صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







طالب العلم والقراءة
محاضرة مقدّمة بجامع العقيل بالطائف
بتاريخ 20/11/1436 هـ

وضاح بن هادي
@wadahhade

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد الذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم ، وأرسل إلينا رسوله النبي المكرم ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم ..

كم أنا سعيد أن يتكرر اللقاء بهذه الوجوه الطيبة ، في مثل هذا الجامع المبارك ‘جامع العقيل‘ الذي ذاع صيته بمشروعاته وبرامجه النافعة والمباركة ..
فأسأل الله للقائمين عليه توفيقا وسدادا وبركة في أوقاتهم وأعمارهم وأموالهم وأهليهم ..

طالب العلم والقراءة .. هو موضوعنا لهذه الليلة .. ضمن هذه السلسلة النافعة ‘وصايا إلى طالب العلم‘ ..

لماذا القراءة لطالب العلم؟
ما جدوى؟ ما أهمية؟ ما ثمرة القراءة لطالب العلم؟
وهل هناك ارتباط بين طلب العلم وتحصيله والقراءة؟
وكيف هو حال سلف هذه الأمة وخلفها من أهل العلم مع القراءة؟
وكيف يرسم طالب العلم منهجيته القرائية؟
بل كيف تكون لطالب العلم قراءاته المثمرة الواعية الناضجة؟

هذه محاورنا التي سيدور حولها حديثنا في هذا اللقاء ..

حينما نتكلم عن طلب العلم ؛ فنحن نتكلم عن هذه الفريضة العظيمة ، أولى ما تُنفق فيه الأعمار ، وتُشغل به الأوقات ‘وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع‘.. فهنيئا لمن سلك طريق العلم ، وأنار الله بصيرته بالفقه في الدين ‘فمن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين‘ ..

وسلوك طريق الطلب (طلب العلم) هو سلوك لطريق الرفعة والعز ‘يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‘ ، بل هو سلوك سبيل الجنة ‘ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنة‘ ..

‘وكفى طالب العلم شرفا أن يدّعي العلم من لا يُحسنه ، ويفرح به من يُنسب إليه ، وعلى العكس كفى بالجهل ذمّا أن يتبرأ منه من هو فيه‘

ورحم الله ابن القيم حين يقول : ‘كلُّ صفةٍ مدَحَ اللهُ بها العبدَ في القرآن فهي ثمرةُ العلمِ ونتيجتُه ، وكلُّ ذمٍّ ذمّه فهو ثمرةُ الجهلِ ونتيجتُه‘ ,,

وطالب العلم الذي له من اسمه نصيب؛ هو يعلم أن الوصول لمبتغاه يكون بطريقين اثنين يسيران معه في خطين متوازيين : طريق المشافهة والتلقين والملازمة والجلوس بين يدي الأشياخ وثني الركب في حلق أهل العلم ، وقد قيل : ‘من دخلَ في العلمِ وحدَه خرجَ وحده‘ ، أي من دخل في طلب العلم بلا شيخٍ ؛ خرج منه بلا علم بلا مكنة بلا تأصيل بلا إدراك صحيح لكُنِه المسائل والعلوم .. إذ العلمُ صنعةٌ ، وكلُّ صنعةٍ تحتاجُ إلى صانعٍ ، ولا بدَّ إذاً لتعلُّمها من معلمٍ وشيخٍ حاذق ..

وكان أبو حيّانَ كثيرا ما يُنشدُ :

يظنُّ الغمْرُ أن الكُتْبَ تَهْدي --- أخَــــــــــا فـهْمٍ لإدراكِ العلومِ
وما يدري الجهولُ بأنّ فيها --- غوامـــضَ حيّرت عقلَ الفهيمِ
إذا رُمتَ العلومَ بغيرِ شيخٍ --- ضَللتَ عن الصراطِ المستقيمِ
وتلتبسُ الأمورُ عليك حتَّى --- تصيرَ أضلَّ من تُومَـا الحكيمِ


وقد قرّر هذا الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله : ‘إنّ العلمَ كان في صدورِ الرجالِ ، ثم انتقلَ إلى الكتبِ ، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال‘ ..

إذاً هذا طريق لا بدّ منه في تحصيل العلم الشرعي ..

ثم طريق آخر ، وهو طريق ‘القراءة .. والعيش بين كتب العلماء من السابقين والمعاصرين‘ .. ومن اكتفى بالقليل الذي حصّله من الأشياخ ولم يتبع ذلك بالقراءة ، فربما وقف به الحد عند رتبة متأخرة في العلم ..

فالعلم رُتَب .. ولن يُحصّله إلا من جاهد وكابد وواصل وسهر ..

ورحم الله الإمام أحمد حين سُئل إلى متى يا إمام؟ قال : ‘حتى الموت‘ ..

ونقل الجاحظ في الحيوان عن الحسن اللؤلؤي قوله : ‘غبّرتُ أربعينَ عاما ، ما قِلْتُ ، ولا بِتُّ ، ولا اتكأتُ ، إلا والكتابُ موضوعٌ على صدري‘ ..

وينقل ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين قوله : ‘وحدثني أخو شيخِنا (عبدالرحمنِ بنُ تيميةَ) عن أبيه قال : كان الجدُّ إذا دخل الخلاءَ يقول لي : اقرأ في هذا الكتابِ ، وارفعْ صوتَك ، حتى أسمع‘ ..
يا الله .. لله درها من نفوس عشقت العلم ، وضحّت من أجله ، وتبنته منهاجا في حياتها ، فصار طعامها وشرابها وهواءها ..

وطالب العلم لا ينفك عن القراءة بل هو بحاجة دائمة إليها ؛ لماذا؟


إن كنّا نقول : أن الأخذ على الأشياخ يُملّكك الجودة والإتقان ومفاتيح التعامل مع المسائل والعلوم ؛ فإن القراءة في كتب أهل العلم تُملّكك الثراء والتوسع والنضج والتجديد المعرفي والفكري ..

يا أيها الأحبة : كل العلوم في نماء وتجدد وتوسّع ؛ وطالب العلم بعد مرحلة التأصيل بحاجة إلى أن يُواكب هذه الحركة العلمية المتسارعة ، والقراءة سبيل لتحقيق ذلك ، سواء في مجال تخصصه ، أو في مجالات الحياة عموما ..

يقول أحد الباحثين : تُفيد بعض التقديرات أن نحوا من تسعين بالمائة من جميع المعارف العلمية ؛ قد تمّ استحداثه في العقود الثلاثة الأخيرة ، وسوف تتضاعف هذه المعارف خلال اثنتي عشرة سنة.
ويقول آخر : إن على المتخصّص المعاصر أن يضع في حسبانه أن نحوا من عشرة إلى عشرين بالمائة من معلوماته قد شاخ ، وعليه أن يُجدّده.


ودوام القراءة والمطالعة والمتابعة يُتيح لنا مواكبة كل تلك المستجدّات ..

ثم أن القراءة هي من تجعلنا نقفز على عقول العظماء من أسالفنا وممن لم نُعاصرهم ولم نُدرك زمانهم أو أدركنا زمانهم ولم نُلازمهم ، لأن القراءة هي في حقيقتها تجوّل بين عقول الرجال وأفهامهم ..
وقد نقل الذهبي في السير عن الخليفة المأمون : ‘لا نزهةَ ألذُّ من النظر في عقول الرجال‘.

وقبل هذا وذاك ؛ فالقراءة قُرْبة وعبادة يتقرّب بها طالب العلم إلى ربه ، متى ما صلُحت النية ، وكان مبتغى القارئ معرفة أمور دينه ، والتبصّر في عبادة ربه ، والتفهّم في مراد الله ومراد رسوله ، بل ولو كانت تلك القراءة في علوم الحياة ، وكان المبتغى من وراء قراءتها عمارة الدنيا ، ونهضة الأمة ، كانت هي قربة يُتقرب بها ..

بل تأملوا في أول ما تنزّل على نبينا سيد البشرية ومعلم الإنسانية صلى الله عليه وسلم ؛ كان ‘اقرأ‘ ، بل وربط معها في ذات الآية تذكيره للإنسان بنعمة الخلق بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ‘اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق‘ ؛ وكأنها إشارة لمحمد بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ؛ بأن الذي خلقك بعد أن كنت عدما ، فهو قادر على أن يعلمك بعد أن كنت أميّا ‘وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون‘ ..
ثم كرّر عليه الأمر ‘اقرأ وربك الأكرم * الذي علّم بالقلم‘ ، والقلم هي أداة الكتابة ، ونحن نقرأ ما نكتب وما كُتب ..
وتلك نعمة كبرى أقسم الله بها : ‘ن والقلم وما يسطرون‘ ، وكأن يذكّر خلقه – كما قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة - بأن منحهم نعمة البيان النُطقي ، والبيان الخطّي .. ثم قال : ‘فالتعليم بالقلم هو من أعظم نعم على عباده ؛ إذ به تخلد العلوم ، وتثبت الحقوق ، وتُعلم الوصايا ، وتُحفظ الشهادات... إلى أن قال : وبه يَعرِف الخلف مذاهب السلف ، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم ؛ فجعل لهم الكتاب وعاءا حافظا كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان ..‘
وهذه النعمة حقّها الشكر والعمل بها والمواظبة عليه ..

ولمّا كان للكتاب والقراءة هذه المكانة أضحينا نقرأ عجبا في أحوال السلف والخلف من أهل العلم معها ..

اسمع لابن القيم وهو يقول في روضة المحبين : ‘وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمّى ، وكان الكتاب عند رأسه ، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه ، فإذا غُلب عليه وضعه ، حتى يدخل عليه الطبيب وهو كذلك ، فيقول له : إن هذا لا يحلّ لك‘ ..

بل أن ابن القيم يقول عن شيخه ابن تيمية ، يقول في روضة المحبين : ‘وحدثني شيخُنا قال : ابتدأني مرضٌ ، فقال لي الطبيبُ : إنّ مطالعتك وكلامَك في العم يزيدُ المرض ، فقلتُ له : لا أصبر على ذلك ، وأنا أحاكمك إلى علمك ؛ أليست النفسُ إذا فرحت وسُرّت قويت الطبيعةُ ، فدَفَعت المرض؟ فقال : بلى ، فقلتُ له : فإن نفسي تُسرُّ بالعلمِ فتقوى به الطبيعةُ ، فأجدُ راحة .. فقال : هذا خارج عن علاجنا‘ ..

وابن الجوزي في صيد الخاطر يحكي عن حاله فيقول : ‘وإني أخبر عن حالي ، ما أشبع من مطالعة الكتب ، وإذا رأيتُ كتابا لم أره فكأني وقعت على كنز ، ولو قلتُ إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعدُ في الطلب‘ ..

وتأملوا وضَعوها بين قوسين (وأنا بعدُ في الطلب) ؛ هذا التواضع لا يُدركه حقيقة إلا العالم ، لماذا؟ لأن الذي يدعو الإنسان إلى مواصلة سير العلم هو العلم نفسه ، إذ أنه كلما زادت المعرفة ، عَلِمَ الإنسان بحقيقة ما يجهل ، واتسعت لديه منطقة المجهول ..

وإن شئت استزادة وإبحارا مع حال أولئك مع القراءة والكتب ؛ فارجع إلى كتاب ‘صفحات من صبر العلماء‘ للعلامة عبدالفتاح أبو غدّة رحمه الله ، أو كتاب ‘المشوّق إلى القراءة وطلب العلم‘ للشيخ علي العمران ، أو كتاب ‘عشّاق الكتب‘ للأستاذ عبدالرحمن الفرحان ..


ومما نقلوه عن أبي محمد عبدالله بن أحمد الخشّاب النحويّ : ‘كان لا يخلو كمّه من كتاب‘ ..
بل من عجائب ما رُوي في هذا ، ما رواه الذهبي في السير ، عن أبي العلاء الحسن بن أحمد العطّار الهمذاني : ‘ورُئي في المنام في مدينة جميع جُدرانها من الكتب ، وحوله كتب لا تُحدُّ ، وهو مشتغل بمطالعتها ، فقيل له : ما هذه الكتب؟ قال : سألتُ الله تعالى أن يشغلني بما كنتُ أشتغل به في الدنيا ؛ فأعطاني‘ ..

وهذه الصور وغيرها كثير حتى في عالمنا المعاصر ؛ ليس للتثبيط أو النظر على أنها بعيدة المنال ؛ لا ..

تشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم --- إن التشبّه بالكرامِ فلاحُ

إلا أن طالب العلم بحاجة إلى ‘رسائل ووصايا مهمة‘ نختم بها لقائنا ، ونذكرها سريعا فيما يمكن أن نُسمّيه بالقراءة الواعية الناضجة المثمرة ، كيف يبني طالب العلم منهجيته وقراءاته؟ ويستثمر من خلالها وقته وعمره ولحظات حياته ..

لأن العمر قصير.. والعلوم كثيرة.. والمؤلفات غزيرة.. والمكتبات ملأى..


1-
على طالب العلم أن يعرف مستواه ورتبته التي هو فيها ؛ فليس المبتدئ في الطلب ، كالمتوسط ، كالمتقدم ، كالمنتهي المجتهد ؛ فلكل مرحلة ما يلاءمها من العلوم والكتب ، وهناك المؤلفات والتجارب الكثيرة التي كتَبت في المنهجية القرائية لكل مرحلة من هذه المراحل ..
إلا أن طالب العلم مطالب بعدم حرق هذه المراحل ، والتنقّل فيها شيئا فشيئا ، حتى لا يكون ذلك مدعاة للنفور أو الانقطاع عن طريق الطلب والقراءة ربما ، أو سوء الفهم الذي ينتج عن عدم التأسيس والتأهل قبل الولوج لبعض تلك العلوم أو الكتب ..

2-
إذا عُلم هذا ؛ فإن الكتب ليست كلها نوع واحد أو درجة واحدة ؛ وكُتب الأوائل تختلف عن كتب المتأخرين ؛ فمن الكتب ما ليس فيها لبس أو غموض أو تعقيد أو تكلف ، ومن الكتب ما تحتاج إلى قراءة متأنية ، هي أشبه بالقراءة التأملية الدراسية ، لأن فيها مسائل وقواعد ومصطلحات ، وهذه غالبا لا يبدأ فيها طالب العلم حتى يتأسس بالعلوم المرتبطة بذلك العلم ..
ولذا يقول الإمام الشاطبي في مقدمة موافقاته : ‘ومن هنا لا يُسمح للناظر في هذا الكتاب أن يَنظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريّان من علم الشريعة أصولها وفروعها ، منقولها ومعقولها‘ ..

3-
وهذا النوع من الكتب بحاجة كما ذكرنا إلى صفاء ذهن ، واستعداد عقلي ونفسي ، واختيار للزمان والمكان المناسبين ، لأنها كتب بحاجة إلى نظر وتأمل وحرث للكتاب لاستخراج مكنوزاته وفوائده ودرره ، ولا مانع من تكرار مثل هذه الكتب مرات ومرات حتى تتضلع منه وتحسّ أنك قد أُشربته ؛ وهذا نقوله في زمن ألهى كثير من طلبة العلم التكاثر والتفاخر بكثرة المقروءات ، مع ضعف ونقص كبير في الفهم والاستيعاب ..
هذا الإمام المزني تلميذ الإمام الشافعي يقول : قرأتُ كتاب الرسالة خمسين مرة أو أكثر ، وفي كل مرة أستفد منه ما لم أستفد في سابقتي‘ ..

4-
ولذا استشارة المختصين من أهل العلم وأهل ذلك الفن مهم ، ومطلب ملح ، خاصة مع كثرة الدور والطبعات والتحقيقات والشروحات ؛ فالاستشارة تختصر لطالب العلم كثير من المسافات ، بل وكثير من المال والوقت والجهد ، الذي قد يُبذل في تمحيص الكتب ومعرفة حسنها من غيره ..

5-
إذا عُلم أن الكتب أنواع ؛ فالقراءة أيضا أنواع ، فهناك ‘القراءة الاستكشافية‘ ، التي يكون هدفها معرفة الكتاب ومجاله ومستواه وموضوعاته ، وهذه تكون أن يقرأ القارئ أولا مقدمة الكتاب وخاتمته وفهرسه وشيء من موضوعاته ، حتى يستكشف ماهية الكتاب ..
لماذا هذه القراءة الاستكشافية؟ هي غالبا تكون حينما يقع في يدك كتاب لم تسمع أو تقرأ من قبل من يُوصي به ، ويكون جديدا عليك ، غير معروف حتى مؤلّفه ؛ فتتعامل معه بالقراءة الاستكشافية ، وهي مهمة لأن (الكتاب) كما يقولون مثل (القميص) جودته ليس في قماشه ولونه ، وإنما في مناسبته للابسه ..

وهناك ‘القراءة الانتقائية أو البحثية‘ ، وهي التي تكون لغرض البحث ، فتتصفح الكتاب وتنظر في موضوعاته وتقرأ منه فصل أو فصلين هي التي تهُمّك ..

وهناك ‘القراءة التحليلية ، القراءة النقدية‘
، وهي رتبة متقدمة من القراءة ، وتأتي مع الزمن ، ومع التمكّن في المجال الذي تقرأ فيه ؛ فهي لا تقتصر على القراءة المجردة والاطلاع والاستفادة فحسب ، بل تترقى بالقارئ إلى محاورة ومناقشة الكاتب ، وطرح الأسئلة ، ونقد الأفكار ، وتمحيص المحتوى ..

وهناك ما يُسمّى بـ‘القراءة السريعة‘
، أو ‘قراءة التحليق فوق النص‘ ، وهي قائمة على قراءة الأفكار أكثر من قراءة الكلمات والجمل ، وهذه لا تكون مع كل الكتب ، بل تعتمد على خلفيتك المسبقة عن مجال الكتاب الذي تقرأ فيه ، وعلى مدى عُمق المضمون الذي يحتويه ذلك الكتاب ، وغالب من يُوصي بمثل هذه القراءة أنها تكون على مستوى قراءة الجرد ، أو قراءة المطوّلات أحيانا ، ككتب التاريخ والأدب ونحوها ، أو تكون فيما نسمّيه بالقراءة الترويحية الترفيهية ؛ ككتب الروايات والسير الذاتية والقصص ونحوها ..

6-
طالب العلم لا ينفك عن القلم ومصاحبة القلم وهو يقرأ ؛ فالقلم تحصل به فوائد كثيرة ، من تدوين للفوائد ، وتصحيح للأخطاء ، واستفهام للمُشكل ، وإحالة على الكتب ، وحواشي للنصوص ، وتلخيص للأفكار ، وشرح للعبارات... وهكذا ؛ كل ذلك يحصل من خلال مصاحبة القلم والتدوين أثناء القراءة ..

وتأمل في كتاب ‘الفنون‘ لابن عقيل ، وهو من أضخم الكتب ، وكتاب ‘صيد الخاطر‘ لابن الجوزي ، وكتاب ‘عيون الفوائد‘ لابن النجّار ، وكتاب ‘بدائع الفوائد‘ و‘الفوائد‘ لابن القيم ، وكتاب ‘مجمع الفوائد ومنبع الفرائد‘ للمقريزي ، ومن المعاصرين كتاب ‘كنّاشة النوادر‘ لعبدالسلام هارون ، وكتاب ‘فرائد الفوائد‘ لابن عثيمين رحم الله الجميع ؛ فكل هذه كانت نتيجة التدوين والاقتباس واستخلاص الدرر مما يقرؤون ..

فحريّ بطالب العلم أن تكون له كُنّاشته ، بل لكل فنٍّ كُنّاشته ، ينقل فيها الفوائد المستجدة ، والطرائف والشوارد ، ولطائف الإشارات ، ودقائق الاستنباطات ، والأشباه والنظائر ، والتقسيمات والترتيبات المبتكرة .. إلى آخره

ولا يعرف قيمة هذه الصيد الذي يقتنصه القارئ أثناء قراءته إلا من جرّبه ؛ ولذا الإمام النووي يقول وهو يُرشد القارئ أن لا يفوّت على نفسه تدوين هذه النفائس والغرائب فيقول : ‘ولا يحتقرن فائدة يراها أو يسمعها في أيِّ فنٍّ كانت ، بل يُبادر إلى كتابتها ، ثم يواظب على مطالعتها ..‘.

7-
وهذا يدفع بطالب العلم أن يجتهد على نفسه حتى يترقّى في نوعية قراءته ، فلا تكون قراءته قراءة استسلامية ، أو قراءة إمّعية ، لا يُناقش ولا ينقد ولا يعترض ولا يصوّب ، وإنما يستسلم لكل ما يطرحه هذا المؤلّف أو ذاك ؛ وهذا بلا شك يأتي مع الاستمرارية والتأصيل والتكوين العلمي الصحيح ..

8-
ثم أن طالب العلم بحاجة إلى أن تكون قراءته قراءة توازنية ، مقسمّة بين العلوم الغائية والعلوم الآلية ، أو ما يُسمى بـ(علوم الغاية وعلوم الآلة) ، فبعد أن يتأسس في علوم الغاية فيأخذ منها كفايته ، يأخذ ما استطاع إليه من علوم الآلة ، وما يقوم به من الفهم الصحيح لمسائل ومباحث علوم الغاية ..

ثم تكون له قراءات ممنهجة وصحيحة في مجالات المعرفة الأخرى ؛ كالتاريخ والسير والأدب وقضايا الفكر ... ونحوها.
ولا بأس بأن تكون له تراويح يتروّح بها مع بعض كتب الطرائف والنوادر والشعر والمسامرات .. ونحوها.

لكن المهم أن يُعطي لكل فن وقته ومرحلته من الطلب ..

9-
ثم في الختام نؤكد إلى أن علاقة طالب العلم بالكتب ؛ علاقة حميمية لا تنفك عنه في أيِّ مرحلة من مراحل الطلب ، والحديث عن طالب العلم والكتب حديث له مجلسٌ آخر إن شاء الله ..

لكن مما ينبّه إليه سريعا ما يتعلق بأمر العناية بالكتب وصيانتها ؛ وكانوا يقولون : ‘لا تجعل كتابك بوقا ولا صندوقا‘ ، أي لا تلويه فيكون كهيئة البوق ، ولا تُكثر من وضع الأشياء بداخله فيكون بمثابة الصندوق ..
بل بلغ من عناية أهل العلم بالكتب أن كان يوصي بعضهم بعضا بقولهم : ‘ولا تفرش الكتاب كيلا يتقطع حبله ، ولا تضعه على الأرض مباشرة وإنما فوق خشبة كيلا يبتلّ‘ ..
ومن تلك الوصايا أيضا : أن يُفتح الكتاب بلين ، وألا تُفرك صفحاته بقوة ، ولا تُبللّ الأصابع باللعاب الكثير لتقليبها ، ولا تطوى حاشية الورق أو زاويتها ، وألا يُكتب عليها بأقلام غليظة ، وألا توضع فوق بعض وإنما جنبا إلى جنب ، وأن تكون مرتبة في مكتبة طالب العلم ؛ إما حسب الفنون والعلوم ، أو حسب الأقدم فالأقدم ، أو حسب المؤلفين ..

هذا والله المسئول أن يرزقنا العم النافع والحرص على تحصيله ، وأن يزيدنا فهما ونفعا بما نقرأ ونحصّل ..

ورحم الله الحسن البصري حين قال : ‘كان الرجلُ إذا طلبَ العلمَ ؛ لم يَلْبَثْ أن يُرى ذلك في تخشّعه ، وبَصَرِه ، ويَدِه ، وصَلاتِه ، وزُهدِه ..‘


والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين ..


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
وضاح هادي
  • القراءة
  • التربية والدعوة
  • مشاريع قرائية
  • قراءة في كتاب
  • تغريدات
  • أسرة تقرأ
  • الصفحة الرئيسية