صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







المساهمة في الشركات

يحيى بن موسى الزهراني

 
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولي الصالحين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الأمين ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الغر المحجلين ، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين . . . أما بعد :
فالله جل وعلا خلق العباد لعبادته سبحانه وحده لا شريك ، وأرسل لهم الرسل ، وأنزل لهم الكتب ، وحد لهم حدوداً لا يجوز لهم تعديها ، وخط لهم خطوطاً يحرم عليهم تجاوزها ، ونحن أمة الإسلام أرسل إلينا محمداً عبداً ورسولاً ، شفيقاً عطوفاً ، رءوفاً رحيماً ، وأنزل إلينا أفضل كتبه ، وأعظم كلماته ، القرآن الكريم ، فيه تبياناً لكل شيء ، فالحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله .
قال ابن القيم في مدارج السالكين : " أما الزهد في الشبهة : فهو ترك ما يشتبه على العبد: هل هو حلال أو حرام ؟ كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، يقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: " الحَلالُ بَيِّنٌ، وَالحَرامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهما مُشَبَّهاتٌ لا يَعْلَمُها كثيرٌ منَ الناسِ. فمنِ اتَّقىٰ المُشَبَّهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينهِ وعِرْضِه، ومَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ: كراعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمىٰ يُوشِكُ أنْ يُواقِعَه. ألا وإِنَّ لِكلِّ مَلكٍ حِمى، ألا إِنَّ حِمَى اللهِ فِي أرضِهِ مَحارِمُه. ألا وإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسدُ كلُّه، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسَدُ كله، أَلا وهِيَ الْقَلْبُ " [ متفق عليه ] .
فالشبهات برزخ بين الحلال والحرام ، وقد جعل الله عز وجل بين كل متباينين برزخاً ،  كما جعل الموت وما بعده برزخاً بين الدنيا والآخرة ، وجعل المعاصي برزخاً بين الإيمان والكفر ، وجعل الأعراف برزخاً بين الجنة والنار ، وكذلك جعل بين كل مشعرين من مشاعر المناسك برزخاً ـ حاجزاً ـ بينهما ، ليس من هذا ولا هذا ، فمحسر برزخ بين منى ومزدلفة ، ليس من واحد منهما ، فلا يبيت به الحاج ليلة جمع ، ولا ليالي منى ، وبطن عرنة برزخ بين عرفة وبين الحرم ، فليس من الحرم ، ولا من عرفة ، وكذلك ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس برزخ بين الليل والنهار ، ليس من الليل لتصرمه بطلوع الفجر ، ولا من النهار لأنه من طلوع الشمس ، وإن دخل في اسم اليوم شرعاً.
وكذلك منازل السير: بين كل منزلتين برزخ يعرفه السائر في تلك المنازل ، وكثير من الأحوال والواردات تكون برازخ ، فيظنها صاحبها غاية ، وهذا لم يتخلص منه إلا فقهاء الطريق ، والعلماء هم الأدلة فيها " انتهى .
واليوم ولكثرة وسائل الدعوة إلى الله ، أصبحت لا ترى إلا قليلاً من الناس ممن يجهل أهم الحوادث ، وبعض أحكام النوازل ، فإذا ما نزلت نازلة ، بحث الناس عن حكمها بسؤال أهل العلم عنها ، ألا وإن أعظم النوازل اليوم [ مساهمات البنوك ] ، بيع الأسهم وشراؤها وتداولها ، والتي كثر الجدل حولها وعنها .
فقد كثر السؤال عنها ، حتى إن كثيراً من الناس لا يسأل عنها إلا من يرخص في جواز التعامل والاكتتاب فيها ، وأما من عُرف عنه من أهل العلم تغليب جانب الحرام على جانب الإباحة ، فهذا لا يسأله الناس إلا إذا كانت لهم حقوقاً عند الآخرين ، أما إذا كانت لهم المصلحة عند الآخرين فلا يسألون عن الحكم ، وهذا أمر معلوم اليوم .
وإني أُذكر كل مسلم ومسلمة بقول الله تعالى : " وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْۚ فسْـَٔلُوۤا أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ " .
فيجب على العبد أن يحتاط لدينه ولا يسأل من يعتقد أنه يرخص للناس بسبب أو بدون سبب كمن يتجرأ على الفتيا مثلاً ، فهذا وإن أُفتي في مسألة وهو يعرف حقيقتها ولكنه خالف عالم آخر له شأنه في الفتوى وله صولته وجولته في العلم ، فلا يجوز له أن يأخذ بالرخصة لعلمه حرمة ما قد أُفتي به ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ ؟ فَقَالَ : " الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلْقِ ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِـعَ عَلَيْهِ النَّاسُ " [ أخرجه مسلم ] ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : " لا يبلغ العَبْدُ حقيقةَ التَّقْوى حتى يَدَعَ ما حاكَ في الصَّدْر " [ أخرجه البخاري ] .
فالله عز وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، لذلك فهو سبحانه مُطلع على القلوب وما تخفيه وتضمره ، لأن السر عنده علانية ، ولهذا يجب على العبد أن يتحرى الفتوى من أهلها ، وإن وقع في الشبه فعليه أن يحذرها ، لأن الشبهة توقع في الحرام ، وأسهم الشركات كلها تدور حول الشُبَهِ ، فعلى العبد أن يتق الله تعالى ويحذر مواطن العذاب ، ومكامن العقاب ، فلا أشد وأعظم من أكل المال الحرام ، والإنسان مهما عاش في هذه الحياة الدنيا ، فهو لابد ميت ، ومنتقل إلى دار البرزخ التي فيها بداية النعيم والجحيم ، فالقبر أول منازل الآخرة ، فإن نجى منه صاحبه فما بعده أهون منه ، وإن هلك صاحبه فما بعده أشد منه والعياذ بالله ، وأكل المال الحرام من أشد الأخطار ، وأعظم الاغترار ، وأطم الشنار ، كيف لا وقد جاء في صحيح مسلم ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً ، وَإِنَّ اللّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون 15 ] وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة 271 ] " ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلُ يُطِيلُ السَّفَرَ ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذٰلِك؟ " .
وهذا غيض من فيض ، وقليل من كثير من العذاب والنكال الذي يُلم بآكل المال الحرام .
فاتقوا الله أيها المسلمون ودعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم كما صح الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأُذكر أهل الفتوى بقول الله عز وجل : " وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْكِتَـٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَٱشْتَرَوْا بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ " [ آل عمران 187] .
ولا أظن أن عالماً من علمائنا يشتري الحياة الدنيا بالآخرة ، معاذ الله أن يكون هذا ، ولكن ربما اختلط على بعضهم أموراً ، واشتبهوا في أخرى ، فأفتى بغير ما يوافق الشرع خطأً وزللاً ، فهذا مأجور كما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ، أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا أرَادَ أنْ يَبْعَثَه إلَى الْيَمَنِ قالَ : " كَيْفَ تَقْضِي إذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ قالَ : أقْضِي بِكِتَابِ الله. قالَ : فَإنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ الله ؟ قالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، قالَ : فَإنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وَلاَ فِي كِتَابِ الله ؟ قالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلو، فَضَرَب رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لله الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ الله ، لِمَا يُرْضِي رَسُولَ الله " [ أخرجه أبو داود وغيره ] .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " [ أخرجه النسائي وغيره ] .
فأمر الفتيا ليس بالأمر الهين أو السهل كما يظنه بعض المتعالمين اليوم ، بل هو توقيع عن الله عز وجل في أن هذا الأمر حلال أم حرام ، فما ظنكم بمفتٍ أفتى الناس بخلاف ما جاء به الشرع المطهر هوىً لنفسه أو مداهنة لحاكم أو اتباعاً للشيطان أو غير ذلك لينال شهرة واسعة في الدنيا ، ويم القيامة يُرد إلى أشد العذاب ؟
فأقول يجب على العلماء وأهل الفتوى أن يجتمعوا لإيجاد حل لأي نازلة قبل نزولها أو وقت نزولها ، وحتى بعد نزولها ، ومن ذلك الاجتماع لإصدار فتوى في حكم معين مختلف فيه لا يسوغ فيه الاختلاف ، ويكون فيه أدلة أحد الفريقين أقوى من أدلة الآخر ، فحبذا لو اجتمع أهل الفتوى وأصدروا حكماً واحداً لئلا يقع الناس في علمائهم ويتهمونهم اتهامات باطلة كانوا في منأى عنها ، فلوا درءوا عن أنفسهم الغيبة والسباب والشتائم ، وربما وصل الأمر إلى الطعن في علمهم وفتواهم ، واتهامهم بأنهم تبع لفلان أو فلان ، لا سيما في أمور الأسهم والسندات والمحافظ الاستثمارية التي وقع في حبائلها جل المسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها ، ما بين الجواز والتحريم .
فالله الله أيها العلماء بالمسلمين ، رفقاً رفقاً بهم فهم على بوابة من الهاوية والوقوع في الحرام والمشتبه ، والأمة بأسرها تنزلق في مزالق الأمم قبلها من ابتعاد عن الدين ، ورضاً بالدنيا وزينتها ، لقد ترك الناس الصلاة ، وهجروا بيوت الله ، لهثاً وراء الأسهم ، بل وصل الأمر إلى التماسك بالأيدي والخصام والسباب والضرب حتى نقل بعضهم إلى المستشفيات جراء حرب الأسهم الاستثمارية المشتبهة .
ولا يخفى أن الوقوع في المشتبه وقوع في الحرام ، فلو أفتيت شخصاً بجواز التعامل مع الشركة الفلانية ، وأن جزءاً ضئيلاً من رأس مالها فيه رباً ، أو كانت ممن يتعامل بالربا بجزء بسيط لا يتجاوز 10% من رأس مالها مثلاً أو أقل أو أكثر ، أو أنها تودع شيئاً بسيطاً من أموالها في بنوك ربوية ، إلى غير ذلك من تعاملات الربا ، إن أفتيت شخصاً بجواز التعامل مع تلك الشركة أو ذلك البنك ، أين تذهب من الله تعالى الذي حرم الربا قليله وكثيره ؟ من أين لك هذا العلم الذي أجاز لك الفتيا بجواز أكل قليل الربا ، والله تعالى يقول : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " ، وأين أنت من قول الله جل وعلا : " وأحل الله البيع وحرم الربا " ، وقول الله تعالى : " يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم " فهذه الأدلة وغيرها من كتاب الله تعالى تدل دلالة قاطعة على تحريم الربا قليله وكثيره سواء .
فالله عز وجل لم يفرق بين قليل الربا وكثيره ، بل كله سواء .
عقوبة الربا لا تخفى على مسلم ذو عقل وبصيرة ، فعقوبته من أشد العقوبات ، إن لم يكن الربا أشدها بعد الشرك بالله ، فآكل الربا ملعون وخائن ، والربا من الموبقات التي تقذف بصاحبها إلى النار والعياذ بالله ، عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنِبوا السَّبعَ الموبقات ، قالوا : يا رسولَ اللهِ ، وما هُنَّ ؟ قال : " الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقتْلُ النَّفسِ التي حَرَّمَ اللهُ إلاّ بالحقّ؛ وأكلُ الرِّبا ، وأكلُ مالِ اليَتيم، والتَّولِّي يوم الزَّحفِ، وقذفُ المُحصناتِ المؤمناتِ الغافِلاتِ " [ متفق عليه ] .
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : لَعَنَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا ، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ : هُمْ سَوَاءٌ [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الرِبا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قلّ " [ أخرجه أحمد ] .
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ، قال : وقال : ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل " [ أخرجه أحمد ] .
فمن تأمل تلك النصوص الشرعية أدرك حقيقةً خطورة الربا ولو كان قليلاً على الأفراد والمجتمعات بل على الأمم ، لما فيه من تع لحدود الله تعالى ، ولاحتوائه على ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل ، ولما يحتويه من مماطلة ، ومحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
وربما كان هذا الضعف الذي تعانيه الأمة اليوم دليلا قاطعاً ودامغاً لآكلي الربا ، والمتعاملين به ، وكذا نرى اليوم إمساك السماء عن قطرها ، ومنع الأرض لبركتها .
مما يجعل المؤمن يراجع نفسه مائة مرة قبل أن يُقدم على أمر مباح فكيف بأمر المشتبه أو المحرم لهو أبعد عن ذلك .
واليوم أكل الناس كلهم الربا ، ومن لم يأكله أصابه من غباره ، وهذا أمر واضح لا يختلف فيه اثنين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فأي نصر نريد ، وأي عزة نروم ، وأي تقدم ننشد ، والناس ينساقون وراء القاصي والداني سعياً وراء الربا والعياذ بالله .
ولم يكن لهم أن يفعلوا ذلك ، لولا وجود الفتاوى التي أوقعت الناس في الحيرة والضيق ، والتي دعتهم إلى محاربة الله عز وجل عياناً بياناً .
فكل من العلماء وأهل الفتوى على ثغر ، فسدوا الثغور، ولا تفتحوا للناس أبواباً وسُتراً وحُجباً إلى نار جهنم ، بل اتقوا الله عز وجل ، واخشوه وراقبوه ، أغلقوا على الناس أبواب الحرام والمتشابه حتى لا يقعوا فيما حرم الله ، فالربا دمار للأمم ، خراب للديار ، هلاك للناس ، ذلة للعباد ، دناءة في الأخلاق ، استجلاب لمقت الله وعقابه ، سبب لتداعي الأعداء واعتدائهم ، والواقع خير شاهد ، وأعظم برهان ، نسأل الله العفو والعافية ، والتوبة الصادقة .  
والقاعدة الفقهية تقول :
إذا اجتمع حاظر ومبيح ، قُدَّم الحاظر على المبيح احتياطاً وبراءة للذمة .
وهذه قاعدة مهمة جداً يجب أن يأخذ بها أهل الفتوى عن الأسهم ، فقد أوقعوا الناس في حيرة من أمر دينهم ولا حول ولا قوة إلا بالله ، والله جل وعلا سائل المفتي يوم القيامة عن دليل تحليله لقليل الربا ، مع أن النصوص الشرعية جاءت بتحريم الربا دون تحديد أو بيان للكثرة أو القلة .
والناس اليوم لم يعودوا يتورعون عن أكل الربا والمساهمة في البنوك والمؤسسات والشركات صاحبة الأسهم ، ولا يخرجون قيمة الربا الموجود في أسهمهم ، وربما خفي ذلك عن بعض أهل الفتوى بجواز المساهمة في الشركات المختلطة ، ومعنى مختلطة : أي أن فيها نسبة من الربا ، والربا كما علمنا حرام كله ، لا فرق فيه بين قليل ولا كثير ، بل كلما زاد الربا زادت العقوبة والعذاب .
أقول : لم يعد هناك ورع أو زهد من قبل الناس في الأسهم الربوية ، بل يأتي أحدهم الشيطان ويسول له ويملي له حتى لا يبالي من أين أكل المال أمن حلال أم حرام ؟ وحتماً سينال المفتى قسطاً من العذاب ، لأنه هو الذي أفتى بجواز المساهمة في الشركات المختلطة مع إخراج نسبة الربا ، فأكل الناس الربا ورضوا به .
وهذا هو الواقع اليوم ، فأي إنسان يساهم لا تعنيه نسبة الحرام الموجودة ، بل القصد والغاية عدد الأسهم ومقدار الربح ، فهلا فطن لذلك أهل الفتوى ، وراجعوا أنفسهم قبل أن يوقعوا عن ربهم .
مما سبق بيانه ظهر جلياً أنه لا يجوز المساهمة في أي شركة أو بنك في صورة محرمة مهما صغرت أو دقت هذه المعاملة وممن ذهب إلى هذا القول: مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، ونص قراره هو:
 " ج: الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، كالربـا ونحـوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة " ([1]).وكذلك لمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، ونص قراره هو:
" لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا، وكان المشتري عالماً بذلك" ([2]).
 وممن قال بالتحريم أيضاً: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ([3])، والهيئة الشرعية لبيت التمويل الكويتي  ([4])، والهيئة الشرعية لبنك دبي الإسلامي  ([5])، وهيئة الرقابة الشرعية للبنك الإسلامي السوداني ([6])،وعدد من الفقهاء المعاصرين ([7]).
وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة تدل بعمومها على تحريم الربا قليله وكثيره ، ولأن يد الشركة على المال هي نفس يد المساهم، فأي عمل تقوم به فهو عمله لا فرق بينهما، فكما يحرم على الإنسان أن يستثمر جزءاً من ماله – ولو يسيراً – في معاملات محرمة، فكذا يحرم عليه المشاركة في شركات تتعامل بالحرام، لأن المال المستثمر هو ماله بعينه.
وقال آخرون : بالجواز بضوابط .
       وممن ذهب إلى هذا القول: الهيئة الشرعية لشركة الراجحي([8])، والهيئة الشرعية للبنك الإسلامي الأردني([9]) ، والمستشار الشرعي لدلة البركة ([10]) ، وندوة البركة السادسة ([11]) ، وعدد من العلماء المعاصرين ([12]).
وقد اشترط أصحاب هذا القول شروطاً؛ إذا توفرت جاز تداول أسهم بعض الشركات ، وإذا تخلف منها شرط لم يجز، وهذه الشروط سيأتي بيانها.
وقد استدل أصحاب هذا القول بعدد من القواعد: كقاعدة رفع الحرج، والتبعية ، والحاجة العامة، وعموم البلوى، ومراعاة قواعد الكثرة والقلة والغلبة، وكذلك جواز التعامل مع من كان غالب أمواله حلالا.
ضوابط القائلين بالجواز:
1- الضابط الأول: تحديد نسبة الاقتراض الربوي.
اختلف القائلون بالجواز في تحديد هذه النسبة على أقوال:
القول الأول: أن لا تزيد نسبة القروض عن 25% من إجمالي الموجودات، وبه أخذت هيئة الراجحي في قرارها رقم 485.
القول الثاني: أن لا تساوي أو تزيد عن 33% من إجمالي الموجودات، وبه أخذ " الداو جونز الإسلامي".
القول الثالث: أن لا تزيد القروض عن 30% من القيمة السوقية لمجموع أسهم الشركة، وبه أخذت هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية في البحرين.
القول الرابع: أن لا تزيد القروض عن 30% من إجمالي القيمة السوقية ما لم تقل عن القيمة الدفترية، وبهذا صدر توجيه الهيئة الشرعية بشركة الراجحي المبلغ بخطاب رئيسها الموجه لرئيس مجلس إدارة الشركة ([13]). 
القول الخامس: أن لا تزيد القروض عن 30 % من إجمالي موجودات الشركة، وهذا الضابط آخر ما استقرت عليه أكثر الهيئات الشرعية في البنوك السعودية .
2- الضابط الثاني: نسبة المصروفات المحرمة لجميع مصروفات الشركة.
وحددت هذه النسبة بـ 5% من إجمالي المصروفات، وهذا الضابط توجهت إليه الهيئات أخيراً .
3- الضابط الثالث: حجم العنصر المحرم (الاستثمار المحرم):
اختلف القائلون بالجواز في تحديد نسبة حجم العنصر الحرام على أقوال:
القول الأول: أن لا يتجاوز العنصر الحرام 15% من إجمالي موجودات الشركة، وبه أخذت هيئة الراجحي في قرارها رقم 485.
القول الثاني: أن لا يتجاوز المبلغ المودع بالربا 30% من القيمة السوقية لمجموع أسهم الشركة، وبه أخذت هيئة المعايير المحاسبية في البحرين.
القول الثالث: عدم اعتبار هذا الضابط، وبه وجهت هيئة الراجحي من خلال خطابها المبلغ من رئيسها الآنف الذكر، وكذلك لم يعتبر الداو جونز هذا الضابط.
4- الضابط الرابع: نسبة الإيرادات المحرمة:
اختلف القائلون بالجواز في تحديد هذه النسبة على أقوال:
القول الأول: أن لا يتجاوز مقدار الإيراد الناتج من عنصر محرم 5% من إجمالي إيرادات الشركة، وبهذا أخذت الهيئة الشرعية لشركة الراجحي في قرارها 485. وكذلك هيئة المعايير المحاسبية في البحرين.
القول الثاني: أن لا تتجاوز الإيرادات غير التشغيلية 9%  من الإيرادات التشغيلية ، وبهذا أخذ " الداو جونز الإسلامي".
الخلاصة:
إن الهيئات الشرعية إذا تخلف عندها ضابط واحد من الضوابط حكموا على الشركة بالتحريم وصنفوها من الشركات المحرمة، فكيف إذا تخلف أكثر من ضابط ؟ [ خالد إبراهيم الدعيجي بتصرف ] .
أسأل الله الهداية والتوفيق والسداد ، ومعرفة الصواب ، واجتناب الخطأ والزلل ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، والحمد لله رب العالمين .

---------------
([1])    مجلة المجمع 7/1/712
([2])    قرارات المجمع الفقهي ص 297. وتاريخ القرار 20/8/1415هـ.
([3])    فتاوى اللجنة 13/407 .
([4])    الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية، فتوى رقم (532).
([5])    فتاوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك دبي الإسلامي، فتوى رقم (49).
([6])    فتاوى هيئة الرقابة الشرعية للبنك الإسلامي السوداني، فتوى رقم (16).
([7])    منهم: د. صالح المرزوقي في بحثه ((حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد)) د. السالوس في بحثه ((أحكام أعمال البورصة في الفقه الإسلامي)) المقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجده في دورته السادسة، مجلة المجمع 6/2/1343، والشيخ عبد الله بن بيه في بحثه ((المشاركة في شركات أصل نشاطها حلال إلا أنها تتعامل بالحرام)) المقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة، مجلة المجمع 7/1/415.
([8])    قرارات الهيئة الشرعية للشركة 1/241
([9])    الفتاوى الشرعية للبنك الإسلامي الأردني فتوى رقم (1).
([10])       الأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية، مجموعة دلة البركة فتوى رقم (37).
([11])      الفتاوى الاقتصادية ص 19.
([12])      منهم فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين (مجلة النور ع 183 لعام 1421هـ) وفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع في بحثه المنشور بمجلة البحوث الفقهية المعاصرة ع 7 لعام 1411هـ بعنوان ((حكم تداول أسهم الشركات المساهمة))، وكل من د. نزيه حماد، ومصطفى الزرقاء، ومحمد تقي العثماني، انظر (مجلة النور ع 183 لعام 1421هـ) ود. علي محي الدين القره داغي في بحثه المقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة بعنوان ((الاستثمار في الأسهم))
([13])     بخطاب رقم 14/425/هـ ش وتاريخ 20/3/1425هـ.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية