صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







(( المِصْبَاحُ ))
21/10/1428
2/11/2007

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


قرأتُ في صباح هذا اليوم مقولةً رائعة للرافعي : " إنَّ المصباح ليسَ له أن يقولَ إن الطريقَ مُظلمٌ ، لكنه يقولُ : ها أنا مُضيءٌ " .

تفكرتُ في كلمات الرافعي الجوهرية ، فلقيتها صِدقاً ، تأملتُ المصباح ذاته في المكان الذي أنا فيه ، وجدته كما قال ، لا يتردد في المبادرة في تحقيقِ ما يقدرُ عليه ، و لا يتأخر في شيءٍ ، تأملتُ حالةَ تعطُّلِه و عدمِ عملِه فوجدته لا يحدثُ إلا حين يكون مختلاً ، و على شفا هلَكةٍ و انتهاء ، أو أن يُنهيَه أحدٌ بإصابةٍ تقضي عليه .

تعجبتُ جداً ، و دخلتُ في دائرةٍ من استلهامِ الخفايا المكنونة في زوايا المصباح ، فلقيتُ منه رسالةً تُسْتَوحى ليقرأها أو يطَّلِعَ عليها بنو البشر ، يَحكي فيها قائلاً :
أنا (( المصباح )) :

وظيفتي في الوجودِ أن أنيرَ المكان الذي يحتاجني فيه أهله لأن أكون مضيئاً ، لستُ مؤذياً بإنارتي و إضائتي ، فلا أكون في وقتٍ يكون فيه غيري ، لأنني لستُ مزاحماً أحداً على ما ليس لي ، كما أنني لا تجدني في وقتٍ لستُ مُحتاجاً إليه فيه لتوقيت الأشياءِ و تزمينها .
أهبُ الناسَ شيئاً من نورٍ وُهِبْتُ إياه ، فأُعطي حيثُ أُعطيتُ ، و هذا قانونٌ تُسْتدام به المِنَحُ و العطايا ، فلو تمانعتُ في الإضاءةِ لتركني الناسُ و استبدلوا بي غيري ، كما أنَّ البذلَ أساسٌ في الديمومة بالعطاء ، و أصلٌ في الاتصال العظيم بالبشر ، تُراني إذا انطفأ نوري و خمدَ ضوئي يُهرَعون إليَّ أو يحتفظون بي ؟! لا ، بل يرمونني و يأتوني بمن هو أنفع لهم مني ، فما دام الشيءُ مِعطاءً تطلَّع الناسُ له و أبقوه ، و إن منَعَ أو انتهى تركَوه .

أتميَّزُ بأنني أشتملُ المكانَ ، و لو كنتُ مقتصراً على جزءٍ صغيرٍ لزُوْحِمتُ بمصباحٍ آخرَ على أحسن الأحوال ، أو أُزلْتُ و جيءَ بمن هو أشملُ مني ، فاستلهم مني يا صاح أن تكون مشتملاً على ما يُريده الناسُ منك ، حتى تكون مرغوباً فيكَ ، و منظوراً إليك بعينِ الإبقاء ، ليكنْ اشتمالكَ للكلياتِ الكبرى في الشيءِ فلا تغرق بالجزئيات ، و لا تنظر إلى الدقائق التي لا ينظرُ الناس إليها ، في كلِّ شيءٍ كُن مشتملاً و حاويا .

و أتميَّزُ بأنني أفي بالغرَضِ ، فالغرضُ مني أن أقومَ بالإضاءةِ ليُستنارَ بي في الحياةِ ، و لأكون دليلاً تُستبان بي الأمور ، و لو كنتُ غير وافياً بالغرضِ المنوطِ بي انعدمتْ قيمتي ، و دِيْسَتْ كرامتي ، فكرامةُ الشيءِ في كونه قائماً بما هو مخلوقٌ له ، فخُلِقْتُ للإضاءة و الإنارة فلأكنْ كذلك ، و أنت كُن كذلك ، فغرضُك في حياتك و إيجادك أن تقومَ بإنارةِ دربٍ طالماً كان مُظلماً ، و إضاءة مكان مرَّ عليه سوادُ عتَمة الإهمال و الهدمِ ، و لا تتحقَّقُ تلك لك إلا عندما تعرفُ حقيقةَ وجودك ، و سِرَّ خلقك .
يا صاحِ ، لستُ متكاسلاً في تأديةِ ما يُناط بي من عملٍ ، فبمجردِ ضغطةٍ لِزِرٍّ تجدني قائماً بالعملِ على أحسنِ وجهٍ ، و لو تكاسلتُ لكان شيءٌ من الإلغاءِ لوجودي ، فتراني مُكرَماً في كلِّ مكانٍ لأنني أقوم بعملي كما ينبغي ، و كما أنا عليه من قُدرةٍ ، فيُكرمني أهل تلك الأماكن لنشاطي و إيماني بقدراتي ، تستلهمُ مني أنتَ أن تكون نشيطاً في أداءِ مهمتكَ ، قائماً بها على جناحِ السرعةِ المُجوَّدَة ، لِتكون محلَّ الإكرام ، فيثقَ بك الناس ، و يعرفون أنك أهل للمُهماتِ الكبار ، تُرى هل يرضون بالشمعةِ في وجودي ؟!

لي أحوالٌ و أشكالٌ ، و لكلِّ حالٍ و شِكلٍ شأنٌ ، فللمجامعِ الكُبرى تجدني في حالةٍ من الأُبَّهةِ و الجمالِ و الزينة ، و في الأحوالِ الخاصةِ تجدني في صورةٍ ، و في أمورٍ أدقَّ تجدني مختلفاً تماماً ، فأنا أعيشُ في اللحظةِ التي تتناسَبُ معها هيئتي ، لأكون وافياً بالمقصودِ مني ، فليسَ من الحَسَنِ أن تكون في حالٍ من الفرحِ متحدثاً عن المُحزناتِ ، و لا في حالِ التفاؤلِ تكون متشائماً ، و لا في حال الغرقِ و الهلَكةِ تغرقُ في الضحك ، فلكلِّ حالةٍ لباساً ، و لكلِّ مقامٍ مقالاً ، فأدركْ تُدرِك .

كذلك مما أمتازُ به أنَّه لا تمنعني موانعٌ أبداً ، فلا أهابُ شيئاً ، أخترِقُ سواد الليلِ بثقةٍ و قوة ، لأنني أعلمُ يقيناً أنَّ الطريقَ لي ، و ما كان لي فهو حقٌ آخُذُه بقوتي و قدرتي ، و لو لم أخُض المكارِه و المصاعبَ لما كنتُ ممتازاً بشيءٍ ، فآمنتُ بقوتي و قدرتي فحقَّقْتُ ما أريد لأنني خطوتُ بهما الخطوةَ التي تُحدثُ أثراً ، فإيمانُكَ بقدراتك و قوتك دافعٌ لك أن تخوضَ بهما الحياة بمغامرةٍ جبارة ، لأن الحياة إما أن تُغامرْ أو تُخامر ، فاقتحمِ الطريقَ بقوةٍ تدفعك .

أظنُّ أنَّك تعرفُ قصةَ صاحبي الذي صنعني ، و كيفَ كنتُ سالفاً و ما أنا عليه الآن ، تنقَّلتُ في أطوارِ التجديد ، فلم أدع فرصةً لأكون أفضل إلا و استخدمتها ، فلو كنتُ كما كنتُ على وقت أديسون لرأيتني مُلقًى لا يُؤْبَه بي ، و هذا التطوُّرُ كان مني مواكبَةً لما يحتاجه الزمن و المكان ، و لكنني بقيتُ كما أنا مصباحاً مضيئاً ، فلم يكن تطوُّري ناقضاً لأصلِ وظيفتي التي أُسِّسْتُ من أجلها ، فليسَ التطويرُ إلا بناءٌ لإقامة الأصل .

تعبَ سيدي الصانع لي ، و جرَّبَ إخوتي ، و لكنَّهم لم يكونوا كما يُريد ، لم أزلْ أتعجَّبُ منه ، كيف كان صابراً ، و كيفَ كان مؤمناً بأنَّه سيقوم بتحقيق هدفه كما يُريد ، أظنُّ أنه صنعَ مئاتٍ من إخوتي ، و بقيتُ أنا الذي حاز الرضا ، و بي تحقَّق الهدف ، فلو كان يائساً لما كنتُ معكَ هنا ، و لو كان متشائماً لترك أول أخٍ لي ، و لكنَّه بصبره و تفاؤله بلغ الهدف ، و لم يكن هدفه في المنتصف أو في الأول ، بل كان بعد محاولاتٍ فكان يرتقِبُ في كلِّ أخٍ يصنعه أنه هو الذي يُريد ، فعلَّقَ نفسَه بالأماني و لكنَّ العملَ لم يَغِبْ عنه ، نقِّبْ في كلامي و استخرج الدرْسَ .

تذكَّرْ أنني مخلوقٌ ضعيفٌ ، مُكوَّنٌ من أشياءَ لا يُعظمها الناسُ ، و لكن انظر إلى أثري ، كيف أنا في الدنيا ، الشيءُ المهم في حياتك ، فالصغائرُ كما أنها تهدمُ كذلك تبني ، و لا تنظرْ إلى التأسيس و الأصلِ و لكن انظر إلى النهاية و التمام ، فالعبرةُ بكمال النهاية لا بنقصِ البداية ، فَسِرْ على تقصيرٍ و لكنَّك في تشميرٍ للبلوغ ، و لا تكنْ سائراً في تشميرٍ فتُحدثُ التقصيرَ ، فلا أكملتَ و لا أحسنتَ ، فتكون مسيئاً .

أنا من الأشياءِ الدنيوية ، و لكنني أخدمُ في الأمور الدينية ، فلا تستهنْ بأمور الدنيا و أنها لا تخدمُ الشرْعَ ، فإنَّك لا تُبصِرُ نورَ الشريعةِ إلا بنور الطبيعة .
تحيتي لكَ يا صاح ، ألهمتُك سِراً ، فاحفظه ..
ثُم انطفأَ المصباح ...

عبد الله العُتَيِّق

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية