بسم الله الرحمن الرحيم

هل تتقي الأَََسد حتى تكون ضواريا ؟!

( 1 )

الإسلام مبتلى في عصرنا هذا بظلم مزدوج من فريقين من المنتسبين إليه ، أحدهما يغلو ويشتط فيلقي باتهامات النفاق والفسق على الأمة كلها مادامت لا تشاطره آراءه المصادمة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

أما الفريق الآخر فيبحر في اتجاه منحرف ، لايختلف عن سابقه إلا في الأرضية التي ينطلق منها .. فهذا التيار يكاد يطمس ثوابت الدين لكي يوائم – بزعمه – روح العصر ، ولاسيما في ظل هيمنة الغرب وتبجحه بدعاوى نهاية التاريخ لصالح مدنيته ، وقيمه ، ومفاهيمه .

ورحم الله القائل حين قال :
ولا تغلو في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم


( 2 )

في إنكارنا لجنوح الفريق الأول عن اعتقاد مدعوم بالنصوص الشرعية القاطعة ، وحديثهم عن قضايا لا تدور في فلك اختصاصهم .. فيعطون بذلك لأعداء الإسلام ذرائع لتشويهه واتهامه – زورا وبهتانا – وهذا أمر لا نقرهم عليه ...

فمنذ متى كان الإسلام يدعو الناس إلى توزيع التهم جزافا ، وكشف ما في الصدور ، والشق عما في القلوب ... ألم يقل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، واصفا بعض شأن المنافقين ( لا تعلمهم نحن نعلمهم ) ؟

وحين تستخدم مثل هذه الأساليب - التي ما أنزل الله بها من سلطان - من قبل بعض الغيورين ، فهم بذلك يحققون نصرا مؤزرا للفريق الآخر الذي يتربص بهم الدوائر ، خصوصا إن كانت التصرفات نتيجة لردود أفعال ؛ فحينئذ يستبشر أولئك ( المستغريبن ) فقد وجدوا ضالتهم التي تعمم ، وتتهور ، وتتحدث في قضايا عامة لا خاصة .. فيبدؤون بشن حملتهم ، وشنشنتهم المعتادة ( ضحالة الفكر، رجعية الثقافة ، سوء الفهم للنصوص ، النقد الإيديولجي ... ) وبذلك تقدم لهم خدمة عظيمة لم يحلموا بها .

ومن تأمل - على سبيل المثال لا الحصر - ، سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، في التعامل مع المخالفين ، وعلى الأخص أهل التهافت والفلسفة والهرطقة ، لوجد ثبات المنهج ، والقدرة على إفحام الخصم من داخل الخصم بقوة الحجة ، والتجرد لله سبحانه وتعالى .

فتراه يفكك عباراتهم ، ويبسطها أمامك ... ويضع الافتراضات لها ، ثم يقول : وهذا القول مردود عليه من كذا وكذا .. فيأتي بالرد الشرعي ويبسطه ، ومن ثم يخوض معهم في تخصصهم ويرد عليهم وفقا لمبادئهم واعتقاداتهم ، وهل يؤول الأمر الأمر إلى هكذا فقط ؟ .. كلا ، بل تراه لا يشمت بهم ، أو يستهزئ ، مهما بلغت وقاحتهم ، وجرأتهم .

فهل لنا في ابن تيمية أسوة ؟


( 3 )

برأيي الشخصي – القاصر – أن الكثير من الدعاة في الآونة الأخيرة وقعوا في مزلق ( الانشغال بالمفضول عن الفاضل ) .. هذا إن لم يكن انشغالهم بالمهمش والهامش . ذلك أنهم أقحـِموا في قضايا وأزمات مفتعلة ، أشغلتهم عن هدفهم السامي ومهمتهم العليا , ووُجـِد منهم الاقبال على تلك الأزمات والاندماج معها .

والسبب في ذلك إما لترسبات أثرت فيها النمطية الفكرية السائدة بالمنطقة ، أو لتأثر بمنهج أوقد في نفوس الأتباع شرارة النقد لا البناء ... أو لغيرها من المسببات .

ولعل الاتجاه إلى مقارعة أصحاب أنصاف الرئة من أبرز ماشغل به الدعاة وأهل الغيرة ، فسطرت الردود ، وصنفت المؤلفات في هذا الشأن ... ونسوا وتناسوا أن صاحب الرئة الواحدة سرعان مايلهث بعد نشاطه المعتاد هذا إن لم يصب بأزمة تؤدي إلى اضمحلاله ... والشواهد كثيرة ، ومن قبلها قوله تعالى ( فأما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ...) ، فضلا عن عدم فقه لمنهج الموازنات ، وتحرير محل النزاع ، وتحديد المصلحة أو المفسدة المترتبة على الإنكار أو الرد .

وأنبه .. بأن هذا لا يعني – بطبيعة الحال – التهوين من شأنهم ، فأرجو أن لا تحمل العبارات مالا تحتمل .


( 4 )

زمننا هذا هو زمن التخصص ، وفيه تقدر قيمة المرء فيما يحسن ... وقديما قيل : من تكلم بغير فنه أتى بالعجائب ، وحين تدعم التخصصات ويؤلف بينها ؛ فحتما سيكون النتاج ناضجاً مفيداً لمصلحة الدعوة إلى الله ... والعكس صحيح ؛ فمتى ما وجدت الازدواجية ، وإقحام النفس في كل شاردة وواردة ، والحديث فيما لا تحسن ... فهذا حري به أن يكشف كثيراً من الأوراق ، ويبعثر الجهود ... هذا إن لم يصدق عليه قول القائل :
متى يبلغ البنيان يوما تمامه *** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم ؟!
فتستغل أطروحات ( وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) من قبل ( المستغربين ) فيما يثبت حججهم الداحضة ، ويصطادون في ماء تعكر بالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ... ومازلت السباع تحوم حوله لتسد من رمقها .

وأخيرا : ترى من المستفيد إذا احترمت التخصصات ، وعرف كل امرئ قدر نفسه وما يحسنه ؟


( 5 )

كلنا نعرف ( الإكليشة ) وهي الصفيحة التي تستخدم في المطابع لإنتاج نسخ مطابقة للأصل . من هذه الإكليشة استنتج ( لـيبمان ) مصطلح ( الصورة النمطية ) ليصف ميل الإنسان إلى اختزال المعلومات والمدركات، ووضع الناس والأفكار والأحداث في قوالب عامة مريحة ، لفهم أسهل .

و ( الصورة النمطية ) تمثل عادة رأيا مبسطا ، أو موقفا عاطفيا ، أو حكما متعجلا غير مدروس ، وتتسم بالجمود وعدم التغيير .

فعلى سبيل المثال : لو كونا صورة نمطية عن شعب معين، فإن هذا يعني عدم اكتراثنا له ، وأنه ليس جديرا منا بالاهتمام الكافي لفهمه وإقامة العلاقات معه .

باختصار : هذا النمطية تحدث نتيجة لتشوية الحقائق ، والتعميم المفرط ، وبعضها غير مستند إطلاقا إلى الواقع ... ولايذكيها ويولدها ويغذيها إلا وسائل الاتصال الجماهيرية .


( 6 )

وأخيرا ..
فلن ينفع الأسد الحياء من الطوى **** ولن تتقي حتى تكون ضواريا
واللبيب بالإشارة يفهم ..
تكفي اللبيب إشارة مفهومة **** وسواه يدعى بالنداء العالي

والله المستعان .

أبو عبدالعزيز الظفيري

الصفحة الرئيسة