صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







(( ضفة البحر ))
27/1/2008
18/1/1429

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


في محادثة الجماداتِ أُنْسٌ قَلَّ وجودُه عند الأحياء ، لفيض المشاعر ببوحٍ لِما تُريد ألاَّ يسمعه البشر ، غيرَ ما يكون من انشراحٍ للصدرِ و ارتياحٍ للنفسِ .
كنت في ليلة بعيداً عن همِّ الحياةِ و شُغلها تبوأتُ من صُخور البحر الجِدَّاوي مقعداً ، و الليلِ زمناً ، و تصادُمِ الأمواجِ ببعضها نَغماً ، و رَشْقِ البحر عِطراً ، أتأمَّلُ البحرَ بِسَعةٍ لا أكاد أُدرك نهايتها ، و هدوءٍ في ذلك الصوت ، و على ما في الموج من اضطرابٍ إلا أنني ألمحُ سكونَه ، قلَّبْتُ النظرَ في هذه الحال التي عشتها و عاشرتها ، فكنتُ في تبادُلٍ جميلٍ لحديثٍ شيِّقٍ ، و حديث البحرِ لا حرجَ يعتريه ، و لا سوءَ يَشُوْبُه .
تذكرتُ و أنا على ( ضفة البحر ) راقماً ( ضفة البحر ) بَيْتَيْن قِيْلا من شاعرٍ لم يكن مُحباً لركوب البحر ، و إن كان الاتفاقُ جارياً في حالينا :

لا أرْكب البحـرَ إنِّـي *** أخشى عليَّ منه المعاطب
طينٌ أنـا و هـو مـاءٌ *** و الطينُ في الماء ذائب

فنقلني الخيالُ ، و الخيالُ بحرٌ ، من ( ضفة ) بحرِ الحِسِّ إلى ( ضفة ) بحر المعنى ، فكم من بحرٍ نغوصُه لا نُدركُ قَعْرَه ، و أعجز الغوَّاصين مَن يقفُ على شاطئه ، و الشاطئان متباينان ، و المُدركُ من البحرِ صيداً فعلى ما يوافقُ هواه و ذوقَه ، و البحرُ يُعطي ما طُلِبَ ، فقدر الطالبِ بقدر مطلوبه .
بحورُ الدنيا التي يخوضها الإنسان لا حصر لها ، فكلُّ حدَثٍ بحرٌ ، و كلُّ مارَّةٍ بحرٌ ، و كلُّ شيءٍ بحرٌ ، وماءُ البحرِ معانٍ و أسرارٌ ، مُلوحة البحرِ جمالٌ و حُسْنٌ ، و كمالٌ في الهيئة الظاهرة .
بحرُ المعرفة مُتلاطم الأمواج واسعُ المساحة ، بعيد القَعر ، مليءُ بالدُّرِّ ، و كذلك بحرُ الفِكْرِ لا ينتهي عند حدٍّ ، و ليس له غايةٌ زمنية يقف عندها ، يسير بأمواجه حيثُ جرَفَتْه رياح الفضاء ، و مجاديف قواربه إما تُوجِّهُ المسيرَ و إما تُضيِّعُه ، و بحرُ التأمُّلِ لا ساحل له ، حيث لا حدود تحوطه ، فيغرق المرءُ فيه فيكون طيناً ، و إن غرِقَ أتى بشيءٍ لا يعرفه إلا من ذاقه ، و كلُّ بحرٍ معنويٍ يُعتبَرُ له البحر الحِسِّي .
على صخرة صمَّاء في ( ضفة البحر ) جلوس الناظر في حال البحر ، فلا معرفة للبحر إلا بوقوفٍ على ما يُطِلُّ عليه ، تلك الصخرةُ تجعل الإنسان في نُقْلةٍ من عالَم الحِسِّ إلى عالم الشعور في تأمُّلات العقلِ لرسائل البحر ، و هي ركيزة الاعتماد حتى يرتفع بها الإنسان و يعتلي ، فتكون قدمُه على موطئٍ راسخ ، فثباتُ الأصلِ ضمانٌ لثمر الفرع .
' الشاطيءُ ' هو البداية الأساسية ، و الواجهة الرئيسية للبحر ، لأنه نُقطة الانطلاق ، و هو برُّ لكلِّ خائضٍ ، و البحر الذي لا شاطئَ له مَهْلَكةٌ ، و تارك الشاطيء إلى مواطنِ العُمقِ خاطبٌ لِحتفه ، و مُتعة البحر في شواطئه ، و لقاءات أهل الكمال تبدأ بالشواطيء .
' الموج ' لا يقف البحر عَن ضرْبِ أمواجه ببعضها و هي حِلية البحر ، و عِقْد جماله ، و هي ضربة قاتلة ، و صفعةٌ مُوْجِعة ، فما كلُّ موجةٍ بَهجةُ مُهجةٍ ، ففي تلاطُم أمواج البحرِ رسائل محفوظة ، و في قطرات مائه موجاتٌ ، و لا يعرفها إلا مَن مارَسَ ، فَلِمَن لا يعرف رسالة الأمواجِ أن يقفَ دون المغامرة .
الغرق في البحر لا يحدثُ إلا لمن لا يُتْقِن مهارة الغوصِ ، و الغائصُ الماهرُ يُخرج اللؤلؤ من مكامنه ، و لا يكون الغوصُ إلا في الأعماق ، و الوصول إلى الأعماقِ لن يتأتَّى إلا بعد مجاوزة البداية ، و البداية للبحرِ من شاطئه ، و قاعدة الشاطيء ضفته ، فمهارةُ التعمُّقِ مِن مهارة البَدْءِ ، و هكذا كلُّ بحرٍ .
لم تدعني الأمواج التي أرسلتها الرياح متلاطمة أُطيلُ مُكثاً في مسامرة البحر ، و لكأني بها تُوحي برسالةٍ أَنْ غادِر ( ضفة البحر ) فليست قراراً لأحد فيتبوأها ، و إنما هي نُقطة بَدْءٍ ، و بدايةُ انطلاقٍ ، و الاعتبارُ بحقائقِ التأمُّلاتِ لا بعلائقها .

عبد الله العُتَيِّق
جدة( حالياً )
http://muntada.islamtoday.net/showthread.php?t=33591
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية