اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/shaya/12.htm?print_it=1

من جوانب القدوة في حياة الجوهرة بنت عبدالرحمن
رثــاء وثـنــاء على شقيقتي الجوهرة

خالد بن عبدالرحمن الشايع

 
الحمد لله الحي القيوم ، وصلى الله وسلم على النبي الأمين والرسول الكريم محمد ، وعلى آله وصحبه والتابعين ، أما بعد :
فإنَّ الرَّاثين في رثائهم منظوماً ومنثوراً تتعدد مقاصدهم وتتنوع مشاعرهم ، وقد علم كل أناس مشربهم .

واليوم وأنا أحرر هذه الأسطر في فقد الشقيقة الكريمة والأخت الحبيبة أم مشعل الجوهرة ، دفينة مقبرة النسيم بالرياض ، والمتوفاة مبطونة عصر الأربعاء 25/4/1424هـ رحمها الله ، وجدتُنِي ملزماً بإذاعة محاسن أفعالها وكريم خصالها شهادةً لها بالخير ، ولا أزكيها على الله ، ولعله أن ينتفع به من يراه من الناس ، وخاصة بنات جنسها .

* أنتم شهداء الله في الأرض :
أحرر هذه الأسطر وأنا أستحضر البشارة النبوية العظيمة التي أرجو الله الكريم أن يهبها لأم مشعل ، ذلكم ما رواه البخاري رحمه الله عن أبي الأسود قال : قدمتُ المدينة وقد وقع بها مرض، فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فمرَّت بهم جنازة فأُثنِيَ على صاحبها خيراً، فقال عمر : وَجَبَت ، ثم مُرَّ بأخرى فأُثنِيَ على صاحبها خيراً ، فقال عمر : وجبت ، ثم مُرَّ بالثالثة فأُثنِيَ على صاحبها شراً ، فقال : وجبت ، فقال أبو الأسود : فقلت : وما وجبت يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت : كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة " فقلنا : وثلاثة ؟ قال : " وثلاثة " فقلنا : واثنان ؟ قال : " واثنان " ثم لم نسأله عن الواحد .
أقول : فدلَّ هذا على ما ينبغي من إشاعة مآثر الموتى وذكر محاسنهم .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : وهذا الحديث على عمومه ، وأن من مات من المسلمين فأَلْهَمَ الله تعالى الناس الثناء عليه بخير كان دليلاً على أنه من أهل الجنة ، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا ، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة ، وهذا إلهامٌ يُستدل به على تعيينها ، وبهذا تظهر فائدة الثناء ، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعا : " ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً إلا قال الله تعالى : قد قَبِلْتُ قولكم ، وغفرت له ما لا تعلمون " .

أما أم مشعل : فقد كانت خير من عرفت من النساء صلاحاً وأخلاقاً وطهراً وعفافاً وحشمة وبراً وتعبداً ، سليمة الصدر ، عَفَّة اللسان ، لازمة لبيتها ، طائعة لزوجها ، معتنية بأولادها ، تحسن ولا تسيء ، تحلم ولا تجهل ، تصل ولا تقطع ، تعطي ولا تمنع ، ستر وعفاف ، بر وإحسان . هكذا نحسبها ولا نزكيها على الله .
هذه الخصال الكريمة والصفات الشريفة لن يضيعها أكرم الأكرمين ، ولن يذهب جزاؤها عند أرحم الراحمين .

* قلب سليم :
قد علمت عن الجوهرة من فطرة التوحيد والتعظيم لله وخشيته والتوكل عليه والثقة به سبحانه خيراً كثيراً ، تهليل وتكبير ، تسبيح وتحميد ، ثناءٌ على الله بكل نعمة ، ورضىً عنه سبحانه في كل بلاء ، تأملت قدومها على الرب سبحانه وكأني أقرأ قوله جل وعلا : ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) ، أو كأني أقرأ بشارة المعصوم صلى الله عليه وسلم : " يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير " رواه مسلم ، قال الإمام النووي رحمه الله : قوله : " يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير " قيل : مثلها في رقتها وضعفها ، وقيل : في الخوف والهيبة ، وقيل : المراد متوكلون والله أعلم .

وكم كانت رحمتها وشفقتها على الصغار والمساكين واضحة وكبيرة ، فقد كانت تهتم وتغتم لما يبلغها من أخبار اليتامى وأنين الأيامى ، ويظهر لجليسها تألمها وأسفها لذلك ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " رواه البخاري .

* إحسان وكف للأذى :
كانت رحمها الله موصلةً للإحسان لكل من تلتقي به ، تدعوه إلى الخير وتوصيه بالبر وتحثه على الصلاح ، إحسانها للأطفال كما هو للكبار ، لم أحفظ يوماً أنها رفعت صوتها على أحد ، بل ما أظنها تحسن ذلك ، لا أعلم أنها أساءت لأحد بفعل ولا بقول ، حتى ولو نيل منها ، وإني إذا تأملت سيرتها في هذا الباب لأتذكر ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " فلسانها قد كفَّته عن الحديث في الآخرين إلا بالخير ، ولا تتدخل فيما لا يعنيها إلا على وجه البر والإصلاح .

وقد كنت أتعجب كثيراً مما كانت فيه من سلامة الصدر ، فلا تعرف حقداً ولا كرهاً ولا حسداً ، أتذكر منها هذه الخصلة وأنا أدعو الله أن يجعلها مع من قال فيهم : ( ونزعنا ما في صدورهم من غِلّ ) .

* صلاة وذكر لله وتعبد :
أما محبة الجوهرة للصلاة والتعبد فلا أزكيها على الله ، لكنها كانت ما أن تسمع نداء الصلاة وما أن تعلم بوجوب الوقت إلا وتبادر لمصلاها ، قلبها معلق بالصلاة في كل لحظة ، ما أن يحل وقت إلا وتنتظر الذي بعده ، وإني لأرجو الله لها ظل عرشه جل وعلا ، فقد جاء في وصف السبعة الذين يظلهم الله في ظله : " ورجل قلبه معلق في المساجد " .

قال الحافظ ابن حجر : قوله معلق في المساجد " ظاهره أنه من التعليق ، كأنه شبهه بالشيء المعلق في المسجد ، كالقنديل مثلاً ،إشارة إلى طول الملازمة بقلبه ، وأن كان جسده خارجاً عنه ، ويدل عليه رواية الجوزقي : " كأنما قلبه معلق في المسجد " ويحتمل أن يكون من العلاقة ، وهي شدة الحب ويدل عليه رواية أحمد " معلق بالمساجد " ، وكذا رواية سلمان " من حبها " انتهى .
والمرأة حكمها في هذا من جهة تعلق قلبها بالصلاة التي بنيت المساجد من أجلها .
وكانت لدى زيارتها لنا في رمضان أرى حرصها الكبير على حضور صلاة التراويح والقيام .
وهكذا حرصها على شعائر التعبد الأخرى من صيام وصدقة وصلة وبر بوالدتها وإحسان لإخوانها وأخواتها ، حتى صارت عندهم بالمقام الأسنى ومحل الرضا .

وهكذا كثرة ذكر الله ، فلا أعلم أني التقيت بها إلا وهي تلهج بذكر الله وحمده وشكره ، إن علمت بإنعام الله على أحد حمدت الله وشكرته ودعت لهم بالمزيد ، وفرحت لهم بالخير ، ولا علمت ببلاء نزل بأحد إلا توجعت لهم ، وسألت الله لهم العافية .
هكذا ملازمتها لسماع إذاعة القرآن الكريم ، وكم كانت تخبرني بمتابعتها لما لي في الإذاعة من أحاديث وبرامج ، وتعرب لي من سعادتها بما سمعت مني ومن غيري ، وتدعو لأهل العلم أن يحفظهم الله ويكثرهم .

* حياء وحشمة :
أما حياء الجوهرة فلا مزيد عليه ، فهي كما في المثل الأكمل لحياء النساء ، فهي كالعذراء في خدرها، لا تعرف سفاسف الأمور أقوالها وأفعالها، وكان يعرف الحياء في وجهها إذا كرهت شيئاً أو أخجلها، كانت إذا التقت بمحارمها تسارقهم النظر وترمي ببصرها إلى الأرض لشدة حيائها، هذا مع محارمها فكيف بغيرهم، لا صوت مرتفع ، ولا قليل ولا كثير من الكلام مع الأجانب، قاصرة لطرفها ، فالله المسئول سبحانه أن يجعلها من قال فيهم : ( قاصرات الطرف ) .
وكانت تتجنب كل مظاهر الخلوة ، حتى ما كانت تذهب في السيارة إلا مع زوجها ، أو مع ابن أخيه ووجود ابنها محرم لها .
وأما لباسها فهو لباس الحشمة وكساء الفضيلة ، لا تبرج ولا سفور ، ولا سفه و إسقاطات ، لم تكن تجاري أترابها من النساء فيما يتوسعن فيه من الملابس والزينة ، لا تقدم على شيء حتى تعلم حِلَّه أو حرمته ، وكثيراً ما كانت تسألني عن الحكم الشرعي لما تريد فعله ، كل ذلك حرصاً على رضى ربها وتجنب سخطه ، ولا أزكيها على الله . ولكني أرجو لها البشارة الكريمة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال : " الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنة " رواه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان .

* أخلاق عالية :
كم عجبت وفي مرات عديدة من أخلاق الجوهرة العالية وشمائلها الكريمة ، حاولت أن أتذكر لها موقفاً خرجت فيه عما ينبغي فلم أذكر ، تبادر من قابلها بالبشر والحفاوة والتبسم ، تسأل عن الأحوال للصغار والكبار ، وتدعو للجميع بالخير والتوفيق .
لا أذكر أني قابلتها أول ما أقابلها إلا وتنهض من مكانها ، وتبادر بالسلام والسؤال ، وتعمد إلى تقبيل رأسي برغم أني أصغر منها ، ثم تشرع في السؤال عن الجميع ، وكثيراً ما كانت تقول لدى اجتماع الأسرة والأقارب : ( يا الله جمع الجنة ) فنسأل الكريم أن لا يخيب رجاءها .

أما تواضعها وحسن معشرها فلا أعرف لها مثيلاً ، إذا جلست مع أحد فكأنما يظن أن له عليها فضلاً لفرط تواضعها ودماثة أخلاقها .

اليوم والجوهرة في منقلبها إلى الرحمن الرحيم نرجو لها ذلكم الموعود الكريم لأهل الخلق الحسن ، أليس نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو القائل : " ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن " رواه أحمد وأبو داود والترمذي .

* أمر بالمعروف ودعوة إلى الله :
لم تكن الجوهرة ضليعة في العلم ولا متعمقة فيه ، لكنها كانت عالمة بما أحله الله وحرمه وفق ما في الحديث الصحيح : " الحلال بينٌ ، والحرام بين " ووفق ذلك كانت تدعو وفق استطاعتها وبقدر علمها ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالرفق والكلام اللبق ، لا تواجه أحداً بالغلظة ، ولا تعنفه بالشدة ، بل إنها لا تعرف لذلك سبيلاً ، ولكنها كانت تكني وتعرض ولا تصرح ، ما بال فلانة كذا وكذا ، هذا لا يليق ، هذا عيب ، هذا لا يرضي الله ولا رسوله ، الله يهدينا لطاعته ، الله لا يسخط علينا .

كانت رحمها الله بسيرتها الحميدة وتعاملها الكريم أنموذجاً للمرأة الصالحة في نفسها ، المهتمة بأحوال إخوانها أهل الإسلام من المسلمين والمسلمات ، لا تلوي على إثم ، ولا تخطط لقطيعة ، بل تبادر بالخير وتسابق للوصل .

* الاهتمام بالزوج والأولاد :
من الخصال الطيبة والصفات الكريمة ما كنت أعلمه عن شقيقتي من اهتمام بزوجها وحرص على رضاه ، حتى إنها كانت لا تذهب من بيت شقيق من أشقائها إلى بيت شقيقها الآخر والبيتان متجاوران إلا بعد استئذانه ، وكانت تستشعر الحق الكبير للزوج فتلتزمه راضية بذلك مغتبطة ، ومما علمته عنها ما كانت تحرص عليه من البر بوالدة زوجها والإحسان إلى أهله طلباً لرضاه ، فأسأل الله أن يبلغها بشارة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ، وحفظت فرجها ، وأطاعت زوجها ، قيل لها : أُدخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت " رواه أحمد وصححه ابن حبان .

وهكذا عنايتها بأولادها كنت كثيراً ما أسمعها تحببهم في دين الله وفي مكارم الأخلاق ، وترغبهم في الصلاة وتحضهم على الاقتداء بالأخيار ، ولا أحفظ أنها يوماً دعت على أحد من أولادها كما هي عادة النساء ، بل تنهى عن ذلك وتنكره ، وكانت تتابعهم في كل حين في ذهابهم وإيابهم ، في مصبَّحهم ومُمَسَّاهم ، في نومهم ويقضتهم وتكثر الدعاء لهم بالتوفيق والصلاح ، وكانت لها العناية بلبسهم ونظافتهم وتمشيط شعور بناتها ، ولا أذكر أني رأيت أحداً من أولادها على هيئة غير حسنة ، وكانت في حنوها على أولادها عادلة لا تفرق بينهم ، وكل ذلك له دلالاته في سمو نفس هذه الأم وتميزها ورعايتها لمسئولياتها ، وذلك لا يضيعه الربُّ الرحيم .

* عزاء ومبشرات :
إن فقد الحبيب القريب له في النفس لوعة وفي الروح وحشة والكبد كمد ، لكننا مع ذلك لا نملك إلا الرضى عن الرب الكريم والتسليم لكل قضائه ، ونحن نوقن أن انتقال أحبابنا إلى من هو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم ، ومما نستبشر به في فقيدتنا الجوهرة أنها لدى موتها ظهر لها ما نرجو أن يكون دلالة على حسن خاتمتها بمن الله وكرمه .

ومن ذلك : أنها ماتت مبطونة ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المبطون شهيد " وهو من يموت بداء البطن .

ـ ومن ذلك : أنها ماتت أثناء حملها ، وقد رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والمرأة تموت بجمع شهيدة " رواه أبو داود وغيره ، قيل في معناه : إذا ماتت من النفاس فهي شهيدة ، سواء ألقت ولدها أو مات وهو في بطنها .

ـ ومن ذلك أيضاً : أني رأيتها عقيب وفاتها مشرقة الوجه ، طلقة المحيا كما كانت في حياتها ، يعلو وجهها تبسُّمٌ مفرح ، ولدى تغسيل المغسِّلات لها كانت رحمها الله لا تزال مشيرةَ بسبابتها بتوحيد الله ، وقد ثبت في المسند وسنن أبي داود أن رسول الله قال : " من كان آخر كلامه : لا إله إلا الله ؛ دخل الجنة " .

ـ ومن العزاء والمبشرات : ذلك الجمع الكريم والعدد الكبير من المصلين والمشيعين الذين حفل بهم الجامع وفي المقبرة ، وهكذا الداعون والمثنون بالخير من الرجال والنساء ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله أنه قال : " ما من رجل مسلم يموت ، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفَّعهم الله فيه " .

ذلكم هو قدوم الجوهرة على أرحم الراحمين ، نرجو لها رحمته جل وعلا ، وأن ينزلها في عليين ، وأن يحفظها في ذريتها .
وتلكم هي الجوهرة ، جوهرة الطهر والعفة والاستقامة منذ نعومة أظفارها ، ذكرت بعض الجوانب المضيئة في حياتها فتاة مسلمة وامرأة مؤمنة ، وما تركته كثيرٌ وكثير ، وأرجو أن يكون فيها للنساء المؤمنات والفتيات المسلمات الأسوة الطيبة والقدوة الخيِّرة ، فيما كانت عليه من الأخلاق الكريمة والسيرة الحميدة ، فلن يذكر المرء ولن يعرف إلا بما سار عليه وبما تخلق به ، ولن يضيع الله أجر المحسنين .

اللهم اغفر للجوهرة أم مشعل وارفع درجاتها في المهديين ، واخلفها في عقبها في الغابرين ، واغفر لنا ولها يا رب العالمين ، وأفسح لها في قبرها ونور لها فيه . وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

Khalidshaya@hotmail.com 


* نشر في بعض المجلات والمنتديات .
 

خالد الشايع
  • الدفاع والنصرة
  • مقالات دعوية
  • شئون المرأة
  • أخلاقيات الطب
  • بر الوالدين
  • ردود وتعقيبات
  • بصائر رمضانية
  • الصفحة الرئيسية