صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الانشغال بالفتن

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله جعل الدنيا دار ممرٍّ واعتبار ، والآخرةَ دار جزاءٍ وقرار ، أحمده سبحانه وأشكره على نعمِه وفضله المِدرار ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفَّار ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُصطفى المُختار ، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار ، وأصحابه البرَرة الأخيار ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وعلى طريق الحق والهُدى سار . . . أما بعد :
لقد انشغل الكثير من الناس بالقضايا السياسية وصراعات الدول بعضها مع بعض ، وأدخلوا الفضائيات إلى بيوتهم تعج بالفاتنات من النساء ، وتعرض أنواع الموسيقى أثناء الأخبار ، فمن أذن لهم بذلك ؟ وهل لديهم دليل على حلِّه ؟
وليس هذا هو المراد من موضوعنا ، ولكن للتنبيه فقط .
أما خاطرتنا في هذه الليلة فهي عن هذه الحمى التي أصابت الناس وهي متابعة للأحداث الراهنة على الساعة العربية والإسلامية خاصة ، كما يحصل اليوم من محاكمة لرموز النظام المصري السابق وانشقاق الناس ما بين مؤيد ومعارض ، وما يحدث من ظلم وتعسف وجبروت وقتل وظلم للمسلمين الأبرياء في سوريا وليبيا واليمن وغيرها ، في تناس وتجاهل عن قضية إخواننا في الصومال الدولة المسلمة التي تعاني الجوع والجفاف والموت الحقيقي ، ونحن نرفل بالخيرات والنعم من الله تعالى ، فاللهم لك الحمد ولك الشكر ، واللهم ارزق المسلمين في كل مكان مزيد من الخيرات والأعطيات ، وأنزل عليهم من بركات السماء ، وأخرج لهم من بركات الأرض يا رب العالمين .
ونحن نشاهد الكثير من الفتن في هذا الزمان ، فلنا وقفة مع ذلك ، لاسيما والمسلم وهو ينظر في أحاديث الفتن ويستمِعُ إليها ويقرأُ عنها ؛ ولنعلم أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم يُخبِرنا عن حلول الفتن واضطراب الأحوال وأنباء الهَرْج والمَرج وحوادث آخر الزمان وأشراط الساعة ، فليس من أجل التخويف والإنذار وحده ، ولا لمجرد الإخبار باقتراب الزمان وتغيُّر الناس وحُلول الفتن والمحن فحسب ؛ بل لأجل الاشتغال بالعمل وبذل مزيدٍ من الأعمال الصالحة ، وفعل الخيرات ، والاستعداد لهادم اللذات ، ليقدم العبد لنفسه عملاً ينفعه عند الله عز وجل .
أيها الأخوة . . لنقف هذه الوقفة مع تعليم النبي عليه الصلاة والسلام لرجل سأل عن الساعة _ القيامة _ فقال للسائل : " ماذا أعددتَ لها ؟ " ، وفي لفظٍ : " ويلكَ ؛ ما أعددتَ لها ؟ " .
فتأمَّلوا هذا التوجيهَ النبوي من المعلِّم الهادي صلى الله عليه وسلم ، فقد صرفَ السائلَ إلى ما يعنيه ويُفيده .
فالعبدُ الحازمُ المؤمنُ من إذا سمِع ما صحَّ من هذه الأخبار قادَه ذلك إلى العمل والحَزم والاستعداد ، والخُسران والدَّمار لمن أعرضَ واشتغل بالتأويلات والتخييلات الصارفة ، فهي أخبارٌ وأنباءٌ لزيادة الإيمان وإقامة الحُجَّة ومزيد العمل والعبادة .
وتأمَّلوا هذا التوجيهَ النبوي في قوله - عليه الصلاة والسلام - وهو يذكُر الفتن : "
فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ ، الصبر فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ " قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : " لاَ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ " [ أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" من حديث أبي ثعلبَة الخُشنيِّ رضي الله عنه ] .
وَعَنْ مَعْقِلِ بن يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ " [ رواه مسلم ] ، والهرج : القتل والفتن واضطراب الأمور واختلاطها .
قال أهل العلم: " أي : العبادة في وقت اختلاف الناس واشتغالهم " ، قالوا : " وعظُم الفضل لأن الناس يغفلونَ عنها ويشتغِلون بها ، ولا يتفرَّغ إلا من رحِم الله وعصَم " .
وتأمَّل ما تفعلهُ وسائلُ الإعلام في صرفِ الناس وانشغالهم بمُتابعتها ليلاً ونهارًا ، يشغلُ بها المُبتَلى نفسَه وفِكرَه وأصحابه في تحليلات وتعليلات وتخييلات وهو ليس فيها من قبيلٍ ولا دبيرٍ ؛ هل هذا خير أم انصراف المرء إلى الإحسان في عمله ومسؤولياته المُؤتَمن عليها والمسؤولٍ عنها والمُحاسَب عليها .
شغلَ نفسَه بقراءة الصحف وسماع المِذياع ومُشاهَدة القنوات ومُتابعة المواقع ، ومن انشغلَ بما لا يعنيه انصرف عما يعنيه .
ولعلَّ المُتأمِّل يُدركُ لماذا شبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم العبادَة بالهجرة ؟
قال أهل العلم : " لأن الهجرة فرارٌ بالدين من المكان المَخوف المُضطرب إلى المكان الآمِن الذي يُقيم فيه المسلمُ دينَه " .
والعبادةُ في أزمان الفتن فرارٌ من هذه الموجات ، فرارٌ إيجابي وليس انهزامًا وسلبية ؛ بل هو البناءُ والعمل ، اشتغالٌ بالعمل الصالح والعبادة والإصلاح ونُصرة الدين وجمع الكلمة والتحذير من الفُرقة ، في أبوابٍ من عمل الخير وأنواعٍ من العبادات الواسعة مفتوحة ؛ من صلواتٍ ، وصدقاتٍ ، وصيامٍ ، وحجٍّ ، وعمرةٍ ، وزيارةٍ ، وإحسانٍ في المعاملات ، وصدقٍ في العلاقات ، وصفاءٍ في القلوب ، وحبٍّ في الخير ، والنُّصح ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، من كل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، من أعمالٍ مالية وبدنية وقولية وقلبية ، وما فتحَ الله من أنواع الأعمال والطاعات ، ولكل عملٍ بابٌ من أبواب الجنة .
فشمَّر الصالحون المُوفَّقون عن ساعد الجدِّ ، وتلمَّسوا أبوابَ الخير والنجاة والثبات ، واتقَوا الفتن ، واجتنَبوا أبوابَ الشر ، وتأمل أيها العاقل قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن قامت على أحدكم القيامة وفى يده فسيلة فليغرسها " [ رواه أحمد ] .
الفسيلة : الصغيرة من النخل .
فاشتغلوا عباد الله بما ينفعكم ويقربكم من ربكم زلفى ، ولن تنفعكم متابعة الأحداث لأنه لا يد لكم فيها ، وللأسف أن الكثير ممن زعم أنه يشاهد الأخبار والتحليلات ينتقل عنها إلى غيرها من البرامج والأفلام والمسلسلات الهابطة التي تحارب الشريعة وتناقضها ، فأولئك على خطر عظيم .
والله جل وعلا طوَى عن الخلق حقائق الغيب ، وضربَ دونه الأسداد ، وحجَبَه عن أكثر العباد ، وفتحَ لهم بابًا يكون لهم فيه نفعُهم في أمور دينهم ودنياهم ، لا يدخل عليهم ضرر ، ولا يشغلهم عن مهماتهم ووظائفهم التي خلقوا لأجلها .

 

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية