بسم الله الرحمن الرحيم

لتبلون في أموالكم وأنفسكم
د.ناصر بن يحيى الحنيني

 
عباد الله يقول ربنا الحكيم الخبير العليم الحليم في محكم التنزيل :
(ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ) ويقول سبحانه : (ونبلوكم بالشر والخير فتنةً وإلينا ترجعون ) ، ويقول جل وعلا : (ولنبلونكم بشيءٍ من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) ، ويقول المولى جل وعلا : (ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض ) ، ويقول سبحانه ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) ويقول سبحانه : ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) .

وجاء في البخاري : عن عروةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتِ قَوْلَهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا أَوْ كُذِبُوا قَالَتْ بَلْ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَمَا هُوَ بِالظَّنِّ فَقَالَتْ يَا عُرَيَّةُ لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ قُلْتُ فَلَعَلَّهَا أَوْ كُذِبُوا قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ وَطَالَ عَلَيْهِمْ الْبَلَاءُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَتْ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ "أ.هـ

وجاء أيضاً في البخاري : "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خَفِيفَةً ذَهَبَ بِهَا هُنَاكَ وَتَلَا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فَلَقِيتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ مَعَاذَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا مُثَقَّلَةً"أ.هـ

وجاء في مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ)

وجاء في الصحيحين واللفظ لمسلم : (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَهْتَزُّ حَتَّى ).

وجاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ ).

وجاء في الحديث الصحيح : (عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ).

أيها المؤمنون : إننا من خلال هذه النصوص الشرعية والتوجيهات الربانية أمام حقيقة شرعية وسنة كونية وهي أن البلاء حاصل لهذه الأمة وخاصة من يقوم بأمر الله ، ومن خلال هذه النصوص الشرعية يمكن أن نقف بعض الوقفات على وجه الاختصار :
الوقفة الأولى : أن الابتلاء سنة ماضية لكل الناس حتى صفوة الخلق وأحبهم إلى الله عزوجل وهم أنبياؤه ورسله (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين)، فيا من تمسكت بشرع الله لا تجزع لا تترد لا تنكص على عقبيك وأسأل الله الثبات على دينك واصدق مع ربك .

الوقفة الثانية : أن الابتلاء رحمة بالأمة على وجه العموم ، وبكل فرد مؤمن على وجه الخصوص كما قال جل وعلا : (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم )، فالأمة ينقى صفها وتعرف صديقها من عدوها ومؤمنها من منافقها فتأخذ حذرها ولا يبقى معها إلا الصفوة وهنا يأتي النصر بعد التصفية وبعد التمحيص فهو خير للأمة ، وأما الأفراد كما قال جل وعلا: ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)
فالله ثبتنا وارزقنا الصدق في الأقوال والأعمال والنيات.

الوقفة الثالثة : أن الابتلاء يكون بالخير والشر ، بما تكره النفوس وبما تحبه كما قال جل وعلا : (ونبلوكم بالشر والخير فتنةً وإلينا ترجعون )، يقول عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه مبيناً خطورة الابتلاء بالسراء وأنها لا تقل خطراً وصرراً على المؤمن من الضراء يقول:" ابتلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء فصبرنا ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر "أ.هـ فالمال فتنة والمناصب فتنة فاللهم ثبتنا حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا .

الوقفة الرابعة : أن الثبات والنجاة وقت الفتن من عند الله فلا تعلق قلبك بغيره سبحانه ولا تظنن أن المخلوق يملك لك شيئاً ولتعلم أن المقادير وأن الكون كله بيده سبحانه فهو الذين يثبت المؤمنين كما قال جل وعلا وليس المخلوقين : (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) فعليك بالدعاء فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتعوذ من الفتن ما ظهر منها ومابطن ،والله سبحانه يحب من عباده أن يدعوه ويتضرعوا إليه عند حلول البلاء فقال سبحانه : (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ، فلولا إذجاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) وقال سبحانه : (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ).

الوقفة الخامسة : أن من أقوى العوامل على الثبات على الحق عند حلول الابتلاء بعد رحمة الله وتثبيته للمؤمن هو الصبر ومن أوتي الصبر فقد أوتي الخير كله وتدبر معي الآيات التي ذكرت الابتلاء كيف نوهت وأشادت بالصبر فالله سبحانه لما قال ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ) قال في آخر الآية ( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) ، وقال سبحانه ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين ) ، وقال سبحانه مبينا العاقبة الحميدة للصبر حينما يبتلى المؤمنون بكيد الأعداء قال ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً )، وأنبياء الله هذا منهجهم عند حلول البلاء والفتنة الصبر : ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذِّبوا ).

الوقفة السادسة : إن الابتلاء يدل على صحة المسار وصدق السائر إلى الله الداعي إلى رضوانه سبحانه وتعالى ، فالأنبياء أشد الناس بلاء وبقدر إيمان العبد يزاد له في البلاء ، وهو طريق الإمامة في الدين والتمكين في الأرض قال سبحانه ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) ، وقال بعض السلف بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، وقال الإمام مالك : إن محمد بن المنكدر لما ضرب فزع لضربه أهل المدينة فاجتمعوا إليه فقال : لا عليكم إنه لاخير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر .

الوقفة السابعة : إن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ونصرة دين الله من أعظم الأسباب للثبات على الدين وقت نزول المحن والبلايا ، كما قال جل وعلا : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) فبسبب صدقهم وبذلهم وجهادهم ودعوتهم وفقوا وهدوا لمايحبه الله وهو الثبات على الدين ، وفازوا بمعية الله وتأييده لهم ونصرتهم سبحانه لهم ، فكيف يهزم ويخذل من كان الله معه نسأل الله أن يثبتنا على الحق وأن لا يكلنا إلى أنفسنا أو إلى أحد من خلقه طرفة عين.

الصفحة الرئيسة