بسم الله الرحمن الرحيم

أطياف ( 8 )
حـبٌ كَـلـِـف و بغـضٌ تَـلِـف


كثيرة هي المواقف والأحداث التي يجدر الوقوف عليها ، والتأمل في فصولها ، والنظر في معطياتها ونتائجها .

وتتجلى أهمية ذلك لدى الداعية إلى الله ؛ إذ هو أحق الناس بهذا ، فلا يدع الخطوب تمر عليه مر السحاب ، وينزوي بنفسه عنها متعللاً بعلل من أشباه ( لم آمر بها ولم تسؤني ) أو ( الفتنة نائمة .. لعن الله من أيقظها ) أو بأوهام أخرى تبرئ ساحته وتلقي بالتبعة على غيره .. فأصحاب هذا الفهم قد قصرت عقولهم عن التأمل في كتاب الله وحكمة تنزيله منجما ، ولم تسبر أغوار الهدي النبوي على صاحبه أشرف الصلاة والتسليم الذي كان ينتهز الفرص والمواقف لتربية وتعليم صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم .

وغالباً ما تتجلى زكاة العلم في الأحداث والنوازل وتظهر في أمثالها ، إذ يظهر فيها صاحب الثوب الخلق ، ولابس الشهرة ، والسفيه الرويبضة ليسوسوا دفة الأحداث ويبعثوا سراياهم ، فيصبح عوام الناس في بحر لجي تتخطفهم أيدي العابثين ممن مردوا على التزلف والنفاق والإفساد ... فتراهم غرقى ، فمن ينقذهم ياترى ؟

أتراه من انزوى في حوزته ، أو اعتكف في صومعته ، أو صنع الأوهام لنفسه ، أو نمق الديباجات والتزكيات ؟

يا مشاعل الهداية ..
إن الناجعة ليست في دفن الرؤوس بالرمال ، أو استجلاب الغلبة بالصياح والعويل ، أو استنفار الطاقات للبحث في شأن لعبة أو مسلسل ... إنما هي في ( حتى يغيروا مابأنفسهم ) و ( قل هو من عند أنفسكم ) .

يا ناسف الظلم ثارت هاهنا وهنا *** فظائع أين منها زندك الواري ؟!

ومن خلال الأحداث الأخيرة اختلفت أفهام الناس وعقولهم في توصيف الحدث ، خصوصا مع هذا الانفتاح الاعلامي الذي غزى عقر دارنا دون مقدمات ؛ فسارت الركبان بالأخبار والتحليلات مشرقة ومغربة ، وسار معها الكهل والفحل .. كلٌ يردد ماوافق شـنٌّ طبقه !!

والإشكال لا يكمن هنا , فما ذاك إلا نتيجة لمقدمة سابقة ... وإن كان ثمة خلاف فهو أمر طبيعي وقع بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أفلا يقع فيمن دونهم ومن جاؤوا من بعدهم ؟

إنما الإشكال هو إشكال المنهج و الفكر الذي سيطر على عقول فئامٍ جعلت من الخلاف السائغ معيار ولاء وبراء وقبول ورفض !!

بل زاد الأمر واستشرى إلى تطبيق مغلوط وغالٍ لأقوال من أمثال ( كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر ) و ( الحق لا يعرف بالرجال ..لكن الرجال يعرفون بالحق ) و ( لا تقلدني ولا تقلد مالك ولا الشافعي وخذ من حيث ما أخذوا ) ... وجميعها ذات مفهوم متفق عليه ، لكنها لا تسوغ للمتذرع بها أن تجعله في الطرف النقيض ، فتمنحه حق تتبع الزلات والفرح باصطيادها ، والفرط في المحبة والكراهية ، والتشكيك في النوايا ، وتضخيم الأخطاء وافتعال الخصومة ، والتهكم والازدراء ...

فننسى بذلك الحسنات ، ونهمش الفضائل .. وننسى ( ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا .. اعدلوا هو أقرب للتقوى ) هذا هو الحال مع من أبغضتهم قلوبنا وكرهتهم ، فكيف بمن هو محسوب على الدعوة وأهل العلم والفضل ، ومن عترتنا وخاصتنا ؟

ولله در حاتم الأصم حين سئل : أنت رجل أعجمي لا تفصح ، وما ناظرك أحد إلا قطعته ؛ فبأي شيء تغلب خصمك ؟
فقال : بثلاث ، أفرح إذا أصاب خصمي ، وأحزن إذا أخطأ ، واحفظ لساني عن أن أقول له ما يسوءه ... فعندما بلغ الإمام أحمد ماقاله قال : ماأعقله من رجل .

ولطالما كانت الردود المتشفية الغير متعقلة تمثل ردة فعل ، تعبر عن حالة نفسية كان الهدف منها ذات الرد ليس شيئا آخر ... لذلك نجدها توغل في السطحية ، وتجيير النصوص واختزالها ، ولييها لياً لما يحقق مآرب كاتبها .

ويقاس على ذلك تعاملنا مع الأحداث واستعجالنا في اتخاذ الأحكام وإطلاقها ، والتسابق في كتابة التحليلات أيهم يكتب تحليلا أطول من الآخر .. فنجد أن البعض كتب فوقع في المتناقضات ، والبعض الآخر كتب لأجل تسجيل الموقف والفكاك من لوم المريدين ... بعكس من صبر حتى اتضحت له الرؤية و زال عنه غموض الحدث فطرح الطرح الشافي الكافي .

معاشر الدعاة ..
حريٌّ بكم في مثل هذه النوازل وما يكتنفها أن تجعلوا من التأني شعاركم ، وأن تردوا المتشابه إلى المحكم ، وأن تفرقوا بين المسلمات والمحكمات والأصول وبين ما يقبل فيه الاجتهاد وله حق من النظر ، وان لا تحملوا كلام المخالف - إن ثبت خلافه - مالا يحتمل ، وأن تعوا مقامات الرد والإنكار ومقامات الدعوة والإرشاد ..

وتذكروا بأن سوء الفهم آفة .

ولقد كنت ولا أزال متمسكا بمقولة أرددها على مسامعي كلما تكلمت أو كتبت ... وهي من نحو ( آن لأبي حنيفة أن يمد رجله ) : كما أن الألسنة مغاريف القلوب ؛ فإن الأقلام مغاريف العقول .
فمن خلال القلم تعرف عقل حامله ، و نمطية تفكيره .. وعندها تستيقن هل تمد رجلك أم تكفها ؟!

وأخيرا .. معاشر الدعاة : يهمس الفاروق عمر رضي الله عنه بينكم ويقول مخاطبا كل واحد منكم ( لا يكن حبك كلفا ، وبغضك تلفا .. إن أحببت كلفت كلف الصبي ، وإن أبغضت أحببت لصاحبك التلف ) .

والله المستعان وعليه التكلان ولا تنسوا محبكم من دعوة صالحة بأن يحسن الله خاتمته ، ويغفر ذنبه ، ويعلي درجته .

أضغط هنا لقراءة سلسلة أطياف


أبو عبدالعزيز الظفيري

الصفحة الرئيسة