اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/saad/84.htm?print_it=1

الذب عن صحيح الإمام البخاري

سعد بن ضيدان السبيعي
ssaadsubaei@


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد استمعت لمقطع الأخ "فهد الأحمدي" في برنامج المختصر على قناة mbc ينتقد فيه "صحيح البخاري"، ويطالب بوجود هيئة لتنقية السنة النبوية..!
وعهدي بالأخ فهد من المولعين بنقل النوادر والغرائب في الصفحة الأخيرة من "جريدة الرياض"، وليس له في مسائل الحديث "نقير ولا قطمير"، وقديمًا قيل: "من تكلم بغير فنه أتى بالعجائب"، وقد رددته عليه قديمًا بمقال نشر في "جريدة الرياض" في ما يتعلق "بنبوة خالد ابن سنان العبسي":
http://www.alriyadh.com/139071
وتنقية السنة النبوية من الأحاديث الواهية والمنكرة، قام به أهل الحديث حق القيام، بنقد المتون والأسانيد، وكتب "الرجال والجرح والتعديل، والتواريخ، والسؤالات، والعلل" خير شاهد على هذا، وقد قمت بكتابة بحث بعنوان: "ظهور أثر الوضع في نقد المتون":
http://www.saaid.net/Doat/saad/07.pdf
وقد عرف هؤلاء الرجال لــ "صحيح الإمام البخاري" قدره، فهو عندهم جاوز القنطرة، وشهدوا للكتاب بالصحة، ولمؤلفه بالبراعة والعبقرية الفذة، وتلقته الأمة بالقبول، وتتابع أهل الحديث على وسمه بــــ" أصح كتاب بعد كتاب عز وجل" فليشفق كل من وجه سهامه للطعن في "صحيح البخاري" على نفسه فما الإمام البخاري وصحيحه وهم، إلا كما قال القائل:
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

وهذا أوان الرد على ما ذكر في ذاك المقطع، فلولا أنه نشر لم أرد عليه، فالعمر قصير، ومتابعة مثل هذه الأقوال وردها مضيعة للأوقات إذ لا جديد فيها، وإنما هو تكرار للذي قيل، فأقول مستعينًا بالله:

أولاً: من الأحاديث التي زعم نكارتها في صحيح البخاري حديث عمرو بن ميون: «رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة، قد زنت، فرجموها، فرجمتها معهم» أخرجه البخاري حديث برقم: (3849) والجواب عن هذا من وجوه:
1/ أن هذا الطعن ليس جديدًا، بل قد قيل منذ القرن الثالث، قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص: 255): (( قالوا حديث يكذبه النظر ) قالوا رويتم أن قروداَ رجمت قردة في زنا؛ فإن كانت القرود إنما رجمتها في الإحصان فذلك أظرف للحديث وعلى هذا القياس فإنكم لا تدرون لعل القرود تقيم من أحكام التوراة أموراً كثيرة ولعل دينها اليهودية بعد وإن كانت القرود يهوداً فلعل الخنازير نصارى) وقد أخطأ الأخ فهد في اسم راوي القصة عمرو بن ميمون جعله ميمون بن عمرو.
2/ حديث زنا القردة، ليس عن رسول الله ﷺ ولا عن أصحابه، وإنما هو شيء ذكر عن عمرو بن ميمون، وهو الأودي تابعي مخضرم، قال ابن حجر في الإصابة (5/ 119): (أدرك الجاهلية، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على يد معاذ وصحبه).
3/ أن الإمام البخاري لم يذكر هذه الأثر المقطوع استدلالًا منه على صحة القصة، أو ثبوت الزنا من القردة وإقامة الحد عليها، وإنما لبيان أن عمرو بن ميمون الأودي أدرك الجاهلية، لذلك جعله تحت باب: "القسامة في الجاهلية"
قال الحميدي في الجمع بين الصحيحين (3/ 490): (فإن صحت هذه الزيادة، فإنما أخرجها البخاري دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية، ولم يبال بظنه الذي ظن في الجاهلية).
لذا روى البخاري هذا الأثر في التاريخ الكبير (6/ 367) فقال: قال نعيم بن حماد حدثنا هشيم عن أبي بلج وحصين: عن عمرو بن ميمون: «رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قرود فرجموها فرجمتها معهم». وليس فيه: قد زنت..!
وأنكر أبو عمر ابن عبد البر هذا الأثر فقال في الاستيعاب (3/ 1206): (وهذا عند جماعة أهل العلم منكر إضافة الزنا إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم، ولو صح لكانوا من الجن) وهناك توجيه للأثر، وأجوبة أخرى عنه، انظرها في: الجمع بين الصحيحين (3/ 490)، تفسير القرطبي (1/ 442)، أسد الغابة (3/ 772)، فتح الباري (7/ 160).
ثانياً: ساق حديثاً في صحيح البخاري بمعناه، وزعم أن هذا الحديث متنه يعارض القرآن في أن علم الساعة مما استأثر الله به، والحديث هو حديث أنس: أن رجلاً من أهل البادية أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، متى الساعة قائمة؟ قال: «ويلك، وما أعددت لها» قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله، قال: «إنك مع من أحببت» فقلنا: ونحن كذلك؟ قال: «نعم» ففرحنا يومئذ فرحا شديدا، فمر غلام للمغيرة وكان من أقراني، فقال: «إن أخر هذا، فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» أخرجه البخاري برقم: (6167)
وهو لم يفهم وجه الحديث كما ينبغي، ولو كلف نفسه الرجوع إلى شروح البخاري وغيره لعلم المقصود، فالمقصود بالساعة هنا انخرام ذلك القرن ووفاة أهله كما يتبين بجمع الروايات الأخرى، أو أن المراد المبالغة في تقريب قيام الساعة.

قال القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 508): (وحديث: " إن يعش هذا الغلام فعسى ألا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة " يفسره الحديث الذى قبله: كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله ﷺ يسألونه عن الساعة، متى الساعة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال: " إن يعش هذا لم يدركه الهرم، قامت عليكم ساعتكم "، وهذا يدل أن المراد بساعتكم: موتكم، ويكون هذا مثل الحديث الآخر: " أرأيتكم ليلتكم هذه على رأس مائة عام، لا يبقى ممن هو على وجه الأرض أحد ").
وقال ابن حجر في فتح الباري (10/ 556): (كان جماعة من أهل ذلك العصر يظنون أن المراد أن الدنيا تنقضي بعد مائة سنة فلذلك قال الصحابي: فوهل الناس فيما يتحدثون من مائة سنة وإنما أراد ﷺ بذلك انخرام قرنه، قلت ووقع في الخارج كذلك فلم يبق ممن كان موجودا عند مقالته تلك عند استكمال مائة سنة من سنة موته أحد وكان آخر من رأى النبي ﷺ موتاً أبو الطفيل عامر بن واثلة كما ثبت في صحيح مسلم، وقال الإسماعيلي بعد أن قرر أن المراد بالساعة ساعة الذين كانوا حاضرين عند النبي ﷺ وأن المراد موتهم وأنه أطلق على يوم موتهم اسم الساعة لإفضائه بهم إلى أمور الآخرة ويؤيد ذلك أن الله استأثر بعلم وقت قيام الساعة العظمى كما دلت عليه الآيات والأحاديث الكثيرة قال: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "حتى تقوم الساعة" المبالغة في تقريب قيام الساعة لا التحديد كما قال في الحديث الآخر: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ولم يرد أنها تقوم عند بلوغ المذكور الهرم قال: وهذا عمل شائع للعرب يستعمل للمبالغة عند تفخيم الأمر وعند تحقيره وعند تقريب الشيء وعند تبعيده فيكون حاصل المعنى أن الساعة تقوم قريباً).
ثالثاً: تكلم على أنه عند معارضة القرآن بالسنة أو الحديث الصحيح بالحسن أو الحسن بالضعيف، نذهب للترجيح، وهذا القول غير صحيح.
بل عند التعارض يذهب إلى الجمع بين النصوص المتعارضة وهذه هي المرتبة الأولى، فإن تعذر فالقول بالنسخ إذا علم المتأخر وهي المرتبة الثانية, فإن تعذر معرفة الناسخ فالترجيح وهي المرتبة الثالثة، ثم إن الحديث المقبول صحيح أو حسن لا يُعارض بالحديث الضعيف كما ذكر؛ وذلك لضعف إسناده، فلا يحتاج التكلف والحالة هذه للجمع بينهما عند حصول التعارض، كما أن الضعيف لا يعارض بالضعيف بل يتساقطان .

قال ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث (ص: 284) عن معرفة مختلف الحديث: (ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يمكن الجمع بين الحديثين، ولا يتعذر إبداء وجه ينفي تنافيهما، فيتعين حينئذ المصير إلى ذلك والقول بهما معا. القسم الثاني: أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمع بينهما، وذلك على ضربين: أحدهما: أن يظهر كون أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً، فيعمل بالناسخ ويترك المنسوخ، والثاني: أن لا تقوم دلالة على أن الناسخ أيهما والمنسوخ أيهما، فيفزع حينئذ إلى الترجيح، ويعمل بالأرجح منهما والأثبت، كالترجيح بكثرة الرواة، أو بصفاتهم في خمسين وجها من وجوه الترجيحات وأكثر).
أخيراً، لقد خاض في السنة النبوية –بقصد أو بغير قصد- بزعم تنقيتها ونقدها من يحسن ومن لا يحسن، فلو ترك العلم لأهله، ولم يدخل في هذا الميدان إلا من يحسنه لسترحنا وأرحنا، لكن إلى الله المشتكى.


كتبه/ سعد بن ضيدان السبيعي
s-subaei@hotmail.cim
@ssaadsubaei
12/4/ 1439هــــــــ


 

سعد السبيعي
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • دراسات حديثية
  • دراسات في الفقه
  • دراسات في العقيدة
  • الفوائد العلمية
  • التاريخ والتراجم
  • الصفحة الرئيسية