اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/saed/23.htm?print_it=1

أنتم شهداء الله في الأرض
أبوسعد يحيى بن صوفان

اختيار: سعيد آل بحران


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده ، أما بعد :
فهاهم الأصحاب رضي الله عنهم وأرضاهم ملتفون حول حبيبهم صلَّى الله عليه وسلَّم، فتَمُرُّ جنازة، فيَرْمقها الناس بأبصارهم، ثم يثنون على صاحبها خيرًا، فقال النبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم - : (وجبَتْ، وجبتْ، وجبت)، ثم تمُرَّ جنازة أخرى، فإذا هم يثنون عليها شرًّا، فقال رسول الْهُدى: (وجبتْ، وجبت، وجبت)، فيقول الفاروق رضي الله عنه وأرضاه : يارسول الله ، ماوجبت في الأولى وماوجبت في الثانية ، فيقول عليه الصلاة والسلام : (مَن أثنيتم عليه خيرًا، وجبتْ له الجنَّة، ومن أثنيتم عليه شرًّا، وجبت له النار، أنتم شُهَداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض).
أيها الأحبة :
قد يستطيع أي إنسان عنده سلطة أوملك أومال أومكانة أو منصب أن يكسب هتاف الناس وتصفيقهم وثنائهم عليه بأقوالهم وبكتاباتهم سواءً كان ذلك بالقوة أو بالترغيب أو بالترهيب أو بأي مؤثر آخر قد يؤثر عليهم به وهو لازال حياً بينهم ، ولكن بعد موته لن يستطيع أن يكسب قلوبهم ولا دعائهم ولا حبهم إلا بتوفيق الله ثم بحسناته التي قدمها في حياته الدنيا وبإحسانه و بذله وعطائه وخلقه وحرصه على تلمس حاجياتهم و تفقد أحوالهم وتفريج همومهم وتنفيس كروبهم ، لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها ويصرفها كيف يشاء .
أكتب هذه الكلمات بعدما فُجعنا وفُجعت منطقة عسير بوفاة الرجل الباذل والمحسن السخي والسباق للخيرات الذي كان ينفق ولا يسأل ويبذل ولا يتردد ويعطي ولا يمنع ويفتح خزائنه للفقراء والمساكين والمعوزين ، أبي سعيد أحمد أبوحمامة جارنا العزيز منذ أكثر أربعين سنة في حي النمصاء بأبها ، الذي كافح وناضل وصبر وصابر وبدأ تجارته من الصفر ، حتى فتح الله عليه ورزقه من حيث لا يحتسب وأتته الدنيا من كل مكان ، وأصبح رجل أعمال يملك الملايين ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، الذي إذا أعطى سبحانه فلاممسك لرحمته ولاراد لفضله ، ولكن أحمد لم يتغير على جيرانه ولا أحبابه ولا أقاربه فهو هو كما عهدناه وعرفناه ببساطته ورجولته ودماثة خلقه وتواضعه ، فالرجال معادن فمنهم من يتغير بالمال ومنهم من يغيره المنصب ، أما هو فلم يتغير ، بل ازداد تواضعاً و قرباً من الناس صغيرهم وكبيرهم وغنيهم وفقيرهم سواء ، وكلما زاد ماله زاد إنفاقه ، حتى كان يفتح مستودعه في رمضان لأئمة المساجد وروادها ليأخذوا منها مايريدون من الماء لسقيا المصلين بدون حساب ولا سؤال ، وإنك لترى طوابير المساكين والفقراء يرقبون طلة أبي سعيد ليوزع عليهم الصدقات ، كل هذا وتجارته تزيد وأمواله تنمو و تتبارك ، كيف لا ؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إلا مَلَكانِ يَنْزلاَنِ، فَيقُولُ أحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تلَفًا ) .
كنا نسمع كثيراً عن جهوده في خدمة الدعوة إلى الله وفي البذل والعطاء في مرضاة الله ، وخفي علينا الكثير ولم نعرفه إلا بعد موته رحمه الله ، فهو مابين ثناء الناس عليه وهو حي وهذا هو عاجل بشرى المؤمن ، وثنائهم عليه وشهادتهم له بعد موته ، وهذا فضل ورحمة من الله له ولعلها زيادة حسنات تلحقه في قبره بإذن الله .
بنى مجمعاً من أكبر المجمعات الخيرية في المنطقة في محافظة محايل عسير وفيه جامع كبير وحلقات التحفيظ للأولاد ودور للتحفيظ النسائية ودعمها بحافلات لنقل الطالبات والمعلمات ومغسلة أموات مجهزة بكامل التجهيزات حتى سيارة نقل الأموات ، وبنى مجمعاً خيرياً متكاملا في إفريقيا ، وأقام مشروعاً كبيرا آخر لإغاثة اللاجئين والفقراء في الصومال وغيرها من المشاريع المباركة ، فلما توفي رحمه الله عرفنا عنه كثيراً مما كان يخفيه من أعماله الخيرية ، فهذا يقول : أعرف قرابة تسعين أسرة يكفلهم شهرياً في أبها ، وذاك يقول : تبرع قبل شهر بثلاثين ألف ريال لشراء سيارة لأحد مكاتب الدعوة ، وآخر يقول : شهدت له موقف بر ومروءة لازلت أعجب منه إلى الآن ، وآخر يقول : تبرع قبل أيام بمئة ألف لجمعية خيرية ، وهذا إمام لأكبر جوامع أبها يقول : قدم لمسجدنا من الدعم الشيئ الكثير ، وآخرها قبل شهرين مبلغ خمسين ألف ريال ، وكانت تغريدة مفتي منطقة عسير الشيخ سعد الحجري وفقه الله من أعظم الشهادات على بذله و حرصه على الخير إلى آخر حياته ، حيث كتب في حسابه : كان باذلاً منفقاً ، بل وهو على سرير مرضه يتلمس حوائج الفقراء والمساكين ، فلله دره من رجل كان مدرسة في العطاء والبذل ، ونسأل الله أن يتقبل منه وأن يجعله من الشهداء المبطونين .
أيها الأحبة :

هذا الحدث المفجع والمصاب الجلل بفقد جارنا و حبيبنا أبي سعيد ، لنا معه وقفات :

الوقفة الأولى :
أن الذي يضع القبول للعبد في الأرض هو الله جل في علاه ، ومن الأمور المقررة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويشهد لهما الواقع بوضوح أن الله يقذف في قلوب الناس محبة المؤمنين الصادقين ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً )، قال القرطبي رحمه الله : " أي حبا في قلوب عباده " ، وفي الحديث القدسي الصحيح -: (إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْداً، دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ. قَالَ : فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ : إِنَّ الله يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. قَالَ : ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْداً، دَعَا جِبْرِيلَ، فَيَقُولُ : إِنِّي أُبْغِضُ فُلاَناً فَأَبْغِضْهُ. قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ : إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلاَناً فَأَبْغِضُوهُ. قَالَ : فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ ) ، فنحسب أن أباسعيد ممن أحبه الله فأحبه الناس ولا نزكيه على الله .

الوقفة الثانية :

أن السعيد والموفق من سخر دنياه لآخرته وأعد لما بعد الموت ، فما المال والأهلون إلا ودائع ولابد من يوم ترد الودائع ، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في ظلِّ الكعبة، فلمَّا رآني قال: " هم الأخسرون وربِّ الكعبة ، قال : فجئت حتى جلست، فلم أتقارَّ أن قمت، فقلت: يا رسول الله، فداك أبي وأمي، مَن هم؟ قال: هم الأكثرون أموالًا، إلَّا مَن قال هكذا وهكذا وهكذا -مِن بين يديه ومِن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليلٌ ما هم، ... الحديث " ، قال النووي رحمه الله : "فيه الحثُّ على الصَّدقة في وجوه الخير " ، وقال المباركفوري رحمه الله : " قوله : (قال هكذا)الخ، كناية عن التَّصدُّق العام في جميع جهات الخير " ، فهنيئاً والله لمن عرف حقيقة هذه الدار ولم يغتر بها ، وعلم أنها حياة فانية ، وأن حلالها حساب وحرامها عقاب ، وقدم أمواله أمامه ولم يتركها خلفه ، وأيقن أن الآخرة خير من الأولى ، واستعد للموت ومابعده ، واعتبر بمن قبله ، ولم يسوف ولم يلهه الأمل .

الوقفة الثالثة :

أبوسعيد رحمه الله أفضى إلى ماقدم ونحسب أنه قدم له ماينفعه بين يدي الله مما أنعم الله عليه به ، فيا أيها التجار وأرباب الأموال في أبها وغيرها ، هاهو صاحبكم ورفيق دربكم قد أخترمته المنية ، وهو في أعماركم أو أصغر منكم ، ألم تغبطوه على هذا الذكر الحسن والسمعة الطيبة وثناء الناس عليه ؟ ومامر عليه سيمر علينا وعليكم طال الزمان أو قصر ، كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول ، فتفكروا واعتبروا وقدموا كما قدم وأنفقوا كما أنفق وأحسنوا كما أحسن ، فإن الله يحب المحسنين ، والمؤمن يستظل في ظل صدقته يوم القيامة ، فكبروا ظلالكم ، ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه والله الغني وأنتم الفقراء ، وتذكروا ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) ، فهاهي مكاتب الدعوة وتوعية الجاليات في أبها وضواحيها تفتح لكم أبوابها وترحب بكم بل تناديكم وتطلبكم أن تساهموا معها في الدعوة إلى الله ، وهاهي جمعيات البر تنتظركم وتفرح بدعمكم ومساهماتكم ، وهاهي بيوت الله ترقبكم لتعمروها وتشيدوها وتنفقوا عليها ، فأروا الله من أنفسكم خيراً وضعوا بصماتكم وبادروا قبل أن تغادروا ، ووالله لأجد لي و لكم واعظاً ومذكراً خيراً من كتاب الله وكلامه وهو خير الكلام ، وهو القائل جل جلاله :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، وكفى بكلام الله ، فمن لم يتعظ ويعتبر بكلامه ، فلن يتعظ بغيره .

الوقفة الرابعة :

أن من حق أبي سعيد علينا أن ندعوا له فهو في أمس الحاجة للدعاء ، ولعل منا من هو مستجاب الدعوة أو من لو أقسم على الله لأبره ، فنسأل الله أن يغفر له ويرحمه ويجعل آخرته خيراً من دنياه ، وأن يبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه وأن يجمعه مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسُن أولئك رفيقا ، وأن يرفع درجته في المهديين ويخلفه في عقبه في الغابرين وأن يلهم أهله الصبر والسلوان وأن يجبر مصابهم ويحسن عزائهم وأن يأجرهم في مصيبتهم .

الوقفة الخامسة والأخيرة :

أرجوا ممن يعرف الرجل وله علاقة به من قريب أوبعيد ، أو له عنده مظلمة أو حق من الحقوق أو حصل بينه وبينه ما يحصل بين الأخ وأخيه والصاحب وصاحبه ، أن يسامحه ويعفو عنه ويحلله ويبيحه ، وخاصة أن على كفالته كثير من الموظفين والعمال والخدم وغيرهم ، وأصدقائه كثر و معارفه أكثر ، والله جل وعلا يقول : (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ، ويقول سبحانه : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحيم ) والنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول : (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) ، فاعفوا عنه يعفو الله عنكم ويغفر لكم ، يقول السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى :(وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) : كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة " وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه، لقوله الذي قال ، فنزلت هذه الآية، ينهاه عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه، ويحثه على العفو والصفح، ويعده بمغفرة الله إن غفر له، فقال:( أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، إذا عاملتم عبيده، بالعفو والصفح، عاملكم بذلك، فقال أبو بكر لما سمع هذه الآية : " بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع النفقة إلى مسطح " ،
وصدق من قال :
"لَمَّا عَفَوْتُ، وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ؛ أَرَحْتُ نَفْسِيَ مِنْ هَمِّ العَدَاوَاتِ .
اللهم إنا ماشهدنا إلا بما علمنا وماكنا للغيب حافظين ،
اللهم فارحم ضعفنا وأجبر كسرنا وثبتنا على الحق والهدى ، ياأرحم الراحمين .


كتبه : أبوسعد يحيى بن صوفان
جار وحبيب لأبي سعيد عفى الله عنه وغفر له . الخامسة فجر الأربعاء ٧-٦-١٤٣٧هـ
من مدينة الرياض العامرة حرسها الله وجميع بلاد المسلمين.

 

سعيد آل بحران
  • الفوائد العلمية
  • مقالات
  • رسائل لطلبة العلم
  • تغريدات
  • الصفحة الرئيسية