بسم الله الرحمن الرحيم

أوراق متساقطة من شجرة مجتثة


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :

فمن الملاحظ أنه في الآونة الأخيرة أحدثت قضايا وأمور جعلت الحليم يقف أمامها محتارا عاجزا ، لا يدري ماهيتها ، وما هدفها .. وما النتاج الذي تطمح إليه ..

فتجده إما أن ينساق مع التيار ، وإما أن يقف موقف المشاهد ذا الأيد المكتوفة .. أو أن يمارس مهنة التصفيق والتطبيل ، ويطبق قول القائل : وهل أنا إلا من غزية ...

ومن هذا المنطلق أردت التوضيح والبيان لقضية هامة جداً ، بدأت تظهر على الساحة بشكل علني في الآونة الأخيرة ، ستعرف حقيقتها - أخي الكريم - من خلال قراءتك المتأنية للأسطر القادمة .

فدونك - أخي طالب الحق - وريقات أعرضها عليك تساقطت من شجرة اجتثت من فوق الأرض مالها قرار ، أمدها ماء الانسلاخ من القيم والمبادئ والأسس والأخلاق .. فكان النتاج مصطلح مأفون يحمل السم الزعاف بهيئة براقة تدعى :

العصرانية

الورقة الأولى : وقفة مع المصطلح
إن لفظ ( العصرانية) ليس صحيحاً لغة ً ، وإنما النسبة الصحيحة ( العصرية) .. وهي نسبة إلى العصر .
بينما لم يرد في الكتاب او السنة مصطلح أو لفظ يدعى بـ( العصرانية ) أو ( العصرية) .. إنما الذي ورد لفظ( العصر ) .

وأصل المصطلح غربي ، فالعصرية في تاريخ الكنيسة النصرانية : حركة نشأت في القرن السابع عشر الميلادي ، على إثر انتشار مذهب(دارون) في النشوء والتطور ومحاولة تطبيقه على البشر مما يتعارض مع تعاليم الكنيسة .

وأساس العصرية : إنكار الوحي ؛ لأنه بحد زعمهم يتعارض مع قوانين الطبيعة ، وبالتالي رفضت هذه الحركة العصرية تعاليم الكنيسة وتمردت على نصوص كتابها المقدس .

ويقوم هذا المذهب على الإيمان بالعقل وقدراته وأنه يصل إلى تحصيل الحقائق من العالم دون مقدمات تجريبية ، ولا تستمد المعرفة عندهم من الخبرة الحسية .. وأهم فلاسفة هذا المذهب وأربابه : ديكارت ، وسيبنوزا ، ولايبنتس … وهم الذين رفعوا راية إعلاء العقل كنقيض للخرافة والإيمان .

ومن ثم انتقل مصطلح العصرانية إلى العالم الإسلامي وأصبح يطلق على كل من يدعو إلى إخضاع الدين لمفاهيم العصر ويحاول إيجاد مواءمة بين الإسلام والفلسفات الغربية المعاصرة .

وهي كذلك محاولة لإحداث تجديد وتغيير في المفاهيم السائدة المتراكمة عبر الأجيال ؛ نتيجة وجود تغير اجتماعي أو فكري أحدثه اختلاف الزمن .

وقد يأتي أحياناً هذا المصطلح بمسميات أخرى كـ( التنوير ) أو ( الفكر المستنير) وهي تطلق غالبا على بعض الاتجاهات العقلانية التي تدعو إلى إخضاع النصوص الشرعية لما يقرره العقل ، أو بمعنى آخر : تقديم العقل على النقل .. ولنا في الورقات القادمة تبيان لترابط هذه المصطلحات مع مصطلح خطير وهدام

الورقة الثانية : الاستراتيجيات العصرانية
يعتمد العصرانيون بشكل أساسي على : الاشتباك والرشد
وهذان مصطلحان استخدمهما العصرانيون في منطقتنا العربية ، ويقصدون بهما على وجه التحديد ما يلي :

1- التعرض للأساس الذي يقوم عليه المجتمع المسلم( الكتاب والسنة) والتشريعات المنبثقة منهما ، وللتاريخ الإسلامي ، بالدراسة و التحليل و النقد وذلك بغرض إلغاء أو تعديل هذا الأساس إلى الصورة التي تحرك المجتمع المسلم في اتجاه تصوراتهم الفكرية .

2- الاستفادة من التصورات الفكرية والمنهجية القديمة والمعاصرة ( الغربية منها على وجه الخصوص) والتيارات النقدية في داخل البلاد وخارجها .. وذلك لتحقيق الهدف السابق .

3-الجرأة في النقد والتحليل ومناقشة الثوابت ، وإضافة لذلك جرأتهم في التحكم وحذف مالاينطبق مع توجهاتهم الفكرية

الورقة الثالثة : مصادر الاستراتيجيات العصرانية
لعلها تكمن في المحاولات التي قام بها من أسموهم بالمفكرين الأصلاء من الأئمة الدينين وأساتذة التاريخ والقانون والاقتصاد بالاشتباك مع أساس المجتمع المسلم وكيانه الثقافي الاجتماعي ( على غرار مافعله كبار فلاسفة التنوير في الغرب إبان القرن السابع عشر) ..

فخرجوا على الإسلام باسم ( كسر جموده ) ، وباسم ( التسهيل) و( التجديد) مستخدمين سلاح ( الرشد ) أو ( العقلانية ) بالمفهوم الغربي الذي يعني : الاحتكام إلى معيار العقل في الحكم على الأشياء وأسبقية العقل في فهم القضايا الجوهرية عن العالم عما سواه …

وقد نجحوا من خلال هذا المصدر في تحقيق ما يلي :
1- الجرأة على التغيير والتجديد في المسائل المرتبطة بالثوابت العقدية في الكتاب والسنة .
2- وضع جميع كتب الحديث والسيرة وجميع ما فيها من أحاديث تحت شبهة الكذب والضعف .
3- حققت ما سمي بالنهضة الإصلاحية ، التي زعزعت أكبر معقل ديني في العالم الإسلامي عن تمسكه بالدين ، وقربت الكثير من شيوخ هذا المعقل إلى (( اللادينين )) خطوات ، ولم تقرب (( اللادينين )) إلى الدين خطوة واحدة … وصار العديد من أولئك يمارسون الظهور العلني في المحطات والإذاعات فيكشفون ستر الله عليهم ، فضلاً عن تغلغل اليهودية والماسونية في ذلك المعقل .
4- شجعت على ترويج السفور بين بنات المسلمين .
5- جعلت الزندقة مقابلة لحكم العقل ، وجعلت الإلحاد قرين الاجتهاد ، والإيمان قرين الجمود !!
6- صرفت الناس عن التفكير في الدين وشجعتهم على قراءة كتب الغرب لالتماس الحقيقة فيها ، لأن كتب السلف جافة ضحلة حشوية !!

الورقة الرابعة : بعضها من بعض

نعم ، وهذه حقيقة لا خلاف فيها أو شك .. فالتعاضد والتوافق بين التيار الحداثي والتيار العصراني العقلاني واضح ومصرح به من قبل منظريهم .. بل هذا ما يلمس من أصل نشأة العصرانية ومشابهتها للنشأة الحداثية .

وإن دل على شيء فإنما يدل على السعي الحثيث في الفترة الحالية لإحياء الطرح الحداثي من جديد لكن على هيئة مغايرة لما سبق ، وذلك بإعادة روح الألفة واحتواء أهل الأهواء( العصرانيون ) في المنابر الحداثية من صحف ومجلات وإذاعات .. وذلك من اجل إضفاء الصبغة الشرعية للطرح الحداثي المقولب وفق المنظار العقلاني الذي أطر – في وجهة نظر الحداثيين – بإطار شرعي ، فيحميه من السنة السلفيين الغلاة الحنابلة !!

لذلك .. فلاتعجب إن رأيت الثناء الحار ، والترحيب العاطر من حداثي لربيبه العصراني ، فإنما هم( ذرية بعضها من بعض ) .

الورقة الخامسة : ما هي أهدافهم ؟
وهذا هو السؤال المهم ، فالمصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها العصرانيون العرب القدامى والجدد ، إن جردت من أغطيتها الفنية وطبقاته اللفظية التي تحتمي بها فلن تكون أكثر من مجموعة فارغة من الألفاظ الكاذبة ذات الرطانة الغامضة التي لاتخدم أي قضية ولاتفيد في أي تحليل ..

لذلك تراهم يمارسون نوعاً آخر من الرؤى التي تتشكل أهدافهم من خلالها .. وهي :
1- السعي في جهود ضرب الصحوة الإسلامية والعمل على حيلولة من أن تجد لها عمقاً في القرى والمدن البعيدة أو المركز التي يسيطرون عليها .
2- الاستمرار في الجهود التي تسمح لهم بوجود المناخ الذي يعطي لهم الحرية والشجاعة في التعرض للقرآن والسنة والتاريخ والتراث .. سواء كان من خلال منبر إعلامي أو لقاء صحفي أو هيئة أكاديمية .
3- محاولة احتواء بعض الرموز الجماهيرية المؤثرة في الناس ، وذلك ليشكلوا دعم لمسيرتهم الفكرية .
4- أن تكون لهم اليد العليا في توجيه الناس وحركة المجتمع وفق تصوراتهم الفكرية وان تكون عقولهم هي الحكم النهائي حتى في المسائل التي حسمها الشرع .

وقبل أن اختم القول ، أود أن أشير إلى أنني استخدمت التعريض في هذا المقال ، لأن اللبيب تكفيه إشارة مفهومة … وسواه يدعى بالنداء العالي .

مع العلم أن هناك تكملة لإطروحات مشابهة تناقش قضية نقد العقل العربي ، وارتباط المعتزلة بالعصرانية ، وفلسفة العقل الجمعي … إضافة إلى المزيد من الأوراق المتساقطة .. أسأل الله أن يعجل بها في القريب العاجل .

والله المستعان .

مراجع الدراسة :
1-الموسوعة العربية الميسرة .
2-إشكاليات الفكر العربي المعاصر : محمد عابد الجابري .
3-الموسوعة الفلسفية : أكاديمين سوفييت .
4-مؤلفات الدكتور عبدالكريم بكار .
وغيرها …

أبو عبدالعزيز الظفيري

الصفحة الرئيسة