اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/sharkawe/6.htm?print_it=1

يَا أُمَّه اصْبِرِي

أحمد محمد الشرقاوي
أستاذ الدراسات الإسلامية المشارك
بجامعة الأزهر - وكلية التربية عنيزة

 
لا يزال حديثُنا موصولا حول مآثر النساء التي تزخرُ بها كتبُ السنةِ، تلك النماذج المضيئةُ في تاريخِ الإنسانيةِ، والمناراتُ الساطعةُ في آفاقِ الدعوةِ، والصُّور المشرقةُ بالبذلِ والعطاءِ، والتضحيةِ والفداءِ في سبيلِ إعلاء كلمةِ الحقِّ.

وخطابنا موجَّهٌ عبر هذا الموقعِ العالمي الذي تقبلُ عليه أخواتُنا المؤمنات من شتى بقاع الأرض ينهلون من ينابيعه الفياضة، ويقتبسون من أنواره الساطعةِ، ويقتطفون من ثماره اليانعة، وأزاهيرِهِ الرائعة، بل إن موقعنا منارةُ هدى لكلِّ باحثةٍ عن الحقيقةِ، راغبةٍ في التمسكِ بالقيمِ الأصيلةِ والنهوضِ بالمرأةِ ومناصرةِ حقوقها .

ولقد أبرزت لنا السنةُ النبويةُ صوراً واقعيَّةً ونماذج إنسانيةً لنساءٍ مؤمناتٍ صالحاتٍ، عُنيت بالحديثِ عن تلك النجومِ العوالي؛ لتترسَّمَ المسلمةُ خُطاهن وتتنسم شذاهُنَّ؛ سيَّما في زمانٍ تُسَلَّطُ الأضواءُ فيه على نجومِ العفنِ الفنيِّ، فتروَّجُ أخبار العارضاتِ والفناناتِ عبر وسائلِ الأعلامِ؛ سعياً إلى تسويقِ تلك النماذج وتشويقِ الفتيانِ والفتياتِ ودفعهن إلى تلك النجوميةِ الآفلة والشهرةِ الماحلة:

يا دُرَّةً حُفِظَتْ بالأمسِ غاليةً *** واليومَ يبغُونها لِلَّـهوِ والطَّرَبِ
يا حُرَّةً قد أرادُوا جَعْلَهَا أَمَةً *** غَرْبِيَّةَ العَقْلِ، لكنْ اسمُها عربي!

لكننا اليوم نعيش مع نجمةٍ حقيقيةٍ من النجوم التي لا تَغْرُبُ عن عالم الطهر والفضيلةِ ولا تغيبُ عن علياء التضحية والفداء، مع أمٍّ صالحةٍ ناصحةٍ، لبَّت نداء الحقِّ واستجابت لدعوةِ الفطرةِ وانضمَّت لركبِ الإيمانِ في مواجهةِ جحافلِ الظلمِ وخفافيشِ الظلامِ وسدنةِ الكفرِ وحماةِ الضلالِ، من الذين يصدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، إنها تلك المرأةُ الصالحةُ التي جاءت في سياقِ قصةِ أصحابِ الأخدودِ...

لما ثبت الغلامُ على الحق وأمر الملكُ بقتله فلم يتمكن من ذلك، وباءت كلُّ محاولات قتل الغلام بالفشل، فقال الغلام للملك -كما جاء في صحيح مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه مرفوعا-: "... فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتّىَ تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَىَ جِذْعٍ، ثُمّ خُذْ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِي، ثُمّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمّ قُلْ: بِاسْمِ اللّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ، ثُمّ ارْمِنِي، فَإِنّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَىَ جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمّ قَالَ: بِاسْمِ اللّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السّهْمِ، فَمَاتَ، فقال النَّاسُ: آمَنّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، آمَنّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، آمَنّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النّاسُ فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّىَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ: يَا أُمَّه اصْبِرِي، فَإِنَّكِ عَلَىَ الْحَقِّ"[1]، لتلقيَ بنفسِها في نارِ الطغاةِ فتلحقَ بمن سبقها على هذا الدربِ، دربِ التضحيةِ والفداءِ، وتضربَ أروع الأمثلة في الصبر والثبات.

فتأمَّل في هذا الموقفِ الخالدِ والمشهد المهيب، لتلك الأم الرءوم الحنون التي ضحَّت بنفسها وبصغارها في سبيل الحق، بعد أن كادت تتقاعس، لولا أن ربط الله على قلبها وألهم طفلَها، هذه الكلماتِ المضيئةَ التي ألهبت حماسَها، إنه مثال رائع للأم الصالحة التي تتمسك بالحق وتُصِرُّ عليه مع حداثة عهدها بالإيمان لكنه إيمان راسخ كالجبال الراسيات، عذبٌ حلوٌ فُرات.

إن دربَ التضحية والفداء على مرِّ التاريخ، لم يكن قاصرًا على الرجال وحدهم، بل سبق فيه وسار على أشواكه وتجشَّم صعابه وتخطى عقباته نساءٌ كثيرٌ، سجلت لنا السنةُ النبوية كثيرًا من مواقفهن الرائعة؛ لتبقى تلك النماذج الإيمانية قدوةً للمؤمنين والمؤمنات.

أين هذه التضحية الكريمة من التضحيات الرخيصة المهينة التي تقع - في الأغلبِ - من داعيات تحريرِ المرأة: تُضَحِّي إحداهن بدينها وقِيَمِهَا من أجل تقاليدَ وافدةٍ، وأفكارٍ مستوردةٍ، وتصوراتٍ فاسدةٍ، تُضَحِّي إحداهُنَّ بالحجابِ الشرعيِّ حفاظاً على منصبٍ زائلٍ وَعَرَضٍ ماحلٍ! تُضَحِّي بأسرتها ومجتمعها ووطنها في سبيلِ تحقيقِ أهدافِ أعداءِ المرأة والإنسانيةِ!

تضحي برضا الله تعالى في سبيل إرضاء شياطين الإنس والجن، تلهث وراء الأضواء والأهواء تبتغي شهرةً زائفةً، تكافحُ لتُفسحَ لنفسها مكانا بين أدعياء التغرير! وصدق من قال:

قضى اللهُ ربُّ العالمين قضيةً ** بأن الهوى يَعْمِي القُلُوبَ ويُبْكِمُ
فيا أيها القلبُ الذي مَلَكَ الهوى** أعِنَّتـَه حَتَّـامَ هذا التَّلَـُّومُ !
وحتَّامَ لا تصحو وقد قرُبَ المَدى ** ودَقَّتْ كئوسُ السيرِ والناسُ نـُوَّمُ!
بلى سوف تصحُو حين ينكشفُ الغَطَا ** ويبدو لك الأمرُ الذي كنتَ تكتمُ
ويا موقدًا ناراً لغيرِكَ ضوؤُهَا ** وحرُّ لَظَاهَا بينَ جنبيكَ يضرِمُ
أهذا جنى العلمِ الذي قد غرستَهُ ** وهذا الذي كنتَ ترجوه وتعلمُ
وهذا هو الحظُّ الذي قد رضيتَهُ ** لنفسِكَ في الدارينِ لو كنتَ تفهمُ
وهذا هو الربحُ الذي كسبتَه ُ** لعمرُكَ لا ربحٌ ولا الأصلُ يسلَمُ
بخلتَ بشيء لا يضرُّكَ بذلُه ** وجُدْتَ بشيء مـثلُهُ لا يـقوَّمُ
وبـعتَ نعيماً لا انقضاءَ لهُ ** ببـخسٍ عن قليلٍ سَيُعْدَمُ
وتهدمُ ما تبني بكفَّيكَ جَاهِداً ** فأنت مدى الأيامِ تبني وتـهدمُ
وتزعُمُ مع هذا بأنَّكَ عارفٌ ** كذبتَ يقِيناً في الذي أنت تزعُمُ
وما أنتَ إلا جاهلٌ ثم ظالمٌ ** وإنَّكَ بينَ الجاهِلِـينَ مقدَّمُ.
 

أحمد الشرقاوي
  • بحوث ودراسات
  • مقالات ورسائل
  • قصص مؤثرة
  • الصفحة الرئيسية