اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/zaher/4.htm?print_it=1

 نـقـد مـقـال ( الـــردة في الإســلام )

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

زاهر بن محمد بن سعيد الشهري


بسم الله الرحمن الرحيم


أرسل إلي مقال يعترض فيه صاحبه على حد الردة في الإسلام، وقد طلب مني بعض المشايخ الفضلاء الرد عليه، فكان هذا الرد ، وسأعرض المقال أولاً ثم أرد عليه.
يقول صاحب المقال: (الردة في الإسلام :
من الحقائق المعروفة في علم الاجتماع دور الوسط الاجتماعي في اعتناق الإنسان لفكرة ورفضه أخرى ، فمن ينشأ في بيئة لا تعرف عقيدة بعينها يصعب عليه إن يعتنق تلك العقيدة ، وان من ينشأ في بيئة تحكمها بقوة عقيدة معينة يصعب عليه أيضا أن يحيد عن حدود تلك العقيدة .
إذا سلمنا بهذه الحقيقة جاز لنا أن نسأل :
لماذا ُيكرَه الإنسان على وضعية لم يكن له الخيار فيها أصلا ؟؟؟
لماذا يُحرم الإنسان من حقه في اختيار دينه ؟؟؟
لطالما تساءلت عن الحكمة من حد الردة في منظوره الفقهي الإسلامي ؟؟
كيف يجيز الفقهاء قتل المرتد وكل جريمته انه مارس حريته الدينية وحقه الطبيعي في اختيار دينه ؟؟
كيف يمكن التوفيق بين حد الردة وبين مبدأ حرية الاعتقاد الديني الذي كرسه الإسلام ذاته في قاعدة ( لا أكراه في الدين ) ؟؟؟
يجيب الدكتور تيسير خميس العمر في كتابه (حرية الاعتقاد في ظل الإسلام) : (أن الهدف من مبدأ ( لا أكراه في الدين ) يتمثل حقيقة في أرقى أنواع ممارسة الحرية وأفضل إكرام للإنسان ، فهو يحذر من أراد الدخول في الإسلام من الدخول فيه إلا إذا كان على تمام القناعة والرضا ، لأنه إذا دخل عن طواعية وقناعة تامتين ومعرفة راسخة فانه عندها لا يستطيع الخروج منه .... ومن هنا نرى أن عقوبة الردة جاءت لتقطع على أهل الأهواء هدفهم وتبطل مسعاهم بعيدة عن زيغ المبطلين وأصحاب النفوس الضعيفة التي تحب أن تلهو وتبتعد عن جادة الصواب فالإسلام لا يسوغ لذوي الأهواء أن يعبثوا بالأديان ? فيدخل في الإسلام لغاية ثم يخرج منه لغاية ، بل اعتبر ذلك لعبا بالدين وتضليلا للمتدينين ) ( حرية الاعتقاد في ظل الإسلام : 496 وما بعدها )
قد يكون هذا الكلام منطقيا ومعقولا بالنسبة إلى من يترك دينه الأصلي إلى الإسلام ( أي من كان كافرا كفرا أصليا ثم اعتنق الإسلام ) ولكن ماذا عن المسلم الذي ولد ونشأ في بيئة إسلامية ؟؟
الواقع أن 90 % على الأقل من المسلمين قد اُكرهوا على الإسلام إكراها اجتماعيا، فلم يكن إسلامهم وليد قناعات فكرية وعقلية بل اكتسابا من البيئة وارثا من الأجداد !! إذن بأي حق يعاقبون على ترك دين لم يختاروه أصلا ؟؟؟
لماذا يجبرون على البقاء في دين لم يكن لهم إرادة في اختياره منذ البداية ؟؟؟
أليس هذا تناقضا مع حرية الاعتقاد الديني ؟؟؟
يتابع الدكتور العمر قائلا : ( تهدف عقوبة الردة إلى الحفاظ على المجتمع وصيانة أركانه ..وإقامة هيبة للدين وسلطانه على النفوس حتى لا يتطاول أصحاب العقول السقيمة والنفوس المريضة على الدين ، وتنال من قدسيته وهيبته في النفوس ) ( نفس المصدر : 498 )
هل صحيح أن هيبة الدين يمكن أن تهتز بردة شخص أو شخصين أو حتى مئة شخص ؟؟؟
هل صحيح أن المجتمع الإسلامي بهذه الهشاشة بحيث يمكن لبعض المرتدين أن يحطموا أسسه ويزعزعوا أركانه ؟؟؟
هل صحيح أن تدين ملايين المسلمين بهذا الضعف بحيث يمكن لنفر من المرتدين أن يشوشوا عليهم أفكارهم ويبثوا الشكوك في عقولهم ؟؟
هل صحيح أن المرتديين يشكلون خطرا حقيقا على الإسلام و المسلمين ومستقبل الدعوة ؟؟؟
يجيب الدكتور العمر بمنتهى الثقة : نعم !!! ( المرتدون اخطر من الأعداء على الإسلام وأهله ، ويزداد هذا الأمر جلاء ووضوحا لمّا نعلم أن المرتد سيشوه صورة الإسلام ويدس على الدين ، وهذا ما لا يقدر عليه غير المسلمين ، وعندئذ سيخدع الكثير ممن لا معرفة له بالإسلام ) ( نفس لمصدر : 292 )
ويزيد الدكتور حسن الشاذلي المسألة توضيحا فيقول : ( الفرق كبير بين مسلم يرتد ثم يهاجم الإسلام ، وبين غير مسلم يهاجم الإسلام ، إذ الأول يدس سمومه تحت شعار علمه بالحقيقة الدين ، وينفث أحقاده تحت ظلال خبرته المدعاة بتعاليم الدين وإحكامه ، مما يجعل مستمعه اقرب إلى تصديقه من شخص غير مسلم ? ولما كانت خطورة المرتد بهذه المثابة كانت عقوبة المرتد بقدر جنايته ) ( اثر تطبيق الحدود في المجتمع : 15 )
من الواضح أن هذا المنطق يفترض منذ البداية أن المرتد هو إنسان سيء الطوية ، مشبوه النوايا ، ينطلق من مخطط تآمري مدروس هدفه تشويه
صورة الدين !!! ولذلك لا بد من الحزم والشدة معه !!!
فهل هذا التصور واقعي وصحيح ؟؟؟ وهل هذا هو حال إي مرتد فعلا ؟؟ وهل يعقل أن كل من ينتقد عقائد الإسلام ومبادئه هو إنسان حاقد موتور أو عميل مأجور ؟؟؟
أليست هذا تصورا أحاديا يصادر حق الآخر في التفكير والاختيار والاختلاف ؟؟
أليس هذا منطقا قمعيا اقصائيا يشبه أسلوب الأنظمة القمعية في التعامل مع المعارضة ؟؟ ( فالمعارض السياسي عميل ، حاقد ، عدو للشعب والثورة والقائد المحبوب ) ولذلك لا مكان له بين أفراد الشعب ( الملتفين حول الثورة والقائد ) !!!!
وحتى إذا سلمنا بهذا المنطق ، فان من حقنا أن نسأل :
لماذا يكون المرتد عن الإسلام عميلا مأجورا ينفذ مخططا لتدمير الإسلام ويهدف من ردته بث سمومه وزعزعة عقائد المسلمين وكلامه عن الإسلام أكاذيب وأوهام ، في حين أن المسيحي أو اليهودي الذي يرتد عن دينه ويعتنق الإسلام هو رجل صادق جريء باحث عن الحقيقة ذو عقل منفتح وناضج ، ونقده لديانته السابقة حقائق علمية ينبغي دراستها والاستفادة منها ؟؟؟
أليس هذا أسلوبا مزدوجا في التعامل مع قضية الردة ؟؟؟
ما مبرر التفريق بين المسلم وغير المسلم رغم أن القضية واحدة ؟؟؟
ثم ..... هل قمع المرتد منعه من الكلام أو قتله ( لا فرق ) يعني تحصين مجتمعاتنا وتقديم صورة مشرقة للإسلام ؟؟؟؟
هل صحيح أن منع المرتد من الكلام سيقطع الطرق على من يريد أن يصطاد في الماء العكر لتشويه صورة الإسلام ؟؟؟
وهل صحيح أن العالم سيصدق كل ما يقوله أي شخص عن الإسلام ؟؟
 
إن من يقرأ كلام الأستاذين العمر والشاذلي يخيل له أن العالم يعيش في حالة تخلف إعلامي خطير !! وان المسلمين يعيشون في بقعة منعزلة ، ولا يدري العالم شيئا من أمر دينهم إلا من أحاديث المجالس وإخبار الصحف !! وبالتالي ما أيسر أن تلتبس عليهم الأمور عندما يسمعوا عن مسلم ارتد عن دينه فيصدقوه في كل ما يقول !!!!
 
والواقع أن المعلومة ( مهما كان نوعها ) لم تعد محجوبة عن المتلقي ، فثورة الاتصالات التي نعيشها اليوم فتحت الباب على مصراعيه إمام صاحب كل فكرة كي يوصل فكرته إلى العالم بأسره ، ومن المعلوم أن المسلمين يوظفون ثورة الاتصالات بشكل جيد ، إذ يمتلكون شبكة ضخمة من الصحف والمجلات والمحطات المسموعة والمرئية ، فضلا عن ملايين المواقع على شبكة الانترنت وبكافة اللغات الحية ..
 
وبالمقابل من اليسير على خصوم الإسلام أن يوصلوا رسالتهم المضادة إلى العالم بأسره حتى وان كانوا يعيشون في عقر دار الإسلام !! ( ولعل شبكة الانترنت دليل على هذا ، فهي بوابة على العالم لا تعرف معنى للرقابة أو الحدود الجغرافية )
 
إذن ......
 ما جدوى قمع المرتد ومنعه من الكلام ؟؟ ألن يستطيع إيصال صوته إلى العالم بأسره إذا شاء ؟؟
 وما مبرر الخوف مما سيقوله المرتد أو يتقوله على الإسلام ؟؟؟ ألن يكون بوسع المسلمين أن يدحضوا كلامه بما يملكونه من وسائل إعلامية ضخمة ؟؟؟
 أليست هذه العقلية التي عبر عنها الدكتورين العمر والشاذلي هي صورة حرفية مستنسخة عن عقلية التعتيم الإعلامي التي تمارسها الحكومات الاستبدادية ؟؟؟
 
ألا يفكر القائمون على الأجهزة الإعلامية العربية بذات الأسلوب : منع المعارضين من التعبير عن رأيهم حتى لا يشوهوا صورة ( الثورة ) و ( التجربة الاشتراكية ) و ( الحركة القومية ) في العالم وحتى لا يضربوا أسس المجتمع ويزعزعوا استقراره ؟؟؟
وتناقضات حد الردة لا تنتهي ...ولعل احدها أسلوب الكيل بمكيالين الذي يستخدمه الإسلاميون في التعامل مع حق الإنسان في تغيير دينه ، فعندما يتعلق الأمر باعتناق المسيحي للإسلام يكون هذا المبدأ حق من حقوق الإنسان جدير بالحماية والرعاية ، ولكن عندما يدخل الأمر ضمن الدائرة الإسلامية ويطال المسلم وتغيير دينه تتعالى الأصوات فجأة منددة بهذا المبدأ مشددة على تعارضه مع مبادئ الشريعة !!!!
في اعتقادي أن هذا الموقف هو من المفارقات التنظيرية الغريبة ، فالخطاب الإسلامي يرفض الاعتراف بحق الإنسان في اختيار دينه عندما يكون الإنسان مسلما ، ولكنه يرحب بهذا الحق ويدافع عنه ، وينعي على الآخرين مصادرته ، بل ويعلن الجهاد دفاعا عنه !!!! كل ذلك عندما ينصب هذا الحق على غير المسلم !!!!
أليس هذا تناقضا وازدواجية في المعايير ؟؟؟؟؟
ترى ....... لو كان الغرب يعتنق عقيدة الإكراه الديني كما يمثلها حد الردة هل كان سيظهر في الغرب مسلم واحد ؟؟؟؟
لولا احترام الغرب لحق الإنسان في اختيار دينه لما اعتنق الإسلام غربي واحد !!!
ولقد تنبه عدد من المفكرين الإسلاميين المعاصرين إلى تناقض حد الردة مع حقوق الإنسان ، ومن ثم بتنا نسمع اجتهادات وأفكار إسلامية تعلن رفضها لحد الردة صراحة ، ولعل خير من يمثل هذا الاتجاه : جمال البنا ، و حسن الترابي ، وجودت السعيد .
باختصار .....
إن حرية الاعتقاد الديني التي كرسها الإسلام ضمن مبادئه تقتضي بداهة حق الإنسان في اختيار دينه ، وحق الردة تناقض صارخ مع حق الإنسان في اختيار دينه ) انتهى .
 

الرد على المقال


من خلال النظر في هذا مقال ( الردة في الإسلام ) يتبين للقاريء أمرين هما:

الأول: قدرة الكاتب على طرح الأسئلة، وإثارة الاستفهامات، والربط بين القضايا- وإن كان لايسلم له فيها كما سيأتي.
والثاني: أن الكاتب لم يبن أسئلته على أساس متين، وإنما على معلومات مفككة، وقراءات ينقصها الشمول والدقة، إن لم يكن مصدره سماعات متقطعة لا يصل إليها منها إلا النزر اليسير.
ويتضح هذا من خلال النقاط التالية:
أولاً: كأني بالكاتب لايعرف من الإسلام إلا حد الردة، والذي لم يستطع أن يفهمه جيداً، أو على الأقل أن يفهم الحكمة من تشريعة، ثم جعل جهله بالإسلام حكماً عليه بأنه دين الإقصاء والقمعية.
ثانياً: لم يفرق الكاتب بين قوانين البشر، وبين التشريعات الربانية المقدسة عند كل الديانات والأمم.
ثالثاً: أن الكاتب خالف المعقول المحقق، وهو ماذكره في بداية مقاله، وخالف المنقول المصدق.
رابعاً: خلا المقال من الإنصاف والتجرد عند المقارنة، فجعل الإسلام وحيداً في الميدان، وحاول تغييب كل الديانات والملل والمعتقدات على وجه الأرض، وكيف تعاملوا مع من يخالف المقدس عندهم، أو يخالف القيم والمعتقدات.
خامساً: المقال من أوله إلى آخره يبين الحيرة الشديدة التي يعيشها الكاتب في التوفيق بين الإيمان بحرية الاعتقاد التي يدعوا لها الإسلام، وبين العقوبة التي تنال من يخالف معتقده الذي نشأ عليه.
وأتمنى من الكاتب أن يتسع صدره لما ذكر، خاصة أنه صاحب نفس كما هو واضح من المقال، وحتى لا أطيل فهذا تفصيل وبيان لما أجمل فيما سبق، على هيئة نقاط بعضها آخذ بزمام بعض في عناوين جانبية.

ونسأل الله لنا الإعانة     ---    فيما توخينا من الإبانة
 

v  الإسلام دين رباني سماوي كامل شامل.
لعلك تعجب من هذه الأوصاف لهذا الدين، لكن لاتعجل علي سأعطيك صورة واضحة، مشرقة للدين الإسلامي، الذي وضعته في قفص الاتهام، وقمت بجلده، ومحاولة تطبيق حد الردة عليه من حيث تشعر أولا تشعر.
إن الدين الإسلامي ليس هو حد الردة فقط، بل هو نظام شامل لكل جوانب الحياة الشخصية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، ولن أبرهن على ذلك بآيات من القرآن الكريم، أو السنة النبوية، وهي حق وصدق، ومصدر اليقين والضياء، لكني سأنقل لك بعضاً من  أقوال المنصفين من غير المسلمين، أومن الذين عايشوا الأديان ثم عرفوا نور الإسلام، ومن ذلك:
1.  قصة اليهودي الذي قال لسلمان الفارسي لقد علمكم نبيكم كل شي، فأجابه سلمان: نعم، حتى كيفية قضاء الحاجة لم يهملها الدين، بل بينها وأوضحها.
2. وقالت فاطمة تزفسكن ( Fatima Zuesken ):
 "يصعب عليّ أن أحدّد نواحي معينة أعجبت بها من بين تعاليم الإسلام، إذ من العسير على المرء أن يفهم تفصيلات الإسلام وجزئياته، مالم يكن قد أحاط به بصفة كلية، فكل شيء في الإسلام وثيق الصلة بالآخر، ولذا فإن المسلم المؤمن لا يمكن أن يركز كل اهتمامه في موضوع واحد فحسب.."
3. وقال فيليب حتّي: "الإسلام منهج حياة. وهو – بهذا النظر – يتألف من ثلاثة جوانب أساسية، الجانب الديني والجانب السياسي، والجانب الثقافي؛ هذه الجوانب الثلاثة تتشابك وتتفاعل، وربما انقلب بعضها إلى بعض مرة بعد مرة، من غير أن نلحظ ذلك"
4. وقال الدكتور دوغلاس أرشر (عبد الله أرشر)   Douglas Archer :
    "إن بحثي لنيل إجازة الدكتوراه، كان عن التربية وبناء الأمة، ومن هنا عرفت ما تحتاج إليه الأمم لبنائها الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، وكذلك البناء الروحي، واكتشفت أن أركان الإسلام الأساسية، تقدم أساسًا عظيمًا، وقاعدة قيمة؛ لإعادة بناء الأمة اجتماعيًا واقتصاديًا وروحيًا.
 ولذلك فإذا سألتني لماذا اعتنقت الإسلام ؟ سأقول لك؛ لأن الإسلام هو دين فريد من نوعه، تشكل فيه أركانه الأساسية، قاعدة للحكم، تهدي كلاً من الضمير، وكذلك حياة المؤمنين به على حدّ سواء"
وهذا غيض من فيض من الأقوال في بيان شمولية الدين الإسلامي.
ولذلك فإن حد الردة هو فرع من فروع دين يشتمل على العبادات، والمعاملات، وشؤون الأسرة، والسياسة والحكم، والقضاء والحدود.
وإذا نظرت في كتب الفقه الإسلامي، وماذا يحتل موضوع الردة منها، وأين يذكره العلماء، وماهو ترتيبه بين الأبواب، ستجد أن العقوبات أو الحدود هي آخر طابق في بناء الإسلام، فالأساس هو الإيمان بالله عز وجل، ثم الأخلاق، ويأتي بعد الأخلاق العبادات، والشعائر التي تقوي الرابطة بين البشر والخالق، والتي تجعل صلة الفرد مع خالقه وازعاً قوياً ضد ارتكاب الجريمة، ثم تأتي المعاملات، والحدود جزء من أحكام المعاملات، والمعاملات تمثل الطابق الثالث أو الرابع في بناء الإسلام، فكيف نقيم طابقاً رابعاً أو ثالثاً من غير طابق أول أو ثان، ومن غير أساس يقوم عليه.
وعليه أليس من الخطأ مناقشة قضية من قضايا الدين، خارج إطاره العام، وأهدافه الربانية التي أرادها الرب تعالى، والتي قد يخفى بعضها على البشر، وهذا يقودنا إلى المسألة الثانية وهي:
 
v  الفرق بين قوانين البشر وتشريعات الرب تعالى:

ينبغي التفريق بين قوانين البشر، والتي تقبل التغيير والتبديل، ويعتريها النقص والخلل، وبين التشريعات الربانية، والتي تقدسها كل الديانات والأمم مع ماطرأ على بعضها من التحريف.
فكل أمة من الأمم، وكل حضارة من الحضارات، لها مرجعها الذي تقدسه وتحترمه، وتعاقب من يخالف تعاليمه.
بل حتى على مستوى القوانين الوضعية، والدساتير البشرية، نشاهد ما تفعله الأنظمة عند مروق البعض منها وثورته على أفكارها ونظامها، من قتل وتعذيب، واضطهاد وملاحقة.
فهذا الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، شكك في عدد اليهود الذين قتلوا في ألمانيا، وقدّم الأدلة على أنّ عددهم أقل من مليون بقليل وليس ستة ملايين، كما يزعم اليهود، وقدّم الأدلة على أنّ أفران الغاز المزعومة لم تكن موجودة، فكانت النتيجة أن قُدّم إلى المحاكمة، ولم يكن هو الوحيد الذي يُقَدّم إلى المحاكمة بمثل هذه التهمة.
 أما لماذا كان مثل هذا الحجر على العقول؟! فالجواب ببساطة أنّ هناك قانوناً يحظر التشكيك في هذه المسألة.
والكاتب سلمان رشدي يشتم الرسول عليه الصلاة والسلام، فتقدّم له بريطانيا الحماية؛ لأنّ هذا من الحريات التي كفلها القانون البريطاني.
 ولو كان الكاتب نفسه يمس بقدسية المسيح، أو موسى عليهما السلام، لما عاد الأمر يتعلّق بالحرّيات؛ لأنّ هناك قانوناً في بريطانيا يُجرّم المساس باليهوديّة والمسيحيّة، وليس هناك قانون يتعلق يمنع المساس بالإسلام، وإن كان عدد المسلمين في بريطانيا أكثر بكثير من عدد اليهود، فالاعتبار لما يقدسون! 
وهذه الشيوعية الصينية، لازالت تمارس مع الأقليات المسلمة من الأيغور، ألواناً من الاضطهاد والكبت والقتل، وذلك كله حماية كما تزعم لقيمها ومبادئها.
وكذلك مافعلته فرنسا رائدة الحرية والعلمنة، التي سعت ولازالت تسعى، حتى على المستوى الرسمي، وأعلى سلطة فيه، لوأد الحجاب ( غطاء الشعر فقط) عن الفتيات المسلمات، وحاولت منعهم من الحق العام الذي يتمتع به أي إنسان. أتدري لماذا كل هذا؟
إنه من أجل حماية القيم العلمانية، التي دافعت ونافحت عنها فرنسا سنوات.
بل إن كنت أنسى فلا أنسى راعية الديمقراطية، والداعية إلى الحرية؛ أمريكا، التي دمرت شعوباً وأسقطت دولاً، وقتلت من البشر مالايعد ولايحصى، ولايزال معتقل جوانتناموا شاهداً على الحرية، والعراق مثالاً على الديمقراطية، وأفغانستان نموذجاً للمساواة واحترام الآخر _ أقصد الإنسان!!..
أتدري لماذا فعلت أمريكا هذا كله، ويساندها في هذا بعض ربيباتها من بعض الدول كبريطانيا وغيرها؟
الجواب ليس من عندي، بل من أساطينهم، ونطقت به أفواههم _ وما تخفي صدورهم أكبر_  إنه حماية لقيم أمريكا، وكيانها ووجودها.
ألم يطرق سمعك تلك المقولة الآثمة التي ملأ بها كبيرهم آذان الزمان، حتى تجاوزت المحيطات: ( من لم يكن معنا فهو ضدنا ).
 أليس في هذا إلغاء لحرية الإنسان شعوباً وأفراداً؟.
أتباد شعوب، ويسام أهلها سوء العذاب حماية للحرية المزعومة، وحفاظاً على القيم من تأثير الإسلام، ويُطبِّل لذلك أقوام، بل ويبحثون عن تبرير لتلك الأفعال، ويشنَّع على المسلمين أن طبقوا حد الردة في شخص خالف المعتقد؛ ليدافع الإسلام عن عقيدته ونظامه.
وهل عدد الذين طبق عليهم حد الردة على مدار التاريخ، يعادل شيئاً في مقابل من قتل من المسلمين أو غيرهم، على يد مدعي الحرية في زماننا.
 
v  الخيانة العظمى:

إن النظام في كافة التشريعات الوضعية، فيمن خرج عن نظام الدولة، أو أوضاعها المختلفة، سواء في دولة شيوعية، أو رأسمالية، أو علمانية، أو ليبرالية، أو أي اسم آخر، إذا خرج عن نظامها، فإنه يتهم بالخيانة العظمى لبلاده والتي يعدم لأجلها.
والإسلام ليس وحيداً، ولابدعاً عن بقية الأديان والأنظمة، فهو يرى أن الردة المعلنة جريمة كبرى؛ لأنها خطرعلى شخصية المجتمع وكيانه المعنوي، وخطر على الضرورة الأولى من الضرورات الخمس " الدين والنفس والنسل والعقل والمال ".
والإسلام لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة، يُدخل فيه اليوم، ويُخرج منه غداً على طريقة بعض اليهود الذين قالوا): آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون( آل عمران: 72
والردة عن الإسلام ليست مجرد موقف عقلي أو فردي، بل هي أيضاً تغير للولاء، وتبديل للهوية، وتحويل للانتماء.
 فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى، فهو يخلع نفسه من أمة الإسلام التي كان عضواً في جسدها، وينتقل بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها.
ومما ينبغي أن يعلم، أنه مهما يكن جرم المرتد، فإن المسلمين لا يتبعون عورات أحدٍ ولا يتسورون على أحدٍ بيته، ولا يحاسبون إلا من جاهر بلسانه، أو قلمه، أو فعله .
إن التهاون في عقوبة المرتد المعلن لردته، يعرض المجتمع كله للخطر، ويفتح عليه باب فتنة لا يعلم عواقبها إلا الله سبحانه، فلا يلبث المرتد أن يغرر بغيره، وخصوصاً من الضعفاء والبسطاء من الناس، وتتكون جماعة مناوئة للأمة، تستبيح لنفسها الاستعانة بأعداء الأمة عليها، وبذلك تقع في صراع وتمزق فكري، واجتماعي وسياسي، وقد يتطور إلى صراع دموي، بل حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس، وحروب الردة في عهد الصديق رضي الله عنه خير شاهد.

v  فطرة الله التي فطر الناس عليها:

يقول الكاتب في مقاله: (الواقع إن 90 % على الأقل من المسلمين قد اُكرهوا على الإسلام إكراها اجتماعيا، فلم يكن إسلامهم وليد قناعات فكرية وعقلية بل اكتسابا من البيئة وارثا من الأجداد!! إذن بأي حق يعاقبون على ترك دين لم يختاروه أصلا؟؟؟
لماذا يجبرون على البقاء في دين لم يكن لهم إرادة في اختياره منذ البداية؟؟؟      
أليس هذا تناقضا مع حرية الاعتقاد الديني؟؟؟ )
وهذا الكلام ينقصه الدقة، ويشتمل على التعميم الذي هو أكبر الأخطاء في الحكم على الناس ومعتقداتهم، فأين الدراسة العلمية ؟، والإحصاء الدقيق ؟، والاستفتاء المحكم والشامل الذي أجري على جميع المسلمين ممن نشأ في بيئة إسلامية ؟، أو على شريحة عريضة منهم ؟، ثم وجد أنهم غير مقتنعين بالدين الذي هم عليه؟!.
إن الدين الإسلامي دين مبني على ما يوافق الواقع، وتصدقه الفطر، وترضى به العقول السليمة، وإذا أسلم الإنسان، وخالط الإيمان قلبه، فلا يمكن أن يرتد عنه.
وقد شهد بهذا الكفار قبل المسلمين، ومن الشواهد عليه، قصة هرقل ملك الروم مع أبي سفيان،
 لما كان أبو سفيان كافراً فسأله هرقل: هل يرتد أحد عن الإسلام سخطة عليه ؟، فقال
أبو سفيان: لا، فقال هرقل: فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وأنت تقرأ وتسمع عن الأشخاص الذين تنقلوا من اليهودية، أو النصرانية أوغيرها، بحثاً عن دين يوافق العقل، ومتطلبات النفس، ويغذي الروح، ويبعث على الراحة والطمأنينة، فلم يجدوا ذلك كله إلا في الإسلام، ولايمكن للإنسان أن يخالف المحسوس والمشاهد، وأن يحجب نور الشمس بكفه الصغيرة، ومن نماذج أقوال هؤلاء الذين كانوا حيارى، فوجدوا الحرية في الإسلام، ماقاله الدكتور علي سلمان بنوا ([1]) Dr. Ali Selman Benoist  : "إن السكوت عن طهارة الجسد، نجده في الأديان الأخرى غير الإسلام، بل يخالطه كذلك شعور بالعداوة فيما يتعلق بالحياة الجسدية للإنسان، بينما اتضح لي أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتمشى مع الفطرة الإنسانية"
وقال ديبورا بوتر: ".. [إن] الناس في أوروبا وأمريكا يقبلون على اعتناق الإسلام بأعداد [كبيرة].. لأنهم متعطشون للراحة النفسية، والاطمئنان الروحي، [بل] إن [عددًا] من المستشرقين والمبشرين النصارى، الذين بدؤوا حملتهم مصممين على القضاء على الإسلام، وإظهار عيوبه المزعومة، أصبحوا هم أنفسهم مسلمين، وما ذلك إلا لأن الحق حجته دامغة لا سبيل إلى إنكارها"([2])
وقال عامر علي داود: ".. بفضل دراستي الحرّة البعيدة عن كل تعصّب مقيت، أصبح إيماني بهذا الدين [الإسلام] قويًا راسخًا، لقد آمنت برسالة القرآن، وأحسست أن الإسلام هو دين الفطرة والكمال، أنزله الله على قلب آخر الأنبياء، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، لقد اكتشفت أن الإسلام يخاطب الناس مباشرة، ودون أية واسطة من أي نوع، من أجل ذلك، كان هذا الدين متمشيًا مع الفطرة البشرية"([3])
 
v  تقوية للمناعة، ومحاربة لفيروس الفساد:

يقول الكاتب: (هل صحيح إن هيبة الدين يمكن إن تهتز بردة شخص أو شخصين، أو حتى مئة شخص؟؟؟
هل صحيح إن المجتمع الإسلامي بهذه الهشاشة، بحيث يمكن لبعض المرتدين إن يحطموا أسسه ويزعزعوا أركانه؟؟؟
هل صحيح إن تدين ملايين المسلمين بهذا الضعف، بحيث يمكن لنفر من المرتدين إن يشوشوا عليهم أفكارهم ويبثوا الشكوك في عقولهم؟؟
هل صحيح إن المرتديين يشكلون خطراً حقيقا على الإسلام و المسلمين ومستقبل الدعوة؟؟؟)
وقد أجاب الدكتور تيسير خميس العمر في كتابه (حرية الاعتقاد في ظل الإسلام): ( تهدف عقوبة الردة إلى الحفاظ على المجتمع وصيانة أركانه..وإقامة هيبة للدين وسلطانه على النفوس حتى لا يتطاول أصحاب العقول السقيمة، والنفوس المريضة على الدين، وتنال من قدسيته وهيبته في النفوس )
وأقول تأكيداً لجواب الدكتور، إن من حق المجتمع أن يعاقب من يتعدى على حقه العام،
وانظر مثلاً إلى جريمة الزنا التي اعتبرها الغرب العلماني من الحريّات الفردية، ما لبثت أن انتشرت انتشاراً هائلاً، ونشأ عنها مشكلات اجتماعية لا حصر لها، بل هي مشكلات غير قابلة للحل وفق الواقع الغربي، مثل تفكك الأسرة، والأعداد الهائلة من اللقطاء، والأمراض الجنسية المستفحلة، وهذا يعني أن العلمانية أخطأت عندما اعتبرت أن الزنا من الحريّات الفردية؛ لأن حرية الفرد يجب أن تكون فيما لا يتناقض مع مصلحة المجموع.
وقانون السير الذي وضعته المرور مثلاً، يعاقب كل من يخالفه، بغض النظر هل تسبب المخالف في حادث مروري أم لا، فمهمة القوانين هي تخفيف الضرر، معاقبة المعتدي.
والطبيب الجراح يُعمل مبضعه في المريض تشريحاً وتقطيعاً، وقد يستأصل أجزاء من الجسم، ويستبدلها بأخرى حفاظاً على باقي الجسد من العطب والهلاك.
 والارتداد عن دين الله بعد الإيمان، معناه إفساد نظام لا مجرد تغيير عقيدة فردية، فالإسلام نظام عملي قائم على عقيدة، ومجتمع قائم على هذا النظام، وللأمة الإسلامية ـ كما لكل أمة في العالم ـ حرص شديد على سلامتها الجسدية والعصبية والفكرية والروحية العقائدية، فلا تبيح لفرد أن يجاهرها العداء وإلا اعتبرته خارجاً عن القانون، يعاقب بعقوبة تنص عليها قوانين الدول كل بحسبها، وأكثرها نصت على عقوبة الإعدام.
 
v  لاإكراه في الدين:

لم يستطع الكاتب التوفيق بين حرية الاعتقاد الذي كرسه الإسلام ذاته في قاعدة ( لا إكراه في الدين ) و بين حد الردة.
والجواب عن هذا واضح بحمد الله تعالى لمن فهم الإسلام فهماً صحيحاً، وقرأ الآية من أولها إلى آخرها، قال تعالى:" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لانفصام لها "
فالآية تقرر قضية كلية قاطعة، وحقيقة جلية ساطعة، وهي أن الدين لا يكون ـ ولا يمكن أن يكون ـ بالإكراه؛ فقد جاءت الآية  بنفي الجنس "لا إكراه"  لقصد عموم النفي وإطلاقهً، وهذا دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه، فالدين يتقبله عقل الإنسان، وينشرح له قلبه، فهو دين العقل والعلم، ودين الفطرة والحكمة، ودين الصلاح والإصلاح، ودين الحق والرشد، فلكماله لا يحتاج في قبوله إلى إكراه، " رضيتُ بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً ".
وإذا كان الإكراه باطلاً حتى في التصرفات والمعاملات، والحقوق المادية والدنيوية، حيث إنه لا ينشئ زواجاً ولا طلاقاً، ولا بيعاً، ولا بيعة، فكيف يمكنه أن ينشئ ديناً وعقيدةً وإيماناً وإسلاماً؟!
 
v  الختام :

 
وأختم هذه الكلمات ببيان أن الذي أوجد الإشكال عند الكاتب، هو افتراض وجود حرية مطلقة، والتي لا وجود لها إلا في الأذهان، أما في الخارج فتوجد مقيدة، ولذلك فإن أغلب المُفكّرين في العالم تكلموا عن الحرية على أنها "القيمة المستحيلة"، أي أنه لا توجد حرية مُطلقة، وقال العديد من المفكّرين أن الحرية لها حدود، وكلما تعدّى المجتمع هذه الحدود زادت المشاكل، ومن يُشكك في هذا القول عليه أن يُفسّر لنا "لماذا القوانين؟"، وإذا كانت جميع الحريات في الدنيا لها خطوط حمراء لا يجب تجاوزها، فما هي الخطوط الحمراء لحرية الاعتقاد الديني (أوالفكري)؟ وهل توجد حريات ليس لها خطوط حمراء؟!.
 

كتبه
زاهر بن محمد الشهري
15/6/1431هـ
الخبر
 

---------------------------------
([1])  طبيب فرنسي من أسرة كاثوليكية، قرأ كثيرًا عن الإسلام بعد اهتزاز قناعاته بمعطيات المسيحية، ثم أعلن إسلامه في شباط من عام 1953م
([2])  رجال ونساء أسلموا  8 / 114 .
([3])  رجال ونساء أسلموا  7 / 118 .
 
 

زاهر الشهري
  • مقالات
  • كتب
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية