صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







أمانة المناصب

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
يقول الله تعالى: { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } .
تلك الدار الآخرة فأخبر تعالى أنه يجعلها مأوى ومسكناً للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، لا يريدون استطالة على الناس وتعالياً وتكبراً عليهم وبغياً، ولا فساداً بارتكاب المعاصي كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر وأكل الأموال بالباطل وحرمان أهل الحقوق حقوقهم إلى غير ذلك من أسباب الفساد ، وقوله تعالى: { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } أي والعاقبة المحمودة في الدارين لأهل الإِيمان والتقوى وهم المؤمنون الذين يتقون مساخط الله عز وجل، وذلك بفعل المأمورات واجتناب المنهيات.

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنه أوحي إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد ".
ألا فليتأمل كل ظالم مفسد مجرم آكل شارب لابس متلبس بالحرام نهايته المؤلمة عند موته .

ألا فليعقل كل صاحب عقل أن الدنيا فانية ذاهبة عنه أو هو ذاهب عنها بفقر أو خسارة أو موت فكيف سيقدم على الجبار القوي العزيز الذي يقتص للمظلوم من الظالم الذي توعد من أضاع الأمانة وفرط فيها وأكل أموال الناس ظلماً ليكثر ماله ويزيد رصيده ، ألا فليتمتع في الدنيا بالغنى والجاه والرفعة ، وليبشر بالفقر والخسارة والذلة والمهانة في الآخرة عَنْ ‏ ‏أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه‏ ‏قَالَ ‏ : ‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"‏ ‏يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ ‏ ‏آدَمَ ‏ ‏هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ ‏ ‏وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ ‏ ‏بُؤْسًا ‏ ‏فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ يَا ابْنَ ‏ ‏آدَمَ ‏ ‏هَلْ رَأَيْتَ ‏ ‏بُؤْسًا ‏ ‏قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ فَيَقُولُ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ‏" [ رواه مسلم ].
يا أهل الدنيا يا أهل الملذات يا أهل الشهوات والمسرات وراءكم هادم اللذات ومفرق الجماعات وراءكم زائر لن تقف له جنودكم ولن تمنعه عنكم حصونكم ولا ترده أموالكم ولا أولادكم إنه الموت الذي لن يفر منه مطلوب ولن يفوته مرغوب .

إلى من اكل أموال الناس وعظم بطنه وزاد رصيده وحرم الفقراء والأيتام والأرامل وأهل الحقوق حقوقهم
يا من اشترى دنياً فانية بآخرةٍ باقية إن عذاب الله شديد وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع زهيد ، يقول عز وجل : { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .

يقول الله تعالى { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } من مال وولد وجاه وسلطان وفاخر اللباس والمراكب والقصور وارصدة البنوك والسفر والخدم والحشم واللهو واللعب ومتاع الدنيا الذاهب { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } نعطهم نتاج عملهم فيها وافياً غير منقوص فعلى قدر جهدهم وكسبهم فيها يعطون ولا يبخسهم عملهم لكفرهم وتركهم، ثم هم بعد ذلك إن لم يتوبوا إلى ربهم. هلكوا كافرين ليس لهم إلا النار { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ } في هذه الدار من أعمال وبطل ما كانوا يعملون.

من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازي بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة، كما قال تعالى: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [الإسراء: 18-19]، وقال تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [الشورى: 20].
قال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ ‏ ‏رَاغِمَةٌ ‏" [ رواه الترمذي ].

إن هذه الأموال والمناصب والكراسي وضِعت لخدمة دين الله تعالى والتقرب إليه وخدمة المسلمين وما يفيدهم من مشاريع تنموية وخيرية وحيوية وإنفاق على من يجب الإنفاق عليه فيما ينجي العبد من عذاب الله في قبره ويوم نشره ومحشره . وأنت مسؤول عن عملك في قبرك ويوم تلقى ربك تبارك وتعالى ، أرجع المظالم إلى أهلها قبل أن تفنى حسناتك ولم يبق إلا سيئات الناس فتطرح عليك يوم القيامة ثم تطرح في النار إن لم تصدق ذلك فتأمل قول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام حيث قال :" ‏أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ‏ ‏وَقَذَفَ ‏ ‏هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ ‏ ‏يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ‏"[ متفق عليه ].
وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام :" يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ " فيأخذ المظلومون من حسناته ، فما بالك بمن يأتي يوم القيام بلا صلاة أو زكاة أو صيام ولا أرصدة من طاعات أو خيرات لعاقبته وخيمة وخاتمته أليمة وعقوبته عظيمة .

والله تعالى يقول لقارون خاصة ولمن سلك مسلكه عامة ممن آتاه الله مالاً وملكاً وجاهاً ومنصباً أو استولى عليها بغير وجه حق واعتدى وبغى وطغى قال الله له { وَٱبْتَغِ } أي اطلب { فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ } من أموال وعقارات وذهب وفضة من متاع الدنيا ابتغ بها { ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } بأن تصدَّقْ منها وأنفقْ في سبيل الله كبناء مسجد أو مدرسة أو ميتم أو ملجأ إلى غير ذلك من أوجه البر والإِحسان. { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا } فكل واشرب والبس واركب واسكن ولكن في غير إسراف ولا مخيله، { وَأَحْسِن } عبادة الله تعالى وطاعته وأحسن إلى عباده بالقول والعمل { كَمَآ أَحْسَنَ } أي الله تعالى إليك { وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ } بترك الفرائض وارتكاب المحرمات. { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } ومن لم يحبه الله أبغضه ومن أبغضه عذبه في الدنيا والآخرة.

لقد اشتعل القبر ناراً برجل في عهدالنبي صلى الله عليه وسلم لشملة غلها من المغانم قبل أن تقسم ، وغضب على رجل أهدي له وهو في منصب يأخذ عليه أجراً ، فعزله من مكانه ، فكيف بمن يأكل ولا يشبع بل يأخذ الرشاوي ويملأ بها بطنه ظلماً وعدواناً وإثماً وحراماً ويؤخر معاملات المسلمين ولا ينجزها إلا برشوة .

يامن أحببت الدنيا وركنت إليها وظلمت العباد وأفسدت في البلاد ولم تخش يوم المعاد ، يا من أسأت وخنت الأمانة ولم تخف الحسرة والندامة يوم القيامة هل ستخرج من هذه الدنيا بغير الكفن والحنوط ،سوف تترك الدور والقصور والزوجات والأولاد وتترك الأموال وسوف يزول ملكك ويذهب جاهك وينكسر كرسيك فتسقط صريعاً وللقبر وضيعاً وتعاين الموت وسكراته والقبر وظلماته ، لن يبقى معك في قبرك غير عملك إن كان صالحاً فهنيئاً لك مستقرك وإن كان سيئاً فويل لك من هول قبرك وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم :" يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ ‏" [ متفق عليه ].

الأمانة أمرها عظيم وشأنها كبير فإن لم تكن على قدر المسؤولية فاتركها وانج بنفسك من الإفلاس العظيم يوم القيامة بل قبل ذلك في القبر وأهواله وشدائده وأخطاره عَنْ ‏ ‏أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه‏ ‏قَالَ ‏ : ‏قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي _ تجعلني في منصب وتجعلني والياً على منطقة مثلا أو مسؤولاً _ قَالَ : فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى ‏ ‏مَنْكِبِي ‏ ‏ثُمَّ قَالَ :" يَا ‏ ‏أَبَا ذَرٍّ ‏ ‏إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا ‏"[ رواه مسلم ].

ولـمَّا كانت السَّعادة القصوى أن يُوقَى الإنسان شقاء العيش في الدُّنْيا، وسوء المنقلب في الأخرى، فإنَّ رسول الله جمع في استعاذته بين الخيانة والفقر لأنه متى ما وجدت الخيانة وجد الفقر قال عليه الصلاة والسلام : ((اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك مِن الجوع فإنَّه بئس الضَّجيع، وأعوذ بك مِن الخيانة فإنَّها بئست البطانة)) ، فالجوع ضياع الدُّنْيا والخيانة ضياع الدِّين .

وأخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أنَّ أوَّل ما يُفْقَد مِن الدِّين الأمَانَة، وآخر ما يُفْقد منه الصَّلاة)) ، وحدَّث عن رفع الأمَانَة مِن القلوب، الحديث المشهور وقال: ((خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم)) فذكر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثة، ثمَّ ذكر أنَّ بعدهم قومًا ((يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمن)).
عَنْ ‏ ‏أَنَسٍ ‏ ‏رضي الله عنه قَالَ ‏ :" ‏غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : سَعِّرْ لَنَا ! فَقَالَ ‏:" ‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ ‏" [ رواه الترمذي وغيره ‏وقَالَ ‏ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ‏].

بل كان عليه الصلاة والسلام لا ينام الليل وعنده مال ينفقه على مستحقيه ويخاف لقاء الله عز وجل وهذه حاله عَنْ وعَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : أَمَرَنِي نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِذَهَبٍ كَانَتْ عِنْدَنَا فِي مَرَضِهِ ، قَالَتْ : فَأَفَاقَ ، فَقَالَ : " مَا فَعَلْتِ ؟ " قَالَتْ : لَقَدْ شَغَلَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْكَ . قَالَ : " فَهَلُمِّيهَا " ، قَالَ : فَجَاءَتْ بِهَا إِلَيْهِ سَبْعَةَ أَوْ تِسْعَةَ دَنَانِيرَ ، فَقَالَ حِينَ جَاءَتْ بِهَا : " مَا ظَنُّ مُحَمَّدٍ أَنْ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذِهِ عِنْدَهُ ، وَمَا تُبْقِي هَذِهِ مِنْ مُحَمَّدٍ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذِهِ عِنْدَهُ " [ رواه أحمد بسند صحيح ].
وأختم بهذه القصيدة لزين العابدين علي بن الحسين حيث يقول :


لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّامِ واليَمَنِ --- إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ
إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتهِ --- على الْمُقيمينَ في الأَوطانِ والسَّكَنِ
سَفْرِي بَعيدُ وَزادي لَنْ يُبَلِّغَني --- وَقُوَّتي ضَعُفَتْ والموتُ يَطلُبُني
وَلي بَقايا ذُنوبٍ لَسْتُ أَعْلَمُها --- الله يَعْلَمُها في السِّرِ والعَلَنِ
ما أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني --- وقَدْ تَمادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي
تَمُرُّ ساعاتُ أَيّامي بِلا نَدَمٍ --- ولا بُكاءٍ وَلاخَوْفٍ ولا حزَنِ
أَنَا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِداً --- عَلى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُني
يَا زَلَّةً كُتِبَتْ في غَفْلَةٍ ذَهَبَتْ --- يَا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلبِ تُحْرِقُني
دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُها --- وَأَقْطَعُ الدَّهْرَ بِالتَّذْكِيرِ وَالحَزَنِ
كَأَنَّني بَينَ تلك الأَهلِ مُنطَرِحاً --- عَلى الفِراشِ وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُني
وَقد أَتَوْا بِطَبيبٍ كَيْ يُعالِجَني --- وَلَمْ أَرَ الطِّبَّ هذا اليومَ يَنْفَعُني
واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُها --- مِن كُلِّ عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ
واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها --- وصارَ رِيقي مَريراً حِينَ غَرْغَرَني
وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا --- بَعْدَ الإِياسِ وَجَدُّوا في شِرَا الكَفَنِ
وَقامَ مَنْ كانَ حِبَّ النّاسِ في عَجَلٍ --- نَحْوَ المُغَسِّلِ يَأْتيني يُغَسِّلُني
وَقالَ يا قَوْمِ نَبْغِي غاسِلاً حَذِقاً --- حُراً أَرِيباً لَبِيباً عَارِفاً فَطِنِ
فَجاءَني رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَرَّدَني ---مِنَ الثِّيابِ وَأَعْرَاني وأَفْرَدَني
وَأَوْدَعوني عَلى الأَلْواحِ مُنْطَرِحاً --- وَصارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يَنْظِفُني
وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني --- غُسْلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ
وَأَلْبَسُوني ثِياباً لا كِمامَ لها ---وَصارَ زَادي حَنُوطِي حينَ حَنَّطَني
وأَخْرَجوني مِنَ الدُّنيا فَوا أَسَفاً --- عَلى رَحِيلٍ بِلا زادٍ يُبَلِّغُني
وَحَمَّلوني على الأْكتافِ أَربَعَةٌ --- مِنَ الرِّجالِ وَخَلْفِي مَنْ يُشَيِّعُني
وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا --- خَلْفَ الإِمامِ فَصَلَّى ثمّ وَدَّعَني
صَلَّوْا عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لها ولا سُجودَ لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُني
وَأَنْزَلوني إلى قَبري على مَهَلٍ وَقَدَّمُوا واحِداً مِنهم يُلَحِّدُني
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني وَأَسْكَبَ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني
فَقامَ مُحتَرِماً بِالعَزمِ مُشْتَمِلاً وَصَفَّفَ اللَّبِنَ مِنْ فَوْقِي وفارَقَني
وقَالَ هُلُّوا عليه التُّرْبَ واغْتَنِموا حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هناك ولا --- أَبٌ شَفيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني
فَرِيدٌ وَحِيدُ القبرِ، يا أَسَفاً ---عَلى الفِراقِ بِلا عَمَلٍ يُزَوِّدُني
وَهالَني صُورَةً في العينِ إِذْ نَظَرَتْ --- مِنْ هَوْلِ مَطْلَعِ ما قَدْ كان أَدهَشَني
مِنْ مُنكَرٍ ونكيرٍ ما أَقولُ لهم --- قَدْ هالَني أَمْرُهُمْ جِداً فَأَفْزَعَني
وَأَقْعَدوني وَجَدُّوا في سُؤالِهمُ ---مَالِي سِوَاكَ إِلهي مَنْ يُخَلِّصُنِي
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنك يا أَمَلي --- فَإِنَّني مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهنِ
تَقاسمَ الأهْلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا --- وَصَارَ وِزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأَثْقَلَني
واستَبْدَلَتْ زَوجَتي بَعْلاً لها بَدَلي --- وَحَكَّمَتْهُ فِي الأَمْوَالِ والسَّكَنِ
وَصَيَّرَتْ وَلَدي عَبْداً لِيَخْدُمَها --- وَصَارَ مَالي لهم حلاً بِلا ثَمَنِ
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيا وَزِينَتُها ---وانْظُرْ إلى فِعْلِها في الأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها --- هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
خُذِ القَناعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها --- لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ
يَا زَارِعَ الخَيْرِ تحصُدْ بَعْدَهُ ثَمَراً --- يَا زَارِعَ الشَّرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الوَهَنِ
يا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي --- فِعْلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني
يَا نَفْسُ وَيْحَكِ تُوبي واعمَلِي حَسَناً --- عَسى تُجازَيْنَ بَعْدَ الموتِ بِالحَسَنِ
ثمَّ الصلاةُ على الْمُختارِ سَيِّدِنا --- مَا وَصَّا البَرْقَ في شَّامٍ وفي يَمَنِ
والحمدُ لله مُمْسِينَا وَمُصْبِحِنَا --- بِالخَيْرِ والعَفْوْ والإِحْسانِ وَالمِنَن


فيا أيها المسؤول اتق الله العلي الكبير شديد العقاب ذي الطول قبل أن تخترمك المنية ، واعمل في دنياك لآخرتك وأد الحقوق إلى أهلها وانصح لولاة الأمر وأمر بالمعروف وانهى عن المنكر وتعاون على البر والتقوى ولا تتعاون على الإثم والعدوان وكن واضحاً ناصحاً أميناً إلى أن تلقى ربك وليس لأحد عندك مظلمة يطلبك بها .
والله الله بالرفق أرفق بعباد الله يرفق الله بك فالرفق يزين الأمور والإشقاق على الناس يشين الأمور والعواقب قال صلى الله عليه وسلم :" اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ به " [ رواه مسلم ].
فكم من العلماء والقضاة والصلحاء من قدم استقالته وطلب إعفاءه من منصبه لخوفه من ثقل المسؤولية أمام الله تعالى يوم القيامة لعلمه بعدم قدرته على تحمل الأمانة وخوفه من ضغوط الغير التي لا يستطيع ردها ولأنهم خافوا قوله تعالى :( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) وقوله عز وجل :( وقفوهم إنهم مسؤولون ) فنجوا بأنفسهم من عذاب الله ومن حمل أوزار الناس يوم القيامة ، لكن من وجد في نفسه الأمانة والكفاءة والقوة والحفظ والعلم والقيام بحق المسؤولية فلا يتركها بل يتشبث بها لينصف المظلوم ويرد المظالم إلى أهلها وهذا هو الذي يفتقده الناس اليوم فنسأل الله الصلاح والرشاد والهدى والتقى ، قال تعالى عن يوسف عليه السلام :( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) .
اللهم احفظ ولي أمرنا بحفظكم واكلأه بعنايتك واجعل عمله في رضاك وارزقه بطانة صالحة ناصحة تدله على الخير وتعينه عليه اللهم أعنه على أمور دينه ودنياه واجعله سلماً لأوليائك حرباً لأعدائك يا رب العالمين.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا واكفنا شر خلقك واجعلنا أغنى خلقك بك وأفقر عبادك إليك واتمم علينا نعمك وابسط الحب والرخاء والسعادة والأمن والاطمئنان والسلام في ربوع بلاد المسلمين يا رب العالمين.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب والحمد لله أولاً وآخراً .

يحيى الزهراني
إمام جامع البازعي



 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية