اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/samer/15.htm?print_it=1

فضيحة شيخ الأزهر

سمير بن خليل المالكي

 
بسم الله الرحمن الرحيم

فضيحة شيخ الأزهر


الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده .
أما بعد ، فقد توالت المحن والمصائب على هذه الأمة من قبل المنتسبين إليها ، ممن يدعون الإسلام والعلم والمشيخة والرئاسة ، فيطعنون في الدين ، ويشككون في القرآن ويسخرون من شعائر الإسلام ، وهم ينتسبون إليه ، وهذا من أعجب ما ابتليت به أمة الإسلام عبر القرون والأزمان .
وقد نبأنا الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التحذير ، عن مثل تلك المحن التي هي من أعظم الفتن فقال ، حين سأله حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن الفتن (( دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها )) قال حذيفة : فقلت يا رسول الله صفهم لنا ، قال (( نعم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا .. )) الحديث . متفق عليه .
انظر جامع الأصول [ 10 / 45 ] .
وقد حذرنا الله في كتابه الكريم من الوقوع فيما وقعت فيه أمم الكفر قبلنا ، خاصة اليهود والنصارى ، أحباراً ورهباناً ، من كتم الحق وتلبيسه بالباطل وتحريف الكلم عن مواضعه مما ابتلينا به من قبل عُـبّادنا وعلمائنا .
ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه " هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين " رواه الدارمي [ 1 / 71 ] .
وأثر عن بعض السلف أنه قال " من فسد من عُـبّادنا أشبه النصارى ، ومن فسد من علمائنا أشبه اليهود " .
وبعد ، فقد تناقلت وسائل الإعلام فضيحة شيخ الأزهر سيد طنطاوي ، حين أنكر على فتاة أزهرية منتقبة داخل فصول الأزهر ، وأمرها أن تنزع نقابها ، ثم ذكر أن النقاب لا صلة له بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد .
لقد أتى الشيخ بجملة من الفضايح في تلك الحادثة المشينة ، التي لم نسمع عن مثلها في تاريخ الإسلام ، إلا من أعدائه من الكفار ، الذين اشتهر عنهم استخفافهم بشعائر الإسلام .
ولقد سمعنا كثيراً عن معاناة فتياتنا المسلمات في بلاد الغرب ، بسبب الحجاب والنقاب ، وكنا نستنكر صدور ذلك ممن ينادي بالحرية في كل شيء ، خاصة في المسائل الشخصية ، ومنها اللباس ، حتى صار ما يستر نساءها منه أدنى مما يكشف ، وأضحى العري ، وإظهار العورات والسّوءات مفخرة يتسابق إليها النساء في بلاد الغرب .
لكننا فوجئنا وصدمنا بما فعله شيخ الأزهر في أكبر معقل من معاقل العلم والمعرفة ، في الأزهر الذي لم يزل منارة تضيء للأمة الإسلامية في بقاع المعمورة .
في الأزهر الذي ما فتئ منذ تأسيسه من أكثر من ألف عام ، يخرج المئات والألوف من العلماء وطلبة العلم في مختلف ميادين العلم الشرعي ، ينشرون العلم ويبلغونه للناس ، وفضل الأزهر وعلمائه على المسلمين ، لا ينكره إلا جاحد للحق ناكر للجميل .
نعم لقد صدمنا ودهشنا بما صدر من شيخ الأزهر ، حين منع تلك الفتاة الأزهرية من النقاب ، وأنكر عليها بأسلوب لا يليق صدوره من طالب علم مبتدئ ، فضلاً عن عالم يرأس أكبر مشيخة للعلم الشرعي في العالم كله !

شيخ الأزهر لا يجهل

احترت كثيراً ، من أين أبدأ بحثي وردي على فضيلته ؟
أأبدأ من بيان حكم النقاب ؟ وهل شيخ الأزهر يجهل حكمه ؟
ومن تراه يصدق أن طالب علم في الأزهر ، فضلاً عن أعلى قمم الأزهر ، يجهل حكم ستر المرأة لوجهها في حضور رجل أجنبي ؟
ألا يوجد في مقررات الأزهر مادة التفسير ؟
أليس فيه تفسير سورتي النور والأحزاب ؟
ألم يطلع فضيلته على أقوال المفسرين قاطبة عند تفسير آيات الحجاب الثلاث في تينك السورتين ؟
أعني قول الله تعالى في سورة النور { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } وقولــه تعالى في سورة الأحزاب { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن } وقوله في سورة الأحزاب أيضاً { يدنين عليهن من جلابيبهن } .

شيخ الأزهر يتجاهل

زعم شيخ الأزهر أن النقاب لا يمت إلى الإسلام بصلة ، وأنه من العادات ، وبالغ في تقرير ذلك بالقول والفعل وتشدد فيه ، وهو – بلا ريب – لا يجهل الحكم الشــرعي ، فلماذا فعل ذلك ؟ أنا على يقين أن فضيلته تعمد أن يتجاهل مسألة يعرف كل طلاب العلم ، بل و كثير من العامة أيضاً ، أن هناك خلافاً فيها ، وأن كتب العلم ، في التفسير والفقه والحديث ، قد نقلت لنا ذلك الخلاف ، بغض النظر عن اختلافنا معه في ترجيح أي من تلك المذاهب والأقوال .
وإذا كان شيخ الأزهر قد قصد أن يتجاهل وجود الخلاف ، فهل يستطيع فضيلته أن يلغي ذلك الخلاف أيضاً من مقررات الأزهر ؟ هل يجرؤ أن يحذف من كتب التفسير سواء كانت من مقررات الأزهر ، أم كانت من المراجع التي تزخر بها مكتباته العامة ، ما ذكره علماء التفسير عند تفسير الآيات الثلاث من سورتي النور والأحزاب ؟ وهل يستطيع شيخ الأزهر ، كذلك ، أن يحذف ما نقله الفقهاء في كتابي الصلاة والحج ، عن حكم غطاء المرأة وجهها ؟
سأنقل إليك أخي القارئ بعض ما ذكرته كتب التفسير المشهورة في تفسير آيات الحجاب الثلاث ، لتعلم أن شيخ الأزهر لم يجهل المسألة بل تجاهلها .

تفسير آية النور رقم 31

قال الله تعالى { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن ... } الآية .
قال ابن جرير الطبري " وقوله { ولا يبدين زينتهن } يقول تعالى ذكره : ولا يظهرن للناس الذين ليسوا لهن بمحرم زينتهن ، وهما زينتان ، إحداهما ما خفي ، وذلك كالخلخال والسوارين والقرطين والقلائد . والأخرى ماظهر منها ، وذلك مختلف في المعنيِّ منه بهذه الآية ، فكان بعضهم يقول زينة الثياب الظاهرة " .
ثم أسند ابن جرير هذا القول إلى ابن مسعود وإبراهيم النـخعي والحسـن البصري . ثم قـال " وقال آخرون : الظاهر من الزينة التي أبيح لها أن تبديه : الكحل والخاتم والسواران والوجه " .
ثم أسند هذا القول إلى ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء وقتادة .
ثم قال ابن جرير بعد أن ذكر قولاً ثالثاً " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : عني بذلك الوجه والكفان ، يدخل في ذلك ، إذا كان كذلك ، الكحل والخاتم والسوار والخضاب . وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل ، لإجماع الجميع على أن على كل مصلٍّ أن يستر عورته في صلاته ، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها ، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها ... " الخ . انظر تفسير ابن جرير [ 9 / 303 – 306 ] .
قال سمير: ابن جرير الطبري شيخ المفسرين ، وأقدمهم وإمامهم ، وقد توفي سنة 310هـ وتفسيره من أكبر وأشهر التفاسير ، وكل من جاء بعده استفاد منه ، وقد حكى الخلاف في تفسير الآية عن الصحابة والتابعين ، فكيف يتجاهل شيخ الأزهر هذا الخلاف ، مع قدمه و شهرته وشهرة القائلين به من السلف ؟ .
وقال القرطبي " أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين ، إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية ، حذاراً من الافتتان ، ثم استثنى ما يظهر من الزينة .
واختلف الناس في قدر ذلك ، فقال ابن مسعود : ظاهر الزينة هو الثياب . وزاد ابن جبير : الوجه .
وقال سعيد بن جبير أيضاً ، وعطاء والأوزاعي : الوجه والكفان والثياب . وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة : ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ ، ونحو هذا ، فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس .. "
إلى أن قال " قال ابن عطية : ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية ، أن المرأة مأمورة بألا تبدي ، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة .
ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لابد منه ، أو إصلاح شأن ونحو ذلك . فما ظهر على هذا الوجه ، مما تؤدي إليه الضرورة في النساء ، فهو المعفو عنه .
قلت ( أي القرطبي ) : هذا قول حسن ، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة ، وذلك في الصلاة والحج ، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما .
يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها : أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال لها (( يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا )) وأشار إلى وجهه و كفيه .
وهذا أقوى في جانب الاحتياط ، ولمراعاة فساد الناس ، فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها ، والله الموفق لا رب سواه .
وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا : إن المرأة إذا كانت جميلة ، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة ، فعليها ستر ذلك .
وإن كانت عجوزاً أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها " . انتهى .
انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي [ 12 / 228 – 229 ] .
قال سمير : وهذا الإمام القرطبي ينقل لنا الخلاف في المسألة ، وهو متوفى سنة 671هـ ، مما يؤكد أن الخلاف استمر من عهد السلف إلى وقته ، فكيف يتجاهله شيخ الأزهر ؟

تفسير آية الأحزاب رقم 53

قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم .. } إلى قوله تعالى { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن } .
قال ابن جرير الطبري ما نصه " وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين ، اللواتي لسن لكم بأزواج ، متاعاً { فاسألوهن من وراء حجاب } يقول : من وراء ستر بينكم وبينهن ، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن { ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن } يقول تعالى ذكره : سؤالكم إياهن المتاع ، إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب ، أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها ... " الخ [ 10 / 325 ] .
قال سمير : آية الأحزاب هذه رأى أكثر أهل العلم أنها خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن ابن جرير الطبري أدخل فيها عموم النساء المؤمنات ، كما مر معنا من كلامه . وقد وافقه الإمام القرطبي في تعميم الآية على كل النساء ، فقـال في تفسيره [ 14 / 227 ] " في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض ، أو مسألة يُستفتين فيها ، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى ، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة ، بدنها وصوتها ، كما تقدم ، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة ، كالشهادة عليها ، أو داء يكون ببدنها ، أو سؤالها عما يعرض وتعيّن عندها " اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري [ 8 / 530 ] عند ذكر الحديث في سبب نزول هذه الآية من سورة الأحزاب " وفي الحديث من الفوائد : مشروعية الحجاب لأمهات المؤمنين . قال عياض : فرض الحجاب مما اختصصن به ، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين ، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها .. " الخ .
قال سمير : كلام عياض مفهومه أن غير أمهات المؤمنين مختلف في فرض الحجاب عليهن في الوجه الكفين ، كما هو ظاهر .
وللعلامة الشنقيطي بحث نفيس في تفسيره : أضواء البيان ، حيث رجّح أن هذه الآية وإن نزلت في شأن أمهات المؤمنين إلا أن حكمها عام لكل المؤمنات ، وأطال رحمه الله في تقرير ذلك ، فانظره إن شئت .
ولو فرضنا جدلاً أن الحكم خاص بأمهات المؤمنين ، فهل يصح أن يقال : إن ستر الوجه لا يمت إلى الإسلام بصلة ، كما زعم شيخ الأزهر ؟!
تفسير آية الأحزاب رقم 59
قال تعالى { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً } .
قال ابن جرير الطبري في تفسيره [ 10 / 331 - 332 ] " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين : لا تشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن ، فكشفن شعورهن ووجوهن ، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن ، لئلا يعرض لهن فاسق ، إذا علم أنهن حرائر، بأذى من قول .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به ، فقال بعضهم : هو أن يغطين وجوههن ورؤسهن ، فلا يبدين منهن إلا عيناً واحدة .. "
ثم أسند ابن جرير هذا القول ، عن ابن عباس وعن عبيدة السلماني .
قال سمير : قد صرح ابن جرير هنا بأن كشف الشعر والوجه كان من خصائص الإماء ، وأن الله أمر الحرائر بستر الشعر والوجه حتى يتميزن عن الإماء ، لئلا يتعرضن لأذى ضعاف النفوس .
ونقل تفسير ابن عباس رضي الله عنهما ، في صفة إدنــاء الجلابيب ، وهي أن تغطي كل شيء ، ولا يظهر منها إلا عين واحدة .
ومثله قول عبيدة السلماني ، وهو من كبار فقهاء التابعين .
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية " لما كانت عادة العربيات التبذّل ، وكن يكشفن وجوههن ، كما يفعل الإماء ، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن ، وتشعّب الفكرة فيهن ، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن ... "
إلى أن قال " واختلف الناس في صورة إرخائه ، فقال ابن عباس وعبيدة السلماني : ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها .
وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : ذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ، ثم تعطفه على الأنف ، وإن ظهرت عيناها ، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه . وقال الحســن : تغطي نصف وجهها " اهـ . [ 14 / 243 ] .
قال سمير : إذاً كشف الوجوه كان من خصائص الإماء ، وأما الحرائر فإنهن أمرن بسترها لئلا يؤذين من قبل الفساق وضعاف النفوس ، كذا قال الإمامان : ابن جرير والقرطبي ، ووافقهما على هذا القول سائر المفسرين .
واليوم تؤذى الطالبة الحرة الأزهرية ، ومن آذاها ؟ شيخ الأزهر ! يا للفضيحة ! ويا للعار !
أم ترى أن فضيلته عدها من جملة الإماء لا من الأحرار ؟!
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص – أمير مصر – حين ضرب ابنه ابن ذلك القبطي المصري " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً " !

تــنبيه

قد مر معنا قول ابن عباس في تفسير آية النور { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } أن الزينة الظاهرة هي : الوجه والكفان ، وأن لها أن تبديه حتى للرجال الأجانب ، ورجح ابن جرير والقرطبي هذا القول هناك ، لكنهما هنا في تفسير هذه الآية من سورة الأحزاب ، ذكرا خلاف ذلك ، وجعلا كشف الوجه من خصائص الإماء ، وهو اختيار ابن عباس ومن وافقه من التابعين .
فإما أن يقال : إن ابن عباس له قولان في المسألة ، أو يقال : إن قصد ابن عباس في آية النور ، أن المرأة تبدي وجهها وكفيها لمن ذكروا في الآية بعد ذلك من محارمها ، لأن الله تعالى قال { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } ثم قال { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن .. } الآية . فلعله أراد أن الزينة الظاهرة التي تبديها المرأة ، وهي الوجه والكفان ، إنما تبديها لمن ذكر في الآية من محارمها ، لا لكل الرجال .
أو يكون مراد ابن عباس أن الوجه والكفين من الزينة التي لا تظهر منها ، والمعنى : ولا يبدين الوجه والكفين إلا ما ظهر دون قصد منها ، كأن يظهر من الوجه القرط ومن الكف الخاتم ، ونحو ذلك .
وهو موافق لتفسير ابن مسعود ومن معه .
قال ابن كثير في تفسير آية النور " أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه . قال ابن مسعود : كالرداء والثياب ، يعني على ما كان يتعاناه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها ، وما يبدو من أسافل الثياب ، فلا حرج عليها فيه ، لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ... وقال بقول ابن مسعود : الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم .
وقال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } قال : وجهها وكفيها والخاتم .
وروي عن ابن عمر وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء والضحاك وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك " .
قال ابن كثير " وهذا يحتمل أن يكون تفسيراً للزينة التي نهين عن إبدائها ، كما قال أبو إسحق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبدالله قال ، في قوله { ولا يبدين زينتهن } ، الزينة : القرط والدملوج والخلخال والقلادة .
وفي رواية : الزينة زينتان : فزينة لا يراها إلا الزوج : الخاتم والسوار ، وزينة يراها الأجانب ، وهي الظاهر من الثياب .
وقال الزهري : لا يبدو لهؤلاء الذين سمى الله ، ممن لا تحل له إلا الأسورة و الأخــمرة و الأقرطة ، من غير حسر ، وأما عامة الناس ، فلا يبدو منها إلا الخواتم .
وقال مالك عن الزهري { إلا ما ظهر منها } الخاتم والخلخال .
ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين ، وهذا هو المشهور عند الجمهور ... " اهـ باختصار .
ولابن تيمية رأي آخر ، فإنه جعل تفسير ابن عباس لآية النور ، أنه أول الأمرين ، ولم يجعله مخالفاً لقول ابن مسعود .
فقال " فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن ، وهو ستر الوجه ، أو ستر الوجه بالنقاب ، كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب ، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة .
فابن مسعود ذكر آخر الأمرين ، وابن عباس ذكر أول الأمرين " اهـ .
انظر مجموع الفتاوى [ 22 / 111 ] .
قال سمير : وعلى هذا يكون ابن عباس رضي الله عنهما قد ذكر في آية النور أول الأمرين من فرض الحجاب ، ثم ذكر في آية الأحزاب آخر الأمرين ، وهو الموافق لما قاله ابن مسعود ، غير أن ابن مسعود ذكر ما استقر عليه الحكم في آية النور ، ولم يفصِّـل كما فصّل ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين .

الخلاصــة

وأياً كان الأمر ، فإن القائلين بوجوب غطاء الوجه من الصحابة والتابعين كثير ، فهو قول مشهور جداً ، كما نقلناه عن المفسرين .
ومن قال بجواز كشف المرأة وجهها وكفيها من المفسرين من الصحابة وأشهرهم ابن عباس رضي الله عنهما ، فإنه نقل عنه ما يخالف ذلك ، كما مر معنا في تفسيره لآية الأحزاب الأخيرة ، وقد تقدم الجمع بين قوليه .
ولم يقل أحد من هؤلاء إن المرأة يجب عليها كشف وجهها ، بل غاية ما قالوه : إنه يجوز لها ذلك ، فهاهنا قولان في المسألة :
الأول : جواز كشف المرأة وجهها للأجانب . وهو قول الجمهور .
الثاني : وجوب تغطية المرأة وجهها أمام الأجانب . وهو قول مشهور .
فمن أين أتى شيخ الأزهر بالرأي الشاذ الغريب ، وهو تحريم غطاء الوجه ؟
وللإمام الحافظ أبي الحسن علي بن القطان المتوفى سنة 628هـ ، كتاب نفيس اسمه " النظر في أحكام النظر بحاسة البصر " ، ذكر فيه حكم غطاء الوجه ، ونقل كلام المفسرين في ذلك ، ومما قاله رحمه الله " إن الوجه والكفين والقدمين ، هل يجوز للمرأة إبداؤها أو لايجوز ، أعني لللأجانب ، وهو موضع خلاف .
ولن نبلغ إلى الكلام في تعيين الصحيح من ذلك ، إلا بعد الكلام في الآية ، التي هي مستند الباب ، وبعد الفراغ منها ، نعرض لثلاث مسائل : مسألة في الوجه ، ومسألة في الكفين ، ومسألة في القدمين .
أما الكلام في الآية ، فهو أن نقول : قوله عز وجل { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } ، نهي مطلق للنساء كلهن ، حــرة كانت أو أمة ، عن إبداء كل زينة ، لكل أحد ، رجل أو امرأة ، أجنبي أو قريب أو صهر ، هي مطلقة بالنسبة إلى كل زينة ، ومطلقة بالنسبة إلى كل مبدية ، ومطلقة بالنسبة إلى كل ناظر .
وَردَ على إطلاقين منها استثناءات : أحدهما على مطلق الزينة ، ومخصص به ما ظهر منها ، فيجوز إبداؤه لكل واحد .
والآخر : على مطلق الناظرين الذين يبدى لهم شيء من ذلك ، فخصص منهم : البعولة ومَن بعدهم ، جوّز لها إبداء ما كان زينة لهم على وجه يتفسر بعد ، إن شاء الله ، من أنه مشترك بين أقربهم وأبعدهم ..
والإجماع منعقد ، على أن ما تبديه للمذكورين ، أكثر مما تبديه للأجانب ، وعلى أن المذكورين متفاوتون فيما تبديه لهم .
فإذاً قد انقسمت الزينة إلى ظاهرة ، تبدى لكل أحد ، أجنبي أو قريب أو صهر .
وإلى باطنة ، منها ما يبدى لجميع المذكورين ، ومنها ما يبدى لبعضهم .
فلابد أن ينظر : ما الزينة الظاهرة ؟ وما الزينة الباطنة ؟ ومن الذي تُبدي لهم من الزينتين ؟ أما الزينة الباطنة ما تُبدي منها ، ولمن تبديه ؟ فسيأتي القول فيه إن شاء الله مستوفىً .
وأما الزينة الظاهرة ، فنقول :
نقل عن عبدالله بن مسعود أنها : الثياب . فعلى هذا يلزم المرأة ستر جميع جسدها ، ولا تبدي شيئاً منه ، وجهاً ولا غيره .
وروي عنه مفسراً أنه قال : الزينة زينتان ، ظاهرة وباطنة ، فالظاهرة : الثياب . والباطنة : الكحل والسوار والخاتم . ففي هذا أن الوجه ، الذي فيه الكحل ، لا تبديه إلا لمن أجيز لها إبداء الزينة الباطنة له ، البعْـل ومَن بعده .
وروى في ذلك هو بنفسه حديثاً .. "
ثم ساق ابن القطان حديث الترمذي من طريق ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان )) .
ثم قال ابن القطان " فهذا قول واحد في الزينة الظاهرة ، ويشبه أن يكون مقولاً به لبعض الشافعية ، وذلك أن لهم قولين في جواز النظر إلى الأجنبية :
أحدهما : المنع ، وهو المشهور .
والآخر : الإجازة ، مالم يخف الفتنة .
فإذا قلنا : إن كل ما يحرم النظر إليه لا يجوز إبداؤه ، فقد يخرج لهم من هاهنا مثل قول عبدالله بن مسعود ، في أن المرأة لا يجوز لها إبداء وجهها . وروي عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أنه قال : كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها .
وقال أحمد بن حنبل : إذا صلت المرأة تغطي كل شيء منها ، ولا ظفرها ... " .
ثم قال ابن القطان " وقول ثانٍ في الزينة الظاهرة ، وهو : أنها الثياب والوجه . هذا قول يروى عن سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، فعلى هذا يجوز لها إبداء وجهها فقط .
وقول ثالث فيها ، وهو : أنها الوجه والكفان . هذا قول يروى عن ابن عباس وابن عمر وأنس وعائشة وأبي هريرة رضي الله عنهم ... " .
ثم أطال ابن القطان في سرد الأقوال في المسألة ، وذكر بعض الأحاديث التي استدل بها من أباح للمرأة كشف وجهها وكفيها بحضرة الرجال الأجانب ، وذكر اعتراضات القائلين بوجوب تغطية الوجه والكفين ، ثم قال رحمه الله " لكن الانصراف عما يدل عليه ظاهر اللفظ أو سياق القصة ، لا يكون جائزاً إلا بدليل عاضد ، يصيِّر الانصراف تأويلاً ، وإذا لم يكن هناك دليل ، كان الانصراف تحكماً ، فعلى هذا يجب القول بما تظاهرت به هذه الظواهر وتعاضدت عليه ، من جواز إبداء المرأة وجهها وكفيها .
لكن يستثنى من ذلك ما لابد من استثنائه قطعاً ، وهو ما إذا قصدت بإبداء ذلك التبرج وإظهار المحاسن ، فإن هذا يكون حراماً ... " إلى أن قال " ويبقى علينا بعد هذا المتقرر في حق النساء ، من جواز بُـدوِّ الوجه والكفين ، على غير قصد التبرج ، بحكم ضرورة التصرف ، ما يخصنا من أمر النظر إلى ذلك : أيمنع مطــلقاً ؟ أم يجوز إذا لم يخف الفتنة ولم تقصد اللـذة ؟ يأتي ذكره بعد إن شاء الله " . انتهى باختصار [ 135 – 172 ] .
قال سمير : قد حكى رحمه الله الخلاف في حكم كشف المرأة وجهها وكفيها ، وذكر أدلة القائلين بالجواز واعتراضات القائلين بالمنع ، وهو يؤكد أن الخلاف قوي ومشهور ، لا كما زعم شيخ الأزهر ، غفر الله له .

كلام الفقهاء في المسألة

يبحث الفقهاء حكم ستر المرأة وجهها وكفيها في موضعين من كتب الفقه .
الأول : كتاب الصلاة ، في ستر العورة .
الثاني : كتاب الحج ، في محظورات الإحرام .
وسأنقل لك أخي القارئ بعض ما جاء في كتب الفــقه المشهورة ، عن حكم ستر المرأة وجهها .
1 – قال ابن عبدالبر " وقد أجمعوا على أن المرأة تكشف وجهها في الصلاة والإحرام . وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم ، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور : على المرأة أن تغطي منها ما سوى وجهها وكفيها .
وقال أبوبكر بن عبدالرحمن بن الحارث : كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها .. " .
قال ابن عبدالبر " قول أبي بكر هذا خارج عن أقاويل أهل العلم ، لإجماع العلماء على أن للمرأة أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها ، تباشر الأرض به .
وأجمعوا على أنها لا تصلي متنقبة ، ولا عليها أن تلبس قفازين في الصلاة ، وفي هذا أوضح الدلائل على أن ذلك منها غير عورة .. " .
إلى أن قال ابن عبدالبر " اختلف العلماء في تأويل قول الله عز وجل { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } . فروي عن ابن عباس وابن عمر ، إلا ما ظهر منها : الوجه والكفان . وروي عن ابن مسعود { ما ظهر منها } الثياب . قال : لا يبدين قرطاً ، ولا قلادة ، ولا سواراً ، ولا خلخالاً ، إلا ما ظهر من الثياب .. "
إلى أن قال " فهذا ما جاء في المرأة وحكمها في الاستتار في صلاتها وغير صلاتها " ا هـ . انظر التمهيد [ 6 / 364 – 369 ] .
2 – قال الشيخ علاء الدين الحصكفي في شرح تنوير الأبصار ، في كتاب الصلاة ، في ستر العورة " وللحرة ولو خنثى جميع بدنها ، حتى شعرها النازل في الأصح ، خلا الوجه والكفين ، فظهر الكف عورة على المذهب ، والقدمين ، على المعتمد ، وصوتها على الراجح ، وذراعيها على المرجوح .
وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين رجال ، لا لأنه عورة ، بل لخوف الفتنة " .
قال ابن عابدين في شرحه " والمعنى : تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة ، لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة " اهـ .
انظر حاشية ابن عابدين [ 2 / 95 – 97 ] .
قال سمير : هذا الكتاب من أشهر كتب الأئمة الأحناف ، ومعلوم أن الأزهر يعتمد كثيراً على هذا المذهب ، والقضاء المصري أيضاً .
والحصكفي توفي سنة 1088هـ ، وابن عابدين توفي سنة 1282هـ ، فهما من كبار علماء الأحناف المتأخرين ، وقد منعا المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال .
فأين شيخ الأزهر من هذا الكلام ، وهو مذكور في أشهر كتب الأحناف ؟
3 – وقال ابن عابدين في كتاب الحج ، في محظورات الإحرام . بعد أن نقل كلام الأئمة الأحناف في أن المرأة لا تغطي وجهها إجماعاً ، " أي : وإنما تستر وجهها عن الأجانب بإسدال شيء متجافٍ لا يمس الوجه ، كما سيأتي آخر هذا الباب .
وأما ما في شرح الهداية لابن الكمال ، من أن لها ستره بملحفة وخمار ، وإنما المنهي عنه ستره بشيء فصل على قدره ، كالنقاب والبرقع ، فهو بحث عجيب ، أو نقل غريب ، مخالف لما سمعته من الإجماع ، ولما في البحر وغيره في آخر هذا الباب .
ثم رأيت بخط بعض العلماء في هامش ذلك الشرح ، أن هذا مما انفرد به المؤلف . والمحفوظ عن علمائنا خلافه ، وهو وجوب عدم مماسة شيء لوجهها اهـ .
ثم رأيت نحو ذلك ، نقلاً عن منسك القطبي ، فافهم " اهـ .
من حاشية ابن عابدين [ 3 / 568 ] .
قال سمير : المرأة المحرمة ممنوعة من التنقب حال الإحرام ، بنص الحديث المتــفق عليه (( لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين )) رواه البخاري ومسلم وغيرهما .
انظر جامع الأصول [ 3 / 21 ] .
ومع ذلك ، فإن علماء الأحناف رأوا أنها تستر وجهها عن الأجانب بإسدال شيء متجافٍ لا يمس الوجه .
بل ذهب بعضهم إلى أنها تستره بملحفة وخمار .
فلو كانت تلك الفتاة الأزهرية محرمة بحج أو عمرة ، فلها أن تغطي وجهها بشيء يستره عن نظر شيخ الأزهر ، استناداً إلى هذا القول ، فكيف وهي غير محرمة ؟
إلا إذا رأى الشيخ أنها إذا دخلت الأزهر وجب عليها الإحرام !! .
وحتى لو كانت محرمة عند دخولها فصول الأزهر ! فإن لها أن تسدل الخمار على وجهها ، كما قال الأئمة الذين هم أعلم من شيخ الأزهر .
4 – قال صاحب المهذب ، في معرض كلامه عن إحرام المرأة " فإن أرادت ستر وجهها عن الناس ، سدلت على وجهها شيئاً لا يباشر الوجه ، كما روت عائشة رضي الله عنــها قالت " كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات ، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه " .
قال الإمام النووي في المجموع شرح المهذب " قال أصحابنا : ولها أن تسدل على وجهها ثوباً متجافياً عنه ، بخشبة ونحوها ، سواء فعلته لحاجة ، كحَــرٍّ ، أو برد ، أو خوف فتنة ، ونحوها ، أو لغير حاجة " اهـ . انظر المجموع [ 7 / 250 – 262 ] .
قال سمير : هؤلاء أئمة الشافعية ، قد نقلوا جواز ستر المحرمة لوجهها ، مع أنها منهية عن النقاب حال الإحرام ، واستدلوا بحديث عائشة ، وهو حديث مشهور في السنن ، أخرجــه أبو داود [ 1 / 425 ] وأحمد [ 6 / 30 ] .
ومعلوم أن كثيراً من علماء مصر يقلدون المذهب الشافعي ، فأين شيخ الأزهر عن مثل هذا الكلام ؟ أتراه لم يطلع عليه ، أم قرأه ولم يفهمه ؟ أم يــرى أن كلام الشــيرازي والنووي لا عبرة به ؟ .
5 – وتأكيداً لما ذكره الشافعية ، أنقل إليك كلام الحافظ ابن حجر العسقلاني شارح صحيح البخاري ، وأشهر حفاظ الدنيا وعلمائها في القرن التاسع ، وهو شافعي المذهب ، وعاش في مصر ، وتوفي بها سنة 852هـ .
قال رحمه الله في شرح حديث عائشة رضي الله عنها " يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن مروطهن فاختمرن بها " .
قال " قوله " فاختمرن بها " ، أي : غطين وجوههن ، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر ، وهو التقنع " اهـ . انظر الفتح [ 8/490 ] .
وقد ذكر الحافظ في الفتح [ 3/406 ] في شرح أثر عائشة الذي علقه البخاري ، الذي منعت فيه المرأة المحرمة أن تتلثم أو تتبرقع ، عن سعيد بن منصور قال " حدثنا هشيم حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها " .
وسكت الحافظ على هذا الأثر ، وهو يدل على ثبوته عنده ، كما قال في مقدمة الفتح .
أما حديث عائشة الآخر " كنا إذا مر بنا الركبان ... " فقد ضعف الحافظ إسناده .
قال سمير : مذهب عائشة رضي الله عنها في منع المحرمة أن تتلثم أو تتبرقع موافق للحديث في منعها أن تنتقب ، لأن ذلك مفصل على وجه المرأة ، لكنها لم تمنع المحرمة من أن تسدل جلبابها من فوق رأسها على وجهها ، حتى تستتر عن الرجال ، وهو يقوي حديثها الآخر الذي ضعف إسناده الحافظ ابن حجر .
6 – قال الحطاب ، وهو من علماء المالكية ، شارح مختصر خليل " واعلم أنه إن خشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين . قاله القاضي عبدالوهاب ، ونقله عنه الشيخ أحمد زروق في شرح الرسالة ، وهو ظاهر التوضيح " اهـ .
وقال المواق أيضاً " قال عياض : ليس بواجب أن تستر المرأة وجهها ، وإنما ذلك استحباب وسنة لها ، وعلى الرجل غض بصره عنها " اهـ .
انظر مواهب الجليل وبهامشه التاج والإكليل [ 2/181 ] .
قال سمير : قوله " وهو استحباب وسنة " يدل على أن المسألة لها صلة بالإسلام ، لا كما ادعى شيخ الأزهر .
7 – وقال الباجي ، وهو من علماء المالكية ، في كتابه " المنتقى " [ 2/200] ، في معرض كلامه عن منع المرأة أن تنتقب وهي محرمة " مسألة : إذا ثبت ذلك فعلى المرأة أن لا تلبس مواضع الإحرام منها مخيطاً يختص به ، والذي يختص بالوجه من المخيط النقاب والبرقع ، والذي يختص بالكفين القفازان ، فوجب على المرأة أن تعريهما من ذلك ، ويستحب لها أن تعريهما من غير ذلك من اللباس .
فإن أدخلت يديها في قميصها فلا شيء عليها ، لأن ذلك لا يختص بها ، ولا سبيل إلى الاحتراز منه ، وبالله التوفيق "
ثم ذكر الباجي حديث فاطمة بنت المنذر " كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما " ( رواه مالك في الموطأ [ 1/328 ] ) .
ثم قال " قولها " كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات " ، تريد أنهن كنّ يسترن وجوهن بغير النقاب ، على معنى التستر ، لأن الذي يُمنع : النقاب ، أو ما يجري مجراه ، على ما ذكرناه . وإضافة ذلك إلى كونهن مع أسماء بنت أبي بكر ، لأنها من أهل العلم والدين والفضل ، وأنها لا تقرهن إلا على ما تراه جائزاً عندها ، ففي ذلك إخبار بجوازه عندها ، وهي ممن يجب لهن الاقتداء بها ، وإنما يجوز أن يخمرن وجوههن على ما ذكرنا ، بأن تسدل على وجهها تريد الستر " اهـ .
قال سمير : فاطمة بنت المنذر من خيار التابعيات ، وتحكي ما كانت تفعله هي ومن معها في صحبة أسماء بنت أبي بكر ، وهي من خيار الصحابيات ، ذات النطاق ، وهن محرمات يخمرن وجوههن حتى لا يراهن الرجال ، والرجال في ذلك العصر من خيار الناس ، في القرن الأول الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم (( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )) . رواه البخاري ومسلم . انظر جامع الأصول [ 8 / 547 ] .
أقول : وشيخ الأزهر أنكر على تلك الأزهرية العفيفة التي اتخذت من أمهات المؤمنين ومن الصحابيات والتابعيات الصالحات القانتات ، قدوة لها وأسوة ، فغطت وجهها ، وهي غير محرمة ( غير محرمة يا شيخ الأزهر ) ، فأمرها الشيخ الوقور أن تكشف وجهها ، وعنفها على فعلها !! .
7 – قال ابن قدامة ، وهو أشهر علماء الحنابلة ، توفي سنة 620هـ " لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة ، ولا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم ، وأنه ليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها ، وفي الكفين روايتان ، إحداهما : يجوز كشفهما . وهو قول مالك والشافعي ، لأن ابن عباس قال ، في قوله تعالى { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } قال : الوجه والكفين .
ولأنه يحرم على المحرمة سترهما بالقفازين ، كما يحرم عليها ستر وجهها بالنقاب ، فلم يكونا من العورة كالوجه .
ولأن العادة ظهورهما وكشفهما ، والحاجة تدعو إلى كشفهما للأخذ والعطاء ، كما تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء ، فلم يحرم كشفهما في الصلاة ، كالوجه .
والثانية : هما من العورة ، ويجب سترهما في الصلاة . وهذا قول الخرقي ، ونحوه قال أبوبكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام ، فإنه قال : المرأة كلها عورة حتى ظفرها ، لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( المرأة عورة )) . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .
وهذا عام يقتضي وجوب ستر جميع بدنها ، وترك الوجــه للحاجة ، ففيما عداه يبقى على الدليل .
و قول ابن عباس قد خالفه ابن مسعود ، فإنه قال في قوله سبحانه { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } قال الثياب ... "
إلى أن قال " ويكره أن تنتقب المرأة وهي تصلي ، أو تتبرقع . قال ابن عبدالبر : وقد أجمعوا على أن على المرأة أن تكشف وجهها في الصلاة والإحرام ... " اهـ باختصار .
انظر المغني [ 2 / 326 – 331 ] .
وقال ابن قدامة في شرح قول الخرقي " والمرأة إحرامها في وجهها ، فإن احتاجت سدلت على وجهها " .
قال " وجملة ذلك أن المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها ، كما يحرم على الرجل تغطية رأسه ، لا نعلم في هذا خلافاً ، إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة .
ويحتمل أنها كانت تغطيه بالسدل عند الحاجة ، فلا يكون اختلافاً .
قال ابن المنذر : وكراهية البرقع ثابتة عن سعد وابن عمر وابن عباس وعائشة ، ولا نعلم أحداً خالف فيه .
وقد روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين " .
فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها ، لمرور الرجال قريباً منها ، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها .
روي ذلك عن عثمان وعائشة . وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وإسحق ومحمد بن الحسن ، ولا نعلم فيه خلافاً ، وذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان الركبان يمرون بنا ، ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه .
رواه أبو داود والأثرم .
ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها ، فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق ، كالعورة .
وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافياً عن وجهها ، بحيث لا يصيب البشرة ، فإن أصابها ، ثم زال ، أو أزالته بسرعة ، فلا شيء عليها ... "
إلى أن قال " وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما ، مما يُـعدُّ لستر الوجه . قال أحمد : إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق ، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل . كأنه يقول : إن النقاب من أسفل على وجهها "
ثم قال ابن قدامة " ولا بأس أن تطوف المرأة متنقبة ، إذا كانت غير محرمة . وطافت عائشة وهي متنقبة . وكره ذلك عطاء ، ثم رجع عنه " اهـ من المغني [ 5 / 154 – 155 ] .
8 – قال ابن رجب الحنبلي في شرح صحيح البخاري ، المسمى : فتح الباري ، وهو سابق على فتح الباري الذي صنفه ابن حجر العسقلاني ، وابن رجب متوفى سنة 795هـ " وقد كنّ قبل الحجاب يظهرن بغير جلباب ، ويُرى من المرأة وجهها وكفاها ، وكان ذلك ما ظهر منها من الزينة في قوله عز وجل { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } ، ثم أمِرت بستر وجهها وكفيها .. "
ونقل ابن رجب بعد ذلك قول ابن المنذر " وأجمعوا أن لها أن تصلي وهي مكشوفة الوجه ، واختلفوا فيما عليها أن تغطي في الصلاة ، فقالت طائفة : عليها أن تغطي ما سوى وجهها وكفيها ، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي ثور .
وقال أحمد : إذا صلت تغطي كل شيء منها ، ولا يرى منها شيء ، ولا ظفرها .
وقال أبو بكر بن عبدالرحـمن بن الحـارث بن هشام : كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها " اهـ .
انظر فتح الباري لابن رجب الحنبلي [ 2 / 348 ] .
قال سمير : ما نقلته لك أخي القارئ ، إنما هو غيض من فيض ، وقطرة من بحر ، مما ذكره أئمة السلف والخلف ، في كتبهم ومصنفاتهم المشهورة ، التي لا تخـفى على صغار طلبة العلم ، فضلاً عن كبارهم .
وقد رأيت أن ستر المرأة وجهها ، في غير الصلاة والإحرام ، إما مستحب وإما واجب ، ويتعين إذا خشيت الفتنة . وذهب أكثرهم إلى أن المحرمة أيضاً لها أن تغطي وجهها عن الرجال الأجانب ، بدون أن تنتقب .
وابن قدامة حكى هذا القول عن جمع من السلف ، وقال " لا نعلم فيه خلافاً " .
وأما القول بوجوب كشفها لوجهها في غير الإحرام والصلاة ، في حضرة الرجال ، فلم يقل به أحد من العلماء من قبل ، لا من أصحاب المذاهب المتبوعة ولا من غيرهم .
وعلى هذا ، فإن ما فعله شيخ الأزهر ، حين أنكر على تلك الفتاة الأزهرية سترها لوجهها في حضرة فضيلته ، يعد شذوذاً منه ، وخروجاً عن قول سائر أهل العلم .

شيخ الأزهر و : عذر أقبح من فعل

لما حصلت المصيبة والفضيحة ، من شيخ الأزهر ، وأرادت إحدى المعلمات الصالحات الدفاع عن تلميذتها الأزهرية ، نهرها الشيخ وقال : إنه يفهم في الدين أكثر منها ومن الذين خلّفوها !
وهذا في نظري عذر أقبح من فعل ، وما أدراه ، لعل المعلمة ومن خلفوها ، والطالبة أيضاً أعلم من الشيخ في هذه المسألة ؟
بل لعلهم أعلم منه في مسائل أخرى غيرها ، وهل يزعم فضيلته أنه أعلم من في الأرض ؟ إنها سقطة أخرى لشيخ الأزهر ، ما كنت أظنه يقع فيها .
وليس من أدب العلماء ولا من خلق الفقهاء أن يتباهوا بالعلم ويتفاخروا على الناس به ، بل خلقهم التواضع وخفض الجناح ، كما أثر عن علماء الأمة وأئمتها .
ولهذا قال الإمام مالك " ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم " ومثله قال مجاهد والحكم بن عتيبة . [ انظر الموافقات للشاطبي 5/134 ] . ومع ذلك فإننا لو فرضنا جدلاً ، أن الشيخ سيد طنطاوي أعلم من في الأرض ، فهل ينكر فضيلته على من هو دونه في العلم والمشيخة أن يختار قولاً ومذهباً غير الذي يذهب إليه ؟ وهل يرى شيخ الأزهر ، أن نلغي كل المذاهب الإسلامية المشهورة التي يقلدها أكثر من مليار مسلم ، ونلزمهم بمذهب الطنطاوي ؟!
وهل هذا الإلــزام خاص بمسألة النقاب ، التي أقضت مضجع الشيــخ وأزعجته كل ذلك الإزعاج ، أم يســري ذلك على كل مسائل العلم ، في التفسير والحديث والفقه واللغة وغيرها ؟.

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

ونقول لشيخ الأزهر : هب أنك ترى أن النقاب حرام أو بدعة ولكن هناك فتيات ومعلمات أزهريات يرين أنه مستحب أو واجب ، قد تأسين بأمهات المؤمنين ، وبغيرهن من نساء السلف ، وظهر لهن أن هذا القول قد قال به فقهاء الأمة من أصحاب المذاهب الأربعة ، بل هو مجمع عليه من حيث الاستحباب ، مختلف فيه من حيث الوجوب . فهل يتركن ما يعتــقدنه حقاً ، لقولك ومذهبك ؟
ألست من البشر يا شيخ الأزهر، تخطئ وتصيب ، أم أنت معصوم عن الخطأ ؟
فإن كنت بشراً تصيب وتخطئ ، فما الذي يُلزم أولئك النساء أن يتبعن قولك ويتركن قول غيرك ؟
لو قالت لك تلك الفتاة : أنا مقلدة لمذهب الأحناف أو الشافعية ، أو غيرهما من المذاهب ، وقرأت في كتبهم أن غطاء الوجه إن لم يكن فريضة فهو سنة وفضيلة ، وأنا مقتنعة بما قالوه ، فهم أعلم منك في نظري ، فهل تجرؤ أن تقول لها إنك أعلم منهم ؟ أو تقول : دعي أقوالهم ومذاهبهم ، ولا تــقلدي أحداً غيري ؟
أصابت امرأة وأخطأ عمر
ذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً ..} الآية . النساء [ 20 ] .
أثراً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أراد أن يحدّ الصداق فلا يزاد على أربعمائة درهم ، فاعترضته امرأة واحتجت عليه بهذه الآية ، فقال عمر " اللهم غفراً ، كل الناس أفقه من عمر " ثم صعد المنبر ورجع عن قوله الأول .
قال ابن كثير " إسناده جيد قوي " .
قال سمير : انظر - وفقك الله – إلى فقه وأدب أمير المؤمنين عمر ، لم ينهرها ولم يعنفها ، ولا قال لها أنا أعلم منك ومن الذين خلفوك ، وما كان هذا أدب الأولين ولا خلق عباد الله الصالحين .
ووازن بين ما قاله عمر وبين ما قاله شيخ الأزهر ، لتعلم البون الشاسع بينهما ، في العلم والأدب والحكمة .
ثم إن الفتاة الأزهرية لم تعارض شيخ الأزهر في شيء ، ولم تجادله ، كما جادلت تلك المرأة عمر ، بل اختارت أن تستر وجهها عن شيخ الأزهر وهي إن كانت ترى وجوب ستر وجهها عن الرجال الأجانب فلها سلف من الصحابة والتابعين ، وهو مذهب مشهور .
وإن كانت ترى استحبابه ، فلها سلف من الصحابة والتابعين ، وهو مذهب الجمهور .
أما شيخ الأزهر فقوله لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا قول أحد من سلف الأمة ، وهو رأي شاذ مهجور .
ومن هنا يظهر أن طالبة الأزهر أفقه من شيخ الأزهر .

100% للطالبة الأزهرية

ومن أعجب ما قاله شيخ الأزهر ، حين سئل عن فضيحته ، قوله إن الفتاة تركت 99% من الأقوال ، وأخذت ب 1% فقط .
ولست أدري كيف أجريت حساب نسبة الأقوال في المسألة يا شيخ الأزهر ؟
هل أحصيت عدد القائلين من الصحابة والتابعين وسائر العلماء الأقدمين والمعاصرين ، ثم حصلت على هذه النتيجة ، أم هو ظن وتخمين ؟
ومنذ متى كانت المذاهب الإسلامية تحسب بالنسب المئوية ؟ لعل الشيخ مولع بنتائج الاختبارات المدرسية ، أو الانتخابات السياسية ، فأراد أن يوهم الناس أنه حاز على تلك النسبة المرتفعة جداً ، مقابل نسبة تلك الطالبة الأزهرية ، التي كانت متدنية ، فلم تتعد الواحد في المية ؟!
وقد تبين مما سبق أن النتيجة الحقيقية هي : أن تلك الطالبة الأزهرية حصلت على النسبة الكاملة ( 100% ) حين ارتدت النقاب ، فلا يوجد مذهب ولا قول ينهاها عن ذلك ، بل كلهم يوافقونها عليه ، وجوباً أو استحباباً ، أو حتى إباحة .
أما شيخ الأزهر ، فإنه للأسف الشديد لم يتحصل على أكثر من صفر ، لأنه لا أحد من الفقهاء ممن قوله معتبر ، يوافقه على إنكار التنقب والستر ، حتى لو فرض أنه عادة ، فهو من العادات التي لا تنكر !

شيخ الأزهر ضيق الصدر

المفروض في أهل العلم ، خاصة العلماء ، ومن يترأس المناصب العلمية الشرعية ، التحلي بحسن الخلق ، وسعة الصدر ، والحلم ، والرفق ، ولين الجانب .
والنصوص من القرآن والسنة في الحض على تلك الأخلاق الحميدة ، أشهر من أن تذكر ، ويكفينا من ذلك قول الله تعالى { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } وقال صلى الله عليه وسلم (( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً )) رواه الترمذي وأبو داود . جامع الأصول [ 4 / 5 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم (( إن الله رفيق يحب الرفق )) رواه مسلم وأبو داود . جامع الأصول [ 4 / 532 ] .
وشيخ الأزهر قد ضرب بكل تلك النصوص عرض الحائط ، وقسا على تلك الأزهرية ، مع أنها على حق ، ولم ترتكب أي خطأ ، بل هو الذي أخطأ في حقها ، وفي حق نفسه ، وفي حق الأزهر وأخطأ في حق الأمة الإسلامية ، حين سنّ لها تلك السنة الرزية .
لو فرض أن الشيخ قد رأى منكراً ظاهراً ، فإنه كان يلزمه أن يغيره بالرفق ، خاصة إذا كان مرتكب المنكر جاهلاً أو صغيراً في السن .
وقصة الأعرابي الذي بال في المسجد ، وهم به الصحابة ، فقال النبي صـلى الله عليه وسلم (( لا تزرموه )) أي لا تقطعوا عليه بوله ، ثم لما انتهى الأعرابي أمرهم بأن يطهروا المكان من النجاسة ، وقال لأصحابه (( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسِّرين )) رواه البخاري وغيره . انظر جامع الأصول [ 4 / 522 ] .
ولما تكلم معاوية بن الحكم السلمي في الصلاة ، وأنكر عليه الصحابة بأبصارهم ، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة ونبهه بكل رفق .
قال معاوية " فبأبي هو وأمي ، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني ، وإنما قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس .. " الحديث . رواه مسلم [ 537 ] .
فأين شيخ الأزهر من هذه الأخلاق النبوية ؟ أم إن تنقب الفتاة في رأي شيخ الأزهر أعظم جرماً من الكلام في الصلاة ومن بول الأعرابي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

لا إنكار في العادات

ثم إن شيخ الأزهر أتى بعجيبة أخرى ، حيث قال إن النقاب عادة وليس عبادة ، وأنه لا يمت إلى الإسلام بصلة ، لا من قريب ولا من بعيد .
وقد علمت أخي القارئ تهافت هذا القول ، بما نقلناه إليك من أقوال العلماء ، ومنهم فقهاء المذاهب الأربعة .
لكننا نتنزل مع فضيلته ونقول له : هب أن النقاب ، أو ستر الوجه عن الرجال الأجانب عادة لا عبادة ، وأنه لا يمت إلى الإسلام بصلة ، فهل أنت تنكر على من فعل عادة من العادات المباحة في ملبس أو مشرب أو في غير ذلك من شئون الحياة ؟
ولماذا لا تنكر على الفتيات السافرات الكاسيات العاريات ، وما أكثرهن في مصر وفي غير مصر ، أم إن الإنكار لا يجب إلا على الفتيات المنقبات فقط ؟
وهل كشف الفتاة شعرها ونحرها وأجزاء أخرى من جسدها ، مما هو مشهور في مصر ، يمت إلى الإسلام بصلة في رأي شيخ الأزهر ، فترك الإنكار عليه ، وصوبه إلى النقاب ، لأنه لا يمت إلى الإسلام بصلة ، لا من قريب ولا من بعيد ؟!
الإجماع منعقد على أن المرأة لا يحل لها كشف شعر ولا نحر ، ولا ساق ولا فخذ أمام الرجال الأجانب ، والخلاف إنما هو في الوجه والكفين ، هل يجوز كشفهما أم لا .
والإجماع منعقد على أن للمرأة أن تغطي وجهها وكفيها ، خارج الصلاة والإحرام ، وأن ذلك إما مستحب وإما واجب عليها .
فكيف يسوغ لشيخ الأزهر أن ينكر على من فعلت واجباً أو مستحباً ، ويترك الإنكار على من فعلت منكراً صريحاً ، أجمع الفقهاء على إنكاره ؟

تسامح شيخ الأزهر

كثيراً ما سمعنا فضيلة الشيخ سيد طنطاوي ، منذ أن كان مفتي مصر ، ينادي بالتسامح واللين وترك التطرف في الدين ، وينادي بالتقريب بين المذاهب والأديان .
وفضيلته على علم بما يفعله كثير من العوام عند الأضرحة والمشاهد في مصر ، من استغاثة بالأموات وذبح القرابين لهم ، ودعائهم من دون الله ، لكشف الضر وجلب الخير .
فهل دعاء الأموات وسؤالهم الحاجات والطواف بالأضرحة وذبح القرابين لها يمت إلى الإسلام بصلة من قريب أو بعيد ؟
وإن كان لا يمت إلى الإسلام بصلة ، فأين إنكارك للمنكر يا شيخ الأزهر ؟
وحانات مصر وملاهيها يحصل فيها من المنكرات ما لايخفى على رب الأرض والسموات .
فهل شرب الخمور ورقص العاريات وما يصاحبه من المنكرات ، مما يمت إلى الإسلام بصلة يا شيخ الأزهر ؟
وإذا وسع شيخ الأزهر السكوت عن شرك عُبّاد الأضرحة والقبور ، ووسعه السكوت عما يفعله أهل الخنا والفجور ، ووسعه السكوت عن دعاة العري والسفور ، فلماذا لم يسعه السكوت عن الفتيات المنقبات ذوات الخدور ؟
أين دعوى التسامح واللين وترك التشدد في الدين ، التي يدندن حولها الشيخ في كل حين ؟
لماذا نرى تسامح فضيلته ولطف معاملته مع كل طوائف المجتمع ، حتى مع اليهود والنصارى والمشركين ، ولا نراه مع المخالفين له في مسائل من فروع الدين ، مثل النقاب وغيره ؟ أم إن السماحة واللين مأمور بها فقط مع أعداء الـدين ، ومع المجاهرين بالمنكرات من المسلمين ، دون عباد الله الصالحين ؟
لعلكم سمعتم معي رد شيخ الأزهر على الكفرة الفجرة الذين شتموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف كان يتكلم عن تلك الجريمة الشنعاء التي اقشعرت لها الجلود والقلوب ، كان الشيخ في رده في غاية الهدوء واللطف والبرود ، حتى خشينا على الشيخ أن يذوب ، وكأنه يتحدث عن مسألة من صغار الذنوب ، لا من عظائم الخطوب !

{ لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم }

لا ريب أن هذه الحادثة كانت مصيبة وكارثة على المتنقبات في مصر ، ولا يبعد أن يتذرع بها أعداء الدين من الكفرة و الملحدين ، فيبالغوا في الإساءة إلى أخواتنا المؤمنات المهاجرات في بلاد الغرب ، محتجين بما فعله شيخ الأزهر بشأن النقاب ، فيمنعوا النقاب والحجاب ويفرضوا السفور على المؤمنات .
إني لأذكر تلك المصيبة التي حلت بأخواتنا في بعض بلاد الشرق ، قبل سنوات ، حين ذهب شيخ أزهري من الدعاة المعروفين ، وأنكر النقاب ، فصدر في البلاد مرسوم يمنع النقاب في الجامعة ، وشدد الخناق على أخواتنا المنقبات ، ولعل ذلك الداعية الأزهري المتسامح قد شفى صدره بما فعله ، حيث أشعل نار الفتنة التي لا تزال تكوى بها أخواتنا المتنقبات في تلك البلاد حتى الآن .
وهاهو شيخ الأزهر يكرر ما فعله ذلك الداعية المشهور ، ويعيدها جذعة ، ولكن الخطب هنا أشد ، لأن شيخ الأزهر أشهر من ذلك الداعية ، ومنصبه أكبر ، وقد أسرعت وزارة التعليم المصري بعد ذلك ، فأصدرت بياناً مفاده أنه سيتم تفعيل القرار الذي اتخذته الوزارة من قبل وأيدته المحكمة الدستورية أخيراً بمنع التلميذات والمعلمات من ارتداء النقاب داخل الصفوف .
والعجيب أن شيخ الأزهر وقبله ذلك الداعية الأزهري ، من أكثر دعاة التــسامح وترك التطرف ، وما أدري ما الذي دعاهما إلى التطرف والتشديد على المسلمات المنقبات ؟
ومع ذلك ، فإني أسأل الله تعالى وأرجوه أن يجعل من هذه المحنة منحة ، وأن يعقب هذه المصيبة خيراً ورحمة على الأمة ، وهذا ما عهدناه من سنن الله الكونية الشرعية .
لقد جعل الله من حادثة الإفك ، التي تولى كبرها رأس المنافقين ، خيراً ورحمة ، كما قال تعالى { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم } الآية .
وكل من أراد أن ينال من الإسلام والمسلمين ، ولو زعم أنه على الحق ، فإن الله تعالى سـيدحره وسينصر دينه ويعلي كلمته ، فإن كلمة الله هي العليا ، وستظل هي العليا أبد الآبدين .
{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } .

الخــاتمة

وبعد ، فإني أطلت كثيراً في بحثي هذا ، ولم يكن غرضي منه تفصيل حكم النقاب وذكر المذاهب فيه ، لأن المسألة قد أشبعت بحثاً وجدالاً من قديم الزمان ، والخلاف في المسألة يعد من خلاف الفروع ، ولم أرجح في بحثي هذا مذهباً على غيره ، والأمر فيها واسع .
وقد علمت أن حكمه يدور بين الوجوب والاستحباب .
وقد ذكر كثير من أهل العلم أنه إن خشيت الفتنة فإنه يلزمها ستروجهها عن الرجال الأجانب .
ولا ريب أن الفتنة الآن تكاد تكون متحققة ، إلا ما ندر . والله تعالى أعلم .
* وأوجه نصيحة إلى علماء المسلمين عامة ، وإلى شيخ الأزهر خاصة ، أقول لهم : اتقوا الله فيما تقولون وما تفعلون ، إنكم مسئولون يوم القيامة عما استرعاكم الله عليه من أمور الناس ، ولا تستنكفوا عن الرجوع إلى الحق ، فالحق قديم ، والحق أحق أن يتبع .
لقد كان علماء السلف ، ومنهم الأئمة الأربعة ، يرجعون عن أقوالهم إذا تبين لهم مخالفتها للدليل ، ومخالفتها لما هو أقوى منها ، ولهذا كان لهم مذهبان وقولان ، بل ربما كان لهم أقوال في المسألة الواحدة ، وقديم الشافعي وجديده أكبر شاهد على ذلك .
وأنتم تقولون القول ، تتمسكون به حتى الممات ، وكأنكم أعلم ممن سبقكم ممن مات .
هذا وأسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً لما يحبه ويرضاه من الأقوال والأفعال ، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، وآخر دعــوانا أن الحمـد لله رب العالمين .


وكتب / سمير بن خليل المالكي المكي الحسني
9 / 11 / 1430هـ
جوال 0591114011


 

سمير المالكي
  • الكتب والرسائل
  • الصفحة الرئيسية