صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







في محراب الله

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


” سَلْهُ بلسانِ الحاجة لا بلسانِ الحِكمةِ” أبو يزيد البِسْطامي

لا انفكاك للعبدِ من اللجوء إلى الله في ساعاتٍ من أوقاتٍ عُمُرِه، فاللهُ هو مرجعه، و هو من الله و إلى الله، و الله ملجأ كلِّ مخلوقٍ فقيرٍ إليهِ غنيٍّ به. وما يُمكن لأحدٍ مهما كان طُغيانُ صُدوده عن الله أن يستغني عن الله ولو بُرهةً من الوقت، فذلك يقينُ الافتقارُ من المخلوقِ إلى خالقه.

في تلك الساعات يلجأ العبدُ إلى الله تعالى لجوءَ الفقيرِ المحتاج، لجوءَ المِعوَزِ الطالب، لجوءَ المسكين الضعيف، لجوءَ من ليس بيده شيءٌ، لجوءَ من لا يملك من الدنيا شيئا، لجوءَ من ضاقت سُبُلُه إلا بربه، لجوءَ من ضعُفُ فيستقوي بربه، لجوءَ من حَزِن فيفرح بربه، لجوءَ من بكى فيأنسَ بربه، لجوءَ من تاه فيهتدي بربه، لجوءَ مخلوقٍ إلى خالقه، لجوءَ مصنوع إلى صانعه، لجوءَ موجودٍ إلى مُوجده، لجوءَ عبدٍ إلى سيده، لجوءَ مملوكٍ إلى مالكه، لجوءَ جزءٍ إلى كلٍّ، لجوءَ صورة إلى حقيقة.

ذلك اللجوءُ لا قيمةَ له ما لم يكن لجوءاً قلبياً، لجوءاً روحياً، لجوءاً معنوياً، لجوءاً شُعوريا، لجوءاً مليئاً بمشاعرِ اللجوءِ إلى الله الأعظمِ، اللهِ الأكبرِ، اللهِ الأفخم، اللهِ المتعال، اللهِ المتقدِّس، اللهِ الكامل، اللهِ المتنزِّهِ عن نقصٍ، اللهِ الحنَّان، الله الرحيم، اللهِ الر فيق، اللهِ الرؤوف، اللهِ الواهبِ، اللهِ المعطي، اللهِ الجميل، اللهِ الحسَنِ، الله المُقبِلِ على من أقبلَ عليه، اللهِ الساعي إلى من سعى إليه، اللهِ الإلهِ الحقِ، اللهِ الذي هو كل كمالٍ و جمالٍ و جلالٍ.

ذلك الإقبال بتلك المشاعرِ و استحضار تلك المعاني، و أكثر، عن الله تعالى بأوصاف الجمالِ التامِّ، و الكمال العامِّ. لا الإقبال عليه بصورة الحضور الجسدي، و بحركة اللسان البليغ، فالحضور في محرابِ الله يكون بذوقِ الأدبِ، و بكمال التأدبِ، فهو حضورٌ في محرابِ من يعلم كلَّ شيء، و يحيط بكل شيءٍ. فليكن الحضور في محرابِ الله عند الدعاءِ حضورَ الواثقِ بأنه نائلٌ مراده، الواثقِ بأنه حائزٌ على حاجته، الواثق بأنه واجدٌ عند الكريم بُغيته، فليكن في بَوحٍ بكل ما يريد، و دعاءٍ بكل ما يحتاجه، و سؤالِ كلِّ ما يبغيه، فهو في دعاءٍ وسؤالٍ لكريمٍ معطاءٍ جوادٍ متفضِّلٍ قريبٍ، لا يقول لا لمن سأله، و لا يفعلُ ردَّاً لمن دعاه، يُقبل على سائلِهِ و داعيه بصدقٍ أصدقَ من العبدِ نفسِه.

في محرابِ الله تقف الأقدام برسوخٍ لترتفع الأيدي بشموخٍ و تلهج الألسنة برضوخٍ إلى الله العظيم، ديانةً حيثُ واجبُ الفطرة الكونية، وواجبُ الشِّرعةِ الدينية، بابتهالٍ صادقٍ، من قلبٍ مؤمنٍ، بلسانٍ فقيرٍ إلى ربٍّ عظيم كريمٍ كريم. و أمانةً بتوجُّهِ الفؤادِ إلى خالقهِ فحسْب، و إقبالِ القلبِ على مُقلِّبِه دون غيرِهِ، و اعتكاف النفسِ بضراعةِ الحالِ لله الأعظم الأكبرِ. و صيانةً للنفسِ بدعاءِ الصدقِ، و للقلبِ بسؤالِ الحقِّ، و الروحِ بحالِ الخضوعِ، من كلِّ سوءٍ مُفسدٍ، ومن كلٍّ خللٍ مُهلكٍ، فلا عاصمَ من الله إلا الله العظيم الأعظم.و إعانةً من الله للإنسان المتألِّه، من القوي للإنسان الضعيف، من القادرِ للعاجز، من الغني للفقير، من الكريم للبخيل، من المعطي للمانع، من الرحيم للغضوب، من الكبير للصغيرِ، من الكل للجزء، إعانةً لا تكون إلا من الله لمخلوقِ اللهِ.

في محرابِ الله يكون الإنسان مع الله، و ليس معهما أحد، فالقلبُ مع مُقلِّبِه، و الروحُ مع خالقها، فيكون اختلاءُ مخلوقٍ بالخالق، عبدٍ بالسيِّد، صغيرٍ بالكبيرِ، ضعيفٍ بالقوي، فقيرٍ بالغني، خلوةٌ يكون دافعها الاحتياجُ من العبدِ لله تعالى، وجلَّ، و عزَّ، و عظُمَ، و تباركَ، و تقدَّسَ. خلوةٌ كهذه لا تكون إلا في قمةِ الذوقِ في التوجُّهِ، قمةِ الأدبِ في الحديثِ، قمةِ الخُلُقِ في المجالسَة. خلوةٌ يكون فيها العبدُ واثقاً بربِّه عندما أقبل عليه في خلوته في محرابِه، فلا يمنعه حينها شيءٌ، إلا الأدبُ و الخُلُقُ، فيبوح لربه بمكنون نفسِه، و يترك للسانه العنان فيقول كلَّ شيءٍ، فلا يقفُ اللسانُ إلا عند نقطة الانتهاءِ ليكون الاستئناف من الله بالإجابةِ على قانون وعدِ الله الأعظم : ” ادعوني. أستجب لكم”.

في تلك الخلوة يكون الذوقُ الأدبي من العبدِ أن يبوح لله بكلِّ شيءٍ، فيتكلم بعفويةِ الحالِ، و يتركَ تنميقَ المقال، فلسان الحاجات أبلغ من لسان الاحتجاجات، يتكلم مع الله لله لأنه الله، الذي وَسِعت رحمته كلَّ شيءٍ، فلا يُعجزه، جلَّ، أن تَسَعَ رحمته حديثاً يبوح به عبده.
عندما يكون العبدُ في محرابِ الله على تلك الحالةِ، كما هي حالتُه في دعاء الله في السفرِ ” أنت الصاحبُ في السفر” فيجعل الله صاحباً له في كل أسفار الحياة، فيبوح لله كما أشد مما يبوح لغيره، بلسان المحبةِ، و لسانِ الحاجةِ، و لسانِ الافتقارِ، و لسان العبوديةِ له. يغتنم العبدُ تلك اللحظات، الفرصةِ السانحة، الفرصة الروحانية، الفرصةِ المنحةِ في ساعة من الدهر تتجلى فيها رحمات الله، فيتحدث مع الله بلسانٍ مليءٍ بالضراعة و الاستكانة و الافتقار، يتحدث معه الله بكلِّ تجرُّدٍ و بكلِّ توجُّهٍ و بكلِّ إقبالٍ، فلا يمنعه شيءٌ، و لا يحجبه شيءٌ، فيدعُ الكلام يخرج بأي تعبيرٍ، لأنه بلسان الحاجة، و بلسانِ الفقرِ. هنا سيكون الله تعالى معه بالإجابةِ، ومعه بالعطاء، و معه بالقضاء، و معه بالمغفرة، ومعه بالتحقيق، ومعه بالتوفيقِ، ومعه بالتيسير، و معه بالفرج، ومعه بكلِّ جميلٍ من جماله، و بكلِّ كاملٍ من كماله، و بكلِّ جليلٍ من جلاله، لأنه وعدَ، و إذا وعدَ صدق، ” أمَّن يُجيبُ المضطرَّ إذا دعاه، و يكشف السوء” و ” فإنِّي قريبٌ أُجيب دعوةَ الداعِ إذا دعانْ”. و ” أنا عند المنكسرة قلوبهم”.

في هذه الحال، و بها، كانت الدعواتُ تُجاب، و المسائلُ تُعطى، و الحاجاتُ تُقضى، و الشدائدُ تُنفَّس، و الكروبُ تُفرج، و الهموم تُزال. فسرُّ الأمرِ ذوقُ الأدبِ في محراب الله.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية