صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







دروس ملهمة للدعاة
من قصة غلام أصحاب الأخدود

أ.وضاح بن هادي
@wadahhade

 
بسم الله الرحمن الرحيم


👌🏻

ولقد برزت ضرورة المواجهة بين الدعوة إلى الحق والحكم الباطل بصورة واضحة جداً في دعوة موسى إذ قال سبحانه له : {اذهب إلى فرعون إنه طغى}.

ذلك أن الرسالة لم تكن أصلاً إلى فرعون لأن موسى كان مرسلاً إلى بني إسرائيل وكان كل ما يريده هو الخروج ببني إسرائيل من مصر : {فأرسل معى بنى إسرائيل}.

ورغم هذا فإن المواجهة كانت مع فرعون باعتباره مسيطراً على واقع الناس الذين كانت الرسالة إليهم.

👌🏻
فإن أي دعوة إلى الحق تظهر في الواقع الباطل توجيهاً نظرياً أو فكرياً مجرداً لا يتضمن تقدير مواجهة هذا الباطل في قوته وسلطانه ستكون قتيلة بسنن الوجود وتُلفظ من واقع الناس.

👌🏻
فالدعوة إلى جميع الناس .. حاكمين ومحكومين، لأن الدعوة دعوة للحق فلو كانت للمحكومين دون الحاكمين لأصبحت فكراً خاضعاً لمن يحكم بالباطل، ولو كانت للحاكمين دون المحكومين لأصبحت وسيلة من وسائل هذا الحكم الباطل.

👌🏻
فالحكم ضرورة في تصور الدعوة، ولكنه لن يأتي منحة من المغتصبين له، ولن يتحقق بالمساومات الرخيصة.
بل يجب أن يسترد بالجهاد والعمل ليكون ولاية شرعية حقيقية وليس مجرد تسلط شخصي أو سيادة فردية دون إمكانيات القيام بالحكم والاستمرار فيه بعد الوصول إليه.

👌🏻
ويجب ألا يمنع الاستضعاف ضرورة المواجهة بين الدعوة والحكم الظالم وليس في تلك المواجهة دون اعتبار للإمكانيات المادية - أي تهور.

ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن سيد الشهداء من يقوم إلى حاكم ظالم يأمره وينهاه، وهو يعلم أنه سيقتله فقال : (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام ظالم فأمره ونهاه فقتله)، لأنه أكد ما يؤكده الشهداء بقتالهم الكافرين أصحاب القوة والسلطان، ويزيد عليهم أن الشهداء كانوا يقاتلون باحتمال النصر أو الشهادة وهو يواجه باحتمال واحد وهو الشهادة.

👌🏻
فالحكم بكل أشكاله سيطرة على الواقع الإنساني؛ فإما أن يكون الحكم سليماً فيقوم على بناء كيان الإنسان وصيانته، وفي هذه الحالة يكون من مصلحة الحاكم أن يكون الإنسان الذي يواليه عاقلاً عالماً قوياً.

وهذا هو الحكم الإسلامي
الذي يرعى الفرد ويقويه.

وإما أن يكون الحكم جاهلياً فيقوم على تفتيت كيان الفرد وتشتيت كيان المجتمع، لأن الحكم الجاهلي لا يريد إلا السيطرة دائماً ولو إلى الدمار.

وفي هذه الحالة يكون من مصلحة الحاكم أن يكون الإنسان الذي يواليه غبياً جاهلاً ضعيفاً.

👌🏻
ومن هذا القول نجد نموذجاً لبطانة السوء التى يهمها أن تبقى الأوضاع التي يستفيدون منها وينعمون فيها.

ومثلهم الواضح سحرة فرعون الذين جاءوا إلى المدائن لمواجهة موسى فكان أول ما قالوا : {إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين}.

فلم يسألوا عمن سيواجهون وما هي قضيته .. فهذا لا يهم، ولكن الذي يهم هو الأجر، غير أننا نلحظ أن الساحر في طلبه للغلام لم يكن يريد منفعة.

👌🏻
والداعية الحقيقي هو الذي يشعر بمسئوليته تجاه الفطرة الإنسانية وحمايتها من أي تأثير جاهلي، ويحس إحساساً عميقاً بقيمة تلك الفطرة في واقع دعوته.

فالفطرة هي رصيد الدعوة في الواقع الجاهلي وحينما تفسد فلن يكون للدعوة أي وجود أو امتداد.

وهذا ما قصده نوح عندما دعا بهلاك قومه لما رأى وجودهم في ضلال وامتدادهم في فجر وكفر {وقال نوح رب لاتذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً}.

فقد بلغ الضغط الجاهلى بطون الأمهات فأصبحت النساء لا تلد إلا [فاجراً كفاراً]. فعند هذا لا يكون هناك أمل.

👌🏻
ولم يكن هذا سهلاً على نفس الغلام؛ فقد كان يتعلم السحر من الساحر والدين من الراهب بما بينهما من تناقض.
فالدين حقائق واضحة وفكر منظم والسحر ضلالات غامضة وكذب ملفق، والدين يربي العقول والسحر يغتالها، والدين يعالج الواقع والسحر يضلل عنه، والدين يبني الحياة والسحر يهدمها.
ولهذا كان صعباً على الغلام أن يستمر في تلقيه الدين والسحر باطمئنان، ولكنه يجلس إلى الراهب راغباً وإلى الساحر كارهاً.

👌🏻
فطبيعة التلقي لهذا الدين هي التي تحدد طبيعة اعتناقه والالتزام به والدعوة إليه.
والذين يتلقون هذا الدين على أنه بلاء، هم الذين يبقون إلى النهاية، وأخذ هذا الدين بقوة هو ضمان الاستمرار عليه.

👌🏻
(... ورجع الغلام إلى الراهب فأخبره). وهذا هو التصرف التلقائي عندما يواجه الداعية موقفاً خطيراً أو حدثاً هائلاً فيذهب متلهفاً إلى من تلقى منه منهج الدعوة ليسمع منه تفسير هذا الموقف بتصور الدعوة.
(فقال له : أي بني أنت اليوم أفضل مني) ولم يكن الموقف الذي وقفه الراهب موقفاً عادياً عندما قال للغلام ذلك، ولكنه موقف فاصل في حياة كل داعية.
فقد تخفي الدعوة في الإنسان الذي يمارسها حباً خفياً للتميز باعتبار أن هذه الممارسة صورة من صور تميزه على الناس.
ولكن هذه العورة النفسية القبيحة تنكشف حتماً إذا واجه الإنسان موقفاً يشعر فيه أن هناك من هو أفضل منه في فهم الدعوة وأقدر على تحقيق مصلحتها.
ولكن الراهب لم يكن من هذا النوع بل كان تقياً نقياً (فقال لـه : أي بني أنت اليوم أفضل مني)، كلمات كلها إخلاص وتجرد.

👌🏻
فالمعجزة وهي القدر الإلهي الذي يتحقق على أيدي الأنبياء ووسيلة إقناع الناس لم تكن خارقة كونية فحسب، ولكنها كانت أيضاً منفعة مادية لكي يعلم من يمارس الدعوة بعد الأنبياء أن الإقناع مهما بلغت إمكانياته لا يكفي دون تقديم الخير للناس. ليكون الإقناع بالعقل في الدعوة مع تأليف القلوب بالحب لها، وأن نطاق الدعوة لن يتعدى نطاق المنافع التي يؤلف بها هؤلاء الدعاة قلوب الناس.

👌🏻
ولذلك نلاحظ أن الغلام لم ينطق في تبليغه لقضية الدعوة إلا بثلاث عبارات في القصة كلها :

قوله : (.. إنما يشفي الله..) رداً على الجليس عندما طلب الشفاء، ورداً على الملك عندما ادعى أن ما يفعله الغلام إنما هو سحر.

وقوله : (...كفانيهم الله) رداً على الملك بعد نجاته من الموت فوق الجبل وفي السفينة.

وقوله : (وأن تقول : باسم الله رب الغلام ) عندما دل الملك على الكيفية التي يستطيع أن يقتله بها.

ولكن هذه العبارات الثلاث تمثل في الحقيقة ثلاث نقاط في خط واحد وهو خط الإثبات العقدي لقضايا الدعوة من خلال الواقع.

فالله الشافي.. والله الكافي.. والله المحيي المميت.. حقائق لم يرددها الغلام كقضايا جدلية وكلامية.

ولكنه ذكرها كحقائق نهائية ثابتة في واقع قائم بحيث لا يمكن ردها أو حتى مناقشتها.

👌🏻
الملك الطاغوت يقول : (أي بني) كلمة كلها مكر وخبث وضغط على نفس الغلام، وإغراء لـه بالقرب منه بما يتضمن هذا القرب من مستقبل زاهر وحياة مترفة.

ثم يقول الملك : (قد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل ما تفعل؟) وقد حاول الملك بهذه العبارة أن يسرق ما كسبه الغلام من تقدير في نفوس الناس بأن يعود بتفسير أعمال الغلام إلى السحر الذي تعلمه من ساحر الملك الذي أتى الملك إليه بالغلام، وهذا ما يصنعه الذين لا يريدون الاعتراف بالحق فيفسرونه بأي شيء غير الحق، وهذا نفسه ما فعله فرعون لما هزمه موسى فقال : {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر}.

وهذا ما فعله أيضاً المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما رأوه ينفي الألوهية عن أصنامهم بجرأة وقوة قالوا : {معلم مجنون}.

👌🏻
عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال : (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر لـه في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يبعده ذلك عن دينه.. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).

ومعنى أن يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث للصحابة دليل على أنه أشد ما يتعرض لـه الدعاة إلى الله من عذاب.

وهكذا يتعامل الظلمة مع دعاة الحق فلا فرصة للمناقشة ولا سبيل إلى الإقناع ولئن كان الملك ظالماً وسبيل بقائه في الحكم هو السحر.

إذن فلا قضية عنده ولا مبدأ، ولهذا لم يجد وسيلة في مواجهة الموقف إلا التعذيب والتقتيل.

ونلاحظ أن الملك كان حريصاً على أن يرتد الراهب والجليس قبل أن يقتلهما لأن ارتدادهما قتل للدعوة وقتلهما حياة لها، ولهذا لم يقتلهما إلا بعد أن عرض عليهما الدعوة ويئس من الاستجابة.

👌🏻
ليست الحياة هدفاً يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة أو الحرص على الموت.

والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص الذي لا يعدو أن يكون فلسفة للجبن أو للارتداد عن سبيل الله.

والذين يندفعون إلى الموت برغبتهم النفسية دون اعتبار لمصلحة الدعوة إنما يبددون بذلك الاندفاع والتهور طاقة الدعوة وإمكانياتها.

👌🏻
وكما أن مصلحة الدعوة هي الحد الفاصل بين الجبن والشجاعة، فهي أيضاً الحد الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلا ضرورة أو منفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة.

وعلى هذا لم يكن طلب الغلام للنجاة جبناً ولم تكن عودته إلى الملك تهوراً بل كان في كلا الموقفين شجاعاً حكيماً.

👌🏻
(جاء يمشي إلى الملك).

لم تؤثر محنته على منهجه..

لم يحدث التصرف الذي غالباً ما يتصرفه بعض الدعاة بعد أن يعيشوا مرحلة من مراحل الخطر .. يخرجون من هذا الخطر وقد قرروا تفاديه في كل مواقفهم .. ويصبح هذا القرار أساساً في تحديد تصور جديد ومنهج جديد.

👌🏻
ولقد كان آخر ما قاله الغلام هو أمره للملك بأن يقول : (بسم الله رب الغلام)، وبهذه الكلمة فتح الغلام للناس باب الإيمان .. فقد كانوا يعرفونه محباً لهم وساعياً لمنفعتهم ومداوياً لأدوائهم وما بقي إلا أن يعرف الناس أن للغلام رباً هداه إلى محبتهم وأذن له بشفائهم.

باسمه تحقق عجز الملك، وباسمه سيموت الغلام راغباً من أجل إيمانهم، وهنا نشعر بمدى القهر الذي انتهى إليه الملك، فبعد أن كان يدعي الربوبية ويعذب ويقتل من لا يدَّعيها له، يقول في النهاية بنفسه : (باسم الله رب الغلام).
 

🖊
نقله بتصرف
وضاح بن هادي
من كتاب أصحاب الأخدود
للشيخ رفاعي سرور

 

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
وضاح هادي
  • القراءة
  • التربية والدعوة
  • مشاريع قرائية
  • قراءة في كتاب
  • تغريدات
  • أسرة تقرأ
  • الصفحة الرئيسية