صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







مستقبل الربا

يحيى بن موسى الزهراني

 
الحمد لله الواحد المعبود ، عم بحكمته الوجود ، وشملت رحمته كل موجود ، أحمد سبحانه وأشكره وهو بكل لسان محمود ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغفور الودود ، وعد من أطاعه بالعزة والخلود ، وتوعد من عصاه بالنار ذات الوقود ، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ، صاحب المقام المحمود ، واللواء المعقود ، والحوض المورود ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، الركع السجود ، والتابعين ومن تبعهم من المؤمنين الشهود ، وسلم تسليماً كثيراً إلى اليوم الموعود . . . أما بعد : فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فاتقوه رحمكم الله تقوى من أناب إليه ، واحذروه حذر من يؤمن بيوم العرض عليه ، واعبدوه مخلصين له الدين ، وراقبوه مراقبة أهل اليقين ، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين .

أمة الإسلام : في مثل هذه الأيام من كل عام ، يحزم الناس أمتعتهم ، ويجهزون حقائبهم ، استعداداً للسفر ، ولكل منهم مقصده ، فمن كان قصده الترويح البريء كان مأجوراً ، ومن كان قصده غير ذلك ، فالأعمال بالنيات ، وكل هجرته إلى ما هاجر إليه ، ثم توفى إليهم أعمالهم يوم القيامة وهم لا يبخسون ، قال تعالى : " إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون "
أيها المسلمون : الناس في هذه الإجازة الصيفية ، فرق شتى ، منهم من يستعد للسفر ، ومنهم من أخذ أهبته للزواج ، ومنهم من عزم على شراء سيارته ، ومنهم من يريد تشييد منزله ، وغيرهم كثير ، فكل يحتاج إلى النفقات ، وتأمين الحاجيات ، ولا يتأتى ذلك إلا بوجود المال ، وإن مما تأسف له النفوس ، ونذير حرب ضروس ، ما يقع فيه كثير من المسلمين اليوم ، من تهافت على البنوك الربوية ، والمصارف المحرمة ، لاقتراض المال الحرام ، من أجل متعة دنيوية ما تلبث أن تزول وتذهب ، ويكون وبالها على فاعلها ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون * واتقوا النار التي أعدت للكافرين " ، فلربما كان البيت قبراً ، والسيارة تابوتاً ، والزوج وبالاً ، فاتقوا الله أيها المسلمون ، واحذروا دخول الربا في تعاملاتكم وأموالكم ، فذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون .

أمة الإسلام : الربا من أكبر الكبائر ، وأعظم الجرائم ، وأشد العظائم ، الربا يهلك الأموال ، ويمحق البركات ، ويجلب الحسرات ، ويورث النكسات ، قال تعالى : " يمحق الله الربا ويربي الصدقات " ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل " [ أخرجه أحمد والحاكم بسند صحيح ] ، آكل الربا ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، خارج من رحمة الله ، داخل في عذاب الله ، ما لم يتب ويستغفر الله ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهديه ، وقال : هم سواء " [ أخرجه مسلم ] ، فأي ذنب أعظم من ذنب ملعون صاحبه ؟ وأي مصيبة أكبر من مصيبة اللعن والطرد من رحمة الله تعالى ؟ فاتقوا الله أيها الناس ، واعلموا أنكم محاسبون ، وعن أموالكم مسؤولون ، ولن تنفعكم أموالكم ولا أولادكم من الله شيئاً .

أمة الإسلام : الربا حرام كله ، قليله وكثيره ، قال تعالى : " وأحل الله البيع وحرم الربا " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات ، وذكر منها ، وأكل الربا " [ متفق عليه ] ، الربا حرب لله ولرسوله ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " ، والعجيب والعجائب جمة ، أن من الناس من يأكل الربا عالماً بحرمته ، عارفاً بعقوبته ، متذرعاً برحمة الله ومغفرته ، ونسي المسكين أن الله جل جلاله يقول في كتابه العزيز : " اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم " ، ويقول سبحانه : " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب " ، الربا دمار للأفراد والشعوب ، وإشعال لفتيل الحروب ، الربا هلاك للأمم والمجتمعات ، صغار وذلة للمتعاملين به ، ولا أدل على ذلك من هذه النكبات التي حطت رحالها بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، من حروب مدمرة ، وفيضانات عارمة ، وكسوف وخسوف ، ورياح عاتية ، وقتل وسرقات ، وجرائم واغتيالات ، ونهب للممتلكات ، كوارث وحوادث ، ليس لها من دون الله كاشفة ، ولا منجي منها إلا بتوبة صادقة ، ورجوع إلى الله الواحد القهار .

أيها المسلمون : في خضم معترك هذه الحياة ، وفي بحرها المتلاطم الأمواج ، هناك فئة من المسلمين ، تجرءوا على الحرمات ، وارتكبوا المنهيات ، دون ورع ولا خوف ، فأكلوا الربا ، ودعوا الناس إلى أكله ، مجاهرين بالمعصية ، وقد توعدهم الله بعقاب من عنده ، على لسان نبيه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قيل : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : " من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى " [ أخرجه البخاري ] ، ومن تعامل بالربا فقد خالف أمر الله وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعصى الأوامر ، واقترف الزواجر ، وقد قال الله تعالى : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " ، وقد بين الله تعالى مآل العصاة والمذنبين ، والمتعاملين بالربا ، والآكلين له ، فقال تعالى : " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين " ، إن أمراً هذه نهايته ، وتلكم عاقبته لواجب على كل عاقل أن يجتنبه ويحذره ، ويحذر الناس من خطره وشره ، قال صلى الله عليه وسلم : " إذا ظهر الزنا والربا في قرية ، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله " [ أخرجه الحاكم وحسنه الألباني ] .

أيها المسلمون : آكل الربا لا يستجاب لدعائه إذا دعا ، ولا تفتح له أبواب السماء ، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء ، يارب ، يارب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك " [ أخرجه مسلم في صحيحه ] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم حرام ، فإذ ذاك لا تجاب لهم دعوة " [ أخرجه البخاري ] ، فالربا شؤم على صاحبه ، ظلم للمتعامل به ، فيه ارتكاب لما حرم الله ورسوله ، وربما سلط الله على صاحبه الآفات المهلكة ، والكوارث المدمرة ، من غرق أو حرق أو لصوص أو أنظمة جائرة تذهب به جميعه ، وكم رأى الناس وعاينوا ، وشاهدوا وباينوا ، عاقبة الربا على أصحابه ، فكم من الأثرياء المرابين ، والأغنياء المحاربين ، الذين محق الله ما بأيديهم ، حيث علقتهم الديون ، فأخذهم الله بعذاب الهون ، فصاروا عالة على الناس يتكففون ، وصدق الله العظيم القائل : " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً " ، وصدق عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، القائل في الحديث الصحيح : " ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة " [ أخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه الألباني 2 / 28 ] .

أمة الإسلام : للربا أثار مخيفة ، وعواقب عنيفة ، منها ما تم بيانه ، ومنها : أن الربا سبب لظهور الأمراض المستعصية ، وكثرة الأدواء والأوبئة ، وتسلط الحكام ، وانتشار الفقر والبطالة ، وكثرة الجريمة ، وشيوع الفساد في البلاد بين العباد ، وهذا ما تعانيه الأمة اليوم ، فهل من مدكر ومتعظ ؟ في الحديث ، ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا ظهر فيهم الفقر ، والأمراض المستعصية ، وظلم السلطان ، ومن أعظم آثار الربا فتكاً ، وأشدها ضرراً ، أنه سبب لعذاب القبور ، ففي الحديث الصحيح الطويل الذي أخرجه البخاري من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه ، أن آكل الربا ، يُعذب من حين موته إلى يوم القيامة ، بالسباحة في بحر الدم ، ويلقم حجارة من نار ، وهذا عذابه في قبره مع لعنة الله له ، ألا فاتقوا الله عباد الله ، وذروا ما بقي من الربا ، واتركوا كل تعامل به ، واهجروا كل من تعامل به ، واحرصوا رحمكم الله على تحري المال الحلال ، ففيه غنية عن الحرام .

أيها المسلمون : لما كثرت البنوك الربوية ، وانتشرت الدعايات الصحفية ، تحت شعارات مضلله ، وروايات باطلة ، بأسماء منمقة ، كالخدمات البنكية ، والنظام المصرفي ، والمداينات ، والقرض والفائدة ، وحساب التوفير ، وودائع الائتمان ، ونحو ذلك ، لما تغير مسمى الربا بتلكم المسميات ، انساق الناس وراء ترهات الأحلام ، وسفهاء الأقلام ، فوقعوا في الربا عياناً بياناً ، فيا حسرةً على العباد ، تاهوا في كل واد ، قال صلى الله عليه وسلم : " يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا ، ومن لم يأكله أصابه من غباره " [ أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة ] ، والناظر في واقع المسلمين اليوم ، يدرك مصداقية هذا الحديث ، وأي موظف لا يمر راتبه بأحد البنوك الربوية ، فسبحان الله ما أحلمه على خلقه ، وما أرأفه بعباده ، وما أصبره على أذاهم ، ينزل عليهم نعمه ومننه وخيراته ، ويقابلون ذلك بالمعاصي والجحود والكفران ، قال تعالى : " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون " .

أيها المسلمون : إن الله حرم الربا في كتابه العزيز، وحرمه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وأجمع العلماء على تحريمه ، ولم يُحل في ملة قط ، فمن اعتقد حله وقد جاءته الآيات والأحاديث ، فإنه مفارق للإسلام ، وخارج منه ، لكونه مكذباً لله ورسوله ، راداً على الله ورسوله ، قال تعالى : " قَـٰتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ " ، فانظروا عباد الله كيف أذن الله جل وعلا بقتال من لم يُحرم ما حرمه الله ورسوله ، بل وأذن في حربهم ، وأخرجهم من دائرة الإيمان والعياذ بالله ، فالربا حرام لما يحتويه من ظلم للبشرية ، وأكل لحقوق الإنسانية ، في الربا تجتمع جميع الشرور ، بفعل الربا تصبح الأمم طبقتان ، طبقة غنية ، وأخرى فقيرة ، الربا من أسباب الكسل والخمول ، الربا حرام كله ، مهما كانت أسبابه ودوافعه ، فليس هناك مسوغ يجيز لعبد من عباد الله أن ينتهك حرمات ربه وخالقه ، الربا حرام في الأمور الاستهلاكية والإنتاجية ، الربا حرام مع المسلمين وغير المسلمين ، الربا حرام ولو حصل التراضي بين الطرفين ، لأنه عدوان لله ولرسوله ، ومعصية ظاهرة الحجة والبيان .

أمة الإسلام : احذروا سخط الله ومقته وغضبه ، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية ، بفعل الطاعات ، واجتناب المنهيات ، ألا وإن أعظم المنهيات بعد الشرك بالله التعامل بالربا ، ولا يغرنكم من هلك مع الهالكين ، فتلكم سبيل الغافلين ، وعاقبة المجرمين ، وتعاملوا فيما بينكم بالمعاملات الطيبة النافعة ، وكونوا عباد الله إخواناً ، فرأس المال والخبرات ، تورث المنافع والخيرات ، فاحذروا الربا أيها الناس ، لا يغرنك تسهيلاتهم، فهم والله لم يسهلوها محبة لكم، وإنما يريدون اقتناصكم، فاليوم تكون الأمور سهلة، وغداً تجتمع الديون، ويكثر المطالبون ، فلا تستطيعون وفاءها، فيعود الغني فقيراً ، والمترف مفلساً ، فاتقوا الله تعالى في أموالكم ، واحذروا دخول الربا فيها ، وابتعدوا عنها طاعة لله ، وخوفاً من عقوبته ، فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه .

أيها المسلمون : كل الناس يعلم حرمة الزنا ، ولقد جعل الله الربا أشد من الزنا ، قال صلى الله عليه وسلم : " درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية " [ أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط ، وصححه الألباني ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " الربا ثلاث وسبعون باباً ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه " [ أخرجه الحاكم وصححه الألباني ] ، أعاذنا الله وإياكم من مضلات الفتن ، وسوء المحن ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما سمعتم ، فما كان من صواب فمن الله ، وما كان من خطأ فأستغفر الله منه ، واستغفروه إنه كان للأوابين غفوراً .

الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً حمداً ، والشكر له شكراً شكراً ، له الحمد كله ، وله الشكر كله ، وله الفضل كله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، أهل هو أن يعبد ، وأهل هو أن يشكر ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد ، وكلنا له عبد ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، صلوات ربي وسلامه عليه ، وعلى آله وصحبه ، ومن تبع سنته ، واهتدى بهداه . . . أما بعد :
فيا أيها المسلمون : لقد كثرت الدعايات للعمل بالربا ، وتعددت مجالاته ، وتنوعت أساليبه ، فعلى المسلم أن يخشى الله ويتقه ، ويعلم أنه موقوف بين يديه يوم القيامة ، فمن معاملات الربا المحرمة اليوم وأكثرها شيوعاً :
*** القرض بفائدة ، وصورة ذلك ، أن يقترض شخص من آخر أو مؤسسة أو بنك مالاً على أن يرده وزيادة ، فهذا هو عين الربا الذي أجمعت الأمة على تحريمه ، وجاءت النصوص الشرعية بمنعه والتحذير منه قال تعالى : " وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " .

*** ومن صور الربا المحرمة ، بيع العينة ، وصورة ذلك ، أن يبيع سلعة بثمن مؤجل على شخص ، ثم يشتريها منه بثمن حال أقل من الثمن المؤجل ، فهذه معاملة ربوية محرمة ، جُعلت السلعة فيها حيلة وستارة فقط ، يتحايلون على الله تعالى كما يتحايلون على الأطفال ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، قال صلى الله عليه وسلم : " لئن تركتم الجهاد ، وأخذتم أذناب البقر ، وتبايعتم بالعينة ، ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم ، حتى تتوبوا إلى الله ، وترجعوا على ما كنتم عليه " [ أخرجه أبو داود ] .

*** ربا الدين ، وصورته أن يبيع الرجل على آخر بيعاً إلى أجل مسمى ، فإذا جاء الأجل ، ولم يكن عند صاحبه قضاء ، زاد في الثمن وأخر عنه في الدفع إلى أجل مسمى آخر ، وهذه هو الربا أضعافاً مضاعفة ، وهو ربا الجاهلية الذي نهى الله عنه بقوله سبحانه : " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله " .

*** ربا النسيئة ، وله صورة متعددة ، منها : أن يقرض شخصاً مبلغاً من المال على أن يرده وزيادة ، ومنها : بيع النقود بالنقود ، أو النقود بالذهب إلى أجل بزيادة ، أو بيع ذلك من غير تقابض في المجلس ، ولو لم يكن هناك زيادة ، فهذا عين الربا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، يداً بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء " [ أخرجه مسلم ] ، وفي رواية : " مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " [ أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض " [ متفق عليه ] ولا تفضلوا بعضها على بعض ، وقال صلى الله عليه وسلم في الأصناف الستة المذكورة : " ولا تبيعوا منها غائباً بناجز " [ متفق عليه ] ، وهذه الأنواع من الربا واقعة اليوم بكثرة جارفة ، وتكثر في المصارف ، وعند باعة الذهب والحلي ، وإذا اختلفت الأصناف حال البيع ، فيلزم أن تكون مقبوضة في الحال فقط ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم ، يداً بيد ، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم ، يداً بيد ، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم ، يداً بيد " [ أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود ] ، ولفظ أبي داود : " ولا بأس ببيع الذهب بالفضة ، والفضة أكثرها ، يداً بيد ، وأما نسيئة فلا ، ولا بأس ببيع البر بالشعير ، والشعير أكثرها ، يداً بيد ، وأما نسيئة فلا " .

*** ومن صور الربا اليوم ، أن يُعجل الموظف استلام راتبه قبل نهاية الشهر مقابل فائدة مالية ، يسمونها عمولة البطاقة ، وفي حقيقتها زيادة مالية ربوية ، يرى الناس ظاهرها ، ويخفى عليهم باطنها ، وهي معاملة ملعون صاحبها وآكلها والمتعامل بها ، فاحذروا عباد الله من تلك الألاعيب المكشوفة ، التي يتحايلون بها على الناس ، ليدخل الربا في أموالهم ، فتمحق بركاتها ، وتزول خيراتها .

*** ومن صور الربا ، استبدال الذهب القديم بذهب جديد ، ودفع الفرق بينهما ، وهذا عين الربا ، والصحيح في ذلك ، أن يبع القديم ويقبض ثمنه ، ثم يشتري جديداً .

*** ومن وصر الربا ، أن يشتري ذهباً ديناً أو أقساطاً ، وهذا رباً لا يجوز التعامل به ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، يداً بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء " [ أخرجه مسلم ] ، فليحذر تجار العملات ، وتجار السبائك الذهبية ، ألا يبيعوا حاضراً بغائب ، فلابد من التقابض والاستلام والتسليم في مجلس العقد .

*** ومن صور الربا ، الإيداع بفائدة ، وصورته أن يضع ماله في أحد البنوك الربوية ، ويعطيه البنك فائدة جراء الانتفاع بالمبلغ ، وهذا حرام ، وفيه تعاون على الإثم والعدوان ، ومعصية الرحمن .
أيها المسلمون : لا ريب أن المسلمين أخوة ، يساعد بعضهم بعضاً ، ويعين أحدهم أخاه ، بشفاعة حسنة ، أو واسطة لا ظلم فيها ، أو غير ذلك من أوجه المنفعة ، فمن شفع لأخيه أو قضى له منفعة ، فلا يجوز له أن يأخذ مقابل ذلك أجراً ، ومن فعل فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا ، قال صلى الله عليه وسلم : " من شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا " [ أخرجه أبو داود ] ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : " من شفع لرجل شفاعة فأهدى إليه هدية فهي سحت " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " كل قرض جر نفعاً فهر ربا " .

أمة الإسلام : ربما وقع المسلم في الربا وهو لا يعلم ، فمن كان كذلك ، وجب عليه رد الحقوق إلى أهلها ، وترك الربا فوراً ، لأنه من أسباب سخط الله ، ومن وقع في الربا مع بنك أو مصرف أو غيرها فإنه يرفع أمره للمحاكم الشرعية ، ليتبين الحق من الباطل ، ألا فاعلموا أيها الناس أن من وقع في الربا عارفاً أو جاهلاً ، فالعقد باطل ، لحديث بلال رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " من أين هذا ؟ " ، فقال : كان عندنا تمر رديء ، فبعت منه صاعين بصاع ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا ربا فردوه ، ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا " [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] ، وهذا دليل واضح على بطلان العقد ولو تم التوقيع عليه ، والموافقة من قبل المتعاقدين ، فكل تلك الأمور لا تجيز العمل بالربا .

أمة الإسلام : لقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى ورضي عنهم أجمعين ، أبعد الناس عن الحرام ، بل وتركوا المباح ، خوفاً من الوقوع في الحرام ، عرفوا قدر الأموال ، وأمعنوا النظر في سبيلها ، وطرق الحصول عليها ، فكانوا لا يحصلونها إلا من طريق مباح ، ولا يصرفونها إلا في وجه له منفعة ، سلكوا في تحصيلها سبيل الورع ، وفي تصريفها سبيل الكرم والبذل المحمود ، كان لأبي بكر رضي الله عنه غلاماً ، فجاء يوماً بشيء ، فأكل منه أبو بكر رضي الله عنه ، فقال له الغلام : أتدري ما هذا ؟ لقد كان ثمناً للكهانة ، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه ، وشرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبناً فأعجبه ، فقال للذي سقاه : من أين لك هذا ؟ ، قال مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها ، فأدخل عمر يده فاستقاء ، هكذا أيها المسلمون كان سلفنا الصالح يخرجون الحرام من بطونهم ، بعد أكله وهم جاهلون به ، وما ضرهم ذلك الفعل ، بل ملكوا زمام الدنيا ، ومفاتيح الآخرة ، وكانت حياتهم طيبة ، وعاقبتهم حميدة ، الله أكبر يا عباد الله ، ما أعظم الفرق بين قوم أخرجوا الحرام من بطونهم ، وقوم عرفوا الحرام ، وقرءوا كتاب الله ، وتدبروا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم أقدموا على أكل الحرام ، شتان بين الفريقين ، فريق ملكوا الأرض وخيراتها ، وفريق ضاع ملكهم اليوم ، فأصبحوا عبيداً للأهواء والشهوات والشبهات ، قال الله تعالى : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من الله من وال " ، وإذا كان أخف الناس عذاباً يوم القيامة ، رجل توضع تحت قدميه جمرتان من النار ، يغلي منهما دماغه ، فكيف بمن يأكل الربا وقد توعده الله بالخلود في النار ، فاتقوا الله أيها الناس ، واعلموا أن الله عز وجل ختم آيات النهي عن الربا ، والأمر بتركه في سورة البقرة بقوله تعالى : " واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " ، فهل بعد هذا البيان من النصوص الشرعية بيان ؟ لهي أعظم دليل وبرهان ، ولكن صدق الله العظيم إذ يقول : " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " ، وقوله سبحانه : " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً " ، وفي الموضوع أدلة كثيرة ، وأخبار غزيرة ، وفيما ذكرت كفاية ، لمن أدركته العناية ، هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المختار ، صادق الأخبار ، سيد الأبرار ، حيث أمركم بذلك العزيز الغفار ، فقال الواحد القهار : " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً "
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية