اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/shiddy/14.htm?print_it=1

محاضرة
سبحانك ما أعظمك

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد  

فيصل بن عبدالرحمن الشدي

 
الحمد لله أبداً سرمدا، ولا نشرك معه أحد، تبارك فردا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا شريكا ولا عضدا، الحمد لله على نعمته، الحمد لله على منته، الحمد لله على حكمته، الحمد لله تلألأت بأجل المحامد أسماؤه، وتوالت بأسنى الهبات آلاؤه وتواترت بأبرك الخيرات نعماؤه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق العلي الكبير، تعالى في إلهيته وربوبيته على الشريك والوزير،وتقدس في أحديته وصمديته عن الصاحبة والولد والولي والنصير، وجل في بقاه وديمومته وغناه وقيمومته عن المطعم والمجير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله السراج المنير، والبشير النذير أعظم رجل عظّم الله، وقدّس الله، وأجلّ الله، وأكبر الله، وهاب الله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين عظّموا الله.
الله أهل العظمة والكبرياء.. الله تفرد بالبقاء.. وجل عن الشركاء.. وأبدع كل شيء كما يشاء.
الله أهل العظمة والكبرياء.. الله أهل التسبيح والتحميد والتمجيد والتقديس والثناء.
سبحانه ما أعظم شانه.. سبحانه ما أدوم سلطانه.. سبحانه ما أوسع غفرانه.. سبحانه سبحت له السموات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها والأرض وسكانها، والبحور حيتانها، والسادات وعبيدها، والأمطار ورعودها، والأشجار وثمارها، والديار وأطلالها "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ"
سبحانك كل معترف بجودك، فإنك لفطرته خالق، ولفاقته رازق، وبناصيته آخذ، وبعفوك من عقابك عائذ، وبرضاك من سخطك لائذ، إلا الذين حقت عليهم كلمة العذاب.. فالقضاء فيهم نافذ.. ووالله ورب الكعبة لو سبحانك ليلاً ونهاراً وسرا جهارا ما بلغنا حقك وعظمتك ومجدك وكبريائك مثقال ذرة.
"فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"

سبحان من هو لا يزال مسبّحاً *** أبداً وليس لغيره السبحان
سبحان من لاشيء يحجب علمه *** فالسر أجمع عنده إعلان
سبحان من تجري قضاياه على *** ما شاء منها غائب وعيان
سبحان من هو لا يزال ورزقه **** للعالمين به عليه ضمان
سبحان من في ذكره طرق الرضى *** منه وفيه الروح والريحان

لماذا الحديث عن الله أهل العظمة والكبرياء؟ لأن الحديث عنه أعظم كلام، وأجمع كلام، وأحلى كلام، لماذا الحديث عن الله؟ لأن القرآن كله جاء في الحديث عنه في عظمته في خلقه في أمره في نهييه في قضائه في تصريفه في تدبيره.
لماذا الحديث عن عظمة الله؟ لأن عظمة العظيم العزيز الجبار ضعفت في قلوب كثير من البشر، فاعتدوا على محارم الله وطغوا، وفرطوا في جنب الله وبغوا، فضعفت في قلوبهم هيبة الله، وتناسوا سطوة الله، وتغافلوا عن جبروت الله، وما قدروا قوة الله وبطش الله، فها نحن اليوم نتكلم عنه والحياء يملأ وجوهنا، والخجل يعم قلوبنا، فمن نحن حتى نمدحه أو نمجده أو نثني عليه لكن نقدم العذر بين يديه أننا لا نستطيع أن نتكلم عن كل عظمته أو نحيط بها قدراً وعلماً، لكن حديثنا اليوم ما هو إلا ذرة في عظمته، وبيانا لهمسته من جلالته وهيبته.

الله أحق من مدح وأجل من ذكر وأعظم من عُبد:
"وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ..."
فهذا الكون كله جباله ووديانه، صحراؤه وبحاره، كل هذا الكون إنما هو على أصابع القوي القهار يوم القيامة. ومن عظمته ما ورد في بعض الآثار الإسرائيلية يقول عز وجل: "أيؤمل للشدائد غيري والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم؟ ويرجى غيري ويطرق بابه بالبكرات، وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ ومن ذا الذي أمّلني لنائبة فقطعت به؟ أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه؟ أو من ذا الذي طرق بابي فلم أفتح له؟ أنا غاية الآمال، فكيف تنقطع الآمال دوني؟ أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟ أليست الدنيا والآخرة، والكرم والفضل كله لي؟ فما يمنع المؤملين أن يؤملوني؟ لو جمعت أهل السموات والأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلّغت كل واحد منهم أمله، لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، كيف ينقص ملك أنا قيّمه؟ فيا بؤساً للقانطين من رحمتي ويا بؤساً لمن عصاني، وتوثب على محارمي.

عظمة علم الله:
الله أكبر إذا كانت هذه المواهب والقدرات والفهوم والعقول هي خلق من خلقه، ورزق من رزقه فكيف بقدرة مانحها؟ وعلم معطيها؟ وعظمة واهبها.
علمه سبحانه علم من اطلع على السرائر، وكشف ما في الضمائر، وأحاط بالأول والآخر، والباطن والظاهر.. "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ".
سبحانه علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون،سبحانه الورقة تسقط بعلمه، الهمسة تنبس بعلمه، الكلمة تقال بعلمه، النية تعقد بعلمه، والقطرة تنزل بعلمه، والخطوة تنقل بعلمه، جاءت خولة بنت ثعلبة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها، تُسرّ إليه بحديثها وعائشة في ناحية الغرفة ما تسمع حديثها، وينزّل الله على رسوله "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ"، فماذا أمام عائشة أن تقول إلا: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات.
أرسل موسى إلى فرعون فشكا له موسى جبروت فرعون، وظلمه وبطشه فقال الله "إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى". بات نفر من المنافقين يحيكون الدسائس للمسلمين فأنزل الله "يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً".

عظمته في كمال قهره وعزه وجبروته:
سبحان الله من سجد لعظمته العظماء، ووجل من خشيته الأقوياء، وقامت بقدرته الأرض والسماء، يا الله أي عظمة تلك في ملائكته، وأي خلقة تلك خلقتهم، جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أُذن لي أن أتحدث عن ملك من ملائكة العرش قرناه عند عرش الرحمن، ورجلاه تخطان في الأرض السابعة، وما بين أذنه ومنكبه مسيرة سبعمائة عام".
يا الله هذا ملك من ملائكته عبد من عبيده فكيف بمالك الملائكة؟ جاء في الحديث: "خلق الله الملائكة أصنافاً وإن منهم لملائكة قياماً صافّين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة ركوعاً خشوعاً من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجوداً منذ خلقهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلّى الله تبارك وتعالى، ونظروا إلى وجه الكريم، قال سبحانك ما عبدناك حق عبادتك".
وأي شيء تلك هي جهنم تجر يوم القيامة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، ما أعظم شفيرها وما أبعد قعرها وما أعظم خلقها، وما أشد بأسها "تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ" ومع هذا كله أي شيء هو خوفها من ربها، له خاضعة وبين يديه طائعة، في الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تزال جهنم تقول هل من مزيد ؟! حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قط قط، وعزّتك، ويزوي بعضها إلى بعض".
يا سبحانه ما أعظمه شديد القهر، عليّ القدر، المتكبر، "إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ"، "إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ" من الذي أرغم أنوف الطغاة عداه، ومن الذي خفض رؤوس الظلمة سواه، أهلك الفراعنة، وكسر الأكاسرة، وقصر الأقاصرة، ومزق الجبابرة، شمخت عاد واستكبرت، واغترت وعلى العظيم تألّت، وقالوا من أشد منا قوة فأجابهم الله قولاً وفعلاً: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ".

نافع مانع قوي شديد *** قاصم ظهر كل باغٍ وعات
كم تألّى ذوو عناد وكفر *** فاستحالت عروشهم خاويات
كم أتى بطشه فأردى شعوباً *** لاهيات في دورها آمنات
وله الكبرياء هل من ولي *** غيره قد أباد كل الولاة


صمدية الله:
"قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ"
الله صمد تقصده الملوك إذا اضطربت الأمور، ووقع المحذور، وضاقت بالحوادث الصدور.
الله صمد ترتفع إليه أكف الضارعين تطلبه الغيث إذا تأخر نزوله، وتسأله الرزق إذا أبطأ حلوله، وترجوه رفع الضر إذا خيّم بظلاله، ومن للمبتلي إذا اشتدت بليته وأدلهمت كربته، وانعقدت غمته، من له غير الصمد يصمد إليه، من له غير الصمد يشكو إليه، من له غير الصمد يفضي إليه، من للمريض على فراشه إذا بارت الحيل، وانقطعت السبل، وضعف الأمل، وعم القلب الوجل، وقال الطبيب لا مفر قد حان الأجل، من له عندها إلا العظيم الصمد، صمد إليه وبكى بين يديه، وألح عليه، فإذا بالصمد يشافيه، ومن المرض يعافيه، وصدق وربي صدق يوم أن قال: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" "أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ".
الله صمد يصمد إليه الفقير إذا أوصدت أمامه الأبواب، وأسدل دون حاجته الحجاب، وألصق بطنه بالتراب، فيأتي الفرج من الصمد، ويأتي المخرج من الصمد، فيكتب غناه بقلم القدر، ويغنيه عن كل البشر، "وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ".

صمد تصمد البرايا إليه *** وأنيس الضمائر الموحشات
خالق رازق سميع مجيب *** ويداه تفيض بالأعطيات


عظمته في خلق الموت:
الموت مخلوق عجيب، شجاع يتسلق الجدران، ويصعد الحيطان، لا يُحتمى منه بقلاع، ولا يُمتنع منه بحصون، "أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ"، زائر لا يستأذن، وليس له وقت معلوم، يدلف في السحر، ويقدم في الظهيرة، لا يرجئ الجائع حتى يشبع، ولا الظامئ حتى يروى، ولا النائم حتى يستيقظ، ولا المسافر حتى يقيم، "فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ" يصيّر الأفراح أتراحاً، والأنس حزناً، إذا اجتمع الوالد بولده وأنست الأم بأبنائها وطاب اللقاء وحصل الوصال إذا بالموت يدخل فجاءة! فيأخذ الأب، ويلتقم الأم، ويحمل الابن ليضعه في حفرة الموت، يأخذ الطفل وفمه في ثدي أمه، تصيح الأم، ينوح الأب، فلا يقف ولا يرجع، يحوز المرء المال فيفرح بتجارته، ويعدد ماله، ظن أن ماله أخلده، فإذا بالموت يضع خده على التراب، وينثر دنانيره، ويمزق أكياسه. إذا استوى الشاب على سوقه، وصلب عوده، وقوي متنه، واهتزت كتفاه، وترنح عطفاه، طرحه الموت أرضاً، هذا هو الموت لا يستحي، ولا من أحد يرعوي، "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ"، احتمى الملوك بالجنود فنجو إلا من الموت، "حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ"، يموت الكل إلا واحد، ويذهب الجميع إلا واحد، نعم، إنه الواحد الأحد أوجد الفناء، ليرث أهل الأرض والسماء، ولا يخلق الموت إلا عظيم ولا عظيم حق إلا العظيم سبحانه، "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".

عظمة لا إله إلا الله:
هي البداية والنهاية، هي قصة الحياة، وحديث العمر، لا إله إلا الله لها في القلوب هيبة، وفي النفوس جلال، تفتح بها أبواب علاّم الغيوب، وتغفر بها الذنوب، وتلين عند ذكرها القلوب، إذا قال العبد في الأرض: لا إله إلا الله، قال الله في السماء: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، هي فطرة الله التي فطر الناس عليها.
لا إله إلا الله، من أجلها قام سوق الجنة وسوق النار، وبسببها مد الصراط، وتطايرت الصحف، ووضع الميزان، ورفع علم الجهاد، وسقطت جماجم الأبطال، وطارت أرواح الشهداء، ولذّ طعم الموت.
لا إله إلا الله، لو هبطت على جبل لتصدع، ولو نزلت على صخر لتفجع، خير ما قال الأحياء، وأحسن ما ذهب به الأموات.
لا إله إلا الله، جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم فصدقها أبو بكر ليكون صدّيق الأمة، وأيقن بها ليرجح إيمانه بإيمان الأمة كلها، واهتز لها قلب عمر فاهتزت الدنيا بيقينه، وأنصتت المعمورة لصوته، وذاقها عثمان فأنفق من أجلها طارفه وتليده، وتعلمها علي فلبس قميص يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وبآثارها غُسِّل حنظلة بين السماء والأرض، ولأجلها قال أنس إني لأجد ريح الجنة من دون أُحد، ولها أنشد جعفر يا حبذا الجنة واقترابها.
لا إله إلا الله، نافية للشركاء، مثبتة للإلوهية والعبودية لفاطر الأرض والسماء، قال موسى : "يا رب علمني دعاءًا أدعوك به وأناجيك. قال: يا موسى قل لا إله إلا الله، قال موسى: كل الناس يقولون لا إله إلا الله، قال: يا موسى لو أن السموات السبع والأرضين في كفّة، ولا إله إلا الله في كفّة، لمالت بهن لا إله إلا الله"، وروى الترمذي والنسائي وأحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً مثل مدّ البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ قال: فإنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفّة والبطاقة في كفّة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء".

إشارات تدل على عظمة الله:
"قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ".

ويا عجباً كيف يُعصى الإله *** بل كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

إذا سكن الليل، وهدأت العيون، وغارت النجوم، ذكرنا عظمة الله، "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ".
إذا بزغ الفجر وسطع الضياء، وأشرقت الشمس ذكرنا عظمة الله، "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ".
إذا رأينا الجبال الشاهقة، والأعلام الشامخة، ذكرنا عظمة الله، "وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ".
إذا رأينا مملكة النحل وإبداعها، ومجموعات النمل وأنواعها، وكل ما خلق الله من مخلوقات عجيب، وحيوانات بديعة وهوام ودواب وفراش وزواحف وطيور وسباع وغيرها، ذكرنا عظمة الله.

تأمل سطور الكائنات فإنها *** من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خطّ فيها لو تأملت خطها *** ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها *** فصامتها يهدي ومن هو قائل

انظر إلى السماء وهيبتها، والنجوم وفتنتها، والشمس وحسنها، والكواكب وروعتها، والبدر وإشراقه، والفضاء برحابته، لترى ورب الكعبة جمالاً لا ينفد، وحسناً لا ينتهي، "فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ".
بل انظر إلى نفسك التي بين جنبيك،فيا سبحان من خلقك، وعلى ما شاء شكلك، وأسمعك وأبصرك، وأضحكك وأبكاك، وأضعفك وقواك، وأصبحك وأمساك، "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ".

كيف عظّموا الله؟!:
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا بأكثر الناس صلاة ولا صياماً ولا حجّاً ولا اعتماراً، لكنهم عقلوا عن الله مواعظاً، فوجلت منه قلوبهم، واطمأنت إليه نفوسهم، وخشعت له جوارحهم، فقاموا في الناس بطيب المنزلة، وعلو الدرجة عند الناس في الدنيا، وعند الله في الآخرة.
نعم، هذا هم السلف لهم في جانب التعظيم أخبار وأخبار، أخمصوا البطون عن المطاعم الحرام تعظيماً لله، وأغمضوا الجفون عن مناظر الآثام تعظيماً لله، واجتنبوا قبائح الأفعال والكلام تعظيماً لله، فلله هم، فلله حياتهم، فلله هيبتهم من ربهم.
هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه الرجل الأسيف البكّاء، سبق الأمة بإيمان عميق، وتصديق وثيق، لما حضرته الوفاة قالوا له: ألا ندعوا لك طبيباً؟ قال: إن الطبيب قد رآني، فقال: إني فعّال لما أريد.
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي وجهه خطّان أسودان من كثرة البكاء، عند وفاته يقول لابنه عبدالله: يا بني ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني، ثم قال بل ويل أمي إن لم يغفر لي، ويل أمي إن لم يغفر لي.
وهذا سفيان الثوري رحمه الله طاف بالبيت الحرام، وصلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه فنظر إلى السماء فوقع مغشيّاً عليه خوفاً وخشيةً وإجلالاً ومهابةً لله، وكان شديد التفكر في عظمة الله وقدرته.
هذا بلال بن رباح يوم أن عَمَر فؤاده بجلال الله، وعظمة الله، هان لديه كل عظيم.. يوضع في رمضاء مكة الحارقة، توضع الصخور الكبيرة على صدره وهو يهتف بنداء التعظيم أحد.. أحد.
وهذا محارب بن دثار يقول أحد جيرانه: كنا إذا أظلم الليل، ونامت العيون، نسمع محارب بن دثار وهو يدعو ويرجو ويهتف ويبكي في ظلمة الليل، وهو يقول: يا الله أنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد، أنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، أنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، أنا الغريب الذي وصيته فلك الحمد، أنا العاري الذي كسوته فلك الحمد، أنا الراجل الذي حملته فلك الحمد، أنا المريض الذي شفيته فلك الحمد، أنا السائل الذي أعطيته فلك الحمد، أنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد، فلك الحمد ربنا حمداً كثيراً على حمدٍ لك.
وهذا عبدالرحمن بن يزيد قال: قلت ليزيد بن مرثد: ما لي أرى عينك لا تجف من البكاء؟ قال يزيد: إن الله عز وجل توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو توعدني أن يسجنني في الحمام كنت حريّاً أن لا يجف لي دمع.

عظمة رحمته وجوده وعفوه:
الله أرحم الراحمين، يعرض رحمته جلّ في علاه على عباده، ويحذرهم من القنوط منها: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ".
ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل وينادي: هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه.
غفر سبحانه لامرأة بغي من بني إسرائيل لما سقت كلباً يلهث من شدة العطش، وغفر لمن تاب بعدما قتل مائة نفس بغير حق لما علم صدق توجهه، وشكر لرجل وغفر لأنه أزاح غصن شجرة عن طريق الناس، وهو الذي قال وأثبت عن نفسه: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ".
وكان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يقول: اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك، فإن رحمتك أهل أن تبلغني، ورحمتك وسعت كل شيء، وأنا شيء فتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين.
ولما خلق الخلق كتب في كتاب هو عنده فوق العرش "إن رحمتي تغلب غضبي".
روي أن أحد العابدين العارفين حدثت منه بعض الذنوب، فخرج هائماً على وجهه مهموماً حزيناً فرأى في أحد الطرق باباً قد فُتِح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكراً، فلم يجد مأوى غير البيت الذي أُخرج منه، ولا من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مغلقاً، فتوسد عتبة الباب ووضع خدّه عليها ونام، فخرجت أمّه، فلما رأته على تلك الحال، لم تملك أن رمت نفسها عليه، وإلتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي، أين تذهب عني؟ ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلتُ عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت.
قارن هذا الحدث ورحمة الأم تلك بقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "لله أرحم بعباد من الوالدة بولدها"، وما هو الظن عمن هو أرحم بعبده من الوالدة بولدها؟ ما هو الظن إذا فرّ العبد إليه؟ وألقى نفسه طريحاً ببابه، يمرغ خده في ثرى أعتابه، باكياً بين يديه، يقول: يا رب يا رب، ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك، وسائلك ومؤملك ومرجيك، لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك، أنت معاذه وبك ملاذه.

يا من ألوذ به فيما أؤمله *** ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره *** ولا يهيضون عظماً أنت جابره


عظمته في إجابة الدعاء:
"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ".
الله أكبر إذا سألك الناس عن ربهم وخالقهم ومليكهم، فأخبرهم أنه قريب سميع مجيب، من دعاه لباه، ومن سأله أعطاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن ركن إليه قوّاه، ومن اعتزّ به قرّبه واجتباه، عرفه الأعرابي في فلاته، والسجين في زنزانته، والمبيتلى في بليته، والمكروب في كربته، والفقير في مسألته، والجائع في جوعته، والمظلوم في مظلمته، كل هؤلاء وغيرهم رفعوا إليه أكف الضراعة فإذا بالمجيب يسمع ويرى، ويأتي بالجواب "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ".

يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم *** يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا *** وأنت عينك يا قيوم لم تنم
هب لي بجودك فضل العفو عن جرمي *** يا من إليه أشار الخلق في الحرم
إن كان عفوك لا يدركه ذو سرف *** فمن يجود على العاصين بالكرم

هذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يكنّى أبا معلق، وكان تاجراً يتّجر بماله، ويضرب به الآفاق، وكان ناسكاً ورعاً، فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح، فقال له ضع ما معك فإني قاتلك،قال: ما تريد من دمي؟! شأنك بالمال، قال: أما المال فلي، ولست أريد إلا دمك، قال: أما إذ أبيت فذرني أصلّ أربع ركعات، قال: صلّ ما بدا لك، فتوضأ ثم صلّى أربع ركعات، فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال: يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعّالاً لما تريد، أسألك بعزّك الذي لا يرام، وعلمك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تقيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني.. يا مغيث أغثني.. يا مغيث أغثني.. فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه، فلما بصر باللص أقبل نحوه فطعنه فقتله، ثم أقبل إليه فقال: قم! فقلت: من أنت بأبي أنت وأمي؟ قد أغاثني الله بك اليوم، قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقة، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل الضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكروب، فسألت الله أن يوليني قتله، فسبحانه ما أعظمه، ملاذ السائلين، وملجأ القاصدين، ومجيب دعوة المضطرين.
إخوتي يا رعاكم الله، هذا هو الله أهل العظمة والكبرياء، هذا هو الله له الحمد والذكر والشكر والثناء، هذا هو الله تصمد إليه المخلوقات والأكوان والأرجاء.
هذا هو الله تفرد بالبقاء، هذا هو الله آياته ودلالات عظمته مبثوثة في مناحي الأرض وطبقات السماء وذرات الهواء، هذا هو الله عظمة الصالحون والأولياء، فضجوا إليه بالبكاء، ومدوا إليه الأيادي بالرحمة والدعاء.
ووالله وتالله وبالله إني أعترف بالعجز أمامكم، وكيف لي أن أتكلم عن العظيم..

تاه لبي وذاب قلبي لربي *** فهو حبي وسلوتي في حياتي
أنت أهل الثناء والمجد فامنن *** بجميل من الثناء المواتي
ما ثنائي عليك إلا امتنان *** ومثال للأنعم الفائضات
حبنا وامتداحنا ليس إلا *** ومضة منك يا عظيم الهبات
لو برينا الأشجار أقلام شكرٍ *** بمداد من دجلة والفرات
لو نقشنا ثناءنا من دمانا *** أو بذلنا أرواحنا الغاليات
ما أبنّا عن همسة من معان *** في حنايا نفوسنا ماكنات
أو أتينا لذرة من جلال *** أو شكرنا آلائك الغامرات
أي شيء يقوله الشعر لما *** يتغنى بخالق الكائنات

الخاتمة


 

فيصل الشدي
  • مقالات ورسائل
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية