صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله جعل من الرسل بقايا من أهل العلم ، ينفون عن دين الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، أحمده تعالى وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأسأله لي ولسائر المسلمين الهدى واليقين ، والعز والنصر والتمكين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المؤمنين ، وخالق الخلق أجمعين ، وقيوم السماوات والأرضين ، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله إمام المتقين ، وأشرف الأنبياء والمرسلين ، وقائد الغر المحجلين ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وصحابتة الغر الميامين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين . . وبعد :
إن سير العلماء وأعظمها سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ، تعتبر حافزاً كبيراً ، ومنهجاً قويماً ، يسير عليه طلاب العلم ، وينهجون فيه إلى الصراط المستقيم ، وإن من أهم تلك السير ، هي سيرة هذا الإمام الذي سنبين فيها كيف كانت حياته ونشأته ، وهمته في طلب العلم ، وزهده وورعه ، ومدافعته للمحن والفتن ، والذب عن سنة إمام المرسلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين .
أيها الأخوة . . . إن في تاريخ العظماء لخبراً ، وإن في سير العلماء لعبراً ، وإن في أحوال النبلاء لمدّكراً ، وأمتنا الإسلامية أمة أمجادٍ وحضارة ، وتاريخ وأصالة ، وقد ازدان سجلها الحافل عبر التاريخ بكوكبة من الأئمة العظام ، والعلماء الأفذاذ الكرام ، مثلوا عقد جيدها ، وتاج رأسها ، ودري كواكبها ، كانوا في الفضل شموساً ساطعة ، وفي العلم نجوماً لامعة ، فعدوا بحقٍ أنوار هدى ، ومصابيح دجى ، وشموعاً تضيء بمنهجها المتلألئ ، وعلمها المشرق الوضاء ، غياهب الظُلَم ، وتبددها أنوار العلوم والحكم .
ولهذا قال بعض أهل العلم : سير الرجال أحب إلينا من كثيرٍ من الفقه ، غير ألا عصمة لأحدٍ من سائر الناس ، والتعصب للرجال مذموم ، وخير الهدي هدي من لا ينطق عن الهوى : { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم4 ] .

توطئة الإمام أحمد :

كان من أجل هؤلاء الأئمة ، وأفضل هؤلاء العلماء ، عالمٌ لا كالعلماء ، وعلمٌ لا كالأعلام ، جبلٌ أشم ، وبدرٌ أتم ، وحبرٌ بحر ، وطودٌ شامخ ، يعد بجدارة إمام القرن الثالث الهجري ، فريد عصره ، ونادرة دهره ، قَلَ أن يجود الزمن بمثله ، إنه أئمة في شخص إمام ، وأمة في رجل ، إنه :
أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى ، ورضي عنه ، وأسكنه فسيح جناته .

اسمه ونسبه :

قال عنه الذهبي في السير : " أحمد بن حنبل هو الإمام حقاً ، وشيخ الإسلام صدقاً ، أبو عبد الله ، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان ابن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذُهْل بن ثعلبة بن عُكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي ، أحد الأئمة الأعلام .
هكذا ساق نسبه ولده عبد الله ، واعتمده أبو بكر الخطيب في " تاريخه " وغيره .
والدا الإمام أحمد : كان محمد والد أبي عبد الله من أجناد مرو ، مات شابا له نحو من ثلاثين سنة .
وربي الإمام أحمد يتيماً ، وقيل : إن أمه تحولت من مرو ، وهي حامل به .
وعاشت معه أمه مدة من الزمن ، وكانت تأتي به إلى المسجد ، وتنتظره حتى يخرج ، فتذهب به إلى البيت .

مولد الإمام أحمد :
على ثرى بغداد ولد الإمام ونشأ وترعرع ، ولد سنة أربع وستين ومائة ، من أصلٍ عربيٍ أصيلٍ انحدر نسبه رحمه الله ، وعلى عصامية اليتم تربى ودرج في صباه ، مما ساعد على سمو نفسه ، وعلو همته ، ونمو مداركه وتعرفه على أحوال مجتمعه، وكانت بغداد آنذاك ليست كما هي في عقب الزمان والله المستعان ، حيث كانت حاضرة العالم الإسلامي ، ومهد العلوم والحضارة ، تموج بأنواع الفنون والمعارف ، وتزخر بشتى الأفكار والعلوم ، وعصره عصر نضوج الفقه وظهور الفقهاء ، واشتداد الجدل الفكري بين العلماء ، مع عدم استقرار الحالة السياسية، وكثرة الفتن مما ساعد على حسن توجه الإمام رحمه الله، فاتجه إلى تحصيل العلم ولزوم السنة ، فلم يحرض على فتنة ، ولم يواجه ذا سلطان مع قوة في الحق ، وحبٍ للخلق ، وذبٍ عن السنة وتحذيرٍ من البدعة .
أيها الأخوة . . . . في تاريخ الإسلام علماء ربانيون ، وأعلامٌ عاملون ، وأئمة مهديون ، هم من منة الله على هذه الأمة ، قاموا بالإسلام وللإسلام ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون به أهل العمى ، ويرشدون به من ضل منهم إلى الهدى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه ، يقتبسون من نور الوحي ، ويسيرون على مشكاة النبوة ، عقيدة وعلماً وعملاً ومنهجاً ودعوة ، فكم نفع الله بهم البلاد ، وكم هدى بهم من العباد .

همة الإمام أحمد في طلب العلم :

لقد أقبل الإمام الرقيق النحيل ، الربعة من الرجال والطوال ، ذو اللون الأسمر والتواضع الجم ، ينهل من العلم ، فحفظ القرآن وأقبل على الحديث والأثر حتى حفظ مئات الألوف من الأحاديث ، وما كتابه المسند إلا دليلٌ على طول باعه في علم السنة ، في مجال الرواية ، وقد جمعه من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف ، واستغرق في جمعه أكثر من خمس عشرة سنة .
أما الدراية فهو من يجيدها ويستطيع الصيد في جوفها ، ملتزماً بفقه السنة ، والعناية بالدليل والأثر ، والأخذ بفتاوى الصحابة رضي الله عنهم .
طلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة ، في العام الذي مات فيه مالك ، وحماد بن زيد .
رحل في طلب العلم إلى كثيرٍ من البلدان ، حتى قال عنه ابن كثير : لقد طاف في البلاد والآفاق ليسمع من المشايخ ، وكانت له همة عالية في الطلب والتحصيل ، فما ترك لحظة من لحظات شبابه وكهولته ، إلا حرص فيها على سماع حديث ، أو تصحيح رواية ، وما قصته في سماعه من عبد الرزاق الصنعاني في مكة وسفره معه إلى بلاده ، مع بعد الشقة وانقطاع النفقة ، إلا دليلٌ على علو الهمة ، ومضاء العزيمة ، حتى عد حافظ زمانه .
قال أبو زرعة الرازي : كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث ؟ فقيل له : وما يدريك ؟ قال : ذاكرته فأخذت عليه الأبواب .
قال الذهبي معلقاً : فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله ، وكانوا يعدون في ذلك المكرر ، والأثر ، وفتوى التابعي ، وما فسر ، ونحو ذلك .
وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك .

ثناء عليه :

إنه فقيه المحدثين ، ومحدث الفقهاء .
قال عنه الإمام الشافعي رحمه الله : خرجت من العراق فما خلفت فيها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أتقى لله منه .
وقال عنه الإمام الذهبي رحمه الله : عالم العصر ، وزاهد الدهر ، ومحدث الدنيا ، وعَلَمُ السنة ، وباذل نفسه في المحنة ، قَلَ أن ترى العيون مثله ، كان رأساً في العلم والعمل ، والتمسك بالأثر ، ذا عقلٍ رزين ، وصدقٍ متين ، وإخلاصٍ مكين ، انتهت إليه الإمامة في الفقه والحديث والإخلاص والورع ، وهو أجل من أنه يمدح بكلمي ، أو أن أفوه بذكره بفمي .
هذا هو إمام أهل السنة ، الإمام الفذ ، والعالم الجهبذ ، الإمام المفضل ، والعالم المبجل ، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله ، من عرفته الدنيا ، وطار اسمه في الآفاق ، فذكره ذاع ، وصيته شاع ، إماماً عالماً فقيهاً محدثاً مجاهداً صابراً لا يخاف في الله لومة لائم ، يتحمل المحن في سبيل الله ، والذب عن سنة رسول الله ، ويقارع الباطل بحكمة نادرة ، لا تزعزعه الأهواء ، ولا تميد به العواصف ، حتى عد قمة عصره وما بعد عصره ، وأُجمع على جلالته وقدره ، إلا عند من لم يعبأ بهم .
قال عنه يحيى بن معين : أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد ، لا والله ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد ، ولا على طريقة أحمد .

من كراماته :

قال عباس الدوري : حدثنا علي بن أبي فزارة جارنا ، قال : كانت أمي مقعدة من نحو عشرين سنة .
فقالت لي يوماً : اذهب إلى أحمد بن حنبل ، فسله أن يدعو لي ، فأتيت ، فدققت عليه وهو في دهليزه ، فقال : من هذا ؟ قلت : رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء .
فسمعت كلامه كلام رجل مغضب ، فقال : نحن أحوج أن تدعو الله لنا ، فوليت منصرفاً ، فخرجت عجوز ، فقالت : قد تركته يدعو لها .
فجئت إلى بيتنا ودققت الباب ، فخرجت أمي على رجليها تمشي . قال عبد الله بن أحمد : كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاث مئة ركعة .
فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته ، فكان يصلي كل يوم وليلة مئة وخمسين ركعة .
قال عبد الله : رأيت أبي حرج على النمل أن يخرجوا من داره ، فرأيت النمل قد خرجن بعد نملاً سوداً ، فلم أرهم بعد ذلك .
قالت فاطمة بنت أحمد بن حنبل : وقع حريق في بيت أخي صالح ، وكان قد تزوج بفتاة ، فحملوا إليه جهازا بأربعة آلاف دينار ، فأكلته النار فجعل صالح يقول : ما غمني ما ذهب ، إلا ثوب لأبي ، كان يصلي فيه ، أتبرك به ، وأصلي فيه .
قالت : فطفئ الحريق ، ودخلوا فوجدوا الثوب على سرير ، قد أكلت النار ما حوله وسلم .
قال ابن الجوزي : وبلغني عن قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي أن حريقاً وقع في دارهم ، فأحرق ما فيها إلا كتاباً كان فيه شيء بخط الإمام أحمد .
قال : ولما وقع الغرق ببغداد في سنة 544، وغرقت كتبي ، سلم لي مجلد فيه ورقتان بخط الإمام أحمد .
أيها الأخوة . . . إن ارتباط الأجيال اللاحقة والناشئة المعاصرة بسلفهم من العلماء الأفذاذ ، ينتفعون بسيرتهم ، ويسيرون على منهجهم ، ويقتبسون من نور علمهم وفضلهم ، لهو من أهم الأمور التي ينبغي أن نعتني بها ، لاسيما العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله ، ورجال الحسبة والإصلاح ، كيف ونحن نعيش في أعقاب الزمن حيث كثرت الفتن ، وطمت المحن ، واستحكمت الأزمات ، وعمت الخلافات ، وتباينت المشكلات والمعضلات ، ولا مخلص منها إلا الاعتصام بالكتاب والسنة ، والسير على منهج علماء سلف هذه الأمة رحمهم الله ، الذين يعدون أمثلة حية ، ونماذج فريدة ، تمثل التطبيق الحي السليم ، والمنهج العملي الصحيح للإسلام ، عقيدة وسلوكاً .

حاله مع القرآن :

وقال عبد الله بن أحمد : كان أبي يقرأ القرآن في كل أسبوع ختمتين ، إحداهما بالليل ، والأخرى بالنهار .
وقد ختم الإمام أحمد القرآن في ليلة واحدة بمكة ، مصلياً به .
فيا حسرتنا على ما فرطنا في جنب الله ، ووأسفا على ما ذهب من أعمارنا في غير مرضاة الله ، ويا لمزيد الأسى والأسف على حالنا مع كتاب ربنا ؟

حاله مع الزهد والورع :

إنه إمام في الزهد ، فحاله في ذلك أظهر وأشهر ، أتته الدنيا فأباها ، والرياسة فنفاها ، عرضت عليه الأموال ، وفرضت عليه الأحوال ، وهو يرد ذلك بتعفف وتعلل وتقلل ، ويقول : قليل الدنيا يجزي ، وكثيرها لا يجزي .
ويقول : أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء ، ويقول : إنما هو طعام دون طعام ، ولباس دون لباس ، وأيام قلائل .
وقال إسحاق بن هانىء بكرت يوماً لأعارض أحمد بالزهد ، فبسطت له حصيراً ومخدة ، فنظر إلى الحصير والمخدة فقال ما هذا ؟ قلت : لتجلس عليه ، فقال : ارفعه ، الزهد لا يحسن إلا بالزهد ، فرفعته وجلس على التراب .
وقال أبو عمير عيسى بن محمد بن عيسى وذكر عنده أحمد بن حنبل فقال رحمه الله عن الدنيا ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه ، وبالصالحين ما كان ألحقه ، عرضت له الدنيا فأباها ، والبدع فنفاها .
قال المروذي : كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت، خنقته العبرة.
وكان يقول : الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب ، وإذا ذكرت الموت ، هان علي كل أمر الدنيا ، إنما هو طعام دون طعام ، ولباس دون لباس ، وإنها أيام قلائل ، ما أعدل بالفقر شيئاً ، ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر .
وقال : أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أعرف ، قد بليت بالشهرة .
قال المروذي : وذكر لأحمد أن رجلا يريد لقاءه، فقال: أليس قد كره بعضهم اللقاء يتزين لي وأتزين له _ اللقاء الذي لم يرغب فيه الإمام أحمد هو الذي يراد منه ذيوع الصيت والتكلف .
أما لقاء الناس لتعليمهم ما جهلوا من أمر دينهم ، وإسداء النصح لهم ، وصلة أرحامهم ، وزيارتهم في المناسبات المشروعة ، فهو مما يرتضيه ويرغب فيه ، لأن ذلك مما يحمده الشرع ويحث عليه .
فقد روى الإمام أحمد ، وابن ماجة ، والترمذي بسند قوي من حديث ابن عمر مرفوعا : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " _ .
قال إبراهيم الحربي : كان أحمد يجيب في العرس والختان ويأكل .
وذكر غيره أن أحمد ربما استعفى من الإجابة .
وكان إن رأى إناء فضة أو منكراً خرج .
وكان يحب الانزواء عن الناس ، ويعود المريض ، وكان يكره المشي في الأسواق ، ويؤثر الوحدة .
وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول : أشتهي ما لا يكون ، أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحد من الناس .
وقال الميموني : قال أحمد : رأيت الخلوة أروح لقلبي .
قال المروذي : قال لي أحمد : قل لعبد الوهاب : أخمل ذكرك ، فإني أنا قد بليت بالشهرة .
وقال محمد بن الحسن بن هارون : رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق ، يكره أن يتبعه أحد .
قال الذهبي : إيثار الخمول والتواضع ، وكثرة الوجل ، من علامات التقوى والفلاح .

قول من ذهب :

قال المروذي : قلت لأحمد : كيف أصبحت ؟
قال : كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض ، ونبيه يطالبه بأداء السنة ، والملكان يطلبانه بتصحيح العمل ، ونفسه تطالبه بهواها ، وإبليس يطالبه بالفحشاء ، وملك الموت يراقب قبض روحه ، وعياله يطالبونه بالنفقة ؟
وقال زكريا بن يحيى الضرير : قلت لأحمد بن حنبل : كم يكفي الرجل من الحديث حتى يكون مفتياً ؟ يكفيه مئة ألف ؟ فقال : لا ، إلى أن قال : فيكفيه خمس مئة ألف حديث ؟ قال : أرجو .
وكان الإمام أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث ، أي ما يساوي : مليون .

ماذا قالوا عنه :

قال قتيبة : لولا الثوري لمات الورع ، ولولا أحمد بن حنبل لأحدثوا في الدين ، قيل لقتيبة : تضم أحمد بن حنبل إلى أحد التابعين ؟ فقال : إلى كبار التابعين .
قال ابن المديني : ليس في أصحابنا أحفظ منه .
وقال محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي : سمعت أبي يقول : أحمد بن حنبل حجة بين الله وبين عبيده في أرضه .
وبإسناده قال علي بن المديني : أحمد بن حنبل سيدنا .
قيل لـأبي زرعة من رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ ؟ قال : أحمد بن حنبل ، حزرت كتبه في اليوم الذي مات فيه ، فبلغت اثني عشر جملاً وأكثر ، كلها يحفظها عن ظهر قلب .
ومع هذا العلم الجم، فقد خاف الإمام على نفسه البروز والشهرة والتصدر، فلم يجلس للتدريس إلا بعد الأربعين من عمره، كما قال ابن الجوزي رحمه الله، وما ذاك إلا مراعاة لسن النضج والاستيثاق من العلم.
وكان من شدة ورعه رحمه الله أنه لا يحدث إلا في كتاب خشية الزلل ، مع قوة حافظته وشدة عارضته ، ولا يسمح بتدوين فتاواه ، ولا يرى تأليف الكتب تقوىً وورعاً منه عليه رحمة الله ، قيل إنه لسعة علمه أجاب عن ستين ألف مسألة بقال الله وقال رسوله وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم .

موقف الإمام أحمد من المحنة :

ومن أهم حياة الإمام أبي عبد الله رحمه الله منهجه في العقيدة ، والتزامه نهج الكتاب والسنة ، وما عليه سلف الأمة في التوحيد والصفات وإنزال القرآن ، حتى أوذي وامتحن ، فصبر وصابر ، ولم يتزحزح عن قول الحق ، حتى ربط موقفه في محنته بموقف الصديق رضي الله عنه .
يقول علي ابن المديني : لقد أعز الإسلام برجلين ، بـأبي بكر يوم الفتنة ، وبـأحمد بن حنبل يوم المحنة .
يقول ابن عمه حنبل بن إسحاق بن حنبل رحمه الله فيما أخرجه الخلال في كتاب السنة : اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله _ يعني الإمام أحمد رحمه الله _ وقالوا له : يا أبا عبد الله : إن الأمر قد تفاقم وفشى _ يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك _ ولا نرضى بإمارته وسلطانه ، فناظرهم في ذلك وقال : عليكم بالإنكار في قلوبكم ، ولا تخلعوا يداً من طاعة ، لا تشقوا عصا المسلمين ، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم ، وانظروا في عاقبة أمركم ، واصبروا حتى يستريح ضَرٌ ويُستراح من فاجر ، وقال : ليس هذا صواباً _ أي : نزع اليد من الطاعة _ هذا خلاف الآثار .
وفي ذلك عبرة على مدى التاريخ أن سلطان العلم ، لا بد له من منهجٍ سليمٍ يتخذ مع سلطان الحكم ، تحقيقاً للمصالح ودرأً للمفاسد ، وتجنيباً للأمة غوائل الشرور وعاليات الفتن .
الله أكبر! ما أعظم العلم! وما أهم الفقه! وما أجل مكانة العالم إذا ثبت على السنة! لم تستمله العواطف، ونظر بعين الحكمة في مصالح الأمة.
ولقد ضرب الإمام أحمد أروع الأمثلة في الثبات على المبدأ والصبر أمام الفتن، لقد أوذي وسجن، وضرب وأهين؛ فلم تلين له قناة، وبذل مهجته في سبيل الله، ولم يتزحزح عن حقٍ يراه ولو كلفه حياته، وهذه دروسٌ للعلماء والدعاة في كل زمانٍ ومكان.
إن الأمام أحمد صار مثلاً سائراً ، يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق ، فإنه لم يكن يأخذه في الله لومة لائم ، حتى صارت الإمامة مقرونة باسمه في لسان كل أحد ، فيقال : قال الإمام أحمد ، وهذا مذهب الإمام أحمد ، لقوله تعالى : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } .
فإنه أعطي من الصبر واليقين ، ما نال به الإمامة في الدين ، وقد تداوله ثلاثة خلفاء _ المأمون والمعتصم والواثق _ يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها ، ومعهم من العلماء المتكلمين ، والقضاة والوزراء والأمراء والولاة ما لا يحصيه إلا الله ، فبعضهم تسلط عليه بالحبس ، وبعضهم بالتهديد الشديد ، وبعضهم يعده بالقتل وبغيره من الرعب ، وبعضهم بالترغيب في الرياسة والمال ، وبعضهم بالنفي والتشريد من وطنه .
وقد خذله في ذلك أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون ، وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه ، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ، ولا كتم العلم ، ولا استعمل التقية ، بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ، ما دفع به البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه .
لقد سخر بالأهوال التي حاطت به، والمخاطر التي حفت به، والمؤامرات التي أحيكت ضده، وهزأ بالسياط التي تلهب ظهره، ولم يبالي بالحديد الذي كبل فيه، والسجن الذي أودع به، وبالتالي ثبت ثبات الجبال الراسيات ، كل ذلك هين ما دام في سبيل الله، وصيانة كتابه من عبث العابثين، وحفظه من اعتقادات المخالفين.
واليوم يأتينا من يقول أن هذا القرآن الذي بين أيدينا ما هو إلا ثلث القرآن الحقيقي ، وأن هناك ثلثي القرآن لا يخرج حتى يخرج الغائب ، وهذه عقيدة القوم الضالين من الرافضة والاثني عشرية والصفوية ، فرحم الله الإمام أحمد بن حنبل رحمة واسعة .

عبادة الإمام أحمد وزهده :

صفحة أخرى في حياة هذا الإمام الهمام ، صفحة العبادة وتصفية الروح ، وتزكية النفس بالصلاة والذكر والدعاء والتلاوة ، وكذلك صفحة الخلق الرفيع ، والسجايا الحميدة ، زهدٌ وحياء ، تواضعٌ وورع ، تعففٌ وجود ، بذلٌ وكرم ، حبٌ للفقراء والمساكين ، بعدٌ عن الشهرة والأضواء وحب الظهور ، وكثرة الجماهير ، مجانبة للرياء والسمعة .
قال ابنه عبد الله : كان أبي أحرص الناس على الوحدة ، لم يره أحدٌ إلا في المسجد، أو في حضور جنازة أو عيادة مريض ، وكان يكره المشي في الأسواق ، ولا يدع أحداً يتبعه ، وتلك والله مقامات العظماء النبلاء ، ومناهج العلماء الأتقياء .
ولم يكن الإمام بمعزلٍ عن الأمة والمجتمع ، بل كان عالماً عاملاً ، مصلحاً مجاهداً ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، لكنه مع ذلك يلتزم مسالك الرفق والحكمة ، ملتزمٌ بالطاعة ، موافقٌ للجماعة ، بعيدٌ النظر في الإصلاح .
ولم يكن بالحقود ولا العجول ، كثير التواضع ، حسن الخلق ، دائم البشر ، لين الجانب ، ليس بفظ ، وكان يحب في الله ، ويبغض في الله ، وإذا كان في أمر من الدين ، اشتد له غضبه ، وكان يحتمل الأذى من الجيران .
فليت الأمة اليوم وليت شبابها يتوجهون بعقولهم إلى علماء سلفهم؛ ليتذكروا القدوة الصالحة، والأسوة الحسنة حتى تحيي في أنفسهم سيرة سلفهم الصالح رحمهم الله، وسيرتهم خير طريقٍ لسعادة الدنيا والآخرة، وضمانة من الفتن، وبعدٌ عن المحن والله المستعان، قال تعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } [ الأحزاب23-24] .
واعلموا أيها الأخوة . . . أن الأمة إذا لم تعتز بماضيها ، وسير علمائها ، والاستفادة من تاريخها ؛ ضيعت حاضرها ومستقبلها ، واضطربت مكانتها ، وتخبط أجيالها .
وسير سلفنا الصالح رحمهم الله شموعٌ على طريق العلم والدعوة والإصلاح ، بهم يستفاد تصحيح المسار وتوجيه المسيرة ، وتوازن الخطى .
ولقد ضل أقوامٌ زهدوا بسير سلفهم ، والتفتوا يمنة ويسرة ، يخبطون في شتى المذاهب ، ويتذبذبون بين جديد المشارب : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً } [ النساء 83 ] .
قال يحيى بن معين : ما رأيت مثل أحمد ، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير .
قال عبد الله بن أحمد : كان أبي يقرأ كل يوم سبعاً ، وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء ، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو .
وقال صالح : كان أبي إذا دعا له رجل ، قال : ليس يحرز الرجل المؤمن إلا حفرته ، الأعمال بخواتيمها .
وقال أبي في مرضه : أخرج كتاب عبد الله بن إدريس ، فقال : اقرأ علي حديث ليث : إن طاووساً كان يكره الأنين في المرض ، فما سمعت لأبي أنيناً حتى مات .
كان مُقْصِرَاً عن أهل الدنيا ، وكان فيه حلم ، ولم يكن بالعجول ، وكان كثير التواضع ، تعلوه السكينة والوقار ، وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يُسأل ، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر .
كرمه رحمه الله :
وننتقل بكم إلى صفحة وضاءة ، وسيرة مضاءة ، تلكم هي روايات عن كرمه وجوده رحمه الله .
قال أبو سعيد بن أبي حنيفة المؤدب : جئت يوما ، فأطلت القعود أنا وهو.
قال: ثم خرج ومعه تحت كسائه أربعة أرغفة .
فقال : هذا نصف ما عندنا .
فقلت : هي أحب إلي من أربعة آلاف من غيرك.
وقال هارون المستملي: لقيت أحمد بن حنبل، فقلت: ما عندنا شئ.
فأعطاني خمسة دراهم، وقال: ما عندنا غيرها.
قال المروذي: رأيت أبا عبد الله قد وهب لرجل قميصه، وقال: ربما واسى من قوته.
قال أبو بكر الخلال : فاعتبروا يا أولي الألباب والعلم ، هل تجدون أحداً بلغكم عنه هذه الأخلاق ؟
حدثنا علي بن سهل بن المغيرة قال : كنا عند عفان مع أحمد بن حنبل وأصحابهم ، وصنع لهم عفان حملاً وفالوذجاً ، فجعل أحمد يأكل من كل شيء قدموا إلا الفالوذج _ أجود أنواع الحلوى _ فسألته ، فقال : كان يقال : هو أرفع الطعام _ أفضل الطعام _ فلا يأكله .

الأسرة والتربية :

أيها الإخوة في الله : وحينما نقلب صفحة أخرى من حياة هذا الإمام نرى العجب العجاب ، إنه الجانب الأسري ، وتربية الأولاد ، فلم تشغله هموم العلم والدعوة والإصلاح والجهاد عن أسرته ، وحسن العشرة لأهله وزوجه .
يقول الإمام أحمد رحمه الله : تزوجت أم صالح فأقامت معي ثلاثين سنة ، فما اختلفت أنا وهي في كلمة واحدة .
ومن أولاده :
صالح : ويكنى أبا الفضل، ولي القضاء بأصبهان ومات بها في سنة ست وستين ومائتين وله ثلاث وستون سنة.
وابنه الآخر عبد الله : وكنيته أبو عبد الرحمن، وكان عالماً بعلل الحديث وأسماء الرجال . مات ببغداد سنة تسعين ومائتين وله سبع وتسعون سنة .

شيوخه وطلابه :

عدة شيوخه الذين روى عنهم في " المسند " مائتان وثمانون ونيف . ومن أخذوا عنه العلم ورووا عنه ، خلق لا يحصى .

الإنصاف للمخالف :

وثمة صفحة أخرى من سجل هذا الإمام الخالد ، هي إنصافه للمخالف ، وسلامة صدره للمسلمين ، وتقديره لأهل العلم وإن اختلف معهم ، ولما عتب عليه بعضهم وأرادوا إثارة الخلاف بينه وبين الشافعي قال : مه ! ما رأت عيناي مثل الشافعي ، وقال : إني لأدعُ الله للشافعي في صلاتي منذ أربعين سنة .

الرؤى فيه :

هناك الكثير ممن رأى في الإمام أحمد رؤيا ، وإليكم بعض الأمثلة على ذلك :
عن سلمة بن شبيب قال : كنا جلوساً عند أحمد بن حنبل ، فجاءه رجل فدق الباب ، فدق ثانية وثالثة فقال أحمد : أدخل ، فسلم وقال : أيكم أحمد ؟ فأشار بعضنا إليه ، قال : جئت من البحر من مسيرة أربعمائة فرسخ _ الفرسخ 3 أميال _ أتاني آت في منامي فقال : ائت أحمد بن حنبل وسل عنه ، فإنك تدل عليه ، وقل له : إن الله عنك راض ، وملائكة سمواته ، وملائكة أرضه عنك راضون ، ثم خرج فما سأله عن حديث ولا مسألة .
وقال أحمد بن محمد الكندي : رأيت أحمد بن حنبل في المنام فقلت : يا أبا عبد الله ؟ ما صنع الله بك ؟ قال : غفر لي ، ثم قال : يا أحمد ضربت فيَّ ؟ قال : قلت : نعم يارب ، قال : يا أحمد ، هذا وجهي فانظر إليه ، فقد أبحتك النظر إليه .
قال عبد الله بن الحسين بن موسى : رأيت رجلاً من أهل الحديث توفي ، فرأيته فيما يرى النائم فقلت : له بالله عليك ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي ، فقلت : بالله ؟ قال : بالله إنه غفر لي ، فقلت : بماذا غفر لك ؟ فقال : بمحبتي لأحمد بن حنبل ، فقلت : فأنت في راحة ؟ فتبسم وقال : أنا في راحة وفرحة .
قال يوسف بن بختان وكان من خيار المسلمين : لما مات أحمد بن حنبل ، رأى رجل في منامه كأن على كل قبر قنديلاً ، فقال : ما هذا ؟ فقيل له : أما علمت أنه نور لأهل القبور قبورهم بنزول هذا الرجل بين أظهرهم ، وقد كان فيهم من يعذب فرُحِم .

محبَتُهُ للسُّنَّةِ :

قال عبد الله بن أحمد : رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه يقبلها ، وأحسب أني رأيته يضعها على عينه ويغمسها في الماء ويشربه يستشفي به . ورأيته قد أخذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في جب الماء ، ثم شرب فيها . ورأيته يشرب ماء زمزم ، يستشفي به ، ويمسح به يديه ووجهه .
قال عبد الملك الميموني : ما أعلم أني رأيت أحداً أنظف ثوباً ، ولا أشد تعاهدٍ لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ، ولا أنقى ثوباً وشدة بياض ، من أحمد بن حنبل .
قال المروذي : قال لي أحمد : ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به ، حتى مر بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً _ متفق عليه _ فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت .

من أقواله رحمه الله :

لا يفلح من تعاطى الكلام ، ولا يخلو من أن يتجهم .
يقول شيخ الإسلام : الجهمية ثلاث درجات : فشرها الغالية الذين ينفون أسماء الله وصفاته ، وإن سموه بشيء من أسمائه الحسنى ، قالوا : هو مجاز .
فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي ، ولا عالم ، ولا قادر ، ولا سميع ، ولا بصير ، ولا متكلم ، ولا يتكلم .
والدرجة الثانية من التجهم : هو تجهم المعتزلة ونحوهم ، الذين يقرون بأسماء الله تعالى في الجملة ، لكن ينفون صفاته .
وهم أيضا لا يقرون بأسماء الله الحسنى كلها على الحقيقة ، بل يجعلون كثيراً منها على المجاز ، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون .
والدرجة الثالثة هم الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية : لكن فيهم نوع من التجهم ، كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة ، لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته ، الخبرية وغير الخبرية ، ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها .
والإمام أحمد ينعت اللفظية بالتجهم ، أي الذين يقولون : لفظنا بالقرآن مخلوق .
قال ابن جرير : وسمعت جماعة من أصحابنا ، لا أحفظ أسماءهم ، يحكون عن أحمد أنه كان يقول : من قال : لفظي بالقرآن مخلوق ، فهو جهمي .
والسلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات ، ويقول : إن القرآن مخلوق ، وإن الله لا يرى في الآخرة جهمياً .

وفاة الإمام أحمد رحمه الله :
وإذا أردنا أن نقلب صفحات حياة هذا الإمام كلها لطال المقام، ولكن حسبنا الإشارة والتذكير وفاءً لعلمائنا وأداءً لبعض حقهم علينا، وربطاً للناس بسيرهم التي ورثوها من المنهج النبوي، واستقوها من معين الكتاب والسنة في بعدٍ عن التعصب المذهبي، والمسلك التحزبي، وفي مجانبة لمسالك الغلو في الأئمة، والجفاء لهم والحط من مكانتهم، وبعد حياة حافلة بالخير بجميع جوانبه، قدم فيها أبو عبد الله جهده وجهاده، وأيقظ في الأمة الاعتزاز في الإسلام، وشدة التمسك بالسنة والمنهج الصحيح .
بعدها مرض بالحمّى، يقول ابنه عبد الله لما حضرت أبي الوفاة، جلست عنده فجعل يغشى عليه ثم يفيق ثم يفتح عينيه ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، لا بعد، ثلاث مرات، ففعل هذا مرة ثانية وثالثة، فلما كانت الثالثة قلت له: يا أبتِ! إنك قلت كذا وكذا.
فقال : ما تدري ، هذا إبليس قائم حذائي عاضٌّ على أنامله يقول: فتني يا أحمد ! وأنا أقول : لا بعد حتى أموت .
قال صالح فجعل أبي يحرك لسانه بالشهادة حتى توفي رحمه الله وله سبعٌ وسبعون سنة وأيام ، وقد شهدت جنازته كما تقول كتب السير جمعاً لم يُشهد مثله ، حتى قيل أن غير المسلمين أسلموا ذلك اليوم ، وكان رحمه الله يقول : قولوا لأهل البدع : بيننا وبينكم الجنائز ، وأوصى رحمه الله عند موته لأهله وذريته وللمسلمين خيراً .
توفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة ، ثاني عشر ، من ربيع الأول ، سنة إحدى وأربعين ومائتين ، وله سبع وسبعون سنة .

جنازته :

روى الأئمة الثقات ، والحفاظ الأثبات ، أن عبد الوهاب الوراق قال : ما بلغنا أنه كان للمسلمين جمع أكبر منهم على جنازة أحمد بن حنبل .
ولقد شهد جنازته ألف ألف من الرجال ، وستون ألفاً من النساء ، وأسلم يوم مات أحمد بن حنبل أناس من اليهود والنصارى والمجوس .
وبكى جميع الناس على موته ، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة .

تنبيه مهم :

وثمة تنبيه أخير : وهو أنه ليس الحديث عن عالم ، حطاً من مكانة غيره من العلماء ، فـأبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله وسائر الأئمة ، لهم حظهم الوافر في خدمة الإسلام وأهله ، فرحمهم الله ورضي عنهم .

الشهادة له بالجنة :

مذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون لأحد بجنة ولا بنار ، إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .
لكننا شهداء الله في أرضه ، وإذا أثنى الناس على شخص بعينه بخير ، فنسأل الله أن يكون من الجنة ، ومن شهد له الناس بالشر ، فنخاف عليه ، فربما وجبت له النار .
وإليكم هذه الأدلة ، ثم نذكر قول العلماء في الشهادة للمعين بجنة أو نار .

منهج أهل السنة والجماعة :

منهج أهل السنة والجماعة يقفون في الشخص المعين ، فلا يشهدون له بجنة أو نار إلا عن علم ؛ لأن الحقيقة باطنة ، وما مات عليه لا نحيط به لكن نرجو للمحسن ، ونخاف على المسيء .

فائدة :

يقول العلماء : كل من رأيناه يعمل الصالحات ، ورأيناه مستقيماً على طاعة الله ، نرجو له الخير من غير شهادة ، ومن رأيناه يعمل السيئات والكبائر نخاف عليه من النار ، ولا نشهد له بالنار .
هذا معتقد أهل السنة والجماعة ، هم لا يقولون عن أحد معين إنه من أهل الجنة ، أو من أهل النار ، إلا من أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة ، أو من أخبر أنه من أهل النار .
وإن كان العلماء يقولون : إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من يشاء الله إدخاله ، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين .

أقوال السلف في الشهادة :
واختلف العلماء في الشهادة للشخص بالجنة إلى ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه لا يشهد لأحد بالجنة إلا الأنبياء ، ودليل هذا القول : أن الأنبياء معصومون ، وأما المؤمن المشهود له بالجنة من غيرهم ، فهو غير معصوم ؛ لأنه يمكن ارتداده وكفره ، فالشهادة له بالجنة معلقة بعدم ارتداده وكفره ، أي : يدخل الجنة إلا إذا أرتد .
القول الثاني : أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص ، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث ، وهذا هو الصحيح ؛ لأنه ورد عن المعصوم ، وأما ما لم يرد ، فلا يجوز له الشهادة ؛ لأنه غيب ، ولا يعلم الغيب إلا الله .
القول الثالث : أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص ، ولمن شهد له المؤمنون .
واستدل هؤلاء بما يلي :
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالنَّبَا أَوْ بِالنَّبَاوَةِ قَالَ : وَالنَّبَاوَةُ مِنَ الطَّائِفِ ، قَالَ : تُوشِكُونَ أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، أَوْ خِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارِكُمْ قَالُوا : بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ ، وَبِالثَّنَاءِ السَّيِّئِ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ " [ رواه ابن ماجة ، وقال البوصيري : إسناده صحيح ، ورواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ، وصححه الألباني في تخريج الطحاوية ] .
وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ : مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " وَجَبَتْ " ، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ : " وَجَبَتْ " فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : مَا وَجَبَتْ ؟ قَالَ : " هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ " [ متفق عليه ] .

قال الألباني رحمه الله : " والثناء بالخير على الميت من جمع من المسلمين الصادقين أقلهم اثنان من جيرانه العارفين به من ذوي الصلاح والعلم ، موجب له الجنة ، وفيه أحاديث :
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِجَنَازَةٍ ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْراً فَقَالَ : " وَجَبَتْ " ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا ، فَقَالَ : " وَجَبَتْ " ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قُلْتَ لِهَذَا وَجَبَتْ ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ ، قَالَ : " شَهَادَةُ الْقَوْمِ ، الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ " [ رواه البخاري ] .
وعند الإمام أحمد في المسند : أَنَّ جَنَازَةً مَرَّتْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهَا خَيْراً ، وَتَتَابَعَتِ الأَلْسُنُ لَهَا بِالْخَيْرِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " وَجَبَتْ " ، ثُمَّ مَرَّتْ جَنَازَةٌ أُخْرَى فَقَالُوا لَهَا شَرًّا ، وَتَتَابَعَتِ الأَلْسُنُ لَهَا بِالشَّرِّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " وَجَبَتْ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ " .
وعَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ : قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ ، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ، فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْراً ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : وَجَبَتْ ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْراً ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه وَجَبَتْ ، ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ ، فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا فَقَالَ : وَجَبَتْ ، فَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ فَقُلْتُ : وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ " ، فَقُلْنَا : وَثَلاَثَةٌ ، قَالَ : " وَثَلاَثَةٌ " ، فَقُلْنَا : وَاثْنَانِ ، قَالَ : " وَاثْنَانِ " ، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ " [ رواه البخاري ] .
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ ، فَيَشْهَدُ لَهُ أَرْبَعَةٌ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ ، إِلاَّ قَالَ : قَدْ قَبِلْتُ عِلْمَكُمْ فِيهِ ، وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ " .
وقال الألباني رحمه الله : " واعلم أن مجموع هذه الأحاديث الثلاثة يدل على أن هذه الشهادة لا تختص بالصحابة بل هي أيضا لمن بعدهم من المؤمنين الذين هم على طريقتهم في الإيمان والعلم والصدق وبهذا جزم الحافظ ابن حجر في الفتح .
ثم إن تقييد الشهادة بأربع في الحديث الثالث ، الظاهر أنه كان قبل حديث عمر الذي قبله ، ففيه الاكتفاء بشهادة اثنين وهو العمدة .
وأما قول بعض الناس عقب صلاة الجنازة : ما تشهدون فيه ؟ اشهدوا له بالخير ، فيجيبونه بقولهم : صالح ، أو من أهل الخير ونحو ذلك ، فليس هو المراد بالحديث قطعاً ، بل هو بدعة قبيحة ، لأنه لم يكن من عمل السلف ، ولأن الذين يشهدون بذلك لا يعرفون الميت في الغالب ، بل قد يشهدون بخلاف ما يعرفون ، استجابة لرغبة طالب الشهادة بالخير ، ظناً منهم أن ذلك ينفع الميت ، وجهلاً منهم بأن الشهادة النافعة ، إنما هي التي توافق الواقع في نفس المشهود له ، كما يدل على ذلك قوله في الحديث : " إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر " [ صححه في السلسلة الصحيحة 4/268 ] [ أحكام الجنائز ] .

وقال الشيخ / محمد العثيمين رحمه الله : " إذا أثنى المسلمون على الميت خيراً ، دل ذلك على أنه من أهل الجنة ، فوجبت له الجنة ، وإذا أثنوا عليه شراً ، دل ذلك على أنه من أهل النار ، فوجبت له النار ، ولا فرق في هذا بين أن تكون الشهادة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده ، لأن حديث الأسود مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد تنازل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ذكر من شهد له اثنان بخير كان من أهل الجنة .
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة ، أننا لا نشهد لأحد بجنة ولا نار ، إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم ، فنشهد لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة ، ونشهد بالنار لمن شهد له بالنار _ ثم ذكر أمثلة على ذلك _ كالعشرة وعكاشة بن محصن ، وثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنهم .
وممن شُهد لهم بالنار ، كعم النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب ، وما ذكر في القرآن في عمه أبو لهب ، وعمرو بن لحي الخزاعي ، وجاءه رجل فقال : يا رسول الله أين أبي ؟ قال : أبوك في النار .
والحاصل : أن من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالنار ، نشهد له بالنار .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وكذلك من أجمعت الأمة على الثناء عليه ، فإننا نشهد له بالجنة ، فمثلاً : الأئمة : أحمد ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، ومالك ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينه ، وغيرهم من الأئمة رحمهم الله ، أجمعت الأمة على الثناء عليهم ، فنشهد لهم بأنهم من أهل الجنة " .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أجمع الناس على الثناء عليه إلا من شذ ، والشاذ شذ في النار ، يشهد له بالجنة على هذا الرأي " .
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة ، المحرمين على النار [ شرح رياض الصالحين 4/570-573 ] .

الخاتمة :

تلك صفحاتٌ ناصعة ، وذلك غيضٌ من فيض لا يوفيه حقه ، وكم من معانٍ يعجز اللسان عن تصويرها ، وحياة الإمام كلها معانٍ ومواقف ، وحسبه إنه إمام السنة في علمه وعمله ، ودعوته وجهاده ، وأنه حربٌ على الجهل والانحراف والبدعة ، وقد خلف للأمة تراثاً علمياً ، ومذهباً فقيهاً ، له من المزايا والخصائص ما ليس لغيره ، فرحمه الله رحمة واسعة ، ورفع منزلته في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً ، وعملاً صالحاً متقبلاً ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وزدنا علماً وفهماً وفقهاً في الدين ، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين وراقدين ، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، اللهم اهد شباب المسلمين ، ورد ضالهم إليك رداً جميلاً ، اللهم جنبهم رفقاء السوء ، وأصحاب الشر يا رب العالمين ، اللهم من أردانا وأراد ديننا وبلادنا بسوء وشر ، اللهم فاجعل كيده في نحره ، ورد عليه بأسه ، اللهم أفسد عقله ، واقطع نسله ، وعرضه للفتن ، اللهم نكس رأسه ، واجعل الخوف لباسه ، اللهم شل لسانه وأركانه يا حي يا قيوم يا ب العالمين ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد الأمين .
 

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية