صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







كَيْفَ نَفْهَمُ ( التأريخ ) ؟!

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


مِنْ مُتَعِ النفس استطلاعها على أحوال الناس ، و رغبتها الأكيدة في معرفة ما هم عليه ، و هذه من غرائز النفس التي لا تكاد تكون مفقودةً إلا عند أقوامٍ قِلَّة .
و إذا كانت هذه بتلك المكانة الغريزية فلا بد من إعمالٍ لأصلِ فهم تلك الأحوال ، و الفَهْمُ لـ ( التأريخ ) مهمٌ جداً ، و رعايته أهم من مجرد مطالعته ، إذ بالرعاية يكون الاطلاع و التحليل ، و بالمطالعة يكونُ الإعمالُ العين دون الفكر .
إننا لمَّا نظرْنا في ( التأريخ ) على أنه قَصَصٌ تُحْكَى ، و أخبارٌ تُرْوى ، دون الاهتمام بشأن التفهُّمِ له ، و التبصر بأبعاده و مقاصده كان أن حلَّ بنا المرَضُ الذي نملكُ علاجه ، و أهلكنا الضمأ و نحن نرى فجاجَه .
فبانَ أن فَهْمَ ( التأريخ ) ذو أهميةٍ بالغَة المدى ، بعيدةُ الصدى .
قواعد فهمِ ( التأريخ ) :
إلا أنه لابد من رعاية قواعد في فَهْمِ ( التأريخ ) هُنَّ أساسٌ ذو متانة في الفهم و جدواه ، و إليكها :
الأولى : قاعدةُ السببية .
( السببية ) أصلٌ كبيرٌ في باب الفَهْمِ ( التأريخي ) و إغفاله خطأٌ خطير ، و ذلك كون الأشياء حدوثها بأسباب و زوالها بأسباب ، فمراعاة عامل ( السببية ) في ( تعليل التأريخ ) يورث لنا فهماً للحدث التأريخي بدايةً و انتهاءً .
و الغفلة عن قانون ( السببية ) غلطٌ بيِّن يُنتجُ فهماً مغلوطاً للحوادث .
و التحريف لحقيقة السبب فُحْشٌ تأريخي يعقبه تحريف في حقائق التأريخ .
و بهذين كان أغلب الانحراف في فهم التأريخ .
و السبب للحدث التأريخي نوعان :
الأول : الفاعل ، وهو القائم بأصل حدوث الحدث ، و هو فرد أو جماعة .
الثاني : العوارض التي كان منها حدث الحدث التأريخي .

الثانية : العمران .
العِمْرَانُ مَعْقِدُ التقويم للأخبار ، و مناطُ القيد في الفهم لـ ( التأريخ ) ، و كينونته أساساً لفَهْمِ ( التأريخ ) من نواحٍ :
الأولى : بيانُ صِدْقِ الأخبارِ وَ كَذِبِها .
الثانية : بيانُ استحالةِ الوقوع للحادثة و عدمِ ذلك .
و لذا يقول ابنُ خَلْدُوْن _ رَحمهُ الله _ (( المُقدِّمَة )) 42 : [وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم إن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع‏.‏ وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح‏.‏ ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول الفلظ وتأويله بما لا يقبله العقل‏.‏ وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف انشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط ] أ.هـ .

الثالثُ : السُّنَن الكَوْنِيَّة .
السُّنَنُ الكونيَّة من الأمور المَرْعِيَّةِ تأريخياً ، و مِن الأمور السائرة أساساً في فهم ( التأريخ ) ، و إهمالُها مُؤْذِنٌ بقُصُوْرٍ في الفهم و العبرة لـ ( التأريخ ) .
و لعلَّ الزمانَ يَفْسَحُ الله فيهِ فأرْقُمُ كلاماً حولها أو يرقُمُه من نالَ الخيريةَ و الأهليَّة .

طرقُ فَهْمِ ( التأريخ ) :
بَعْدَ تقريرِ قواعد الفهمِ لـ ( التأريخ ) لابد من الإشارة إلى طرقٍ لرعاية تلك الأهمية ، و لذا فقد حَصَرْتُ الطرائقَ فيما يلي :
الطريقُ الأولى : التدرُّج .
يَدْفَعُ الحِرْصُ بعضَ المُثَقَّفِيْن إلى أن يتبنَّى قراءةً لـ ( التأريخ ) يرجو من خلالها فهمَهُ له ، و غالبُ تلك القراءات تَتَّسِمُ بِسِمةِ العَشْوَائِيَّة ، بمعنى : أن القاريءَ يتلقَّف أي كتابٍ يحوزُ على رضاه .
و لا ريبَ أن هذه السابلة المسلوكة في القراءة و التثقف لا تؤتي إلا ثماراً لا تسمنُ و لا تغني ، حيثُ كان الطريقُ غير مُجَرَّب .
و التدرُّج المُرَادُ هنا ، نوعان :
الأول : تدرُّجٌ في السياق التأريخي .
و المعنى : أن يَشْرَعَ القاريءُ بقراءة ( التأريخ ) من أوله ، و الأولية إما أن يراد بها الأولية المطلقة _ أي : أول التأريخ ، و إما أن يراد بها الأولية النِّسْبِيَّة كأول دولة أو ديانةٍ .
الثاني : تدرُّجٌ في القراءة .
أي : أن تكونَ القراءةُ في كُتُبِ ( التأريخ ) على وَفْقِ التنقل المَرْحَلي .
فإن كثيراً من المُثَقَّفِيْن لا يفْهَم و لا يعرِف فِقْهَ القراءات الثقافية ، فإن القراءةَ فَنٌّ له أصوله و قواعده .
و المُشْتَغليْنَ بـ ( التأريخ ) قد وقعوا في مثل هذه الآفة ، و تجاوُزها من أبسطِ ما يكون لم شَمَخَتْ أنفُه نحوَ التحقيق في الفن ، و الدرايةِ الأصيلةِ فيه .
و المَرْجِعُ في ذلك إلى أهل العلم المتخصِّصِيْن في الفن عامةً أو المُتَخصِّصِيْن في جانبٍ من جوانبه .

فهذه الطريقُ أساسٌ في الفهم ( التأريخي ) ، و قاعدةٌ جُلَّى ينبغي لـ ( التأريخي ) و ( المؤرِّخ ) أن يرعيانها حقَّ الرعاية .

الطريقُ الثانية : التبصُّر بالأشباه .
جَرَتْ كلمةٌ من المؤرخين يقولون فيها : ( الحاضرُ أشبَهُ بالماضي من الماء بالماء ) أ.هـ.
و هذه القولةُ لمْ تكُن خارجةً مخرَج الحديث الذي تُقَطَّع به المجالِس ، و إنما خرجت مخرَجَ التقعيد و التأصيل لمسألةٍ مهمة له أحداثها في علم ( التأريخ ) .
فاهتمام ( المؤرِّخُ ) بأحوالِ ( التأريخ ) و مقايسةِ الحاضر بأشباهه في الماضي يُكَوِّنُ لديه تَفَهُّمَاً للحقائق ( التأريخية ) .
و لمَّا بُلِيَتْ أنْفُسُنَا بالصُدُوْدِ عن تلك اللفتة صار ( التأريخ ) عند كـ ( حكايات الجدات ) أو ( أساطير الخيال ) على أن ( حكايات الجدات ) و ( أساطير الخيال ) تُعْطيْنَا فوائدَ و عِبَرَاً غزيرة .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية