيين ، وسعيه في توضيح صورة الإسلام عند من تشوهت صورته لديهم بفعل إعلام الحاقدين من أعداء الدين ، ودوره في رد جموع المسلمين الشاردين عن الدين ممن اغتروا بزيف الحضارة الغربية المعاصرة ، وألهتهم فتن الزمان عن حمل أمانة الدين .
إلى بعض هذه المعاني أشار الإمام الطبري رحمه الله عند تفسير قوله تعالى : ( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) ، حيث قال في تفسيره( 3/327-328) : حدثني يونس ابن عبد الأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال سمعت ابن زيد يقول في قوله : (كونوا ربانيين ) ، قال : الربانيون الذين يُرَبُّون الناس ، ولاة هذا الأمر يربونهم : يلونهم ، وقرأ : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار ) قال : الربانيون : الولاة ، والأحبار : العلماء . قال أبو جعفر ( يعني الطبري نفسه ) : وأولى الأقوال عندي بالصواب في الربانيين أنهم جمع رباني ، وأن الرباني المنسوب إلى الربان ، الذي يرب الناس وهو الذي يصلح أمورهم ويربها ويقوم بها ، ومنه قول عَلْقَمَةَ بن عَبْدَة :
وكنتُ امْرَأً أَفْضَتْ إليكَ رَبَابَتِي وقَبْلَكَ رَبَّتْنِي فَضِعْتُ رُبُوْبُ
يعني بقوله : رَبَّتْنِي وَلِيَ أمري والقيام به قبلك من يربه ويصلحه فلم يصلحوه ولكنهم أضاعوني فضعت ، يقال منه : رَبَّ أمري فلان فهو يَرُبُّهُ رَبَّا وهو رَابُّه ، فإذا أريد به المبالغة في مدحه قيل: هو ربان ،كما يقال : هو نعسان من قولهم نعس ينعس ، وأكثر ما يجيء من الأسماء على فعلان ما كان من الأفعال الماضية على فَعِلَ ، مثل قولهم هو سكران وعطشان وريان ، من سَكِر يَسْكَرُ وعَطِشَ يَعْطَشُ وَرَوِيَ يَرْوَى ، وقد يجيء مما كان ماضيه على فَعَلَ يَفْعُل نحو ما قلنا من نَعَسَ ينعس ورب يرب فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ، وكان الربان ما ذكرنا والرباني هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفت ، وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين يَرُبُّ أمور الناس بتعليمه إياهم الخير ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم وكان كذلك الحكيم التقي لله والولي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وليه المقسطون من المصلحين أمور الخلق بالقيام فيهم بما فيه صلاح عاجلهم وآجلهم وعائدة النفع عليهم في دينهم ودنياهم كانوا جميعا مستحقين أنهم ممن دخل في قوله عز وجل : (ولكن كونوا ربانيين ) فالربانيون إذا هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا ولذلك قال مجاهد : وهم فوق الأحبار لأن الأحبار هم العلماء ، والرباني الجامع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم . ثم يقول : فمعنى الآية: ولكن يقول لهم كونوا أيها الناس سادةَ الناس وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم ربانيين بتعليمكم إياهم كتاب الله وما فيه من حلال وحرام وفرض وندب وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم وبتلاوتكم إياه ودراستكموه أهـ
هذه جملة من الفروق التي يجب أن نستحضرها ونحن نتحدث عن أئمة الهدى الذين نريدهم أن يقودوا الأمة نحو النصر المبين والظَّفَر الراشد ، وهي فروقٌ - لَعَمْرِي - قد تغيب عن أناس ما زالوا يقرؤون صفات المفتي في كتب الفقه ويظنون أنها مسطورة لنفس زماننا هذا ، ولا ريب أن مفتيا قد تتوفر فيه الشروط التي ذكرها أئمتنا وفقهاؤها في كتب القضاء والفتوى ولكنها تتحدث عن مفتين يعيشون في ظل دولة أو دول يُعْتَبَرُ شرع الله مرجعاً في كل شئونهم ، وللإسلام حماة يذودون عنه ويحمون بيضته ، ويردون كيد أعدائه ، سواء كانوا حكاما أو جندا أو علماء .
أما في عصرنا الذي نشهد فيه غُربة شديدة ، واستطالة على شرع الله ، فإن منصب الفتوى لم يعد قاصرا على إجابة أسئلة المستفتين في شئون الطلاق والميراث والمعاملات كما كان معهودا ، بل إن مركزه صار يتعدى إلى دور الإمامة العظمى في الحكم بين الناس وتربية المجتمع على مقتضى روح أوامر الشرع المطهر ، والأخذ بيد الضالين إلى طريق الله المستقيم .
ولعمري إن هذا الدور ليس بدعا في المفتي ، بل أن الأصل في العالم بنصوص الشرع أن يكون مُلَقِّنَاً لأحكام الشرع وتعاليمه والتي منها ما يتعلق بالنفس والروح ، وليس لمجرد ما يتعلق بالمعاملات الظاهرة فقط .
وهكذا كان دور الأنبياء ، وهو دور من ورثوا عنهم العلم ، والعلم يشمل كل جوانب الشرع ، سواء تعلقت تلك الجوانب بالبدن أو بالروح ، بفروع الأعمال أو بأصول الاعتقاد .
وهكذا كان المفتين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تأمل سيرة المكثرين من الفتوى من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ( كالذين سَرَدَهم ابنُ حزم ومِنْ بَعْده ابنُ القيم ) فإنه سَيَلْحَظُ أن نفس هؤلاء المفتين من الصحابة كان لهم دور تربوي في المجتمع ، كما كان لهم منهج سلوكي لمن ينشأ معهم على طلب العلم ، كما كان لهم دور رائد كذلك في مقاومة البدع ومحدثات الأمور ، ناهيك عن الدور السياسي الذي لعبوه في تنظيم أمور الدولة ، وشهرة هذا الأمر يغني عن سوق أمثلة عليه .
ولكنْ تَطَاوَلَ الزمان على أمتنا ، واعتيادنا على معنى معين لكلمة المفتى ، أَضِفْ إلى ذلك ما تعلق بالأذهان من دور رسمي قاصر للمفتي حصره فيه الكيد السياسي العلماني ، جعل هذا المنصب أشبه ما يكون بوظيفة القسيس عند النصارى ، حيث يقتصر دوره على أداء العبادات وإنفاذ المناكحات أو التماس البركة وتطهير الذنب ! وإنها لأحدى الكُبَر .
إن المرجعية الدينية التي نطمح إليها هي مرجعية المفتي العامة ، حيث يكون أهلا للفتوى في كل الأمور لتأهله في كل علوم الشرع المطهر ، وإحاطته بما يحتاج إليه من علوم العصر ، ومثل هذا لا يصل إلى رتبته إلا ذو حظ عظيم .
ومثل هذه الصفات التي حُمْنَا حول مجمل معانيها هي التي تحتاجها أمتنا في هذا الظرف الدقيق ، وهي التي توفرت في أئمة الهدى الذين قضوا نحبهم ، حيث كانوا مرجعا للناس في كل أمور الشرع ، وكانوا مهوى الأفئدة في كل قضايا العصر ، وكانوا قبلة السالكين ممن راموا قدوة في أوامر الشرع المبين ، فصاروا حجة الله على الخلق ، ومنار الإسلام في الأرض ، ومع عدم وجود بديل لهم يضمحل نور الحق ، وتَنْزَوِي معالم الهداية ، وتغدوا أطلالا و أثرا بعد عين .
ولكن كيف يمكن أن نعرف خلو العصر من المفتين والمجتهدين القائمين لله بالحجة على الخلق ؟ هذا ما سنجيب عليه في العنوان التالي :

الغلو والجزع آفتان خطيرتان
نريد وقفة بَكْرِيَّة

عندما مات الشيخ محمد الصالح العثيمين عَلَتْ أصوات المتشائمين المحذرين من خُلُوِّ الساحة ، والمصرحين بإفلاس الأمة ، والمنادين عليها بالويل والثبور وعظائم الأمور .
ولا شك أن المصاب في وفاة أئمة الهدى جليلة ، والخسارة بفقدانهم عظيمة ، ولكن من الذي قال إن نَسْلَ العلم قد انقطع بموت أولئك ؟ ومن الذي تَوَهَّم ألا وجود لأئمة الهدى بعد موت الثلاثة رحمهم الله ؟!
إننا نحتاج إلى تلك الوقفة الحاسمة التي وقفها أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فداس بها على حزنه العميق لوفاة خليله صلى الله عليه وسلم ، وواجه بها جزع الجازعين من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قولته الخالدة التي غدت نذيرا منبها في كل زمان ، يوقظ الغافلين ، ويحيي الأمل في أفئدة الضعفاء والجزوعين ، قال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ثم تلى قول الله تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسول أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) .
إن وجود المجتهد الذي تَفْزَعُ إليه الخلائق في أمور الدين ليفتيهم ويرشدهم ويقيم حجة الله عليهم قَدَرٌ مَقْدُور ، ووَعْدٌ مَقْضِيٌّ لا بد أن يتحقق ، سواء كان بنا أو بغيرنا ، مصداق ذلك قول الله تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) فقد أمر الله الناس بسؤال أهل الذكر ، ولاشك أن هذه الآية مُحْكَمَة، فلم يكن الله ليأمر بأمر محكم ماض إلى يوم الدين وهو في واقع الأمر ليس بمقدور ، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الطائفة المنصورة بقاءَ الثُّلة التي يظهر الحق بوجودها إلى يوم الدين ، حيث قال : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) ، وأمر الله هو قيام الساعة ، وتلك الطائفة هم أهل العلم كما قال كثير من الشراح .
وحِفْظُ الدين أمرٌ قد تكفل الله به ، وسَخَّرَ له من جنوده من يبذل نفسه في سبيله ، قال الله تعالى : ( إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ، وقال تعالى : ( فإن يكفر بها هؤلاء فقد وَكَّلْنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) أي بالذكر والآيات البينات ، وقال تعالى : ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا من يَرْتَدَّ منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) ، وقال تعالى : (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون . وإن جندنا لهم الغالبون).
وخَطَأٌ بَيِّنٌ أن نفهم حديث قبض العلماء أنه قَدَرٌ يجب أن نستسلم له ، أو أن نظن قرب يوم القيامة فَنَرْكَنَ إلى العَجْز ، ونستسلم للجهل ونرضى به .
فكل شَرٍّ تَنَبَّأَ به الرسول صلى الله عليه وسلم قَدَرَاً ؛ وجب شرعا علينا دَفْعُه والفرار منه ، وقد قال أهل العلم إنه قد وجب بالقدر كُفْرُ أبي لهب ، لكن قد سبق ذلك وجوب الشرع بأن يؤمن ، وإذا كان في سابق القدر حصول قبض العلماء ، فإن في سابق إرادة الله الشرعية أن نسعى في تحصيله وأن نُوْجِدَ من أهل العلم من يكفوننا أمور ديننا ودنيانا .
ومع هذا التوجيه للأدلة فإنني أعتقد أن الغُلُوَّ في بعض العلماء سبب كاف في تعمية الأبصار عن غيرهم من المقتدرين ، بل إننا نرى هذا جليا في حالتنا ، إذ نسمع بعض الأصوات التي لا تعترف بِمُحَدِّثٍ له المكانة التي كانت للشيخ الألباني رحمه الله ، وقد علمت الخليقة ما للشيخ من سابق جهاد وفضل وعلم ، ولكن هذا ليس بكاف في نفي القدرة عن الغير ، وليس بِمُجْدٍ في إثبات انفراده رحمه الله بالحق في الفصل في هذا النوع من العلوم الشرعية .
وعلى منوال هؤلاء المغالين نَسَجَ بعض من عَظَّمَ فتاوى الشيخ ابن باز فاعتبر كل ما يخالفها من الضلال المبين ، وسَفَّه أقوال أقرانه من أهل العلم لمجرد أنه رحمه الله كان مقدما في العلم والسن والفضل والسبق ، وهذا كله غير منكور ، ولكن أن نجعل هذا معيارا في رفض الآخرين فهذا لعمري ما لا يرضاه الله ولا الشيخ ابن باز ولا الشيخ الألباني ، ويرحم الله الجميع .
إنني أعتقد أن في الأمة ممن كان على نحو علم الشيخ ابن باز وفقهه وتقواه وورعه الكثير ، ومن كان على تَبَحُّرِ الشيخ الألباني في علوم الحديث وعلى مثل ما كان عليه من تعظيم السنة ونصرتها الكثير والكثير ، ولكن الغلو في السابق يمحو حسنات اللاحق ، ولمثل هذا يشهد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِيْ وَيُصِمُّ ) .
وإليك أيها القارئ مُثُلا تدرك بها حقيقة ما أقول : لقد شاع في العالمين فضل الإمامين الذهبي والمِزِّي ومن في طبقتهم من أئمة الحديث ، حتى غدت مصنفاتهم المعول عليها في الفن، والمرجوع إليها في الفصل بين المتنازعين ، فلما جاء الإمام ابن حجر نسخت كتبه ما كان عليه الناس من اهتمام بكتب الإمام الذهبي والإمام المزي ، مع أن في كتب هذين من التحقيق والفوائد والفرائد ما ليس عند الإمام ابن حجر ، ويرحم الله الجميع .
وقِسْ على هذا ما نراه الآن من تعويل الناس في معرفة الصحيح والضعيف على كتب الشيخ الألباني رحمه الله ، حتى صار اقتناء تلك الكتب علامة على طلب العلم وشامة في مكتبة طالب العلم ، وهذا مع كونه لا يمارى في فائدته إلا أنه جعل طلبة العلم في غفلة عن المراجع الأخرى المهمة والمفيدة التي يرجع إليها في هذا العلم مثل كتب العلل ونحوها ، ولكن تسهيل الشيخ الألباني رحمه الله لهذا العلم جعل الناس يركنون إلى الطريقة المثلى في معرفة الصحيح والضعيف من الآثار دون تجشم عناء الغوص في كتب الحديث المتخصصة ، وهذا لعمري كاف في حق المقلد في هذا الباب ، ولكنه ليس بمانع المجتهد أن يتعقب الشيخ الألباني وغيره فيما بدا له أن السابق قد ند وأخطأ فيه .
إننا نرى الآن جمهرة كبيرة من علماء الحديث ، لهم قدرة فائقة على نقد الأسانيد ، وتعمق وغوص في اصطلاحات أهل العلم ، وقد اعترف لهم الشيخ الألباني بالدقة والعمق في أبحاثهم ، ومثل هؤلاء لا يقلون عن الشيخ الألباني في هذا الباب إلا بما سبق إليه الشيخ رحمه الله ، فإنه بز في هذا العلم يوم كان غريبا لا نصير له ولا معين .
وكذلك نرى من أهل الفتوى من علماء العصر كثيرون لهم نفس التحقيق والتدقيق الذي كان عند الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله ، وليس من شيء يقلون به إلا سبق الإمامين لهم في الفضل والعلم والتقوى ونحو ذلك من الصفات الحميدة .
هل نكون إذا من المبالغين إن قلنا إن في الأمة عشرات مثل الشيخ الألباني وعشرات من الشيخ ابن باز وعشرات من الشيخ ابن عثيمين ، لا والله لا نكون مبالغين ، ولكننا سنكون أقرب إلى الشطط إن ظننا أن النساء عقمن أن يلدن مثل أولئك الأئمة الذين رحلوا عنا.
بماذا تُنال الأمامة ؟!
سؤال قديم أجاب عنه القرآن ، وأيقظ معناه وشَهَّره في الناس شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال : إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين ، وقد استدل بقول الله تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) .
وواضح الآية تضمنت شروطا أخرى في أولئك الأئمة ، مثل الهداية التي أوتوها ، وكونهم مهتدين بها ، وكونهم يجعلون هذه الهداية عدتهم في دعوة الناس وأمرهم باتباع طريقهم . ولكن الإمامة عُلِّقَتْ بالصبر واليقين فحسب ، فما السر في ذلك ؟
السر في ذلك أن تحصيل العلم في حد ذاته ليس أمرا جللا،ولا النبوغ فيه يعتبر معجزة من المعجزات، بل هو ميسور للجمهرة الغفيرة من الناس ، كما أن وجود العالم التقي الورع أيضا ليس خطبا كبيرا ، ففي كل عصر يمكننا أن نعد المئات من أهل العلم ممن توافرت فيهم صفة العلم والهداية والتقوى .
وبنفس المنطق نقول إن الدعوة إلى الله تعالى عمل يسير يمكن لأي أحد أن يقوم به ، ونحن نرى أصحاب الملل جميعها يجهدون في الدعوة إلى مللهم ونحلهم .
ولكن الذي صعب توافره في كل أولئك هو العنصران اللذان نصت عليها الآية : الصبر واليقين .
فلنتحدث عن هذين العنصرين بشيء من التفصيل .
إن المجتمعات ترى الكثير من أهل العلم الذي رزقهم الله علما وتقوى وورعا وخلقا ، وتراهم يغدون ويروحون في سبيل دعوة الخلق لله تعالى ، لقد غدا هذا الأمر بين الناس عاديا ، لدرجة أنه ليس من الغريب أن نرى حقل الدعوة يزخر الآلاف بل بمئات الألوف من العاملين في حقله والسالكين في دربه .
ولكن المجتمعات تنظر بعين التعجب إلى تلك الزمرة التي تستمر على هذا المسلك سنين متطاولة ، وتصبر على كل الأذى الذي يلحق بها ، وتتحمل كل َلأْوَاءَ في سبيل هذا الطريق الذي سلكته ، كما أنها تتعجب أكثر حين ترى تلك العصابة التي صبرت على صنوف الأذى طيبة النفس هانئة البال ، تنظر إلى المقادير بعين واثقة ، وتتصرف مع المشاكل بنفس وادعة ، كأنه تنظر إلى الغيب من طرف خفي ، إنهم الأئمة الصابرون المستيقنون.
تأتي الأعاصير تلو الأعاصير ، وتجدهم ثابتين على مبادئهم لا يخونون ، تتبدل البلاد والأقاليم ، ويتغير الحال من حال إلى حال ، وشأن هؤلاء كما عهدهم الناس مذ قاموا فقالوا ربنا الله لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا .
إن من أوضح السمات التي يمكن أن تلحظها في الشيخ ابن باز والشيخ الألباني والشيخ ابن عثيمين رحمهم الله أن سيرتهم لم تتبدل على مر السنين ، لقد ظلوا مخلصين لمنهجهم ، صابرين عليه ، مذ كان غريبا مطاردا حتى أمسى كالبدر الساطع لا يحجبه غيم أو سحاب .
لقد صبر أولئك الأئمة ، واستيقنوا نصر الله ، وتوطدت عندهم إرهاصات التمكين ، ووثقوا في صدق سيرهم وصحة طريقهم ، فلم يضرهم قلة السالكين ، وأيقنوا بخطأ طريق الضالين ولم يغتروا بكثرة الهالكين .
ومن العلامات المضيئة في حياة الأئمة عموما تفانيهم في خدمة الدين ، والقيام بأعبائه من فتوى وإرشاد ونصح، وشدة شففتهم على حال كل المسلمين في كل العالم .
إن بعض الناس يظن أن كثرة المؤلفات لعالم كافية في جعله إماما ، أو أن تسنمه منصب التدريس دهورا حري بأن يجعله مرجعا من مراجع المسلمين ، أو أن دخوله معترك السياسة ومناصحة الحكام وحده كاف صب الإمامة ، بل هذا كله من لوازم الإمامة ، ويضاف إليه فناء وقت هذا العالم في سبيل الإسلام والمسلمين ، فهو لا يدخر وقتا أو يفضل لنفسه زمانا ويقدمه على مصالح المسلمين ، بل تجد وقته كله عامرا بالنفع لغيره ، إنه يعيش لغيره حقيقة ، وتجد مصداق ذلك في هندامه الذي لا يهتم به بالتأنق فيه كثيرا ، وفي الرهق الذي يعلو محياه آخر كل يوم ، لقد أفنى يومه كله في السعي في أمور المسلمين ، دعوة وسعيا على المحتاجين وإقامة لحجة الله في الأرض ، يا لها من مسئوليات لو كان لها عاقلون .
أفيكون الواحد من أولئك ذا نِعْمَةٍ ورَفَاهٍ ، وبَسْطَةٍ ورَغَدٍ في العيش ، لا يَأْرَقُ لحال الجياع ، ولا يحزن أو حتى يفكر في مآل من ضل الطريق ، ويتنعم بما آتاه الله من علم وبسطة في الرزق دون أن يكون عنده الإيثار الذي تميز به الصحابة الأوائل ، أو التفاني في البذل الذي كان من شيم أهل المروءات فضلا عن أهل العلم والتقوى والدين ... ثم نظن أن مثل هذا يمكن أن يطلق عليه أنه إمام من أئمة المسلمين ؟!!
لقد كان أرق الرسول صلى الله عليه وسلم لحال أمته نموذجا لكل من تلقى عنه ميراث النبوة ، ألا وهو العلم ، كان أرقه قد وصل إلى الحال التي عاتبه عليها ربه ، قال القرطبي في التفسير ( 4/28) : كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرط في الحزن على كفر قومه فنهى عن ذلك كما قال : ( فلا تَذْهَبْ نفسُك عليهم حسرات ) وقال : (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) .
وهكذا كان حال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في حمل هم أمانة تبليغ الرسالة ، فهذا رِبْعِيُّ بن عامر يقرر ويعلن الإعلان العالمي لرسالة الإسلام المسلمين فيقول فيما رواه الطبري في تاريخه عن أحداث فتح فارس ( 2/104) : الله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله.
لقد كان الدور الذي قاموا به في هداية البشرية مستحقا لمنصب الإمامة التي تقلدوها ، لذلك نقل ابن حجر في غير موضع في الإصابة أن المسلمين لم يكونوا يؤمرون في الفتوح إلا الصحابة لما لهم من منزلة وسبق جهاد وبذل في سبيل نشر الدين .
إن الحقيقة التي لا يمكن أن تحتمل الجدال أن الحقوق تتقرر وفق الواجبات ، وهذا مقرر في كتاب الله بأكثر من طريقة ومسلك ، قال الله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، وقال الله تعالى : ( وجعلناهم أئمة يهدون بامرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) ، وقال الله تعالى : ( إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ) .
وقد استحق الصحابة والرعيل الأول إمامة الدنيا بما بذلوا في سبيل هذا الدين ، وبما كان لهم من جهود لا ينكرها إلا جاهل أو جحود . قال ابن حجر في الفتح (7/6) في شرح حديث : (خير الناس قرني ) : قوله : (ثم الذين يلونهم )أي القرن الذي بعدهم وهم التابعون ( ثم الذين يلونهم )وهم اتباع التابعين واقتضى هذا الحديث ان تكون الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل من أتباع التابعين لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة الى المجموع أو الافراد محل بحث ، وإلى الثاني نحا الجمهور والأول قول ابن عبد البَرِّ والذي يظهر أَنَّ مَنْ قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم أو في زمانه بأمره أو أنفق شيئا من ماله بسببه لا يَعْدِلُهُ في الفضل أحدٌ بَعْدَهُ كائنا مَنْ كان وأما مَن لم يقع له ذلك فهو محل البحث والأصل في ذلك قوله تعالى : ( لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا مِنْ بَعْدُ وقاتلوا ) الآية أهـ .
وقال المناوي في فيض القدير ( 2/185) : أنهم إنما كانوا خيرا لأنهم نصروه وآووه وجاهدوا معه وقد توجد نحوُ هذه الأفعال آخر الزمان حين يكثر الهَرْجُ وحتى لا يقال في الأرض الله، قال الكلاباذي وغيره : وأما خبر ( خير الناس قرني ) خاص بقوم منهم ، والمراد في قرني العشرة وأضرابهم وأما سواهم فيجوز أن يساويهم أفاضل أواخر هذه الأمة كالذين ينصرون المسيح ويقاتلون الدجال فهم أنصار النبي وإخوانه أهـ .
إن نصرة الدين ورفع رايته والجهاد في سبيله ، وبذل الغالي والرخيص لعلو كلمته هي الثمن الطبيعي للإمامة ، أعني الإمامة الحقيقة التي يهبها الله لأوليائه لا إمامة الغلبة أو إمامة المنصب التي ينالها بعض العلماء بقوة السلطان وسطوة الجاه والمال ، فهذا لا تَسْرِي إمامة مثله على القلوب ، وإنما خضوع الناس له كخضوعهم لذي الشوكة الذي تَغَلَّبَ بسيفه على كُرْهٍ من الناس مُسْتَلِبَاً حق الشورى من كُبَرَائِهِم وأهل الحل والعقد منهم .
وكم رأينا من أناس اشتهرت أسماؤهم ، وذاع صيتهم في وسائل الإعلام بل طُبِعَتْ مؤلفاتهم ووُزِّعَتْ بالمجان ، ولكن قبول الناس لهم لم يكن إلا كمثل قبولهم لسلعة مغشوشة تَكَثَّفَ الإعلان عنها ، ولكن ريثما ظهرت رَدَاءَتُها فَاطَّرَحَها الناس وأعرضوا عنها.
وكم رأينا من علماء عاشوا في أَكْنَافِ الخُمُوْلِ ، آواهم ظِلُّ السكون والإهمال ، ولكن أبى الله إلا أن يجعل لكلمتهم النفوذ والشهرة والانتشار ، فمع معاداة أهل القوة لهم ، واجتماع وسائل الإعلام على حصارهم وإهمال ذكرهم اختارتهم الأمة راضية ، واصطفتهم على سُدَّةِ الريادة ، وكانت لهم بين العالمين زِمَامُ القيادة .
ولنضرب مثلا بالأئمة الثلاثة الذين قضوا نحبهم واحدا إثر الآخر ، لقد كانوا مَحَارَبين مِنْ وسائل الإعلام ، ومتهمين في كل دوائر المراقبة بأنهم أصحاب الفتاوى المتطرفة، وكم علت أصوات المنافقين في الاستهزاء بهم ولمزهم والانتقاص من شأنهم ، ومع ذلك كانت فتوى الواحد منهم كفيلة بأن تدير دفة الصحوة الإسلامية في كل أرجاء المعمورة، وكانت كلمة الواحد منهم كفيلة بتهدئة ثورات وإخماد نعرات وإبطال جهالات ، والله يصطفي من يشاء وهو أعلم بالشاكرين .
كانت إمامة هؤلاء لا بالقوة والجاه والإعلام ، بل بسيرتهم التي شهد بطهارتها القاصي والداني ، والقبول الذي كتبه الله لهم في الأرض ما كان ليعوقه إرجاف المرجفين وتشويه المغرضين والحاقدين .
إنني أناشد الذين يبحثون الآن عن المرجعية الملائمة لصحوتنا الإسلامية في العالم أجمع أن يجعلوا هذه الصفات نصب أعينهم حين اختيارهم ، فنحن نريد إمامة حقيقية تقود صحوتنا إلى الظفر المنشود والنصر الموعود ، ولا نريد مجرد أسماء لمعت في وظائفها الحكومية لكنها خلت من أي بذل أوجهاد أوصبر أومراغمة لأهل العناد .
والسؤال الذي يَطْرَحُ نفسه : إذا كنا نقول بأن وجود المجتهد والمرجع فرض كفاية ، فكيف لنا أن نعرف أن هذا الفرض قد تم سَدُّه ، وأن هناك من يقوم به ؟ وهل مجرد الاتكال على وجود بعض طلبة العلم أو العلماء الآخرين كاف في ارتفاع هذا الفرض وعدم إثم الأمة ؟ هذا ما سنجيب عليه في العنوان التالي :

يجب البحث والمراقبة لمنصب الإمامة والاجتهاد

لم يختلف العلماء المعتبر بقولهم في أن منصب الاجتهاد فرض كفاية على الأمة ، وأن الأمة تأثم إذا خلا فيها هذا المنصب الذي يرجع إليه المسلمون ليفصل لهم في شئون دينهم ودنياهم .
ولكن الخلاف بين أهل العلم اتسع في كيفية تحقق هذا الفرض الكفائي ، تبعا لاختلافهم فيما يجب أن يقوم به المكلفون لتحقيق أي فرض كفائي .
لكن جملة آرائهم دائرة حول وجود غلبة الظن في تحقق الفرض الكفائي ليسقط الإثم ، وإن لم يتحقق الفرض الكفائي في واقع الأمر .
والمعنى أن المكلفون لو غلب على ظنهم جميعا أن بعضهم قد قام بالفرض الكفائي ( مثل الاجتهاد ) قياما كافيا كفى هذا في إسقاط الإثم ، وإن لم يقم به أحد في الحقيقة .
تُعَدُّ هذه المسألة من أدق المسائل المتعلقة بسياسة الأمة ، وهي بوظائف الحاكم ألصق منها بوظائف الرعية ، لأنه المنوط به توفير احتياجات الأمة في دينها ودنياها ، فإذا كان مُتَعَيِّنَاً على الحاكم أن يَحْمِيَ بَيْضَةَ الدين من مؤامرات المتربصين ، وهجمات الأعداء فَأَحْرَى أن يتعين عليه توفير ما يُؤَمِّنُ للمسلمين الحفاظ على دينهم وأحكام شرعهم .
لهذا لم تختلف كلمة الفقهاء على أن من وظائف الحاكم المسلم نصب القضاة في البلاد بالقدر الكافي في الفصل بين الخصومات بين الناس على مقتضى شرع الله تبارك وتعالى .
ومع هذا الوضوح فيما يتعلق بلزوم توفر منصب الاجتهاد في الأمة ، إلا أن قليلا من الفقهاء هم الذين تعرضوا بدقة لكيفية التحقق من توافر هذا المنصب حتى يعرف على وجه اليقين توجه الخطاب به كفرض كفائي وتعلقه بالأمة على وجه المجموع .
يقول الإمام النوي رحمه الله في روضة الطالبين (10/225) : فَرْعٌ ، إذا تعطل فرض كفاية أثم كل من علم به وقَدَر ، وعلى من لم يعلم وكان قريبا من الموضع يليق به البحث والمراقبة، قال الإمام ويختلف هذا بكِبَرِ البلد وصِغَرِه وقد يبلغ التعطل مبلغا ينتهي خبره إلى سائر البلاد فَيَجِبُ عليهم السَّعْيُ في التَّدَارُكِ وفي الصورة دليل على أنه لا يجوز الإِعراضُ والإِهمال ويجب البحث والمراقبة على ما يَلِيْقُ بالحال أهـ.
وهذا النص العزيز يفيد تفصيلا دقيقا لما يجب أن يبذله الناس في سبيل التحقق من توافر هذا المنصب ، إذ أن الإمام الجويني ( وهو المراد عند إطلاق الإمام في كتب الشافعية ) أوجب السعي في التدارك ، وأنه لا يجوز الإعراض والإهمال ، وأنه يجب البحث المراقبة على ما يليق بالحال .
وفي هذا العصر الذي نرى فيه اتساع رقعة العالم الإسلامي ، وكثرة طلبة العلم بل العلماء أيضا ، يجب أن يكون التمييز بين العناصر المتصدرة أكثر دقة لأن مجرد الدعوى لم تعد تكفي في إثبات الأهلية ، وقد حكى لنا التاريخ سجالات طويلة بين العلماء كان محورها الرد على بعض من ادعى الاجتهاد حال كون بقية أهل العلم لم يسلموا له بهذا المنصب ، وأشير إلى ما دار بين الإمام السيوطي والإمام السخاوي حول هذه القضية .
وكما هو معروف عند أهل العلم فإن منصب الاجتهاد ليست له شروط منصوص عليها ، بل هي شروط استنبطها أهل العلم من مجمل الأدلة التي تشير إلى ما يجب أن يتوفر في العالم من قدرة على فهم الكتاب والسنة .
فمن تلك الأدلة قوله تعالى : ( ولو ردوه إلى أولي الأمر لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ، قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية ( 5/292) : والاستنباط في اللغة الاستخراج وهو يدل على الاجتهاد إذا عدم النص والإجماع أهـ .
ومن مجمل الأدلة قوله تعالى : ( فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ، والذكر هو القرآن الكريم كما قال تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيح - : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد)، ومعلوم أن الاجتهاد هو بَذْلُ الجهد ، ولا يتحقق إلا لمن له آلة ، وإلا كان اجتهاده عبثا .
وما نريد أن نقرره هنا جملة من الشروط الواضحة التي يجب توافرها في منصب الإمامة التي هي مرجع المسلمين في أمور الدنيا والدين .
وقد فصل العلماء كثيرا في الشروط التي يجب توافرها في المجتهد من حيث علوم الآلة وما يحتاجه المجتهد من عدة علمية وقدرة عقلية ، ودارت كلمتهم على ثمانية علوم ألخصها من المحيط للزركشي رحمه الله ( 8/227-236) ، حيث قال عن المجتهد: هو البالغ العاقل ذو مَلَكَةٍ يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها وإنما يتمكن من ذلك بشروط : أولها : إشرافه على نصوص الكتاب والسنة ، ثانيها : معرفة ما يحتاج إليه من السنن المتعلقة بالأحكام ، ثالثها : الإجماع ، رابعها : القياس ، خامسها : كيفية النظر ، سادسها : أن يكن عارفا بلسان العرب وموضوع خطابهم ، سابعها : معرفة الناسخ والمنسوخ ، ثامنها : معرفة حال الرواة في القوة والضعف . ثم قال الزركشي : والحاصل أنه لا بد أن يكون محيطا بأدلة الشرع في غالب الأمر ، متمكنا من اقتباس الأحكام منها ، عارفا بحقائقها ورتبها ، عالما بتقديم ما يتقدم منها، وتأخير ما يتأخر ، وقد عبر الشافعي رحمه الله عن الشروط كلها بعبارة وجيزة جامعة فقال : من عرف كتاب الله نصا واستنباطا استحق الإمامة في الدين أهـ .
ولكن السؤال الذي يلح هنا ، كيف نعرف أن واحدا ممن عرف بالعلم قد وصل لهذه المرتبة ، أعني الاجتهاد ؟ حكى الخلاف في هذا المسألة الإمام النووي رحمه الله فقال في كتابه آداب الفتوى ص71-72) : يجب عليه قطعا البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفا بأهليته فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والإقراء وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك ، ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلا للفتوى ، وقال بعض أصحابنا المتأخرين إنما يعتمد قوله أنا أهل للفتوى لا شهرته بذلك ، ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس والصحيح هو الأول لأن إقدامه عليها إخبار منه بأهليته ، فإن الصورة مفروضة فيمن وثق بديانته ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته، قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي المصنف رحمه الله وغيره يقبل في أهليته خبر العدل الواحد أهـ .
وما حكاه النووي عن بعض المتأخرين من الشافعية في حصر الاعتماد على من صرح عن نفسه بأنه أهل للفتوى ضعيف لا يُعَوَّلُ عليه ، فإن من المجتهدين من يبلغ الورع عنده درجة حب الخمول ولا يصرح عن نفسه بعلم أصلا فضلا عن اجتهاد وإمامة،وتضعيفُهم الاعتماد على الاستفاضة هوالضعيف ، فحق الاستفاضة المعتبرة أن تكون من أهل العلم وطلبته ، فهم الذي يؤمن في جانبهم التلبيس والانخداع ، وقول المتأخرين إن التواتر لا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس تَعَمُّقٌ كلامي في قضية واضحة جلية ، فإن علم المجتهد لا يمكن أن يكون مستترا متخفيا أبد الدهر ، بل لا بد له من الظهور والانبثاث ، قد علم هذا باستقراء أحوال العلماء والأئمة في كل العصور ، والله سبحانه وتعالى قد تكفل بوجودهم حين أمر المكلفين بسؤالهم ، ولا يمكن أن يؤمر المكلف بسؤال أهل العلم حال كونهم غير موجودين أو مستترين لا يظهر علمهم واشتراط استناد التواتر إلى معلوم محسوس إنما هو جريا على اصطلاح المحدثين ، وإلا فإن التواتر له معان أخرى عرفية ، مثل تواتر ورع بعض الصالحين وزهدهم واستجابة دعائهم وهذا كله غير محسوس .
صفوة القول أن معرفة المجتهد تكون بالاستفاضة بين العامة والخاصة من أهل العلم بعلو منزلته ، وصلاحيته للفتوى، أو بالتواتر الشائع بين الناس أن فلانا متأهل للفتوى والإفادة ، وأما إخباره عن نفسه فليس بشرط ، كما أن عدم إخباره ليس بقادح على الصحيح ، وهذه القضية تحتاج إلى تكييف جديد في عصرنا .
فالاستفاضة المقصودة بين أهل العلم وطلبته أن يعرف الكافة جهود ذلك المجتهد ومقدرته العلمية ، إما عن طريق مؤلفاته أو دروسه أو إقرائه ، سواء شاع ذلك عن طريق وسائل الإعلام أوعن طريق مجالس العلم والعلماء ، ولا يشترط أن يجيزه أهل العلم ليكون متأهلا للفتوى ، بل إن شيوع تأهله وذيوع مقدرته على الفتوى كاف .
وكيف يعلم أن هذا الشيوع والذيوع معتبر ؟ بتوالي اطلاع أهل العلم وطلبته على فتاواه وعلمه ونقد الناس له وسبرهم لما يصدر عنه من آراء . وهذا لا شك يحتاج إلى وقت وزمان حتى يتسنى حصول المذكور .
وبناء على ما قررنا فليس الحصول على الشهادات الجامعية بمختلف مراتبها شرطا في التأهل للاجتهاد، ولا مجرد الإخبار عن النفس كافيا في ذلك ، لأن كل هذا ليس مفيدا في رفع الجهالة عن المجتهد ، قال الزركشي في المحيط (8/362) : إنما يَسْأَلُ من عُرِفَ علمُه وعدالتُه بأن يراه منتصبا لذلك ، والناس متفقون على سؤاله والرجوع إليه ، ولا يجوز لمن عُرِفَ بضد ذلك إجماعا ، والحق منع ذلك ممن جُهِلَ حاله خلافا لقوم أهـ .
والاشتهار والاستفاضة والتواتر الذي نعنيه ليس ما تعارف عليه الناس اليوم من شيوع الذكر في وسائل الإعلام ، أو انكباب العوام على أحد ممن عرف بوعظ أو خطابة أو نحو ذلك ، بل المقصود اتفاق الكلمة على وصف المقصود بالعلم ، وبأنه متأهل للنظر في الأدلة ، والإفادة في الملمات والمهمات ، ولا ينظر إلى قول أهل الأهواء ، أو قول المتشددين في التقويم ، بل المعول على من عُرف عدله وإنصافه في الحكم على الآخرين ، إذ يَغْلِبُ في هذا الباب حصول التنافس ، والغلو في الذم أو المدح مما يستدعي تمييزا في حال المحاباة أو المعاداة .
ومن نافلة القول أن نقرر أن الحكم بناء على المنصب والجاه أو الملبس والوجاهة غير معتبر البتة ، لكننا ننقل هنا كلاما ورد في إعلام الموقعين لابن القيم حيث قال ( 4/208) : وكثير منهم ( أي من المدعين للفتوى والمتصدرين لمنصب الاجتهاد ) نصيبهم مثل ما حكاه أبو محمد بن حزم قال : كان عندنا مفت قليل البضاعة فكان لا يفتي حتى يتقدمه من يكتب الجواب فيكتب تحته جوابي مثل جواب الشيخ فقدر أن اختلف مفتيان في جواب فكتب تحتهما جوابي مثل جواب الشيخين فقيل له إنهما قد تناقضا فقال وأنا أيضا تناقضت كما تناقضا ، وقد أقام الله سبحانه لكل عالم ورئيس وفاضل من يُظْهِرُ مماثلتَه ، ويَرَى الجُهَّالُ - وهم الأكثرون - مُسَاجَلَتَه ومُشَاكَلَتَه ، وانه يجري معه في الميدان ، وأنهما في المسابقة كفرسي رهان، ولا سيما إذا طَوَّل الأردان وأرخي الذوائب الطويلة وراءه كَذَنَبِ الأَتَان وهَدَرَ باللسان وخلا له الميدان الطويل من الفرسان ، فلو لَبِسَ الحمار ثياب خَزٍّ لَقَالَ الناس يَالَكَ من حِمَار ،وهذا الضرب إنما يُسْتَفْتَوْنَ بالشَّكْلِ لا بالفضل ، وبالمناصب لا بالأهلية ، قد غَرَّهُمْ عُكُوْفُ مَنْ لا عِلْمَ عنده عليهم ، ومُسَارَعَةُ الأَجْهَلِ منهم إليهم ، تَعُجُّ منهم الحقوق إلى الله تعالى عَجِيْجَا ، وتَضِجُّ منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجا ، فمن أَقْدَمَ بالجرأة على ما ليس له مِنْ فُتْيا أوقضاء أوتدريس استحق اسم الذم ، ولم يَحِلَّ قبولُ فُتْيَاه ولا قضائه هذا حكم دين الإسلام وإنْ رَغِمَتْ أنوف من أناس فقل : يارب لا تُرْغِم سواها أهـ.
وبعد هذه النقول المهمة عن علمائنا في صفات من يتحقق فيه منصب الاجتهاد والفتوى نَرُدُّ العَجُزَ إلى الصَّدْرِ ، ونكرر هنا ما نقلناه عن الإمام النووي والجويني في عدم جواز الإعراض والإهمال ولزوم البحث والمراقبة ، ولكن السؤال المتبادر هنا : وهل هناك آلية معينة للبحث والمراقبة ؟ والجواب هو النفي، ولكن النقول السابقة تشير إلى قضية الاستفاضة والشيوع وهي من الأمور التي يصعب ضبطها ، وإذا أردنا أن نتحدث عن آلية تناسب عصرنا فإن ذلك يستدعي وجود إحصاء دقيق تقوم به جهة معتمدة ، وكل هذا في نظري يُعَقِّدُ الأمور أكثر مما يَحُلُّها ، والمتجه أن يكون هذا المنصب بعيدا عن أي اختيار رسمي أو توجيه جهوي ، حسما لاستقلاليته ، وتوفيرا لِنَزَاهَتِهِ ، وعليه فالصواب أن يكون شيوع أهلية المجتهد بالتواتر العَفْوي الذي لا ترتيب فيه ولا قصد .
وهذا لا ينفي أن يكون لأهل العلم وطلبته دورهم في توجيه اختيار الناس لأنهم نِقاوة الخلق وعُصارة المجتمعات ، وهؤلاء هم زُبْدَةُ أهل الحل والعقد ، وعليهم تدور كلمة المسلمين، وإليهم المآب في الخطوب العِظام والمسائل الجِسام .
وها قد وصلنا إلى نقطة الحسم في رسالتنا ، ومَحَكِّ الإبهام في نازلتنا ؛ هل لأهل العلم وطلبته دور في اختيار المجتهدين وتنصيب المفتين ؟ وإذا كان لهم دور فما هي تفاصيله ؟ وما هي حدوده ؟ وكيف يمكن تفعيل هذا الدور في واقعنا المعاصر ؟ هذه الأسئلة سنجيب عنها في العنوان التالي :

جاء دور شباب الصحوة

لقد مرت الصحوة الإسلامية في هذا القرن بظروف عصيبة ، وخاضت تجارب مُرْهِقَة ومُكَلِّفة ، والمتتبع لعثرات الصحوة ونَهَضَاتها ، وكَبَوَاتِها وقَوْمَاتها يجد أن القائد لها في كل قومة ونهضة ، وحاديها في كل مخرج من مأزق ، أو قائدها في كل حل لمشكل إنما هم أهل العلم ، والدعاة الأماجد ، ممن رزقهم الله نور العلم وبصيرة الفهم ، عَرَكَتْهُم التجارب ، كما صَقَل فَهْمَهُم عِلْمٌ ثاقب ، فاجتمع فيهم مع تمام العُدَّةِ العلمية قيام الكفاية والأهلية ، فصاروا مَفْزَعَ الخلائق بعد الله في كل جائحة ، ومَهْرَبَ الناس بعد المغيث في كل نازلة ، فصح بهذا نسبة الريادة لهم ، واعتقاد الإمامة فيهم ، وتعويل أمر القيادة عليهم ، وإسناد مقاليد الرياسة إليهم .
أوليس خطباء الصحوة ودعاتها وطلبة العلم صغارهم وكبارهم هم زَادُ الصحوة ومَزَادَتُها ؟ أوليسوا هم الذي يقفون في الصفوف الخلفية يرقبون مسيرة الأمة أفرادا وجماعات ؟ أوليسوا هم أئمة المساجد ووُعَّاظُها ومتقدمي الناس في عباداتهم ؟ أليسوا هم المفيدون لهم فيما يَحُلُّ بهم من قضايا ومسائل ؟ إنهم إذا القادة الحقيقيون ، والرواد الأصليون ، وهم الذين يجب أن تكون لهم الكلمة في اختيار أئمة الهدى ومراجع الفتوى .
لقد خَطَتْ الصحوة خطوات واثقة في بناء كوادر المستقبل ، وصار طلبة العلم يملئون الأصقاع ، وما من علم من العلوم الشرعية إلا وللصحوة في مجالها آلاف الطلاب ، وما من ميدان دعوي إلا وقد ساهمت الصحوة فيه بألف نصيب ، ومع ذلك فما زال دور هذه الكتلة الضخمة من طلبة العلم مُهَمَّشَا ومنعزلا . لماذا ؟
إننا يجب أن نعيد صياغة فهمنا لدور طلبة العلم ، ويجب أن يعي طلبة العلم حقيقة دورهم ، فلقد استقر عند كثير منهم أنه ليس لهم من كلمة في مجتمعهم حال كونهم في سن الطلب ، وأنه ليس لكلمتهم من قيمة ما داموا لم يصلوا إلى منصب الاجتهاد والفتوى ، وهذا لعمري من الأخطاء التربوية الفادحة التي وقع فيها بعض الكبار حينما كانوا يُرَبُّوْنَ طلبة العلم على التواضع وهضم النفس وحب الخمول، دَرْءَاً لغائلة الكبر ، وسدا لذريعة العُجْب ، ولكن كم من وسيلة تؤتي نقيض مقصودها .
فبينما كان من أصول الدعوة التي قامت عليها الصحوة بعث روح الاجتهاد بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، ونبذ التقليد والعصبية الذين كانا سببا قويا في نفور كثير من الناس عن سماحة الدين ، وكانا سببا مباشرا في الفهم الخاطئ الذي تَوَلَّد عند جماهير العوام ، فضلا عن دورهما ( التقليد والعصبية ) في طمس النماذج المضيئة من علماء الأمة ممن وصلوا إلى منصب الاجتهاد والفتوى ، أقول : بينما كان هذا من أصول الدعوة التي قامت عليها الصحوة ؛ أصبحنا نرى كثيرا من طلبة العلم من شباب الصحوة نَحَوْا جانب التقليد من حيث لا يشعرون بوهم احترام أهل العلم ، وتوقير الأئمة والعلماء ، فتسارع خَطْوُ الفهم الخاطئ حتى وصل إلى احتكار هذا المنصب أو حصره في أسماء معينة أو مناطق معينة أو في جهات معينة ، وهذا كله حَيْف فَرَّتْ منه الصحوة وحاربته أيما محاربة ، وإذا ببعض فصائلها تقع فيه بدون وَعْيٍِ أو شعور .
هل لنا من يقظة جديدة نستعيد فيها دور شباب الصحوة، ونعيد لهم مكانتهم في المجتمع ، باعتبارهم النقاوة التي بها ينصلح المجتمع ، بل هم الصالح الذي يندفع به فساد الباقي ، والنظيف الذي يتطهر بوجوده النجس المترسِّب ، هم نقاوة المسلمين ، وإذا كثروا لم يحمل المجتمع الخبث .
إن دور شباب الصحوة في اختيار أئمة الهدى والمجتهدين والمفتين مَرَدُّه إلى أن غالب شباب الصحوة معدود في طلاب العلم، وإن تفاوتت مقادير العلوم عندهم ، إلا أن القدر المشترك بينهم جميعا أنهم الوحيدون في المجتمع الذين اتفقت كلمتهم على مرجعية أهل العلم ، وعلى تنصيبهم قادة للمجتمع ، فحري أن يكون لههم وحدهم حق الاختيار .
ومعلوم أن اختيارهم لن يكون مبينا على الهوى والعصبية لأن فرض المسألة أننا نريد أن نُفَعِّلَ هذا الاختيار بطريقة علمية نزيهة بعيدة عن أي نمط غير إسلامي .
إن اجتماع شباب الصحوة على اتباع أهل العلم عاصم لهم من الزلل في الاختيار ، وكابح لجماح أهوائهم عند اتخاذ القرار ، ومهمة أهل العلم من الآن أن يجتهدوا في تلقين شباب الصحوة فقه الاجتهاد والتقليد والفتوى الإفتاء ، مع تربيتهم على معاني الشفقة على الدين وعلى أحوال المسلمين حتى تستقيم سريرتهم وتصفو أهواؤهم من كل عصبية أو انحياز .
ومن واقع تجربتي رأيت أن هناك أسماء كثيرة تجتمع عليها الكلمة ،حتى من المخالف والمعاند ، وكأن الله كتب لمثل هؤلاء قبولا قدريا لا تملك القلوب معه فكاكا .
مثل هذا دليل ناصع على مسألة عصمة الإجماع التي تحدث عنها الأصوليون ، ومستندهم قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تجتمع أمتي على ضلالة ) رواه أحمد ، ومجرد حصول الاجتماع على بعض الاسماء دليل كاف على أن اختيارهم هذا قد بَرِئَ من وَصْمَة الهوى ، دع عنك شذوذ المخالفين ممن يَظهر لكل ذي بصيرة ابْتِنَاءُ خلافهم على أوهى الحجج والبينات .
وأَمَامَنا أئمة الهدى الذين قضوا نحبهم نماذجا واضحة لما نقول ، فهؤلاء قد اجتمعت كلمة الأمة عليهم ، ولم يشذ في نبذهم إلا مبتدع أو زائغ ، والمخالف لهم في بعض الآراء مُسَلِّمٌ لهم بالإمامة ، وهذا مُشَاهَد في خَطْبِ كل الفصائل لودهم ، وإظهار كل الجماعات الانتماء إليهم ، والرضى من الكافة بما يصدر عنهم ، نعم قد يحصل من بعض أهل العلم والدعاة هجوم على بعض فتاواهم لكن يحدث هذا مع إقرار تام بما كانوا عليه من الإمامة والأهلية للاجتهاد والفتوى .
بقي أن نتواصى حول دور شباب الصحوة في اختيار أئمة الصحوة والالتزام لهم ببيعة الطاعة والانقياد ، طاعةً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وجمعا لكلمة المسلمين ، وتحفيزا لدور الصحوة في إصلاح حال الأمة .
إن الناظر المتأمل في حال الأمة لن يجد صعوبة في معرفة الأثر الكبير الذي أحدثته الصحوة في مسار الأحداث ، حيث كان لهذه الصحوة الإسلامية بكل فصائلها الدور الأساس في محافظة الأمة على ثوابتها في غمرة الهجمات التي رامت انحرافها عن منهج الله .
واستكمالا لهذا الدور الذي قامت به الصحوة المباركة بل ورفعا لمستواه حتى يكون دورا قائدا ورائدا في استجلاب العزة والنصر والتمكين لأمتنا الغريقة ، فإننا ندعو إلى وقفة حاسمة في هذا المسار الحرج في حياة الصحوة .
إن الصحوة الإسلامية أحوج ما تكون في هذه الأيام إلى علماء ومجتهدين يكونون على قدر التبعات التي يجب القيام بها في سبيل نصرة الدين ، ووظيفة هؤلاء العلماء في هذه المرحلة الحرجة ستتجاوز مجرد إصدار الفتاوى إلى دور حمل مسئولية الأمة كلها من أقصاها إلى أقصاها كما كان حال أئمة الهدى رحمهم الله .
إن الجهاد المتعاظم في بقاع الأرض ، والصراع المحتدم بين معسكر الحق والباطل ، والنزال الضاري بين أهل السنة وأهل الأهواء ، وحملة التحريف والتشويه الشنيعة التي يقوم بها العلمانيون وعلماء السوء ؛ تستدعي قومة صادقة من علماء صادقين ، يكونون كالسيل الجارف ، يمر على الوادي ليطهره من كل نفايات الأفكار وزبالات الأذهان .
إن فَهْم هذا الدور الذي يجب أن يتقلده العلماء المجتهدون يستتبع أن نتواصى فيما بيننا معاشر شباب الصحوة في الأصلح لهذا المنصب ، وتتعاطف كلمتنا على تأييده ونصرته ، ألا إنها كلمة الحق التي يجب أن نصدع بها ، صيانة لأمتنا من جرأة بعض المتطفلين على هذا المنصب الخطير .
وطريق قيام شباب الصحوة بدور فاعل في اختيار أئمة الهدى في هذا العصر يكون عبر الحديث عنهم في مجالسنا ، وإثارته في نقاشاتنا ، والتواصي فيما بيننا على من نراه أحق بهذا المنصب والمناصحة فيه ، كما يجب علينا أن نقبل من بعضنا عند عرض الحجج ، وألا نجعل هذا سببا في خلافنا وفرقتنا ، بل يجب أن تكون هذه الفرصة ، وهذا الظرف سببا قويا في جمع كلمتنا ورأب صدعنا .
هل يجوز تمني منصب الإمامة في الدين  ؟
إنها من أكثر نقاط بحثنا حساسية ، ولكن الكلام حولها لا بد من طرحه لأنه من تمام بيان الحق في الأمر الذي نحن بصدد النصح فيه ، وبعض الناس يَمْنَعُهُ وَرَعُه من الخوض في مثل هذه الأمور بينما شرْع الله قد حَضَّنَا على معرفة الحكم الشرعي في كل فعل نحتاج إلى فعله أو فعله الناس ونرغب في مناصحتهم فيه.
ونحن لن نزيد في الإجابة عن هذا السؤال على ما قال الإمام ابن القيم رحمه الله حيث قال في كتاب الروح (ص252) : فَصْلٌ والفرق بين حب الرياسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله هو الفرق بين تعظيم أمر الله والنصح له وتعظيم النفس والسعي في حظها، فإن الناصح لله المعظم له المحب له يحب أن يُطَاع ربُّه فلا يُعصى وأن تكون كلمته هي العليا وأن يكون الدين كله لله وأن يكون العباد ممتثلين أوامره مجتنبين نواهيه فقد ناصح الله في عبوديته وناصح خلقه في الدعوة إلى الله فهو يحب الإمامة في الدين بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين أماما يَقتدي به المتقون كما اقتدى هو بالمتقين فإذا أحب هذا العبد الداعي إلى الله أن يكون في أعينهم جليلا وفي قلوبهم مهيبا وإليهم حبيبا وأن يكون فيهم مطاعا لكي يأتموا به ويقتفوا أثر الرسول على يَدِهِ لم يَضُرَّهُ ذلك بل يُحْمَدُ عليه لأنه داع إلى الله يحب أن يطاع ويعبد ويوحد فهو يحب ما يكون عونا على ذلك موصلا إليه ولهذا ذكر سبحانه عباده الذين اختصهم لنفسه وأثنى عليهم في تنزيله وأحسن جزاءهم يوم لقائه فذكرهم بأحسن أعمالهم وأوصافهم ثم قال والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)، فسألوه أن يُقِرَّ أعينَهم بطاعة أزواجهم وذرياتهم له سبحانه وأن يُسِرَّ قلوبهم باتِّباع المتقين لهم على طاعته وعبوديته فإن الإمام والمؤتم متعاونان على الطاعة ، فإنما سألوه ما يعينون به المتقين على مرضاته وطاعته وهو دعوتهم إلى الله بالإمامة في الدين التي أساسها الصبر واليقين كما قال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوابآياتنا يوقنون وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين هو سؤال أن يهديهم ويوفقهم ويمن عليهم بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة ظاهرا وباطنا التي لا تتم الإمامة إلى بها وتأمل كيف نسبهم في هذه الآيات إلى اسمه الرحمن جلا جلاله لِيَعْلَمَ خلقُه أَنَّ هذا إنما نالوه بفضل رحمته ومحض جوده ومنته وتأمل كيف جعل جزاءهم في هذه السورة الغُرَفَ وهي المنازل العالية في الجنة لما كانت الإمامة في الدين من الرتب العالية بل من أعلى مرتبة يعطاها العبد في الدين كان جزاؤه عليها الغرفة العالية في الجنة ، وهذا بخلاف طلب الرياسة فإن طلابها يسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض وتَعَبُّد القلوب لهم وميلها إليهم ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم فترتب على هذا المطلب من المفاسد مالا يعلمه إلا الله من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة والحَمِيَّةِ للنفس دون حق الله ،وتعظيمِ مَنْ حَقَّرَه الله واحتقار من أكرمه الله ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك ولا تنال إلا به وبأضعافه من المفاسد ،والرؤساء في عَمَىً عن هذا فإذا كشف الغطاء تبين لهم فساد ما كانوا عليه ولا سيما إذا حُشِرُوا في صُوَرِ الذَّرِّ يَطَؤُهُم أهلُ الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتحقيرا وتصغيرا كما صَغَّرُوا أَمْرَ الله وحَقَّرُوا عباده أهـ .
هذا العرض الذي عرضه ابن القيم يُوقِفُنا على حقائق غابت عن كثير من شباب الصحوة ، أهمها في نظري أن تَقَلُّدَ المهمات الدعوية قد تستدعي التصدر في بعض الأحيان ، حيث تخلو الساحة من القائمين بالواجب ، كما فعل يوسف عليه السلام حين قال : ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) ، وليس ذلك من باب حب الإمارة وطلبها المذموم في الحديث الصحيح ، ولكنه من طَلَبِ إمامة التقوى التي طَلَبُها من صفات عباد الرحمن حيث يدعون الله قائلين : (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) .
لا يمكننا أن نتصور تصدر أحد من العلماء لمنصب الاجتهاد مذموما في هذا العصر ، خاصة في حق من عرف ورعه وتقواه ، وحرصه وشفقته على حال الأمة .
والشأن أننا لا نُحَبِّذُ أنْ يَتَمَدَّح العالم بأهليته وقدراته ، ولكن تصدره لمهام هذا المجتهد إفتاءً وإفادةً ومناصحة لأولي الأمر والمسلمين عامة ليس بالأمر المذموم .
خاتمة
لا بد أن نشير إلى أمر بالغ الأهمية ونؤكد عليه في ختام هذه الرسالة المختصرة والبحث القصير ، ألا وهو أن استشراف المجتهد لهذا المنصب قد يحتاج إلى سنين عديدة حتى تجتمع عليه الكلمة ، ويتفق حوله اختيار أهل الحل والعقد .
ومثل هذه الفترة ستكون امتحانا أيضا لأعمال المتصدرين لهذا المنصب ودورهم في جمع كلمة المسلمين والجهاد بكل أنواعه في سبيل إعزاز الدين ونصرته .
كما أن هذه الفترة ستكون كافية أيضا في تفعيل دور شباب الصحوة في تنظيم صفوفهم وراء أئمة الهدى والمرجعيات التي سيكون لها الكلمة في قضايا الأمة الكبرى .
إن المستقبل القريب يحمل في رَحِمِه الكثير من الأحداث الجسام ، وما لم نَكُنْ على قَدْرِ هذا المستقبل المرتقب من النظام والتوحد والوعي فإننا سنظل نعاني نفس الهزائم التي مُنِيْنَا بها والتي نُمْنَى بها حتى الآن .
وهاهي الصحوة الإسلامية تمر بأزمة خانقة بين رموزها وقادتها ، وأهل السنة قد عظم الخطب فيهم ، وتفاقمت الفرقة بينهم ، ومالم يكن لشاب الصحوة دورهم في جمع الكلمة فإن المستقبل يحمل نذرا لا يعلم مداها إلا الله .
ولا يَسْتَخِفَّنَّ متهاون في هذا الأمر ، فالبعض يرى أن نصر الله آت لا محالة ، وهذا لا يُمارى فيه ، ولكن هل سيكون النصر على أيدينا ، أم أن الفرصة التي كان بأيدينا قد مضى زمانها ، وجاء دور الاستبدال ، ولربما كان آخرون غيرنا أحق بنصر الله منا ، فقد حملنا الأمانة وخناها ، وأعطينا الريادة فلم نتحمل مسئوليتها ، وما هو إلى التولي الذي قضى الله في التنزيل جزاءه حين قال : (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ).
اللهم إنا نسألك أن تستخدمنا وألا تستبدلنا ، اللهم اجعلنا خير جندك وقادة مددك ، وأنعم علينا بثوب الكرامة في الدنيا والآخرة ، واحشرنا في زمرة ورثة الحق المبين ، وقادة النصر والتمكين ، ووفقنا لعمل الخير وخير العمل ، واجعل عملنا كله صالحا خالصا لوجهك الكريم ليس لأحد فيه شيئا يا رب العالمين ، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشيد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية ويحكم فيه بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .

 

رضا صمدي
  • رسائل ومقالات
  • كتب وبحوث
  • صــوتـيـات
  • الصفحة الرئيسية