صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







..: ابن جبرين في قلوبنا :..

 

كتب الشيخ عبدالله الجبرين رحمه الله

ابنُ جبرين..والدِّيارُ التي خلتْ!

عبد الله بن جبرين (الأسطورة المشاهدة ) وثالثة الأثافي ابن جبرين
بن جبرين...هكذا يرحل العظماء مع ابن جبرين رحمه الله
أحقا مات ابن جبرين؟ كسر لا يجبر وثلمة لا تسد
لن أبكي بن جبرين ! وغيب القبر جثمان بن جبرين
صحبت سماحة الشيخ ابن جبرين رحمه الله في رحلة الحج وكان منه المواقف التي لاأنساها أنموذج من عناية الشيخ ابن جبرين - رحمه الله - بالمرأة وتعليمها!
دَمعَـةُ وفَـاء في رثاء الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين رحمه الله الشيخ ابن جبرين في سطور
ورحل ابن جبرين !! دموع الجموع
رثاء الجبرين خواطر وذكريات من وحي جنازة العلامة ابن جبرين رحمه الله
( ابن جبرين في سجل الخالدين ) ابن جبرين.. وأفــل الضـــيـــاء..
ذلكم هو ابن جبرين ..  العودة لَيْسُواْ سَوَاء
ابن جبرين رائد جيل رحمك الله يا شيخي
ابن جبرين بين الحوت والنمل  

 



بسم الله الرحمن الرحيم
ابن جبرين بين الحوت والنمل
بدر بن نادر المشاري
 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده
ابن جبرين علم وقمة ورأس , القلم يخجل في الكتابة عنه , والأفكار تتسابق في الحديث عن شخصه , والمواقف تتزاحم لوصفه , فالحديث عنه ليس من مجاراة الواقع , أو زيادة في التباكي أو استجداء النحيب لا , وان كانت قلوبنا متفطرة وأنفسنا متحسرة والدموع واكفه , وأنا هنا لست ممن يؤلِّه الأشخاص ويبالغ في الإطراء ويغلوا في المدح ولا أقيم مأتماً في ذكراه كـلا , لكني تأملت معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ان أهل السموات ومن في الأرض يستغفرون لطالب العلم وحتى الحيتان في البحر (وهو أكبر حيواناته ) والنمل في الجحر (وهو أصغر حيوان في البر ) قلت هنيئاً لابن جبرين العالم ولانزكي على الله أحد فهو من استغفار الحيتان والنمل .
لن أتحدث عن معرفتنا لشيخنا وقرائتنا عليه والمواقف معه والإستفادة منها ولقاءتنا المتعدده التي لا أحصيها من كثرتها , فآخرها زيارة لبيته الصغير لديّ قبل دخوله المستشفى بأيام هذا العام , كان فيها من جميل الذكريات وروائع الفوائد ,ولا أعتقد أن المراثي والتباكي سيحقق لنا عملاً أو يفتح لنا مغلقاً , ولأن الإسلام على ممر عصورة بطول تاريخه وعرضه , لايموت إن مرض ولايقف إن تباطؤا أهله وتثاقلوا الخطى.
فالصادق في حبه والمتأثر من قلبه يقوده الحزن الحقيقي والحب الصادق إلى آمال أبعد وآمال أعظم , فيتحمل الراية ويغير السلوك إلى ماهو أفضل ويخوض إلى غمار المجد بنهج الشيخ ويحذو حذوه ويقتفي أثره ويسير على منواله وإلا فما الحكمة من وجود العلماء , ليعلموا ويبلغوا ويقتدى بهم ويُشار ويُسَار على أثرهم وإني كنت أتابع وأقرأ وأرصد ماكتب من مقالات وماقيل من قصائد وشعر ومارثي به الشيخ من مراثي , واستمعت إلى بعض الخطب المباركة وأطرق مسامعنا المشاعر المتأججة بل ولا أبالغ ورأينا دموعاً ذرفت حزناً على فراق الشيخ حباً ووفاء له , ولاشك أن هذا يدل على حب حراس الشريعة وحملة المنهج والمدافيعن عن لاإله إلا الله , لكن الخير يزداد إذا ترجمت المشاعر عملاً وطبقت تلك المحبة واقعاً , فأقول أولا إذا مات الاسم بقي الأثر والرسم .
فالصغار نقول لهم مات الشيخ وقد حفظ القرآن وأتقنه وعمره ست عشر عاماً وكان ذا همة عالية , فتعلم وكابد وحفظ المتون وتلقى الشروح والتعليم على أيدي علماء ربانين آنذاك فما هو حفظك وأين همتك ؟!
وأقول للآباء وكان أبوهما صالحاً صلاح الأب صلاح للأبن بإذن الله , فالشيخ على يدي أبيه بدأ في تعلم القرآن بل وكان يبتهل ويدعوا حتى قال فيه لما رآى حرصه وجدّه ورغب السفر إلى طلب العلم قال فيما نظم

فـيا رب عبد الله وفقه للهدى وجنبه محذورات مايتوقع
وسدد به في كل أمر يريده فلا يشتكي إلا إليك ويفزع
ويسر له رزقاً حلالاً مباركاً ينال به خيراً وللبر يصنع

فأين دورك وماهو تأثيرك وهل تحرص على دعاء ربك لنفسك وذريتك
وأقول ولمن يتلقى ويلقي , ليكن همك الحق والدليل وقبول الحق أياً كان مصدره , دون تعنصر لفئة ولا لأشخاص أو حتى لمذهب , فكان الشيخ يدور مع الدليل حيث دار , كما كان أسلافه وكثير من أهل العلم الراسخين , مزيج بين عدد من العلماء وخريج علوم وفهوم كثيرة فالإمام محمد بن إبراهيم وابن باز في نجد وغيرهما واسماعيل وحماد انصاريين , ومحمد البيحاني حضرمي وعبد الرزاق عفيفي مصري والشنقيطي موريتاني رحمهم الله رحمة واسعه أئمة الهدى وماصبيح الدجى وهذا نهج قويم وفهم للكتاب والسنة عميق , واقتفاء نهج أسلاف الأمة الصلحاء , والسبيل الأحكم فلينتبه لهذا .
وأقول لكل داعية ومصلح إن ابن جبرين مضى العالم على نور من الله دعى على علم وبصيرة , والتزم الحكمة وترك الجدل , راغبا في الحق , يريد الإصلاح ويُحذِّر من الفتنة , ويجتنب الشبهة , ويأخذ بالرفق ويدعو باللين , ولم ينزع يداً من طاعة ولا شذ عن جماعة وماشمت بأقرانه ولايتصيد على أهل الخير أخطاء ولايتتبع عثرات ، ولا يلحق زلات ونحسب أنه منع النفس من الحقد والحسد والظلم , فكان خير مثال في ذلك , فازداد تواضعاً مع زيادة العلم , فارتفع شأنه وعظم قدره فخذ أيها الداعية بهذه الخصال لتفلح في دعوتك وتثمر في طريقتك , وتعظم منزلتك ويحبك الصغير والكبير والملك والوزير والخادم والأمير , باختصار كن كالغيث أينما حللت نفعت ,
وأقول للغيورين للحق وعلى الحق , إن الشيخ يغار على دين ربه لكن هدفه نصر الصدق وبيان الحق لاينتصر لنفسه ولايغضب لها ,بل ينتصر للحق إذا نتهكت حرمات الله ولم يُعلم أنه خاصم إلا أهل البدع الذي طار بعضهم فرحاً بموته , وعلى رأسهم الرافضة ومن على شاكلتهم فهؤلاء يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم كما قال أبو أيوب السختياني الذين يفرحون بموت أهل السنة يريدون إطفاء نور الله بأفواههم , وهذا أيضاً من فوائد موت العلماء لتبين الحقائق . وتنجلي الدخائل وتتميز الصفوف , فبعض أولئك وخاصة منهم أرباب الصحافة وحملة الأقلام المنحرفة من كتابهم هذا ديدنهم إذا مات شاعر ملحد أو كاتب زنديق أو مفكر ضال أو مغنيِ ماجن أو غانية هابطة تباكت قلوبهم وانبرت أقلامهم وطال نحيبهم وكثر ضجيجهم وعظم بكاءهم وزاد رثاؤهم , أما العالم العابد الراسخ إذا مات جفت أقلامهم وأخرست أفواههم واستعجم كلامهم واثاقلوا إلى الأرض , {وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} (46) سورة التوبة
وأقول لأبناء وطلاب وأحباب الشيخ هلموا بالعمل , واعملوا لما يحفظ تركة الشيخ من الميراث العلم النافع والعمل الصالح , أظهروا مآثره وأسراره الرافعة للهم , افتحوا كتاب الذكريات وقلبوا صفحات الحياة العلمية العملية الصادقة الناجحة , امنحوا الطلاب والمحبين وللأمة الفرصة في الالتحاق إلى مدرسته والابتعاث إلى تاريخه والتخرج من جامعته , هذا من البر الذي هو عرفتم به في حياته وانتم اهله بعد موته وأقل حقوقه عليكم زادكم الله براً كما أنتم وعرفتم ,
وأقول للتجار والمحسنين , إن الذي منحكم المال هو الله والذي أعطانا وإياكم النعيم هو المتفضل ربنا الرزاق الذي لايريد منا من رزق ولا إطعام فإن حرمتم العلم الشرعي حملاً وتدريس وتعليماً فلاتحرموا آثره ونشره وأنتم قد أنعم الله عليكم بالمال ومن حق العلماء بل والأمة أن يحفظ عملهم وينشر للأجيال , فإنشئوا الأوقاف وأقيموا المؤسسات والمراكز العلمية لتعنى بعلم الإحياء من العلماء والأموات وارعوه واسقوا زرعها لتجنوا ثمارها يوم حصاده في الدنيا والآخرة فنحن لكم داعين ولجهودكم شاكرين , وليكن لتراث ابن جبرين من بذلكم نصيباً وافراً وفاءً له وللأمة لتدخلوا في قول رسول الله ( إذا مات ابن آدم أنقطع عمله إلا من ثلاث )
وأقول للأمة جمعاء حكاماً ومحكومين وعلماء وعامه وصغار وكبار , أخرجوا لنا قادة بارعين , وادرسوا وابحثوا وفكروا وعملوا عملاً جماعياً مؤسسياً استراتيجياً في تخريج القادة في كل مجالات العلوم والمعارف والحياة كلها , وخصوصاً العلم الشرعي , فنحن على يقين أنه إذا مات منا سيداً قام سيد فاشحذوا الهمم وقووا العزائم وإلهبوا الحماس المنضبط وأشعلوا هذه الثمرة وجميل الثناء وحسن الذكر وروعة الحب , ونحن على يقين بفلاح ونصر الأمة بإذن الله {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } (110) سورة يوسف
فيا أيتها الصحف والفضائيات والمواقع أعلنوا الحب للعلماء وأظهروا إجلال النبلاء واصدقوا في الثناء دون إفراط وجفاء , قووا مكانة العلماء بين الناس , واحفظوا لهم حقهم وانشروا عبادة توحيدهم دون غلو وتفريط ,
وأختم بمقولة عون ابن عبد العزيز لعمر بن عبد العزيز إن استطعت أن تكون عالماً فكن عالماً , فإن لم تستطع فكن متعلماً فإن لم تكن متعلماً فأحبهم فإن لم تحبهم فلا تبغضهم فقال عمر : سبحان الله لقد جعل الله عز وجل له مخرجاً العلم لزهير بن حرب 1/3
رحم الله ابن جبرين وعلماء أمتنا وسائر المسلمين والمسلمات , ولانقول إلا مايرضي ربنا ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) فإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن , وإنـا على فراقك يا ابن جبرين لمحزونون , ولله ما أعطى وله ما أخذ وكل شئ عنده بأجل مسمى , وإنا بإذن الله لسائرون ومتفائلون وبالله واثقون , فسلامٌ على الشيخ يوم ولد ويوم تعلم ويوم علم ويوم حيي ويوم مات ويوم يبعث حيا وهنئاً لك استغفار الحوت والنمل نحسبك .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
 

كتبه بدر بن نادر المشاري
0505409983
 



ابنُ جبرين..والدِّيارُ التي خلتْ!

أحمد بن عبد المحسن العسّاف-الرِّياض


في ظهيرةِ يومِ الاثنينِ العشرينَ منْ شهرِ رجبٍ الأصمِّ عامَ 1430 سادَ صمتٌ حزينٌ حينَ تناقلتْ الوسائلُ خبرَ وفاةِ العالمِ الرَّباني الشيخِ عبدِ الله بنِ عبدِ الرحمن بنِ جبرينَ عنْ عمرٍ يناهزُ الثامنةَ والسبعينَ عاماً صرمها في العلمِ والتعليمِ والدَّعوةِ والإصلاحِ وخدمةِ النَّاسِ والدِّفاعِ عنْ الإسلامِ بالقلمِ واللسانِ حتى أغاظَ قوماً وملأَ قلوبهَم حنقاً ونفوسَهم ألما.

وإذا أردنا أنْ نستجليَ الملمحَ الأبرزَ في حياةِ الشيخِ ابنِ جبرينَ-رحمه الله- لرأيناه ماثلاً في "العلم والتعليم" كمشروعِ عمرٍ صرفَ لهُ حياتَه كلَّها منذُ أنْ ثنى ركبتيه في القويعيةِ والرَّينِ عندَ أبيهِ وشيخهِ الثاني أبي حبيبٍ الشثري والشيخِ الأعجوبةِ صالحِ بنِ مطلق وانتهاءً بمسيرتهِ العلميةِ الحافلةِ في الرِّياضِ على كبارِ علمائِها كمحمَّد بنِ إبراهيم وابنِ حميدٍ وابنِ باز-رحمة الله على الجميع-. ولمْ يكتفِ بذلكَ بلْ سلكَ طريقَ الدِّراسةِ النِّظاميةِ حتى نالَ أعلى الشهاداتِ وكانَ مناقشوه يعدُّونَ جلسةَ الحوارِ الأكاديمي معهُ فرصةً لمزيدٍ منْ المذاكرةِ والاستفادةِ؛ وهذا منْ معرفتِهم بباعِ الشيخِ في العلمِ والفهم، وتتلمذَ في دراستهِ النِّظاميةِ على عددٍ كبيرٍ من الأشياخِ منْ مصرَ وغيرها. وكانَ منْ ثمرةِ هذا الجهدِ المباركِ أنْ شرحَ الشيخُ عدداً كبيراً منْ الكتبِ وتجاوزتْ دروسُه الأسبوعيةِ ما أعتاده طلابُ العلم، وشرح الشيخُ أكثرَ منْ أربعينَ كتاباً في الأسبوعِ خلالَ بعضِ الدَّوراتِ والمناسبات، كما ألَّفَ سبعةَ كتبٍ منْ أجلِّها كتابُ خبرِ الآحادِ وَ تحقيقُ شرحِ الزركشي.
ومنْ حرصِ الشيخِ على العلمِ جلوسهُ وحيداً بينَ يدي بعضِ مشايخه؛ وتدريسُه طلاباً لا يزيدونَ عنْ ثلاثة! وحينما غابَ الثلاثةُ ذاتَ مرَّةٍ اكتفى الشيخُ بحضورِ مؤذنِ المسجد، ولعلَّ اللهَ-سبحانه- قدْ اطلَّعَ على حسنِ نيته وصدقهِ فامتلأتْ له المساجدُ بالطُّلابِ والقلوبُ بالحبِّ والتقدير، وممَّا يذكره قُدامى ملازميه أنَّ همَّةَ الشيخِ بالتدريسِ عاليةٌ مهما كانَ العدد، وكانَ يحثُّ العلماءَ على التدريسِ ويؤكدُ منْ خلالِ تجربتهِ الطويلةِ أنَّ العالمَ هوَ أولُ المستفيدينَ منْ الدَّرس.

ويتحلى الشيخُ بتواضعٍ جمّ، فقدْ انتظمَ طالباً ودرَّسهُ وناقشهُ مَنْ كانَ في عدادِ طلابه، وحضرَ عدداً منْ المحاضراتِ العامَّةِ لأقرانهِ ووصفَ بعضَ أكابرِ العلماءِ منْ جيلهِ بقوله: "شيخنا" وهو تعبيرٌ نادرٌ بينَ الأقران، وقدْ ظلَّ الشيخُ حريصاً على حضورِ الدُّروسِ العامَّةِ التي يلقيها شيخُه الإمامُ ابنُ بازٍ ولمْ يثنهِ عنْ ذلكَ جلوسُ الشبابِ عنْ يمينهِ ويساره. وحدَّثني أحدُ الزُّملاءِ أنَّ ابنَ بازٍ أنابَ ابنَ جبرينَ عنهُ لإلقاءِ محاضرةٍ في جامعِ التركي فبدأَ الشيخُ المحاضرةَ بالاستغفارِ ولومِ النَّفسِ على الحديثِ بدلاً منْ الإمامِ ابنِ باز! وممَّا حباهُ اللهُ الذَّاكرةَ القويةَ فكانَ يسردُ ويستحضرُ كأنَّما يقرأُ منْ كتابٍ فُتحَ بينَ عينيه.

ومنْ العبرِ الجليلةِ في حياةِ الشيخِ اقترانُ العلمِ بالعملِ والعبادة؛ فلا رونقَ للعلمِ بلا عمل، وقدْ روى أحدُ العاملينَ في جامعِ القاضي أنَّه رأى الشيخَ يدخلُ منْ بابِ المحرابِ قبيلَ المغربِ ويفطرُ على ثلاثِ تمراتٍ وكأسِ ماءٍ فقطْ ثمَّ يصلي ويلقي درساً بعدَ المغربِ وآخرَ بعدَ العشاءِ ويجيبُ عنْ الأسئلةِ دونَ أنْ يكلَّ أوْ يملَّ وذاكَ لعمرُ اللهِ نشاطُ الرُّوحِ المؤمنةِ التي لا يحتملها جسدُ شيخٍ في عشرِ الثمانينَ لولا الإيمانُ والاحتساب. وذكرَ لي زميلٌ أنَّه ذهبَ للاصطيافِ في "تنومة"-جنوب السعودية- فتفاجأَ بنشاطاتِ الشيخِ وجهودهِ وتلكَ همَّةٌ بلغتْ القمَّةَ وجعلتْ صاحبَها يفني الإجازةَ في الترحالِ بينَ مناطقِ المملكةِ معلمَّاً وداعياً وموجها.

وللشيخِ مواقفٌ صريحةٌ كسرَ فيها حاجزَ الصمتِ والمداراة، ومنها رأيهُ الواضحِ في "حزب الله"؛ إضافةً إلى فتاواه في الشيعةِ الرَّوافض، ومنْ مواقفهِ الشهيرةِ تزكيتُه للعلماءِ والدُّعاةِ الذينَ تناوشتهم سهامُ التصنيفِ الجائرِ فكانَ للشيخِ كلمةُ حقٍّ لا تنسى، وقدْ كانَ الشيخُ مؤيداً لكلِّ عملٍ مباركٍ ينفعُ الأمَّةَ ويحفظُ لها حقوقَها أوْ يصلحُ منْ شأنِها. ومنْ آخرِ مواقفه التي تبينُ إنصافَه تأييدُه للشيخِ القرضاوي ضدَّ هيجانِ الشيعةِ عليهِ ولمْ يلتفتْ ابنُ جبرينَ لخلافهما السابقِ حولَ الشيعةِ وحزبِ الله.

وقدْ حزنَ المسلمونَ لوفاةِ الشيخ؛ فنعاهُ الدِّيوانُ الملكي وبكاه أصحابُ القلوبِ السليمةِ وكثرَ زوارُ موقعِ الشيخِ للتأكدِ منْ الخبر، ثمَّ صلَّتْ عليه جموعٌ غفيرةٌ منْ العامَّةِ والخاصَّةِ في جامعِ الإمامِ تركي بنِ عبدِ الله- الجامعِ الكبير الذي احتضنَ الشيخَ طالباً وعالماً- وأُغلقتْ أبوابه قبلَ الظهرِ بنصفِ ساعة، وتبعهُ المشيعونَ إلى مقبرةِ العودِ حيثُ وسِّدَ الثرى هناك؛ فيا للهِ أيُّ صرحٍ للعلمِ هوى؟ وأيُّ نبعٍ عذبٍ غاض؟ وأيُّ فارسٍ هُمامٍ ترَّجل؟

فاللهمَّ أحسنْ عزاءَ آلهِ وأمتهِ وعوِّض المسلمين واخلفْ عليهم خيراً منْ إمامهم الرَّاحل؛ ونسألُ اللهَ أنْ تقومَ للعلمِ سوقٌ رائجةٌ تحيي الجامعاتِ العلميةِ الكبرى في الرِّياضِ عاصمةِ العلمِ وروضةِ العلماءِ ودوحةِ الحفَّاظ؛ حتى نرى فيها جامعاتٍ كالتي كانتْ في جامعِ دخنةَ وسارةَ والجامعِ الكبيرِ وغيرِها، فحقيقٌ بعاصمتِنا أنْ تكونَ مركزاً علمياً يتسابقُ إليها طلابُ العلمِ منْ أنحاءِ العالم.
 

أحمد بن عبد المحسن العسّاف-الرِّياض
الثلاثاء 21 من شهرِ رجبٍ الحرام عام 1430
ahmadalassaf@gmail.com
 



وثالثة الأثافي ابن جبرين
إبراهيم بن محمد بن عيسى الهلالي


الحمد لله الذي رفع بعض خلقه على بعض درجات ، وميز بين الخبيث والطيب بالدلائل المحكمات والسمات ، وتفرّد بالملك فإليه منتهى الطلبات والرغبات .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الأسماء الحسنى والصفات ، العالم البصير بأخفى الخفيّات ، الحكم العدل ، فلا يظلم مثقال ذرة ولا يخفى عليه مقدار ذلك في الأرض والسماوات ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالآيات البينات ، والحجج النّيّرات ، الآمر بتنزيل الناس ما يليق بهم من المنازل والمقامات . صلى الله وسلم عليه ، وعلى آله وصحبه السادة النجباء الكرماء الثقات .... أما بعد :
هكذا هي الدنيا كما عهدناها قُلَّبٌ بأهلها ، لا يبقى لها حال ، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً ، وإن أسعدت يسيراً أحزنت كثيراً ، لا يركن لها إلا مفتون ، ولا يأمنها إلا جاهلٌ لحالها ، أو لاهٍ عن مصيرها ، جعلها الله فتنة للناس ، ومقرُّ امتحان والتباس.
منذ أن أكرم الله هذه الأمة ببعثة نبيه محمدٍ وأفواج الدعاة المصلحين يتعاقبون فيها، علماء مخلصون، ومربون ربانيون من خلفاء رسول الله الراشدين، وورثته من العلماء العاملين داعين إلى الحق، حاكمين بالقسط، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، وإن العناية بسيرتهم، والتذكير بهم، وهم مصابيح الهدى التي أضاءت الطريق، بل حوّلت مجرى التاريخ في ديارها، وأورثت تحولاتٍ فكرية كبرى في عقولها، إن ذلك مما يجب أن تنصرف إليه الهمم، ويعتني به الموجهون، ويذكّر به المذكرون.

أيها المسلمون:


يقول ربنا جل وعلا: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، إن ممن رفعهم الله أهل العلم العاملين، الذين هم أركان الشريعة وأمناء الله في خلقه، منهم ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء، بهم تحفظ الملة وتقوم الشريعة، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الضالين، فلله درهم وعليه أجرهم، ما أحسن أثرهم، وأجمل ذكرهم، رفعهم الله بالعلم وزيّنهم بالحلم، بهم يُعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة ، يذكرون الغافل ويعلّمون الجاهل، جميع الخلق إلى علمهم محتاجٌ.

هم سراج العياد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق وتموت قلوب أهل الزيغ، مَثَلُهم في الأرض كمَثَل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيّروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا.
لقد رزئت الأمة يوم أمس الاثنين 20 من رجب عام 1430هـ الموافق 13 من يوليو 2009م بفقد الإمام الهمام العالم المحقق الزاهد العابد بقية السلف الصالح والدنا الشيخ الدكتور عبد الله بن عبدالرحمن الجبرين رحمه الله وأكرم مثواه ، وانزل عليه شآبيب رحمته ، وسوانح رحمته ، وعظيم فضله وإنعامه آمين.
يقول الشاعر :

لعمرك ما الرزية فقد مالٍ --- ولا شاةٌ تضيعُ ولا بعير
ولكن الرزيـة فقد فـذٍ --- يموت بموتـه خلقٌ كثير

هذا يُقال في تصوير مصاب الأمة وتعظيمه بفقد عالم واحد فكيف وشيخنا ابن جبرين ثالة أثافي الفتوى ،حيث قد فقدت الأمة قبله ركناً ركيناً _ بعد الله الجليل _ بفقد سماحة العلامة المجدد ، وحيد دهره ، وعظيم عصره ، سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أغدق الله على جدثه سوابغ فضله ورحمته وإنعامه وبعد أقلَّ من عامين رُزئت الأمة بفقد عالمها المفضال ، سيل العلوم ، ومجدد للعلم الرسوم ، المُحقق المدقق ، فقيه عصره ، ونبيه جيله الإمام العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله رحمة تُلحقه بالرفيق الأعلى في الفردوس الأسنى آمين

وقد قلت ثالثة الأثافي واصفاً لحاله ومرتبته ، لا مُتنقصاً من قدر مشائخي وعلماء هذا البلد المعطاء وإخوانهم من علماء العالم الإسلامي الكبير كلا والله فهم ملء السمع والبصر ، وما كان لمثلي ممن هو عالة على فضلهم ، وبقية موائدهم العلمية ، وقَسْماَ من سنا أنوارهم البهية ، وهم محطُّ أنظار السائلين ، وملجأ الطالبين المُستهدين ، وقد تحمّلوا بعد فقد ابن جبرين التبعة كاملة ، واحتملوا عِبئاً ثقيلاً تنوء به الشُمَّ الصلاب الراسيات ، فلهم منا الولاء الكامل في الحق ، والحب النابع من صميم الفؤاد ، والدعاء الصادق أن يُعينهم على حمل الأمانة ، ومكابدة القيادة ، وهم أهلٌ لذاك وزيادة.
ولكني سمَّيت شيخنا ابن جبرين رحمه الله باسم لا أظنهم يردونه ، ووصفته بوصفٍ لا أظنهم يُنكرونه فله في قلوبهم من الإجلال ، والاعتراف بحقه ما هو أعظم مما نُشير والله يؤتي فضله من يشاء والله واسعٌ عليم.
إني لأكتب هذه الكلمات ولم يمضِ على إيداع شيخنا قبره _ سقاه الله من رحمته _ إلا سويعات قليلة ، فالعيون لا زالت باكية ، والقلوب لا زالت مفجوعة ، والنفوس لا زالت مكلومة ، ولا زالت شاشة هاتفي النقال لم تهدأ من وميض رسائل التعزية والمواساة ، ممن عرف حالي مع شيخي ، ومكانته في قلبي ، ولطيف حنوِّه عليِّ ، وما كانت والحال كذلك لتستطيع النفس أن ترسم ما تريد ، ولا أن تعبر عما تشاء فالكلمات تتعثر بالعَبْرة ، والعين تفقد تمييزها بالدمعة ، ولهذا لن أزيد المواجع ، ولن أظهر الفواجع ففي النفوس ما يكفيها ، فلست أزعم أني الوحيد في حبِّ الشيخ ، ولا بالفريد في قربه فمعي الآلاف بل الملايين من المحبين في طول العالم الإسلامي وعرضه فالله لنا ولهم خيرُ خلَفٍ وذُخرٍ من كل فائت ، بل سأسعى أن أذكر نفسي وإخواني بما يجب علينا ، فديننا قد علمنا كيف ننظر للحياة ، وكيف نُحبُّ الصالحين ، وكيف نؤمن بقضاء الله وقدره ونعلم أنه سبحانه لم يأخذ منا شيئاً قبل حينه ، ولم يظلمنا حقاً نستحقه ولكنها سنة الله في خلقه لا رادَّ لقضائه ، ولا مُعقِّب لحكمه ، ولا إله غيره ، سبحانه وبحمده قال تعالى : { كلُّ نفسٍ ذائقة الموت ...الآية } [آل عمران:185] وقال سبحانه: {... فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون} [النحل:61]

فلم يبق لنا بعد هذا إلا أن نقول لأنفسنا فماذا نحن فاعلون بعد شيخنا ؟
لأننا نحسبه _ رحمه الله _ قد قضى ما عليه ، ورسم لنا طريق أولي الهمم العالية ، والنفوس الأبية التي رفعت الكتاب والسنة بيدٍ ، وشمَّرت بالأخرى عن ساعد العمل والجد ، إلى أن أقعدها المرض ، وأذهلها البلاء.
أرأيتم مثل ابن جبرين ، يحمل في الدعوة والسير إليها جسداً نيَّف على الثمانين عاماً ، يطوف البلاد عرضاً وطولاً ، براً لا جوَّاً ،يُدرّس في دورة علمية ، ويُلقي محاضرة عامة ، ويجيب دعوة داعية ، ويزور جمعية برٍّ أو تحفيظ ، ويكتب لمكتب دعوة أو لجنةٍ إجتماعية ، ويزور عالماً في بلد مروره ، ويسمع من أهل كل قرية عمَّا لديهم عن قريتهم من ذكريات وتاريخ ومن سكنها من أهل فضلٍ وعلم ودعوة ، جدولٌ مملوءٌ بكل نافعٍ ومفيد منذ أن ينطلق من بيته حتى يعود إليه ، إسألوا ابن الشيخ الأستاذ الفاضل والأخ الحبيب سليمان كيف كان يحار في ترتيب جدول أبيه وزياراته ، وهو يرى هذا كله أمام عينيه وقد صدرت موافقة الشيخ بكل أريحية على كل ما فيه فلم تتعود نفسه أن تُغضب حبيباً ، ولم يتعود لسانه أن يردَّ طالباً ، وما بقي على سليمان إلا التوفيق بين كل ذلك مع جزمه أن ذلك كثيرٌ ومرهقٌ للشباب وأصحاب الفتُوَّة فكيف برجلٍ يعانق عِقْده الثامن ، ولكنه في ذات الوقت يعلم أن راحة الشيخ ، وفرحة قلبه ، وسعادة نفسه أن يكون كذلك ، فلله درُّه من حاملٍ لنفس وروحٍ عشقت العلياء فلم ترض بالدون ، وأنست بالقمم فلم تنظر للقيعان ، فهل يعي القاعدون من طلبة العلم عن معانقة المعالي ، وهل يرضى حملة الشهادات الشرعية الذين تأكلوا بشهاداتهم من حُطام الدنيا الفانية وقعدوا ، ونسوا ما تحمَّلوه من عظيم أمانة ، وقعدوا عن تبليغ الديانة ، وركنوا للدنيا وتركوا الناس في ظلام جهلهم وبأيديهم المشاعل هل سيبقون في قيعان الحفر ، بعدما رأوا شيخهم يعانق بهمته الدعوية أبراج السماء.
لقد وصلتني في يوم وفاة شيخنا رسالة نصية من أخٍ مُحبٍّ فاضل هو الشيخ مشعل بن عبدالعزيز الفلاحي _ وفقه الله _ خففت بحق وقع المصيبة وجلت بعض الهمِّ عن قلبٍ مكلوم ، وجعلت النفس ترمق شيخنا وكأنه يُطلُّ من بين أبراج السماء ، وهذا نصها: [ ( قوموا أيها القاعدون !! ) هذه الرسالة التي خلفها العلامة ابن جبرين برحيله اليوم من هذه الدنيا .. فوا أسفى على عُمْرٍ تقاصر عن هموم الكبار !! ].
إي والله يا أسفى على عمر تقاصر عن هموم الكبار، وهذا هو أول درسٍ نستفيده من حياة شيخنا ، وفاجعة رحيله.

أما الدرس الثاني :

فلئن مات ابن جبرين ، وفارقنا بجسده ، وفات علينا عبير أنفاسه فلقد أبقى لنا ميراثاً لا يخصُّ ورثته فحسب ، بل هو مشاع بين أفراد أمة الإسلام ممن هو اليوم على وجه البسيطة وممن سيأتي إلى قيام الساعة ، إنه العلم الغزير الذي فاض به طيلة حياته ، وما دبجته أنامله وأملاه على طلابه من مسائل محررة ، وكتب محققة ، ورسائل مدونة ، مَنْ لها اليوم يسبر غورها ، وينشر عبيرها ، فلقد صارت التبعة على من خلفه اليوم فهل نعي عِظَم المسؤلية التي ستسألنا الأجيال القادمة عنها ، فهو حقٌّ لها علينا أن نبلغها مالم تسمع ، ونخبرها بمالم تر ، من ميراث هذا العَلَم الهمام ، اللهم يسِّر فلا مُيسِّر سواك ، فالحِمْلُ ثقيل ، والأمانة عظيمة.

أما الدرس الثالث :

لقد عاش ابن جبرين ردحاً من الزمن بيننا سَـرَّ قوماً ، وضَـرَّ آخرين ، نعم لقد سرَّ علمه وبلاغه وهمته أهل الحق ، وطلاَّب العلم ، والباحثين عن الخير والصلاح ، وضرَّ قوماً من أعداء هذه الملة من مبتدعة ، وليبراليين ومتحررين من الفضائل ،وممن كان يحيك الدسائس الفكرية ، والمؤامرات الخفية على هذه البلاد وأهلها فكان شيخنا شجىً في حلوقهم ، وغُصة في صدورهم ، وعقبة في طريقهم ، فقد كان علمه الراسخ ، وقلبه الثابت ، وعلمه المبثوث ، وفتاواه العابرة ، التي ينتظرها الشباب المتوقد المتوثب في كل بقعة من عالمنا الإسلامي الكبير ، مُثبتاً وموجهاً وناصحاً وقائداً لسفينة النجاة الماخرة في عُباب الشبهات والشهوات المتلاطمة ، كم أراح الله به وبفتواه من معضلة ، وردَّ من نازلة ، وبصَّر به من مدلهمَّة لا يعقلها إلا العالِمون من أمثاله .
فهل سنبقى على منواله؟ ، ونسير على طريقه سدَّاً منيعاً لكل فتنة ، فتموت الأعداء بغيظها ، وتحترق بلظاها ، أما أننا سنركن للدعة والخمول ، وننسى حمل المشعل الذي كان يحمله شيخنا فتسرح الأعداء جذلة مسرورة بما تحقق لها من تخطي العقبة الكؤود ، وانطفاء النار المحرقة ، لا حقق الله آمالهم ، ولا بلغهم الله مُناهم آمين.

الدرس الرابع :

مات ابن جبرين كما يموت البشر ، وسنموت مثل ما مات لكن السؤال الذي يجب أن نسأله أنفسنا هل نُريد أن نموت كما مات شيخنا أم لا ؟

إنه ليس من أحدٍ يرى جنازة الشيخ ، وأعداد المشيعين ، وتأثر المحبين ، واثر فاجعة الفقد على الناس ، ويسمع من مآثر شيخنا وأعماله ، وأقواله التي نصر الله بها الحق وأهله ، ورفع الله بها أعلام الأمة ، وكشف الله بها الغمة ، إلا ويتمنى أن يكون كذلك ، ولكن هل سألنا أنفسنا لماذا بلغ ابن جبرين ذلك ؟
إننا نحسبه والله حسيبه قد سبك كل ذلك بإخلاص وتقوى ، ومخافة من الله جلية ، وتعبِّد لله عظيم ، وزُهْدٍ لهذه الدنيا واضح ، وتواضعٍ جمٍّ أخجل المخالفين فكيف بالموافقين المحبين ؟
لقد عاش شيخنا كبيراً في همته ، قريباً من ربه ، ذليلاً لمولاه ، متعبداً في سفره وإقامته ، متوثباً لكل معروف ، يُمضي يومه في عبادة وقربة ، أو شفاعة وكشف كربة ، أو علم يبثه بين الأنام ، مُحتسباً لا يكلُّ ولا يملُّ ، متجدد في كل وقت ، متعففٌ في صمت ، يُفرحه العطاء ، ويؤنسه الوفاء.
إن حياة شيخنا كلها دروسٌ وعبر ، ما تأملها منصفٌ إلا عرف ماذا فقد المسلون بفقده ، وماذا يجب علينا من بعده ، وإني وإن كنت قد أسهبت وبسطت القول إلا أنني أعترف في حقه بالتقصير ،وأعلم أن له عليَّ من الحق الكثير ، وقد سلكت فيما أظن سبيل العدل ، وحاولت أن أبتعد عن الإطراء الذي كان يكرهه شيخنا ونهانا عنه قبل ذلك شرعنا ولسان حالي كما قال الإمام ابن القيم في نونيته :

يارب غَفْراً قد طغت أقلامنا *** يارب معذرةً من الطغيانِ

هذا ما تيسَّر على عجل ، مع تعب النفس وأثر الكلل ، ووقع المصيبة ، وخطر المقام ، وكِبَر الحق ، وقلة البضاعة أقدمه هديَّة من محبٍّ صادق ، ومعترفٍ بالتقصير لكل من خلَّف الشيخ من أهله وذويه ، وطلبته ومحبيه ، في كل مكان من المعمورة مقدماً للعذر وملتمساً للقبول من الله ذي المنن السابغة ، والنعم الظاهرة والباطنة قياماً ببعض الواجب ، سائلاً المولى الكريم أن يُسبغ على شيخنا ووالدنا فضله وإنعامه ، ويُجزل مثوبته ، وأن يجزيه خير ما جزى عالماً عن أمته ، وينقله إلى أعالي الجنان ، ويُسكنه فسيح دار المنان ويعوض الأمة خيراً مما فُقد منها ويجعل في ذريته وعقبه الخير والهدى والبركة آمين
وصلى الله وبارك على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
 

وكتبه الفقير إلى عفو ربه القدير
إبراهيم بن محمد بن عيسى الهلالي
قاضي المحكمة العامة بالقحمة _ عسير
 



بن جبرين...هكذا يرحل العظماء
محمد مشعل العتيبي

بسم الله الرحمن الرحيم
رحم الله الإمام عبدالله ابن جبرين
رحم الله من نذر نفسه لله كما حسبناه
رحم الله من بذل حياته معلما
وداعيا
ومربيا
ومحتسبا
وذابا عن السنة
ومحاربا للبدعة
رحمه الله فقد كان شمعة تنير الطريق للسالكين
وكان بسمة تزرع الأنس للمتعلمين
وكان من أولياء الله المتقين
وكان كما نحسبه
مجاهدا صامدا
ومعلما صابرا
ومربيا رفيقا
رحمه الله فقد نفع الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم
وكان لها كالغيث
وكالنحل
وكالنخل
يجوب الديار
ناشرا للدين والعقيدة
لقد مات ابن جبرين
وهكذا يرحل العظماء
لقد مات ابن جبرين
فلانامت أعين الجبناء من أهل البدع والضلال
لقد مات ابن جبرين
مات.
ونحن في زمن أحوج مانكون فيه للعلماء الربانيين
في زمن فتن وتقلبات وتنازلات
لانحتاج فيه بعد عون الله
إلا لابن جبرين وأمثاله
قد والله أظلمت الدنيا بموته
فلاريب أن فقد الإمام كان مؤلما
فمن للدروس والعلم
من للبخاري
ومسلم
والروض المربع
من لكتاب التوحيد
من للديار التي كنت تجوبها معلما ناشرا رحيقك أيها الشهد فيها
من لها بعدك
إييييييييييه يازمن الفتن
بالأمس البعيد ابن باز
ثم ابن عثيمين
والألباني
وبكر أوزيد
وابن قعود
واليوم
ابن جبرين
يلحق برفاق دربه
ومشائخه
ويترك هذه الدنيا الفانية الزائله
ولكن
حسبه أنه تركها
بعد أن نشر دين الله فيها
ولم يركن لها
فسحقا لها من دار
إيييييييييه أيها الإمام
على مثلك فلتبك النساء
بل فليبك الرجال
رحمك الله أيها العلامة
رحمك الله وألحقك بالصالحين
وجمعك مع النبي الأمين
في فردوس رب العالمين
كم كنت عظيما بيننا
تذب عن سنة حبيبك صلى الله عليه وسلم
فنسأل الله أن يجمعك معه في دار لانصب فيها ولا وصب
رحمك الله يابن جبرين
ورحم الله الأمة بعدك
من لها....
 



مع ابن جبرين رحمه الله
علي باوجيه - أبو عمر

قالوا الأسى يعلو فؤادك والكدر ................ ماهذه الأحزان مالك والسهر.
أتراك عشت الليل يأسرك الهوى ............. أم كان سهدك للحبيب ومن هجر.
أم أنها الأوهام سارت بالكرى ................ فمضيت ترسل ناظريك إلى القمر .
حتام تبقى واجما متندما ....................... هلا ذكرت لنا مصابك والخبر .
فأجبتهم عذرا دعوني ما أنـا ..................... إلا أسير الحزن في زمن العبر.
خاطبتهم والدمع يخنق أحرفي ................. أنا مؤمن بالله راض بالقدر.
أنا مؤمن لكن عيني لم تزل ................... ترنو إليه محدثا رغم الكدر .
مازلت أسمع صوته يهدي لنا ................... من علمه الفياض أنواع الدرر.
ياشيخ مهلا فالأنام بحـــــاجة .................... للعلم والإيمان للذكر العطر.
في أرض نجد ودعوك وما دروا ............... أن الذي قد ودعوه هو القمر
 

لا أستطيع هنا وفي هذه العجالة أن أوفي الشيخ ، ولو بعضا مما يستحقه ، فالمصيبة عظمى ، وفي المصيبة لايستطيع المرء أن يقول كل مايجيش بنفسه ، وماهذه إلا كلمات سريعة أكتبها على عجل ، أودع بها شيخنا الجليل ، وفاء لبعض حقه ، وحبا له ومعرفة بقدره وتقديرا لفضله ومكانته.


لقد مات الشيخ والحاجة إلى مثله ماسة ، فقد كان والله إماما فقيه النفس ، رجل عامة ، وضع الله عز وجل له محبة في القلوب . ولست أنسى آخر حديث معه يوم أن اتصلت بابنه الأكبر قبل أشهر ، لقد كان صوته ينطق بالبشر والحرص على حب الخـير لكل أحد.

نعم أيها الأحبة ، عاش الشيخ رحمه الله حياته وجعلها طريقا للآخرة، فأخذ منها مايسد حاجته ، وتخفف من محاسنها ولذاته . لقد كان رحمه الله لسان صدق ، صادعا بالحق ملتزما به ، مقيما عليه مع رعاية الحكمة ، في حديثه ألفة ، وفي ابتسامته مودة ، وفي كلامه بيان ، وجه طليق ، مجلس لايمل ، وخلف رحمه الله من بعده ثروة علمية هائلة ينتفع بها بعده أقوام – إن شاء الله – ليمتد أجرها وثوابها.

وصدق من قال ( بحياة العلماء تحيا الأمم ، وبموتهم يضيع الناس ) ، وإن من الناس من لايفقده إلا أهله ، والباعث أيها الكرام للتقديم بهذه الكلمات ماشعرت به هذا اليوم من لوعة فقد إمام جهبذ وعالم علم ، نحن على فراقه لمحزونون ، ولانقول إلا مايرضي ربنا ، ذلكم هو الإمام العلامة سماحة الوالد عبدالله بن جبرين – رحمه الله – ورفع درجاته في عليين وأسكنه فسيح جناته.

عظم الخطب بفقده ، وجل الأسى لفراقه بعظم المكانة التي بوأها الله له في القلوب – نحسبه والله حسيبه - .

وأيم الله لايحظى بالتقدير والإحترام ، ولاتعظم المكانة ، ولايكتب القبول والإمامة بإذن الله إلا لمن جمع بين العلم والعمل ، وحسن قصده ، وابتغى الله والدار الاخرة ، ذلكم هو الذي يفقد إذا غاب ، ويعظم المصاب به إذا واراه التراب ، ونحسب أن الشيخ عبدالله – رحمه الله – من هؤلاء العاملين ولا نزكي على الله أحدا.

لقد كان بيته رحمه الله ومنزله لايخلو من الزوار ... فهذا ينسق لقاء ،، وذاك يسجل مقابلة ،، وذاك يطلب من الشيخ شفاعة ،، وذاك طالب فتوى .. وهكذا قضى الشيخ جل حياته بين الدعوة والعلم وتربية الناس على الخير.

رحل العلامة : وترك لنا علما كثيرا تزخر به دور العلم والتسجيلات .
رحل العلامة : وقد أصبح إشعاع النور ومصباح الهدى .
رحل الشيخ : والقلوب يعتصرها الحزن والعين أجهشها البكاء فجادت بالدموع.
رحل من بيننا وبقي ذكره عاليا شامخا بما بقي من علمه ودرسه وكتبه وتسجيلاته وطلابه .
رحل عنا ونحن نثني عليه ، بل إن ثناؤنا لايوفيه حقه ، بل ونعجز أن نوفيه حقه مهما قلت ومهما ذكرت.

فاللهم أنت ربه ، وأنت خلقته ، وأنت هديته للإسلام ، وأنت قبضت روحه ، وأنت أعلم بسره وعلانيته ارحم اللهم الشيخ وأسكنه فسيح جناتك وأخلف لنا خيرا منه. الحمد لله على كل حال وإنا لله وإنا إليه راجعون .

علي باوجيه - أبو عمر
قبيل غروب الشمس من 20 رجب من عام 1430 هـ

 


أحقا مات ابن جبرين؟
فرحان بن سميح العنزي


بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

غالبا ما يهون وقع مصيبة فقد الأحباب توقع حصول هذه المصيبة والدخول في مقدماتها. والإنسان الذي لديه شخص كبير في السن يعاني من أمراض مختلفة لا يحزن لفقده كما يحزن لفقد قريب له مات فجأة أو بدون مقدمات.

وهذا الكلام إنما ينطبق على عامة الناس الذين لا أثر لهم في الحياة يذكر.

ولقد بلغ سماحة الشيخ عبد الله بن جبرين- رحمه الله- عمرا طويلا وعانى من مرض عضال ودخل في غيبوبة لمدة أشهر، ومع ذلك كله فقد كان وقع موته عظيما على من عرف منزلة مثله.

إن فقد الشيخ - رحمه الله- لا يدرك خطره إلا من عرف أن هؤلاء العلماء هم أمنة للأمة فإذا ذهبوا أتى الأمة ما توعد.

ولقد قال بعض السلف في تفسير قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) الرعد 41، أن المقصود بنقص الأرض هنا هو موت العلماء.

إن فقد مثل الشيخ ابن جبرين رحمه الله هو بمثابة دفن لجزء من ميراث النبوة الذي لا يوجد إلا عند مثله (وإن العلماء ورثة الأنبياء).

إن فقد أمثال الشيخ ابن جبرين رحمه الله هو بداية لفتح باب عظيم من أبواب الضلال حيث يقبض العلم ويتخذ الناس رؤوسا جهالا يفتون الناس بغير علم. قال صلى الله عليه وسلم:

(إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).

لعمرك ما الرزية فقد مال.......ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية موت شيخ.......يموت بموته خلق كثير

إننا- والله- لا نحزن على فقد الشيخ بقدر ما نحزن على فقد قلوب لم تقدر وجود أمثال هذه الجبال الشم حق قدرها وإلا فإنا نعلم- بحسن ظننا بربنا وشهادة نبينا عليه الصلاة والسلام- أن ما عند الله خير للشيخ، كيف وقد بذل الشيخ رحمة الله عمره معلما للخير داعيا لعقيدة السلف آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وكيف وقد شهد له البعيد والقريب بالخيرية وقد قال صلى الله عليه وسلم (أنتم شهداء الله في أرضه).

أخير أيها الإخوة أقول لكم إن الميت هو ميت الأحياء الذي وجوده كعدمه أو وجوده شر من عدمه:

ليس من مات فاستراح بميت......إنما الميت ميت الأحياء

إن ما نشر الشيخ رحمه الله من علم يجعله حيا حاضرا بينا ومن فاته شخص الشيخ فلا يفتونه علمه، وإن لدينا من العلماء الأحياء من هم في مصاف الشيخ رحمه الله فهل سننتظر حتى تطوى أعمارهم ويكون قصارى ما نملك هو التحسر والتفجع. أتمنى أن لا.

اللهم اغفر لشيخنا ابن جبرين وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين اللهم افسح له في قبره ونور له فيه.

والســــلام

 


 [إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]
كسر لا يجبر وثلمة لا تسد
وفاة شيخنا العلامة ابن جبرين رحمه الله
العربي بن زغلول الدسوقي


الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مقدرِ الأقدار، مصرفِ الأمور، مُكَوِّر الليل على النهار، تذكرةً لأولي القلوب والأبصار، وتبصرة لذوي الألباب والاعتبار.
الذي أيقظ من خلقه مَن اصطفاه فأدخلهم في جملة الأخيار، ووفق من اجتباه من عبيده فجعله من المقربين الأبرار، وبصّر من أحبه فزهدهم في هذه الدار، فاجتهدوا في مرضاته والتأهب لدار القرار، واجتنابِ ما يسخطه والحذر من عذاب النار، وأخذوا أنفسهم بالجد في طاعته وملازمة ذكره بالعشي والإبكار، وعند تغاير الأحوال، وجميع آناء الليل والنهار، فاستنارت قلوبهم بلوامع الأنوار. أحمده أبلغ الحمد على جميع نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه. وأشهد أن لا إله إلا الله العظيم، الواحد الأحد الصمد العزيز الحكيم
كثيرة هي الفواجع والمصائب في هذه الحياة الدنيا، وأكثر هذه الفواجع وآلمها موت العلماء، تلك المصيبة التي تتعدى آثارها بيت الفقيد وأهله وصحبه، لتصل إلى آماد بعيدة في الأمة عامة. وفي أحيان كثيرة يقف المرء مشدوهاً أمام هذه المصائب ولربما حاول استبعادها من شدة وقعها لأول وهلة، إذ يفزع الإنسان في لحظة ما إلى آمال حبيسة في نفسه سرعان ما تجيش لتتحكم في سلوكياته، وهذا ما عبّر عنه أبو الطيب المتنبي حينما بلغه خبر موت من كان مولعاً بحبها فما أن وصله الخبر حتى قال:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر* فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

وهذا الذي كان عندما سمعت بموت شيخنا العالم الكبير الحبر البحر العلامة الفقية
الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله رحمة واسعة
ولا شك أن موت العلماء كسر لا يجبر وثلمة لا تسد ، ذلك أن العلم يموت بموت حامليه .
قال محمد بن الحسين : إذا مات العلماء تحير الناس ودرس العلم بموتهم وظهر الجهل ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، مصيبة ما أعظمها على المسلمين .
قال ابن عبد البر رحمه الله : أنشدني احمد بن عمر بن عبد الله في قصيدة له :

وذهاب العلم عنا………في ذهاب العلماء
فهم أركان دين الـ………ـله في الأرض الفضاء
فجزاهم ربهم عنـ ……ـا بمحمود الجزاء

وقال آخر :

تعلم ما الرزية فقد مال……ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حبر………يموت بموته خلق كثير

ولكن الله تعالى برحمته وطوله وقوته وحوله ، ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، أولئك هم الأقلون عدداً ، الأعظمون عند الله قدراً ، قال ( : " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس " . وفي رواية : " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة " .
نسأل الله أن يتغمد شيخنا برحمته وأن يسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، وأن يجزيه عن الأمة خير الجزاء والله إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، فاللهم اخلفه في عقبه واجعله في عليين واخلف الأمة خيراً في مصيبتها أمين


وكتبه
أبو عبد الرحمن
العربي بن زغلول الدسوقي
 



لن أبكي بن جبرين !
حامد خلف العُمري
 

نعم لن أبكي الشيخ بن جبرين رحمه الله , وإن كان بفقده خسرنا عالما قلَّ نظيره في هذا الزمن !
لن أبكي بن جبرين , و إن كان فقده مصيبة كبرى!
لن أبكي بن جبرين, و إن كان له في سويداء القلب مكانة تليق بأمثاله من الأئمة!

بل سأقول:
إنا لله وإنا له راجعون , اللهم آجرنا في مصيبتنا و اخلفنا خيرا منها .
وسأقول أيضا :
إذا مات منا سيد قام سيد ... قؤول لما قال الكرام فعول

لن أبكيه لعدة أسباب :

الأول : لأني أرجو لشيخنا ما هو خير له من بقاءه بيننا , فمن كان له مثل عمل و عبادة و جهاد بن جبرين , و جلده و صبره في نشر العلم , فإنه يُرجى له أن يكون من الأبرار ,( و ما عند الله خير للأبرار )

الثاني :
لعلمي الأكيد بأن الله لن يضيع دينه , فقد مات من هو خير من شيخنا رحمه الله , أعني محمد صلى الله عليه و سلم و أصحابه ,و مع ذلك حفظ الله هذا الدين العظيم .

الثالث :
لأني سأحاول أن يكون حزني على فقد الشيخ إيجابيا , و ذلك بالوقوف على سيرة هذا العلم , و الخروج بأهم الصفات التي جعلت من هذا الرجل رمزا , ليس في العلم و العمل فقط , و إنما في الثبات و القوة في الحق , و كذلك عدم التلون و تغيير المواقف.

الرابع :
لأفسد فرحة أعداء الشيخ و شانئيه الذين رقصوا طربا لموته , و لأعلمهم بأن الشيخ لم يمت , بل هو باق فينا و بيننا بعلمه و مواقفه التي ستذكي فينا الحماسة و الإصرار على السير على طريقته , و لأقول لهم : على رسلكم! , لا تسرفوا في الفرح , فإن بن جبرين ليس شخصا يموت بانتهاء أجله , بل هو مدرسة باقية ما بقى المصدر الذي استقى منه منهجه .

لن أبكي بن جبرين , بل سأحاول أن أفعل مثل ما فعل هو بعد فقده لمشايخه و أقرانه ( بن إبراهيم , بن باز , بن عثيمين , و غيرهم ) , حيث لم يجلس الشيخ باكيا حزينا , بل مضى يغذ السير على نهج أولئك و من سبقهم من أتباع محمد صلى الله عليه و سلم , و راح يقدم ما يستطيع لخدمة هذا الدين الخالد .

لن أبكي بن جبرين , لأني احسب انه لو قُدِّر له لأحب بدلا عن ذلك أن أدعو له بالرحمة و المغفرة, في صلاة خاشعة أو ساعة سحر أو يوم جمعة .

لن أرثي بن جبرين , لأني و غيري أعجز من أن نوفيه حقه.

اللهم ارحم شيخنا بن جبرين و اخلفه في عقبه في الغابرين و اجمعنا به في جنتك جنة النعيم ... آمين

 



وغيب القبر جثمان بن جبرين
حامد بن عبدالله العلي
مرثية الشيخ بن جبرين رحمه الله

هي الهواتفُ تأتيـني فتُبْكيني *** وسابـلُ الدمْع بالأحـزان يُضنيني
أنَّ الكبيرَ كبيرَ النَّاس ودّعنا ** وغيــَّبَ القبرُ جثمـانَ بن جبرينِ
لقد بكيتُ وفيضُ الدّمْع يغمرُني **أستذكرُ الشَّيخ ، والأشجانُ تُدميني
حتى ترجَّع منَّي الصوتُ منتحباً ** والنَّاس تعْجبُ من حزني ، وتسليني
تالله ما كان إلاَّ بالهُدى علمـاً ** وما الذي عاشَ في عـلمٍ بمدفـونِ
أما العلومُ فغيْضٌ من فضائلـِـهِ ** كالوردِ مـنْ بينِ أزهارِ البساتينِ
فتارةً فـي المعانـي ينتقـي دُرراً ** وتارةً في متـونِ الحفـظ للدّينِ
قد كان بالفضلِ بين الناس مشتهراً ** بما لـه في المعالـي من مياديـنِ
حتى تبـوَّأ فيهـا رأسَ قمِّتـها ** تبـوَّأَ الـدرِّ تيجـانَ السلاطينِ
ما كنت أحسبُ أنَّ الموتَ يخطفُهُ ** أستغفرُ الله من ظنـِّي وتخْميـني
وقد وجـدتُ بأنَّ الظنَّ منشؤُه ** من آيةٍ هديُها في النفسِ تهَديني
اللهُ خلَّدَ بالإخــلاصِ صفـوتَه **ومَـنْ يخـُصُّ مـنِ الغرِّ الميامينِ

حامد بن عبدالله العلي
 



صحبت سماحة الشيخ ابن جبرين رحمه الله في رحلة الحج وكان منه المواقف التي لاأنساها

 د.محمد بن عدنان السمان
 

كم هو صعب على القلم أن يكتب عن شخصية كمثل شخصية شيخنا العلامة الشيخ الدكتور / عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين رحمه الله، ولكنني أجد أنني مضطر لذلك فألم الفراق وتذكر مثل هذه القامة العلمية الكبيرة ، محفز كبير لأصحاب النفوس الضعيفة والهمم الدانية من أمثالي للتشبه بمثل هؤلاء الكبار.

وقد كان لي الشرف بالحج عام 1410هـ، وقد رافقنا سماحته رحمه الله وجمع من أبناءه وأهله وفقهم الله، ولقد شدني جداً مواقف عجيبة من الشيخ رحمه الله في تلك الأيام القليلة، وكم كنت أتعجب كثيراً من تلك المواقف التي تدل على جلده في العبادة والطاعة مع كبر سنه رحمه الله، لكن لا عجب فالعالم الرباني من أمثال سماحه الشيخ رحمه الله – نحسبه كذلك – قدوته وأسوته نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قام من الليل حتى تفطرت قدماه ثم يقول أفلا أكون عبداً شكوراً.

وسأكتفي بثلاثة مواقف للشيخ رحمه الله تدل على ما ذكرت:-


أولاً/
كان رحمه الله إمامنا في جمع الصلوات المفروضة، وكان يصلي بنا بخشوع وطمأنينة ، صلاة ليس بالطويلة التي تؤثر على الكبير أو المريض ولا القصيرة التي تخل بالصلاة وسكينتها، وكان يحرص رحمه الله أن يوجه المصلين بكلمة توجهيه تحمل في طياتها غالباً ما يجب على المسلم والمسلمة في أعمال الحج القادمة ، يعلمنا ذلك بعد كل فرض، فلا يمل حديثه، حتى بات يصلي معنا من ليس معنا في هذه الحملة، وكان رحمه الله يجيب على أسئلة المستفتين بعد ذلك دون تضجر من كثرتها أو إهمال لشئ منها ، كل ذلك بأسلوب علمي بديع يدل على غزارة علمه وفقهه رحمه الله .

وبهذا استفدنا منه في هذه الأيام القليلة علماً كثيراً وفوائد جمة.

ثانيا/
وهذا الموقف كان يوم عرفة حيث نزل رحمه الله من الحافلة ونزلنا معه بعد أن وصلنا إلى عرفات فكان أول ما أمرنا به أن نستعد للصلاة فصلينا الظهر والعصر، ثم أوصى القائمين على الحملة بسرعة وضع طعام الغداء لنتفرغ للعبادة والدعاء، وقد اجتمعنا معه رحمه الله في مكان واحد قبل الغداء فوالله إن أكثر الناس كانوا يتحدثون فيما بينهم ويتسامرون استعداداً للطعام وكان رحمه الله تتحرك شفتاه بذكر الله انشغل بذلك عن الحديث مع الناس .

ثالثا/
وهو أيضاً موقف حدث في عرفات فقد رأيته رحمه الله قام بعد الغداء واستقبل القبلة يدعو وكان الحر شديداً حتى أننا كنا نرفع أيدينا بالدعاء فيرهقنا الحر فنرتاح لفترة ، وكنت أنظر إليه فوالله لقد كان رحمه الله على حاله التي بدأ فيها بالدعاء رافعاً يده حتى تحركنا لمزدلفة، فتعجبت كثيراً من رجل بمثل سن الشيخ وعمره كيف يصبر على مثل هذه العبادة مع وجود المشقة الظاهرة والحر الشديد، واستصغرت نفسي ولكن

اذا كانت النفوس كباراً تعبت في حملها الأجسام

فرحم الله شيخنا رحمه الله رحمة واسعة وجعله من ورثة الفردوس الأعلى، وأحسن الله عزاء الجميع في فقد سماحة الشيخ رحمه الله.
 

كتبه د.محمد بن عدنان السمان
مساء يوم الاثنين 20/7/1430هـ
 



أنموذج من عناية الشيخ ابن جبرين - رحمه الله - بالمرأة وتعليمها!
حواء بنت جابو آل جدة


بسم الله الرحمن الرحيم


جاء من المدينة النبوية للتو، وقَبِل دعوة كريمة ليلقي محاضرة في قاعة إحدى المدارس الكبرى بجدة، والتي كان يُقام بها درسٌ علميّ أسبوعيّ.
وافق الشيخ ابن جبرين - رحمه الله - مع ارتباطه الشديد وتعنى ليلقي على أكثر من 500 امرأة محاضرة قيمة مرصّعة بآيات الله البيّنات، مدعمة بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - تفيض نصحًا ولطفًا وتوجيهًا للمرأة لتكميل مقامات العبودية لله - جل وعلا - وتوعية بدورها ومسئوليتها وحقوقها، لقد كانت فريدة..
أتدرون لم؟
لأن الداعية التي كانت تلقي دروسها المنتظمة في نفس القاعة كانت قد ألبست الشيخ - رحمه الله - عباءة التحزب، ورمته لدى خواص تلميذاتها بألوان التهم ..
ولكن الجميع استمع إلى الشيخ - رحمه الله - بإنصات عجيب.. وحُق له ولنا ...
قبل انتهاء المحاضرة جُمعت الأسئلة من الحاضرات وكانت كثيرة جدًّا لم يتسنّ فرزها جميعًا . ولا زالت النساء يبعثن بأسئلتهن .. واستمر في الإجابة عن الاستفسارات والأسئلة قرابة الساعة، سوى المحاضرة التي استغرقت نحو الساعة والنصف... لقد تأخر عن موعده المحدد بأكثر من نصف ساعة ... حتى توقف من يقرأ الأسئلة طالبًا من الشيخ أن يغادروا ليلحقوا بموعدهم .. فقال الشيخ لا بأس هؤلاء نساء وحقهم علينا كبير .. وواصل والنساء يبعثن بأسئلتهن التي حُجزت بعضها رأفة بالشيخ ... هذا هو الشيخ مقدر النساء.. مقبل على تعليمهن ومعتن بهن، رحمه الله.فعلت مكانته في نفوس الحاضرات في نفس المكان الذي أسيء إليه فيه.

بعدها بعام أُعلن أنه سيشارك في الدورة العلمية الصيفية التي تقام كل عام في جامع الملك سعود بطريق المدينة الطالع بجدة..
فسررت أيّما سرور، حضرت فوجدت الجامع ممتلئ بالنسوة رغم أنه الأسبوع الخامس من الدورة حيث اعتدنا أن يقل عدد الطلاب والطالبات كلما طال الأمد..
شرح جزءًا من كتاب التوحيد للعلامة المقريزي، وجزءًا من أخصر المختصرات لابن بلبان الحنبلي - رحم الله الجميع - بعد الفجر مدة أسبوع كامل.
كان شرحه للتوحيد يستقر في النفس دون أن يحتاج إلى تقييد كراريس، وتوضيحه للفقه ما فتحت كتابًا في الفقه إلا وأذكر طريقته الميسرة المتفنّنة..
وإذا قيل له هذا سؤال من إحدى الأخوات أولاه عناية في تفصيل الجواب، والاستدلال والسبر والتقسيم ، ليشعر المرأة أنك مهمة وأنك أخت الرجل في طلب العلم وغيره،
مؤتسيًا بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عندما أقبل على النساء وخصص لهن يومًا يعلمهن ويفقههن فيه، كما كان يخصص لهن حديثًا في خطبة العيد.


وإنا لنأمل أن ينشر نتاج الشيخ بشكل أوسع فحتى الآن لا ندري عن اكتمال بعض السلاسل كشفاء العليل شرح منار السبيل ونحوه.
كما نأمل أن يطور موقع الشيخ - رحمه الله - ليضم شروحات الشيخ الصوتية مخرجة على هيئة كتب رقمية، كذا مجموع فتاواه...

رحم الله الشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين، وجزاه خير ما جزى عالمًا عن أمته.. وأخلف للأمة بخير، وخلفه في أهله بخير..

---------------------

حواء آل جدة
أكاديمية وباحثة
 



ابن جبرين.. وأفــل الضـــيـــاء..
كتبه/ عبدالله بن محمد الحربي
 

الحمد لله المتفرد بالبقاء والدوام، القائل لنبيه المصطفى وحبيبه المجتبى محمد صلوات ربي وسلامه عليه (إنك ميت وإنهم ميتون) والقائل (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِت فهم الخالدون).. والصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد صلى الله عليه وسلم القائل: (جاءني جبريل عليه السلام فقال يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه).. وبعد..

فقد رُزئت أمة الإسلام في كافة أنحاء الأرض بفقد وموت سماحة الإمام الأجلّ والعالم الأمثل سماحة الشيخ الوالد عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن إبراهيم بن فهد بن حمد بن جبرين.

لقد كان سماحته جامعة، ولكن ليس كالجامعات المعروفة، بل كان من نوع آخر، إنه جامعة ربانية يؤمها الناس لينهلوا من علمه وفقهه وأدبه، لقد كان قدوة يُحتذى به، كان سدا منيعاً أمام أعداء الدين، لقد كان جدارا للإسلام في عصره، كان الجبل الشامخ الذي يهابه المبتدعة وأهل الضلال والانحراف، كان الشيخ صادحا بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، لقد كانت الفتوى منه ينتظرها العالم ليروا فيها قول ربنا وحكمه من خلال صدق هذا العالم الصادق الجريء، العالم بأسره يعرف أن الشيخ رحمه الله كان صاحب اتباع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وحريص أشد الحرص عليها، كان ينصح للأمة ولا يغشها، كان رحمه الله أبعد الناس عن مواطن الشهرة فضلا عن طلبها، وكان يعيش عِيشة المساكين ويحب المساكين ولم يسكن القصور – مع قدرته على سكنها – ، كان رحمه الله يستقبل الصغير والكبير ويرحب بالجميع، كان بخفة نفسه وروحه كمن عمره في الثلاثين وليس في السادسة والسبعين.

لقد كان بإمكان سماحة الشيخ أن يستغل فضله وعلمه وقدره لجني الأموال الطائلة (كما يفعل البعض وللأسف باسم الدين والدعوة)!! ولكن هيهات لمال الدنيا كله أن يغري عالما ربانيا همه وهدفه ومبتغاه إرضاء ربه والسير على نهج نبيه صلوات ربي وسلامه عليه والحرص على أمته فرحمه الله رحمة واسعة.

لم يكن للشيخ وقت يضيعه في الأحاديث التي لا طائل منها، فقد كان وقته كله لدينه وللمسلمين وقد كان يتنقل من منطقة لأخرى ومن مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى أختها كل هذا بسيارة أحد طلابه، وأحيانا في ليلة واحدة أيضا يجمع بين هذه الرحلات، وتجده أثناء المسير – حسب رواية بعض طلابه – أنه يستمع لبعض الأشرطة ويعلق عليها، أو يطلب من أحد المرافقين قراءة كتاب فيشرح ويعلق بدقة وحرص، وكان رحمه الله بعكس عامة الناس فتراه يمتلئ همة وحيوية حين يكسل الناس، وتجده خصوصا في الصيف حين يلجأ الناس إلى المصايف والمتنزهات تراه يقيم دواته العلمية في شتى فنون العلوم الشرعية ويتنقل ما بين غرب السعودية إلى شرقها ومن شمالها إلى جنوبها دون كلل أو ملل أو تذمر.. بل تراه يذهب لمسافة 200 إلى 300 كيلو متر لإلقاء محاضرة أو درس فقط ثم يعود ثانية.. أي همة هذه وأي بأس هذا؟! ولقد خلّف هذا الإمام الجليل كنوزاً من الفقه والعلم وشتى أنواع العلوم.

ويروي أحد طلابه أنه طلب من الشيخ مرافقته لإحدى هذه الرحلات وحصل كما ذكرنا أن ذهبوا وألقى الشيخ درسه ثم عادوا بعد منتصف الليل، وقد كان صاحب القصة منهك من التعب، يقول فسارع إلى النوم مباشرة، يقول فاكتشفت في اليوم الثاني أن الشيخ رحمه الله كان يقوم الليل تهجدا لله..!! الله أكبر ما أعظم الهمة وما أعظم الهم.

ومعروف أن الشيخ رحمه الله كان يزور الأمراء ويناصحهم وهم يُجلّونه ويحترمونه – لأنه حفظ نفسه وصانها عن مطامع الدنيا فكبُر قدره – فممن يزورهم أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبدالعزيز، فينقل أحد الثقات أن الشيخ إذا أتى لزيارة سمو الأمير – ولا يزوره لمصلحة شخصية بل لمناصحة أو إبداء رأي في مسألة عامة أو لشفاعة حسنة – فإن الأمير حتى ولو كان عنده ضيف في مكتبه فإنه يعتذر منه ويسارع لاستقبال الشيخ رحمه الله قبل أن يصل إلى مكتبه وذلك عرفانا من الأمير سلمان بقدر هذا العالم الجليل الذي حفظ نفسه بما لديه من موروث النبوة، وحين صان هذا الموروث العظيم عظُم هذا الرجل في أعين الرجال، وهكذا العلم مع من صانه.

من جلس مع الشيخ وعرفه يعلم مدى ما أحدث موته من فراغ كبير نسأل الله أن يقيض من يسد هذا الشرخ العظيم وأن يخلف لنا بخير.

بعثت أنا – كاتب هذه السطور – منذ ثلاث سنوات تقريباً إلى سماحة الشيخ رحمه الله رسالة صغيرة الحجم كبيرة المحتوى تتحدث عن سيرة شيخنا سماحة الشيخ العلامة الوالد عبدالرحمن عبدالخالق حفظه الله ورعاه وألبسه ثوب الصحة والعافية، فقرأ الرسالة وأعجب بها وكتب بخط يده يثني على الشيخ الثناء العاطر والكلام النوراني الذي لا يمكن أن يقوله إلا عالم منصف وقال في نهاية تقديمه الذي كتبه لسيرة علامة الكويت قال (وكم كنت أتمنى أن ألتقي بهذا الشيخ الجليل..) يقصد شيخنا الوالد عبدالرحمن عبدالخالق.

وإن يوم الإثنين الذي توفي فيه علم الأمة وإمام أهل السنة لهو يوم من أيام الحزن والأسى والبؤس أن يرحل مثل هذا الإمام الأجلّ والعالم الأمثل سماحة الشيخ عبدالله ابن جبرين، وقد أتعبت من بعدك يا سماحة الشيخ..

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل العلماء كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة).
وقال الحسن رحمه الله: \"موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار\"، وقيل لـسعيد بن جبير رحمه الله: \"ما علامة الساعة وهلاك الناس؟ قال: إذا ذهب علماؤهم\".

سماحة الشيخ الإمام عبدالله ابن جبرين لقد اختصرت ذلك الزمن الطويل بلحظات حزينة أورثتنا إياها، سنفتقد ذلك البطل الذي لا يخشى في الله لومة لائم في إنكار المنكرات صغيرها وكبيرها، سنفقد ذلك الجبل الأشم الشامخ المدافع والمنافح والمناضل من أجل نصرة عقيدتنا والذب عن أعراض المشايخ والعلماء والدعاة، وسيفقد أهل الإسلام ذلك الصوت الشجي الحزين والقوي في الحق الذي لطالما ناصرهم وناصر العلماء والدعاة والمجاهدين ولم يلتفت لمن يطعن فيه أو بنيّته، فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتغمدك برحماته وغفرانه ورضوانه وأن يسكنك جناته جنات النعيم برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين..

ولا نقول يا شيخنا ويا إمامنا ويا معلمنا إلا ما يرضي ربنا وخالقنا، فإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون..


وقد توفي سماحة الشيخ الإمام عبدالله ابن جبرين ظهر يوم الإثنين
بتاريخ: 20/ رجب الحرام / 1430هـ ، الموافق: 13 /7 /2009م
فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
 


دَمعَـةُ وفَـاء
في رثاء الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين رحمه الله
خالد أبو صالح

دع عنك ذكرَ فلانةٍ وفلانِ واذكُر مصاباً هزني وشجاني
فَقدُ السماحة والبشاشة والتقى فقد بن جبرين هدَّ مني كياني
حقا رَحَلتَ أخَا المآثر والندى وتركتنا في عالم الأحزان
علمٌ تَجَلبَبَ بالمَهَابةِ والتقَى أكرم به من عالمٍ رباني
قوامُ لَيلٍ بالنهارِ صيامه بكاءُ كالبصري أو زَاذَانِ
تبكي الأراملُ واليتامى فَقدَه وبكى عليه القاصي قبل الداني
تبكي المساجد شَيخَها وإمامها من كل ناحية وكل مكان
يا لوعةَ القلبِ السليبِ لفقدهِ لكنَّ تلك إرادةُ الرحمنِ
موتُ الأئمةِ ثُلمةٌ في ديننا والخطبُ أعظمُ يا أخا العرفانِ
يا لائمي في حُبِّهِ وبكائه مهلا هداك الله من إنسان
مهلا هداك الله ما هذا الجفا حبُ ابن جبرينَ ليس بالعصيان
دعني أسحُ الدمع مدرارا على كَنزِ العلومِ وفارسِ الميدان
سيظلُ هذا الشيخ نبراساً على نهجِ النبوةِ والهُدى الرباني
نجمٌ هوى من بعدِ طولِ تألقٍ يهدي الأنامَ بحكمةٍ وتفانـي
يهوي إلى العَليا وليس لأسفلٍ فالشيخ فاقَ بنورهِ القمران
ما مات هذا الشيخ إلا شامخا كذبوا وقالوا فر من سجان
فليفرحوا بوفاته أو يشمتوا فالموت حق يا أخا العرفان
أرأيتمُ كيف الحشود تقاطرت كتقاطر العُمَّارِ في رمضان
هذا علوٌّ في الحياةِ بعـــلمه وبموته حاز العلوَّ الثاني
قمرٌ منيرٌ للأنامِ وللدُنــى في ظلمة الأيام والحَدَثَان
يا حُسنَهُ قد لُفَّ في أكفانهِ وعلا على الأعناق والأبدان
شيخ تميز بالبصيرة والهدى في زحمة الأقوال والأعيان
يفتي بنص الوحي غير مجاوز آيَ الكتاب وسنةَ العدنانِ
آيُ القُران وديعةٌ في صدره والسنةُ الغراءُ بين جِنَانِ
فهو الأصُوليُّ الفَقِيهُ العارفُ بمسائل التوحيد والإيمان
تبكي المعارفُ والعلومُ إمامها والفقه يبكي العالم الربَّاني
شيخٌ جليل طالما أجلى العمى عنا بكل براعة وبيان
عَلَمٌ إمامٌ قدوةٌ متبوعةٌ ولسانُ صدقٍ طاهرُ الأردانِِ
متألهٌ متخشعٌ متفكرٌ يهوى العلا سمحٌ بلا نكرانِ
أما التواضع والزهادة والتقى حدِّث بها عنه بلا كتمان
فمعيشة الشيخ الإمام مناهج للزهد والأخلاق والإحسان
جمُ المناقِبِ طَاوَلَت أخلاقهُ قِمم الجبالِ ومنتهى البنيانِ
فهوَ الكريمُ كذا الرحيمُ بخصمهِ وهو المجيبُ إذا دُعي لِطِعان
لا يغضبُ الشيخُ الجليلُ لنفسهِ أبدا ولا يجني على إنسانِ
أما إذا انتُهِكَت معالِمُ ديننا فلغَضبَةِ الشيخ صدىً رنانِ
يا رب فارحَم شيخنا واغفر لهُ واجعله في الفردوس أعلى جنان
واجمعه يا رب بإخوان الصفا كابن العثيمينَ وكالألباني
وبشيخهِ ورفيقِهِ في دربهِ أعني ابن بازِ العالم الرباني
يا آل جبرين اصبروا واستبشروا فالشيخ في روح وفي ريحان
إني شرفتُ بمدحهِ ورِثَائهِ والعجزُ فيما سَطَرتهُ ببنانِ
فالشيخُ أعظمُ من جميعِ مديحنا لكنه جَهدُ المقلِّ العَاني

-------

كاتب وباحث إسلامي
 


 
ذلكم هو ابن جبرين
سلمان بن فهد العودة


أُحسّ حين أهمّ بالحديث عنه؛ أني مفتقر إلى لغة أخرى, غير مفرداتي التي تعودتها .

إنه من البقيّة الصالحة, الذين تنصرف إليهم معاني الذكر الحكيم, فهماً لها , وتحققاً بها , نحسبه كذلك والله حسيبه, حتى إني صليت الليلة مع إمام ؛ فقرأ: (
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ) حتى بلغ: ( تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ  ) [القصص], فلا والله ؛ ما وجدت أخلق به منها, فيمن خالطت وجالست, على أننا لا نتحجّر واسعاً, والخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة.

قبل عشرين سنة (1410هـ) بدأني هو بالزيارة ، وسهر في بيتي مع ثلّة من أبنائه الصغار, الذين يسميهم (
مشايخ ) بكل عفوية وصدق ، وبات عندي ، فلم أر معه لباساً غير ثوبه الذي على ظهره ، ولا منشفة ؛ فيكفيه أن ينفض الماء عن يديه أو عن بدنه ، يصدق عليه حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : « الْبَذَاذَةُ مِنَ الإِيمَانِ ».كما عند أبي داود وابن ماجه وأحمد ، والحاكم .

لا يفكّر في الطعام الذي تقدّمه له ، إن كان مفاطيح ، أو كان معلّبات ، على أنه كريم حق كريم .


ولا يخطر في باله إن كان الذي استقبله بالغ في الحفاوة ، أو عامله بجفاء ، هو نمط مختلف ، تجرّدت نفسه من حظّ نفسه ، فلا يرى لنفسه على أحد حقاً ، بيد أنه قوّام بحقوق الناس على أكمل الوجوه .


تراه ؛ فيبادرك ويعانقك ، وربما حاول أن يقبل رأسك ، لكن هيهات أن يرضى بتقبيل رأس أو يد ؛ بل ينفر من ذلك, دون تصنّع .
دخل المجلس مرّات؛ فألقى السلام على من حوله, وقعد في طرف المجلس متسللاً مستخفياً , لا يحب أن يعلم به أحد ، فإذا نذروا به, فقاموا إليه, وقدموه؛ تباطأ وتلكّأ , وسايرهم على مضض .

لا تجد في لغته :
ونرى ، ونقول ، والذي نختاره ، وعندنا ، قلت ؛ وليس أسهل عليه من أن يعدل عن قوله إلى قول غيره .
لا أقول يرجع إلى قول ابن باز , حين اتصل به , وطلب إليه العدول عن اجتهاده أو رأيه في مسألة ما (ولديّ من ذلك حالات وأمثلة) ، ولا أعني رجوعه بناءً على تنبيه من أكابر المشايخ وأهل العلم ؛ لقد أدهشني مرة أن كان بالرّس فسُئل عن مسألة المساهمة في الشركات التي فيها نسبة قليلة من الربا, وأصل نشاطها مباح ، فقال : كنت قلت بتحريمها ثم قرأت جواب فلان , وأنا الآن أقول به ..

وسمى عبداً مثلي, لا يصلح أن يكون من تلاميذه .


رأيت الإمام يلقننا نكران الذات ، وتمام التجرّد ، ونسيان النسيان ، على أننا ونحن نتذكره؛ نبحث عن موطئ قدم لنثني على ذواتنا ، ونتحدث عن ذكرياته معنا ، وثنائه علينا ، هو كان يدرسنا حياً ، وهو الآن يوبخنا ميتاً :

وكانت في حياتك لي عظات    وأنت اليوم أوعظ منك حيا !

وفي حديث حارثة بن وهب - رضي الله عنه -قال : قال قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : «ألا أخّبْرُكم بأهل الجنَّة ؟ قالوا : بلى ، قال : كلُّ ضعيف متضَعِّف, لو أقْسمَ على الله لأبرَّه». رواه البخاري ومسلم.

ولعل من علامات القبول والتوفيق, أنني بينما أكتب هذا الحديث؛ جاءتني رسالة بالجوال فيها؛ يقول صلى الله عليه وسلم:
« حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ ». رواه أحمد والترمذي..

 ويقول عليه الصلاة والسلام : ((
أنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ في الأَرضِ )) وهو حديث متفقٌ عَلَيْهِ .

والذين عرفوا الشيخ عن كثب, أو جالسوه, يُطْبِقُون على أنه سهل قريب ، الوصول إليه سهل ، والانتفاع به سهل ، والتعلم منه سهل ، وإقناعه سهل .

نعم ؛ هو متواضع ، على أن التواضع يوصف به من يعرف أنه رفيع, ولكنه يوطّن نفسه على مرتبة أقل من قدره ، أما هو فهو غفل عن منزلته ، وكأن ذاكرة الذات منزوعة من برنامجه أصلاً ، وليست ممسوحة المادة !

من سهولته بذله العلم لكل أحد ، منذ ستين سنة ، يدرّس الثلاثة والأربعة ، بكامل الهمة والإخلاص واستحضار العبودية ، ويدرس الآلاف في دورة أو محاضرة فلا يراهم ، إنما يرى الثلاثة أو الأربعة القريبين منه ، حتى نبرة الصوت واحدة ، والأداء واحد .


لست أشكّ أنه أكثر العلماء اليوم تجاوباً ومشاركة في المناشط والدروس والدورات في المدن والقرى والأرياف والمراكز والمساجد ، تستجيب للطفل الصغير ، وللشيخ الكبير ، وللأمير وللفقير .


ومن سهولته أنه يستوعب المستجدّات والمتغيرات ، ويوظف الأدوات الحديثة للدعوة ، من يوم أن كان البريد العادي هو الوسيلة الفعّالة ، إلى عصر الإنترنت ، حيث دشن موقعه واعتنى به ، وأقام حفلاً مشهوداً في منزله ؛ حضره كبار المشايخ والعلماء ، إلى عصر الفضاء ، حيث لم يطل تردده حتى اقتحم عالم القنوات الفضائية ، وصار يقدّم البرامج الإعلامية حتى على دروس المسجد إذا تعارضت؛ لما لمس من أثرها , وأدرك صداها على القريب والبعيد ، وقد عوّد أقرانه على أن يتقبلوا منه هذا التجرد,  ولا يطيلوا التثريب عليه !


ومن سهولته أنه يستمع أكثر مما يتحدث ؛ كما وصفه بذلك رفيق دربه معالي الشيخ عبد الله الركبان – حفظه الله- ، ولا يرى نفسه أكبر من أن يستفيد ، فإذا أُسند إليه الحديث تحدّر كالسّيل ، وأقبل كالبحر ، يستشهد بالآيات المحكمة ، والأحاديث بنصوصها وتخريجها ، والشعر العربي الفصيح ، وأقوال الفقهاء والأئمة ، ومقامات الأدباء ، ويتكلم في سائر العلوم؛ وكأنه موسوعة حوت من ألوان المعارف ما يعجب أو يطرب .


شرفني بأن يناقش أطروحتي للدكتوراه ،
وقرأها خلال فترة وجيزة على تزاحم أشغاله ، وقد كنت قضيت فيها وقتاً طويلاً أدرّسها في المسجد ثم أكتبها وأخرجها .. لبضع سنوات .. وحين ناقش كان قرأها مرة حرفاً حرفاً ، وصحح واستدرك, حتى شعرت بأنني أصغر وأصغر .. ومع أن هذا بالنسبة لي تخصص علمي ، إلا أنه كان ينبّه إلى خطأ في راوٍ ، أو وهمٍ في إسناد ، أو انتقال ذهن في كتاب ، وربما قال : هذا المخطوط الذي أشرت إليه ، مطبوع في المكتبة الفلانية بتحقيق فلان .. وقد أدرجت معظم ملحوظاته على الرسالة ، لأنها صواب ، ولأنها وسام شرف للرسالة وصاحبها .

من المجاهرة بالخير أن أعلن عن حبي العظيم لابن جبرين ، ورجائي ربي أن يحشرني وإياه مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وأن يجعل حبي له في صالح عملي ، ويمنحني به الزلفى إليه ، وسؤالي إياه تبارك وتعالى بحسن ظني به , أن يحقق لنا هناك في الدار الآخرة الوعد الذي لم ينجز في الدنيا , أما ما أنجز من جنسه؛ فقد صار خبراً مضى وانقضى.

فقد أرسل إليّ صديقي د. علي الحماد؛ يعزيني في الشيخ ، وقال :
كنت عنده قبل مرضه وقلت له : الأخ سلمان مواعدني في الرياض فنريد أن تشرفنا معه يا شيخ ؟ فقال : لا بأس بشرط أن يعطيني الأخ سلمان موعداً !

فاللهمّ إني قابل لشرط الشيخ ، وسائلك بفضلك العظيم ألا تحول بيني وبينه بذنبي .


اللهم اغفر لابن جبرين ، وارفع درجته في المهديين ، واخلفه في عقبه في الغابرين ، اللهم أفسح له في قبره ، ونور له فيه ، ولا تحرمنا أجره ، ولا تفتنّا بعده
 



ابن جبرين رائد جيل
د. عبدا لعزيز بن محمد بن إبر اهيم العويد

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
 

هذه الأبيات أياً كان القائل لها الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو العالم الراشد الامام الشافعي رحمه فهي صناعة الخبير بقدر العلم وحملته وعظيم أثره وحسب هذه الأبيات أنها سلفية أثرية وهي مهما بلغت في حسن وصفها فهي اقتباس من نور الوحي الذي ابان فضل العلم وأهله وكل مسلم يقرأ او يسمع قول الله تعالى (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) وقول الله سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماء )
و حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ .
أبوداود والترمذي
وفي حديث معاوية رضي الله عنه ينقل عن حبيبه وحبيبنا صلى الله عليه وسلم ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) كما في الصحيحين .

الشيخ الوالد العلامة سماحة الشيخ عبدا لله بن عبدا لرحمن بن جبرين بقية من بقايا السلف الصالح و وعاء من أوعية العلم الشرعي هو باختصار من رواد النهضة العلمية المعاصرة وأكبر شاهد على هذه الحقيقة الواقع والذي يتمثل في خمس وسبعين سنة من عمره عمرها بالعلم تعلماً وتعليما في جد وجلد واحتساب قل أن يجود الزمان بمثله إلا ما نقرؤه من سير بعض السلف .

ويشهد له الحقيقة حضوره العلمي والدعوي في المسجد والمحاضرة واللقاء ودار الإفتاء والكلية والجامعة والمعهد و يشهد لهذه الحقيقة عشرات الآلاف بل مئآت الآلاف وبلا مبالغة من طلابه الذين نهلوا من علمه ودرسوا بين يديه خلال خمسين عاماً جابوا الديار وتفرقوا في الأمصار , وفدوا إليه وجلسوا بين يديه ونهلوا من ميراثه وها كثير منهم في بلدانهم وأقطارهم يعلمون من علمه .

يشهد لهذه الحقيقة الثقة التي تضرب أطنابها في جميع أنحاء المعمورة بفقه وفتوى ابن جبرين .
يشهد لهذه الحقيقة أيضاً كتبه وشروحه مطبوعة ومسجلة ومرئية والتي هي لطالبي العلم منية الراغبين ودليل السالكين .

ويشهد لهذه الحقيقة تاج هذا العلم ونوره ووقاره وهو ما كسا الله به الإمام وزكاه به من أخلاق العلماء العاملين الربانيين ، تجلس مع العلامة فلا تدري بم تشتغل متاملاً ، لأن كل ما فيه يأسرك : سمته و صمته , ورعه وزهده , تواضعه وبذله , حلمه وعلمه , حفظه وضبطه ,موسوعيته في كل الفنون شريعة ولغة وأدباً وتأريخاً وأنساباً .

ابن جبرين باختصار شديد : أعجوبة العصر فكم هم العلماء ولكن الراسخون الباذلون قليل وأحسب أن ابن جبرين شامتهم .

إيتوني بعالم عجز الشباب بنشاطهم وقوة أبدانتهم أن يبذلوا بذله وأن يسعوا سعيه
إيتوني يمكتب للدعوة أو جامعة أو ملتقى في أنحاء المملكة طلب من العلامة ابن جبرين درساً أو دورة أو لقاءأ أو محاضرة فاعتذر منهم ، حسبه أن الفيافي والقفار والمدن والمحافظات والقرى بل وحتى شاهقات الجبال تشهد له أنه وطأها باذلاً للعلم .

ماتبصر الشيخ بعينيك إلا وترى هدياً من هدي النبوة في صبره وجلده وعظم بذله .
ما فتر عن بذل العلم حتى أقعده المرض غير قادر أما مع قدرته فقد كان يخرج من المستشفى لدروسه
نبوغ الشيخ العلامة وتميزه لم يكن لمجرد العلم وإن كان أصله فكثير من الناس يوفق لكثير علم ولكن الشيخ وفقه الله لصبر وجلد وهم عظيم في تبليغ العلم لا يدانيه أحد ممن عرفت سوى شيخه العلامة ابن باز رحمهم الله أجمعين .

وقبل أن أوقف المداد أسجل هنا وقفات من وحي الحدث :


أولها :
أن الشيخ قدم لربه وهو أرحم به منا وهو محسن نرجو له ماعند الله من الخير وندعو الله أن يبلغه المنازل العالية وان يجمعه بمن أحبهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .

وثانيها : عن موت العلماء ثلمة ولا شك لكنها لا تبعث اليأس ولا القنوط ولكنها تبعث في نفوس المهتمين والمعنيين بشان الأمة التفكير الجاد في سد حاجتها بصنع العلماء الربانيين الذين يبلغون عن الله ورسوله .

وثالثها : ابن جبرين لمن يكن إبداعه وتميزه من فراغ ولكن بتوفيق ولجوء وتضرع وإنابة وأيضا جهود تضافرت لصنع المتميزين والأعلام المبدعين فوالده عبدالرحمن بن جبرين رحمه الله من أهل العلم وحمل هم ابنه في تربيته العلمية فعلمه بنفسه وأورده مجالس العلم على صغر فبلغه الله من الخير مناه في ابن هو مفخرته وله أجره ما انتفع بعلمه إلى يوم القيامه .

ابن جبرين خرج من بيت أب عظيم حمل هم ابن ليكون شامة وهامة وقامة وشيوخه علماء مخلصون كان من أبرز خلالهم عنايتهم بطلابهم خصوصاً المبدعين والموهوبين منهم وحين يحدثك ابن جبرين عن شيوخه العلامة عبدالعزيز الشثري أبوحبيب والعلامة محمد بن إبراهيم والعلامة عبدالعزيز بن باز رحمهم الله أجمعين تدرك عظم اثر أهل العلم الربانيين العاملين في بناء مدارس تحيي وتبقى بعد موتهم فلقد كان همهم إعداد وتخريج جيل من أهل العلم ويكفيهم ابن جبرين فخراً .

وهي ذكرى للقائمين على التعليم والتعليم العالي في مملكتنا الطاهرة وفي كل بلاد الإسلام أن يعنوا بالعلم الشرعي والرفع من قدره واستقطاب المبدعين والنابغين والنابهين وتفريغهم وتحفيزهم
وتذكير بوجوب عناية الأمة بحفظ العلم عبر كليات الشريعة المتخصصة بعيداً عن معايير سوق العمل فالعلم الشرعي ضرورة الأمة كالماء والهواء لا حاجة الوظيفة فقط و الواجب على الأمة العناية بالعلم لإخراج أجيال من أهل العلم المتميزين لمسيس حاجة الأمة لهم فهذا قدرها وهذا فخرها وهذا شرفها
كما أني اهمس بكلمة للمراكز والبرامج المعنية بالموهبة والموهوبين ورعايتهم فأقول ليكن من برامجكم برامج متميزة في العناية بطلبة العلم الشرعي ورعايتهم فمن الخلل أن يكون مفهوم الموهوب والموهبة لمن يجيد بعض الأمور الدنيوية - مع أهميتها – ويسلبها من أعظم ما يحتاجه الناس إليه في أمر دينهم برعاية ممن يحفظون للأمة دينها وعصمة أمرها .

وهو تذكير للمعنيين بشؤون المساجد أن يستشعروا دور المسجد في تعليم العلم الشرعي فمن المسجد انطلق العلم ومن جامعة المسجد تخرج سادة الدنيا فهو المحضن الأول للعلم , فيجب أن يكون الجهد والبذل مؤصلاً و مدروساً و مبرمجاً و مؤطراً ليكون المسجد هو الجامعة العلمية كما هو في عهد النبوة والخلافة الراشدة .
وتذكير للمحسنين وأهل المال ليتذكروا دورهم في الإنفاق في نشر العلم الشرعي وتفريغ طلابه وكفايتهم مؤونتهم وسكناكهم وإنشاء المدارس والكليات المتخصصة في العلم الشرعي والإيقاف عليها .

وأقول أخيراً لكل من أثنى على الشيخ وغبطه وخصوصاً الشباب : دونكم الطريق فهي سالكة وليست بحمد الله حكراً على أحد ، ارفعوا هممكم وجدوا في طلب العلم الشرعي فما تعبد متعبد لله بعد الواجبات بمثله .

رحم الله شيخنا فما وجدت في قلبي لوعة فراق لشيوخنا تماثل فراق ابي عبدالله بن باز مثل ما وجدتها في أبي محمد عبدالله بن جبرين ولكن حسبنا أنه ذهب إلى رب كريم اسال الله أن يغفر له ويرحمه ويعلي منزلته آمين .


د. عبدا لعزيز بن محمد بن إبر اهيم العويد
الأستاذ المشارك بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة القصيم
 



رحمك الله يا شيخي
تهاني بنت عبد الرحمن العواد
 

لا أعرف من أين أبدأ وكيف أصوغ العبارات مع العبرات، لكن عزاءي فقد حبيبي صلوات ربي وسلامه عليه الذي هون علي مصابي في شيخي ابن جبرين رحمه الله وجعل الفردوس الأعلى نزله.

بضع سنوات عشتها معه في دروسه وكأني رافقته في كل مسيرته الدنيوية...، أحقاً فقدنا ذلك الصوت الشجي الحاني؟!، كانت دروسه رحمه الله دروس من دروس من دروس، حضرت نفس الشروح لجمع من العلماء لم تكن كشروح شيخي رحمه الله؛ فهو يفتح نوافذاً من المعرفة، رابطاً الماضي بالحاضر، يستنتج ويقيس، تستشعر منه إخلاصاً في الأداء، وصدقاً في البلاغ، حتى الحوادث التي مرت به يُطلعنا عليها.

كثيرا ما تساءلنا في شروحه عن مبهمات تتعلق بعصرنا الحاضر تتوارد على أذهاننا أثناء شرحه كونها تتشابه في السببية، ولما نَهِمُّ بتدوينها لعرضها على الشيخ آخر درسه نجده يتعرض لها بتفصيل حكمها، فسبحان من ألهمه!.

من يعرف الشيخ يجده شديد الورع في فتاويه، مع قوة صدع في الحق لا يخاف في الله لومة لائم _نحسبه والله حسيبه_، مما جعل طلاب العلم يتهافتون على سؤاله عن دقيق المسائل وكبيرها ثقة في هذا العالم الورع.

في درسه ننهل من كل فن، لا نجد صعوبة في التنقل من متون العقيدة للفقه أو من المصطلح للنحو، نتابعه عبر النت وكأننا بينه، بل ربما قدم أسئلتنا على أسئلة الحضور عنده، كما أنه لا يجد تضجراً من تكرار السؤال في نفس المسألة، بل ربما أرسل أحدهم بعد إجابة الشيخ الطويلة بأن الاتصال لم يسعفه في سماع كامل الإجابة، فيعيدها الشيخ برحابة صدر وطول بيان

سبحان من نشر حبه في القلوب ووضع له القبول بين العباد، حتى كنا نبكي عند نهاية كل سلسة علمية أو دورة شرعية وكأنها آخر العهد بالشيخ لمّا اعتدنا مجالسه ودروسه.

رحمك الله يا شيخي ، لما وصلني خبر مرضه تذكرت الحادثة التي وصفها بأصعب موقف مر به، والمواقف كثيرة : لما داهم السيل منزله ، لم يحزن على ما تلف من الأثاث أو الجدران، بل اشتد حزنه على دفاتره التي غطاها الماء فأزال ما كتب فيها من علوم حَرِص على تدوينها بيده وفوائد جمعها من شيخه، كان أول ما سأل عنه بعد علمه بالسيل: \"أين دفاتري\" ؟!.

هذه نشأة طلاب العلم وكذا كان حرص المجتهدين ، ومن أراد أن يستزيد من قصته رحمه الله في المصابرة والجلد في طلب العلم ، فليراجع لقاء مع الشيخ بعنوان : \"قصتي في طلب العلم\" .

إن القلب ليحزن والعين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون، فاللهم آجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
 


الشيخ ابن جبرين في سطور

الاسم والنسب
هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم بن فهد بن حمد بن جبرين من آل رشيد وهم فخذ من عطية بن زيد وبنو زيد قبيلة مشهورة بنجد كان أصل وطنهم مدينة شقراء ثم نزح بعضهم إلى بلدة القويعية في قلب نجد وتملكوا هناك.


أسرته

هذه الأسرة منهم من له ذكر وأخبار على الألسن لكنها لم تدون في كتب التأريخ لقلة العناية بتلك الأخبار في زمنهم وقد اشتهر جده الرابع وهو حمد بن جبرين وكان في أواسط القرن الثالث عشر حيث آل إليه أمر القضاء والولاية والإمارة في مدينة القويعية وكان ذا منزلة ومكانة في قومه فهو خطيبهم وأميرهم وقاضيهم مع ما رزقه الله من السعة في العلم والمال وتملك الآبار وإحياء الموات كما تدل على ذلك وثائق الملكية التي تحمل اسمه وأسماء بنيه من بعده.
وقد أورث علما جما حيث كان له كتاب وعمال ينسخون الكتب الجديدة بالأجرة ولا يزال الكثير منها موجودا موقوفا عند بعض أحفاده ثم اشتهر بعده ابن ابنه إبراهيم بن فهد فتعلم العلم وأدرك الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ والشيخ عبد الله أبا بطين والشيخ حمد بن معمر وقرأ ونسخ وحفظ علما جما وأورث بعده مخطوطات تحمل اسمه منها ما نسخه بيده ومنها ما تملكه وقد تولى الإمامة والخطابة والإفتاء والتدريس وتعليم القرآن والحديث وتوفى في آخر القرن الثالث عشر وقام بعده ابنه عبد الله الذي حفظ القرآن وقرأ على أبيه وبعض علماء بلده وغيرهم وتولى الإمامة والخطابة والتعليم في قرية مزعل التابعة للقويعية .
وقد نسخ كتبا بيده أوقفها بعده ومات سنة 1344هـ وتولى الإمامة والخطابة بعده ابنه محمد بن عبد الله وكان قد قرأ على أبيه ورحل في طلب العلم وحفظ الكثير من المتون ونسخ بيده كتبا ومات سنة 1355هـ وأما والد المترجم له فهو أحد طلبة العلم وحفظة القرآن ولد سنة 1321هـ وتولى الإمامة بعد أخيه ثم انتقل إلى بلدة الرين لطلب العلم على قاضيها عبد العزيز الشثري المكنى بأبي حبيب وأقام هناك حتى ارتحل بعد وفاة الشيخ أبي حبيب إلى الرياض ومات سنة 1397هـ.


نشأته

ولد الشيخ عبد الله بن جبرين سنة 1352هـ في إحدى قرى القويعية ونشأ في بلدة الرين وابتدأ بالتعلم في عام 1359هـ وحيث لم يكن هناك مدارس مستمرة تأخر في إكمال الدراسة ولكنه أتقن القرآن وسنه اثنا عشر عاما وتعلم الكتابة وقواعد الإملاء البدائية ثم ابتدأ في الحفظ وأكمله في عام 1367هـ وكان قد قرأ قبل ذلك في مبادئ العلوم ففي النحو على أبيه قرأ أول الآجرومية وكذا متن الرحبية في الفرائض وفي الحديث الأربعين النووية حفظا وعمدة الأحكام بحفظ بعضها .
وبعد أن أكمل حفظ القرآن ابتدأ في القراءة على شيخه الثاني بعد أبيه وهو الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري المعروف بأبي حبيب وكان جل القراءة عليه في كتب الحديث ابتداء بصحيح مسلم ثم بصحيح البخاري ثم مختصر سنن أبى داود وبعض سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي .
وقرأ سبل السلام شرح بلوغ المرام كله وقرأ شرح ابن رجب على الأربعين المسمى جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم وقرأ بعض نيل الأوطار على منتقى الأخبار وقرأ تفسير ابن جرير وهو مليء بالأحاديث المسندة والآثار الموصولة وكذا تفسير ابن كثير وقرأ كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد وأتقن حفظ أحاديثه وآثاره وأدلته وقرأ بعض شروحه وقرأ في الفقه الحنبلي متن الزاد حفظا وقرا معظم شرحه .
وكذا قرأ في كتب أخرى في الأدب والتأريخ والتراجم واستمر إلى أول عام أربع وسبعين حيث انتقل مع شيخه أبي حبيب إلى الرياض وانتظم طالبا في معهد إمام الدعوة العلمي فدرس فيه القسم الثانوي في أربع سنوات وحصل على الشهادة الثانوية عام 1377هـ وكان ترتيبه الثاني بين الطلاب الناجحين البالغ عددهم أربعة عشر طالبا ثم انتظم في القسم العالي في المعهد المذكور ومدته أربع سنوات ومنح الشهادة الجامعية عام 1381هـ وكان ترتيبه الأول بين الطلاب الناجحين البالغ عددهم أحد عشر طالبا وعدلت هذه الشهادة بكلية الشريعة .
وفي عام 1388هـ انتظم في معهد القضاء العالي ودرس فيه ثلاث سنوات ومنح شهادة الماجستير عام 1390هـ بتقدير جيد جدا وبعد عشر سنين سجل في كلية الشريعة بالرياض للدكتوراه وحصل على الشهادة في عام 1407هـ بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف وأثناء هذه المدة وقبلها كان يقرأ على أكابر العلماء ويحضر حلقاتهم ويناقشهم ويسأل ويستفيد من زملائه ومن مشائخهم في المذاكرة والمجالس العادية والبحوث العلمية والرحلات والاجتماعات المعتادة التي لا تخلو من فائدة أو بحث في دليل وتصحيح قول ونحوه.


الحالة الاجتماعية

تزوج بابنة عمه الشقيق رحمها الله وذلك في آخر عام 1370هـ ومع قرابتها كانت ذات دين وصلاح ونصح وإخلاص بذلت جهدها في الخدمة والقيام بحقوق ربها وبعلها وتوفيت عام 1414هـ .
وقد رزق منها اثني عشر مولودا من الذكور والإناث مات بعضهم في الصغر والموجود ثلاثة ذكور وست إناث وقد تزوج جميعهم وولد لأغلبهم أولاد من البنات والبنين ولا يزالون يغشون أباهم ويخدمونه ويقومون بالحقوق الشرعية والآداب الدينية، أما الوضع المنزلي فقد كان في أول الأمر تحت ولاية والده فكان يخدمه ويقوم بما قدر عليه من بره وأداء حقه في نفسه وماله ولا يستبد بكسب ولا يختص بمال.
ولما انتقل إلى الرياض وانتظم في معهد إمام الدعوة العلمي وكان يدفع له مكافأة شهرية فكان يدفع ما فضل عن حاجته لوالده الذي ينفق على ولده وولد ولده وبعد ثلاث سنين اضطر إلى إحضار زوجته وأولاده واستئجار منزل صغير وتأثيثه والنفقة عليهم فكانت المكافأة تكفي لذلك رغم قلتها لكن مع الاقتصار على الحاجات الضرورية وبقي يستأجر منزلا بعد منزل لمدة ثماني سنين فبعدها أعانه الله على شراء بيت من الطين والخشب القوي فهناك استقر به النوى حيث قام فيه سبعة عشر عاما يعيش في وسط من الحال لا إسراف فيه ولا تقتير ولم يتوسع في الكماليات والمرفهات لقلة ذات اليد ثم في عام 1402هـ انتقل إلى منزله الحالي الذي أقامه بمساعدة بنك التنمية العقارية وعاش فيه كما يعيش أمثاله في هذه الأزمنة.


عقيدته

أما العقيدة والمذهب فقد نشأ على معتقد سليم تلقاه عن الآباء والأجداد والمشايخ العلماء المخلصين فتعلم عقيدة أهل السنة والجماعة والسلف الصالح، فقرأ وحفظ ما تيسر من كتب العقائد كالواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وتلقى شرحها من مشائخه الذين تعلم منهم العلوم الشرعية فكانوا يفسرون غريبها ويوضحون المعاني ويبينون الدلالات من النصوص.
وقد نهج والحمد لله منهج مشايخنا في تدريس كتب العقيدة السلفية فقرأ عليه التلاميذ الكثير من كتب العقائد المختصرة والمبسوطة كشروح الواسطية للهراس ولابن سلمان ولابن رشيد وشرح الطحاوية ولمعة الاعتقاد وشروح كتاب التوحيد وكذا الكتب المبسوطة لشيخ الإسلام وابن القيم وحافظ الحكمي وغيرهم ممن كتب في العقيدة وناقش الأدلة وتوسع في سردها.
وكان في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة يدرس كتب العقيدة ويشرف على البحوث والرسائل التي تقدم للجامعة في هذا القسم ويشترك في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه ويرشد الطلاب إلى المراجع المفيدة في الموضوع ولا زال إلى الآن يشرف على كثير من الرسائل وعلى اتصال بالجامعة زيادة على الطلاب الراغبين في هذه الدراسة .
أما المذهب في الفروع فإن مشايخه الذين درس عليهم الفقه كانوا متخصصين في مذهب أحمد بن حنبل، لا يخرجون عنه غالبا وقد اقتصر عليه وأكثر من قراءة كتب الحنابلة والتعليق عليها ومعلوم أن مذهب أحمد هو أوسع المذاهب لكثرة الروايات فيه التي توافق المذاهب الأخرى غالبا فمن قرأ هذا المذهب وتوغل فيه أحاط بأكثر المذاهب ما عدى الافتراضات ونوادر المسائل التي يفترض الفقهاء وجودها فلا أهمية لدراستها فمتى وقعت أمكن معرفة حكمها بإلحاقها بأقرب ما يشابهها.


شيوخه

أما الشيوخ والعلماء الذين تتلمذ عليهم فأولهم والده رحمه الله تعالى فقد بدأ بتعليمه القراءة والكتابة في عام 59 هـ وكان رحمه الله من طلبة العلم وأهل النصح والإخلاص والمحبة وقد أفاد كثيرا بحسن تربيته وتلقينه وحرصه على التلاميذ ليجمعوا بين العلم والعمل.
وقد توفي سنة 1397هـ ومن أكبر المشايخ الذين تأثر بهم شيخه الكبير عبد العزيز بن محمد أبو حبيب الشثري الذي قرأ عليه أكثر الأمهات في الحديث وفي التفسير والتوحيد والعقيدة والفقه والأدب والنحو والفرائض وحفظ عليه الكثير من المتون وتلقى عنه شرحها والتعليق على الشروح.
وكان بدء الدراسة عليه عام 1367هـ حتى توفي عام 1397هـ بالرياض رحمه الله تعالى ولكن قلت القراءة عليه بعد التخرج للانشغال والتدريس ونحوه.
ومن العلماء الذين قرأ عليهم واستفاد من مجالستهم فضيلة الشيخ صالح بن مطلق الذي كان إماما وخطيبا في إحدى القرى بالرين ثم قاضيا في حفر الباطن ثم تقاعد وسكن الرياض ومات سنة 1381هـ وكان ضرير البصر ولكن وهبه الله الحفظ والفهم القوي فقل أن يجالسه كبير أو صغير إلا استفاد منه وقد قرأ عليه بعض الكتب في العقيدة والحديث وحضر مجالسه التي يتعدى فيها الأكابر والعلماء ويأتي بالعجائب والغرائب.
وبالجملة فهو أعجوبة زمانه رحمه الله وأكرم مثواه، ومن أشهر المشايخ الذين قرأ عليهم وتابع دروسهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وهو غني عن التعريف به وقد تلقى عليه مع التلاميذ دروسا نظامية عندما افتتح معهد إمام الدعوة في شهر صفر عام 1374هـ وتولى تدريس القسم الذي كان المترجم معهم في أغلب المواد الشرعية كالتوحيد والفقه والحديث والعقيدة فدرس في الحديث بلوغ المرام مرتين في القسم الثانوي والقسم العالي وفي الفقه متن زاد المستقنع وشرحه الروض المربع مرتين أيضا بتوسع غالبا في شرح كل جملة وهم يتابعون ويكتبون الفوائد المهمة.
وفي التوحيد والعقيدة قرأ كتاب التوحيد وشرحه فتح المجيد وكتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ومتن العقيدة الحموية والعقيدة الواسطية له أيضا وشرح الطحاوية لابن أبي العز وغيرها وقد استمر سماحته في التدريس لهم حتى أنهوا القسم العالي في آخر سنة 1381هـ حيث توقف عن التدريس الرسمي وانشغل بالإفتاء ورئاسة القضاء حتى توفي عام 1389هـ في رمضان رحمة الله تعالى عليه.
وقرأ في الدراسة النظامية على جملة من العلماء كالشيخ إسماعيل الأنصاري في التفسير والحديث والنحو والصرف وأصول الفقه وذلك من عام 1375هـ حتى التخرج والشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد في الفرائض لمدة ثلاث سنوات ودرس عليه أيضا في مرحلة الماجستير مادة الفقه عام 1388هـ وكان رحمه الله من فقهاء البلد وله مؤلفات مشهورة منها عدة الباحث بأحكام التوارث ومنها التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية وهو أول الشروح الوافية لهذه العقيدة.
وقرأ أيضا على الشيخ حماد بن محمد الأنصاري والشيخ محمد البيحاني والشيخ عبد الحميد عمار الجزائري في علوم وفنون متعددة وفي مرحلة الماجستير قرأ على الكثير من كبار العلماء كسماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد المتوفى سنة 1402هـ في الفقه طرق القضاء وحضر مجالسه منذ أن قدم الرياض واستفاد منه كثيرا في الأحكام والقصص والعبر والتأريخ والنصائح كما هو مشهور بذلك وقرأ على الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - وهو مشهور ومن كبار العلماء .
وقد تتلمذ عليه واستفاد منه جمع غفير في هذه البلاد من القضاة والمدرسين والدعاة وغيرهم وهو ممن فتح الله عليه وألهمه من العلوم ما فاق به الكثير من علماء هذا الزمان وقد توغل في التفسير والاستنباط من الآيات وكذا في الحديث ومعرفة الغريب منه وكذا في العلوم الجديدة وأهلها.
وكذا الشيخ مناع خليل القطان - رحمه الله - الذي درسهم في تلك المرحلة في مادة التفسير بتوسع وإيضاح وقد استفادوا كثيرا من مجالسته ومحاضراته حيث يأتي بفوائد كثيرة مستنبطة من الآيات أو الأدلة وله مؤلفات عديدة في فنون متنوعة وكذا الشيخ عمر بن مترك رحمه الله تعالى وكان من أوائل حملة الدكتوراه من السعوديين وقد قرأ عليه في مادة الفقه والحديث والتفسير .
وكان شديد العناية بالأدلة والتعليلات وله معرفة تامة بالمعاملات المتجددة ويتوسع في الكلام حولها وقد استفاد منه كثيرا، ومنهم الشيخ محمد عبد الوهاب البحيري - رحمه الله - مصري الجنسية تولى التدريس في الحديث وكان يتوسع في الشرح وذكر المسائل الخلافية ويحرص على الجمع والترجيح فأفاده في كثير من المواضع المهمة ومنهم محمد الجندي - رحمه الله - مصري أيضا ولم يقم إلا بعض سنة حتى مرض فرجع إلى مصر وتوفي هناك رحمه الله ومنهم محمد حجازي - رحمه الله - صاحب التفسير الواضح ومنهم طه الدسوقي العربي - رحمه الله - مصري أيضا وكان ذا معرفة واسعة واطلاع وحفظ مع فصاحة وبيان وآخرون سواهم.
وقد استفاد أيضا من مشايخ آخرين دراسة غير نظامية وأشهرهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- الذي لازمه في أغلب الحلقات التي يقيمها في الجامع الكبير بالرياض بعد العصر وبعد الفجر والمغرب بحيث يحضره العدد الكثير ويدرس في فنون منوعة من المتون والشروح المؤلفات ويعلق على الجمل ويوضح المسائل وينبه على الأخطاء ومنهم الشيخ محمد بن إبراهيم المهيزع - رحمه الله - وهو من المدرسين والقضاة وكان يقيم دروسا في مسجده وفي منزله ويستفيد منه الكثير ومنهم الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن هويمل أحد قضاة الرياض قرأ عليه في المسجد وغيره وإن كان قليل التعليق لكنه يفيد على الأخطاء ويوضح بعض المسائل الخفية وفي آخر حياته ثقل سمعه واشتد مرضه ثم توفي رحمه الله تعالى في عام 1415هـ وقد استفاد أيضا من الزملاء والجلساء الذين سعد بالاقتران بهم وقت الدراسة ووفق بالقراءة معهم والمذاكرة في أغلب الليالي وفي أيام الاختبارات ومنهم الشيخ فهد بن حمين الفهد والشيخ عبد الرحمن محمد المقرن رحمه الله والشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن فريان والشيخ محمد بن جابر - رحمه الله - وغيرهم ممن سبقوه بالقراءة على المشايخ وتعلموا كثيرا مما فاته فأدركه بواسطتهم فكان يقرأ عليهم الشرح ويتلقى إصلاح بعض الأخطاء اللغوية والبحث في المسائل الخلافية ومعرفة الكتب المفيدة في الموضوع وكيفية العثور على المسألة في الكتب المتقاربة في الفقه الحنبلي وكذا معرفة طرق الاستفادة من كتب اللغة واختصاص كل كتاب بنوع من المواضيع ونحو ذلك مما يفوت من يقرأ بمفرده فلذلك ينصح المبتدئ أن يقترن في المذاكرة والاستفادة بمن هم أقدم منه في الطلب ليضم ما عندهم إلى ما عنده.
وقد ذكرنا أن أقدم هؤلاء المشايخ هو الشيخ عبد العزيز الشثري رحمه الله وقد بالغ في الثناء عليه ولما انتقل إلى الرياض عام 1374هـ استصحبه معه وذكر لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى بعض ما قرأ عليه وما وصل إليه مما جعل الشيخ يجعله مع أعلى التلاميذ عند تقسيمهم إلى سنوات في معهد إمام الدعوة العلمي وكان من آثار إعجابه أن طلبه ذلك العام لتولي القضاء ولكنه اعتذر بالدراسة والشوق إليها فعذره.


الأعمال التي تقلدها

أولها أن بعث مع هيئة الدعاة إلى الحدود الشمالية في أول عام 1380هـ بأمر الملك سعود وإشارة لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ورئاسة الشيخ عبد العزيز الشثري رحمهم الله تعالى مع بعض المشائخ ولمدة أربعة أشهر ابتداء من حدود الكويت على امتداد حدود العراق وحدود الأردن وحدود المملكة شمالا وغربا وكثير من مناطق المملكة وقاموا بالدعوة والتعليم وتوزيع النسخ المفيدة في العقيدة وأركان الإسلام حيث إن أغلب السكان من البوادي عاشوا في جهل عميق فهم لا يعرفون إلا اسم الإسلام والصلاة والصيام ونحو ذلك ويجهلون الواجبات وما تصح به الصلاة ويقعون في الكثير من وسائل الشرك وأنواعه وقد بذلت الهيئة جهدا في تعليمهم ونفع الله الكثير ممن أراد به خيرا .
ثم تعين مدرسا في معهد إمام الدعوة في شعبان عام 1381هـ إلى عام 1395هـ قام فيه بتدريس الكثير من المواد كالحديث والفقه والتوحيد والتفسير والمصطلح والنحو والتأريخ وكتب مذكرات على أحاديث عمدة الأحكام بذكر الموضوع والمعنى الإجمالي وشرح الغريب وذكر الفوائد وكذا مذكرات على مواد الفقه والتوحيد والمصطلح لا يزال الكثير منها محفوظا عند الطلاب أو في المعاهد العلمية ثم في عام 1395هـ انتقل إلى كلية الشريعة بالرياض وتولى تدريس التوحيد للسنة الأولى وهو متن التدمرية وكتب عليه تعليقات كفهرس للمواضيع وعنوان للبحوث وكذا درس أول شرح الطحاوية.
ثم في عام 1402هـ انتقل إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد باسم عضو إفتاء وتولى الفتاوى الشفهية والهاتفية والكتابة على بعض الفتاوى السريعة وقسمة المسائل الفرضية وبحث فتاوى اللجنة الدائمة التي يناسب نشرها وقراءة البحوث المقدمة للمجلة فيما يصلح للنشر وما لا يصلح ومازال هكذا حتى الآن وقد انتهت مدة خدمته في دار الإفتاء.
أما الأعمال الأخرى فقد تعين إماما في مسجد آل حماد بالرياض في شهر شوال عام 1389هـ حتى هدم المسجد وهدم الحي كله في عام 1397هـ وبعد عامين عين خطيبا احتياطيا يتولى الخطبة عند الحاجة ومازال كذلك إلى الآن حيث يقوم بخطبة الجمعة وصلاتها في الكثير من الجوامع عند تخلف الخطيب أو قبل تعيينه وقد يستمر في أحد الجوامع أشهرا أو سنوات ويتولى صلاة العيد في بعض المناسبات.
ويقوم أيضا متبرعا بالتدريس في المساجد ابتداء بدرس الفرائض في عام 1387هـ لعدد قليل ثم بتدريس التوحيد والأصول الثلاثة وكشف الشبهات والعقيدة الواسطية ونحوها لعدد كثير في مسجد آل حماد في آخر عام 1389هـ.
وقد حصل إقبال شديد على تلك الحلقات وكان أغلب الطلاب من مدرسة تحفيظ القرآن الذين توافدوا من جنوب المملكة ومن اليمانيين الوافدين لأجل التعلم وقد أقام تلك الدروس بعد الفجر أكثر من ساعة أو ساعتين وبعد الظهر كذلك وبعد العصر غالبا وبعد المغرب إلى العشاء واستمر ذلك حتى هدم المسجد المذكور حيث نقلت الدروس إلى مسجد الحمادي حيث توافد إليه الطلاب كثرة في أغلب الأوقات للدراسة في العلوم الشرعية كالحديث والتوحيد والفقه وأصوله والمصطلح وغيرها.
ثم في عام 1398هـ رغب إليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أن يقوم في غيبته بالصلاة في الجامع الكبير كإمام للصلوات الخمس فقام بذلك وكان يتولى الصلاة بهم إماما كل وقت ماعدا خطبة الجمعة وصلاتها ومن ثم نقلت الدروس إلى مسجد الجامع الكبير والذي عرف بعد ذلك بجامع الإمام تركي بن عبد الله رحمه الله وفي حالة حضور سماحة الشيخ يقوم بصلاة العشائين هناك وإلقاء الدروس بينهما وبقية الأوقات ويلقي الدروس في مسجد الحمادي بعد العصر والمغرب وبعد الفجر غالبا .
ثم في عام 1398هـ رغب إليه بعض الشباب في درس بعد العشاء في المنزل يتعلق بالعقيدة فلبى طلبهم وابتدأ بالعقيدة التي كتبها الشيخ ابن سعدي وطبعت في مقدمة كتابه القول السديد وقد كثر عدد الطلاب وتوافدوا من بعيد ولم يزالوا إلى الآن.
وقد انتقل عام 1402هـ إلى منزله الحالي في السويدي فنقل الدرس هناك في ليلتين من كل أسبوع وقد قرأوا في هذه المدة نظم سلم الوصول وشرحه معارج القبول في مجلدين ورسالة الشفاعة للوادعي وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وشرح ثلاثة الأصول له كما قرأوا في الفقه نظم الرحبية في المواريث ومنار السبيل شرح الدليل لابن ضويان حتى كمل والحمد لله.
ولما ضاق المنزل نقلوا الدرس إلى المسجد المجاوره ويعرف بمسجد البرغش كما نقل فيه الدروس الأسبوعية بعد الفجر وبعد المغرب أي بعد هدم المسجد الكبير عام 1408هـ وقد قرأوا في هذه الأوقات كثيرا من الأمهات كالصحيحين وشرح الطحاوية وشرح الواسطية لابن سلمان ولابن رشيد وبعض زاد المعاد وجميع بلوغ المرام وزاد المستقنع وبعض سنن أبي داود والترمذي وموطأ مالك ورياض الصالحين وبعض نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار وبعض سنن الدارمي وترتيب مسند الطيالسي وشرح كامل منتقى الأخبار لأبي البركات وكتاب الدين الخالص لصديق حسن خان وفي المصطلح متن نخبة الفكر ومتن البيقونية وفي النحو متن الآجرومية وبعض ألفية ابن مالك وفي أصول الفقه متن الورقات لإمام الحرمين وغير ذلك من المتون والشروح الكثيرة.
وفي عام 1382هـ أسس بعض المحسنين مدرسة خيرية أسموها (دار العلم) فأقبل إليها العدد الكثير من الطلاب صغارا وكبارا وتولى المترجم له فيها التدريس في المواد الدينية كالحديث والتوحيد والفقه حسب مدارك الطلاب وأقام الشباب فيها ناديا أسبوعيا يستمر بعد العشاء ليلة كل جمعة لمدة ساعتين يحضره غالبا ويلقى فيه بعض الكلمات ويجيب على الأسئلة الدينية والاجتماعية.
وفي عام 1398هـ قام فيها بدرس أسبوعي يحضره العدد الكثير واستمر حتى هذا العام حيث نقل إلى أقرب مسجد هناك حولها ولا يزال وقد أكملوا فيه قراءة الصحيحين وابتدأوا في سنن الترمذي وتولى القراءة عليه فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد الله بن غيث وشاركه في أول الأمر الشيخ الدكتور محمد بن ناصر السحيباني حتى انتقل إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة.
ثم خلفه الشيخ الدكتور فهد السلمة حتى انشغل بالتدريس في كلية الملك فهد الأمنية والطريقة أن يقرأ الباب ثم يشرحه بإيضاح مقصد المؤلف وبيان ما تدل عليه الأحاديث وفي حدود عام 1403هـ رغب إليه بعض الشباب من سكان حي العليا أن يلقى عندهم درسا أسبوعيا في العقيدة ودرسا في الحديث فابتدأ الدرس في مسجد متوسط في الحي أشهرا ثم انتقلوا إلى مسجد الملوحي مدة طويلة ثم إلى مسجد السالم حيث استمر الدرس فيه سنوات ثم انتقل بهم إلى مسجد الملك عبد العزيز ثم إلى جامع الملك خالد وقد أكملوا في هذه المدة متن لمعة الاعتقاد والعقيدة الواسطية وكتاب التوحيد ومتن التدمرية وبعض بلوغ المرام وشرح عمدة الفقه قسم العبادات وبعض الروض المربع قراءة وشرحا .
وفي عام 1409هـ رغب إليه بعض الأخوان أن يقرر درسا أسبوعيا في مسجد سليمان الراجحي بحي الربوة قراءة وشرحا وذلك أن المسجد مشهور ويحيط به أحياء واسعة مكتظة بالسكان المحبين للعلم فلبى طلبهم وابتدأ في شرح الطحاوية فأكمله وفي عمدة الأحكام في الحديث فأكملها وفي كتاب السنة للخلال ثم كتاب السنة لعبد الله بن أحمد ولا يزال يقرأ فيه ويتولى القراءة غالبا إمام المسجد صالح بن سليمان الهبدان أو مؤذن المسجد ويختم الدرس قرب الإقامة بالإجابة على أسئلة مقدمة من الحاضرين ويتكاثر العدد في هذا الدرس فربما زادوا على الخمسمائة ولا يتوقف إلا في أيام الاختبارات ثم يستأنف بعدها .
وفي عام 1409هـ رغب إليه سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- أن يلقي درسا في مسجد سوق الخضار بعتيقة لكثرة من يصلي فيه فلبى رغبته وأقام فيه درسا أسبوعيا لكن إنما يحضره القليل من الطلاب لانشغال أهل الأسواق بتجارتهم واستمر هذا الدرس في الفقه والتوحيد كما أنه في هذه السنين يقوم غالب الأسابيع بإلقاء محاضرات في مساجد الرياض النائية التي يكثر فيهاالمصلون ولا يلقى فيها دروس فيتواجد العدد الكثير غالبا في المحاضرة التي تتعلق بالعبادات والمعاملات وما يحتاج إليه الناس ويشترك أيضا في الندوات التي تقام أسبوعيا في المسجد الجامع الكبير المعروف بجامع الإمام تركي والتي ابتدأت من أكثر من عشرين عاما ويعلق عليها غالبا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- والآن يعلق عليها سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله.
ولما أقيم مسجد عبد الله الراجحي في شبرا بالسويدي ناسب أن تجمع فيه الدروس التي كانت متفرقة في المساجد بعد الفجر وبعد المغرب وبعد العشاء أغلب الأيام وأقيم حوله سكن للطلاب المتغربين.
وهناك أعمال أخرى قام بها منها التدريس في المعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وذلك في عام 1408هـ حيث أسند إليه درس الفقه للسنة الأولى ويسمى السياسة الشرعية وهو ما يتعلق بالمعاملات وأحكام التبادل بمعدل درسين في الأسبوع وفي نهاية العام وضع أسئلة الاختبار وصحح الأجوبة كالمعتاد .
ثم في العام بعده قام بهذا الدرس ومعه درس آخر للسنة الثانية ويعرف بالأحوال الشخصية وله ثلاث حصص كل أسبوع وطريقة الإلقاء اختيار جمل من الكتاب المقرر وذكر ما فيها من الخلاف وسرد أدلة الأقوال مع الجمع والترجيح ووجه الاختيار .
وفي السنة بعدها اقتصر على الدرس الأول وهو السياسة الشرعية ثم توقف بعدها عن هذا التدريس (ومنها) الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه التابعة للجامعة المذكورة وذلك طوال هذه السنين أي بعد الانتقال من الجامعة إلى رئاسة البحوث العلمية كما سبق لم يتخل عن أعمال الجامعة وذلك في كل عام يلتزم بالإشراف على ثلاث رسائل أو أربع يقوم بتوجيه الطالب وإرشاده إلى مراجع البحث في الأمهات حسب علمه ويقرأ ما يقدمه كل شهر من بحثه ويبين ما فيه من خطأ ونقص ويجتمع به غالبا كل أسبوع أو نحوه ويرفع عنه للجامعة تقريرا عن سيره وما يعوقه وفي النهاية يكتب عن رسالته ومدى صلاحيتها للتقديم ويحضر عند المناقشة وتقويم الرسالة .
كما يقوم أيضا بمناقشة بعض الرسائل المقدمة للجامعة كعضو فيها ويبدى ما لديه من الملاحظات ويحضر تقويم الرسالة كالمعتاد (ومنها) القيام بالدعوة داخل المملكة بإلقاء محاضرات أو خطب أو إجابة على الأسئلة وذلك كل شهر أو شهرين حيث يزور البلاد القريبة من الرياض فيلقي محاضرة في معهد أو مركز صيفي وفي مسجد جامع ويجتمع بالأهالي ويبحث معهم في مشاكل البلاد وعلاجها وقد تستمر الرحلة أسبوعا أو أكثر للتجول في البلاد النائية وزيارة بعض الدوائر الحكومية للمناصحة والإرشاد فيلقى تقبلا وتشجيعا وترغيبا في الاستمرار وقد تكون الزيارة رسمية وتحدد المدة من مركز الدعوة أو إدارة الدعوة في الداخل (ومنها) الاشتراك في التوعية في الحج وذلك زمن أن كان تبع الجامعة حتى عام 1403 هـ وذكر منافع الحج والعمرة وإيضاح الأهداف من هذه الأعمال وتفقد آثارها بعد انقضائها والإجابة على الأسئلة التي تتعلق بالمقام وذلك لمدة شهر كامل.
وقد تعذر عليه الاشتراك في هذا بعد الالتحاق بالرئاسة بسبب الإقامة في المكتب للحاجة الماسة إليه هناك وقام في السنوات الأخيرة بالحج مع بعض الحملات الداخلية التي تجمع حجاجا من الرياض وكان يتولى معهم الإجابة على الأسئلة وإلقاء كلمات توجيهية كل يوم مرة أو مرتين ويقوم بزيارة بعض الحملات الأخرى في الموسم فيفرحون بذلك العمل.


مؤلفاته

أولها البحث المقدم لنيل درجة الماجستير في عام 1390هـ (أخبار الآحاد في الحديث النبوي) وقد حصل على درجة الامتياز رغم إنه كتبه في مدة قصيرة ولم تتوفر لديه المراجع المطلوبة وقد طبع عام 1408هـ في مطابع دار طيبة ثم أعيد طبعه مرة أخرى وهو موجود مشهور ولم يتيسر له التوسع فيه قبل طبعه لاحتياجه إلى مراجعة وتكملة .
وقد حمله على الكتابة فيه محبة الحديث وفضله وما رآه في كتب المتكلمين والأصوليين من عدم الثقة بخبر الواحد سيما إذا كان متعلقا بعلم العقيدة وقد رجح قبوله في الأصول كالفروع.
وفي عام 1398هـ كلف بكتابة تتعلق بالمسكرات والمخدرات لتقديمها للمؤتمر الذي عقدته الجامعة الإسلامية في ذلك العام فكتب بحثا بعنوان (التدخين مادته وحكمه في الإسلام) وهو بحث متوسط وفيه فوائد وأحكام زائدة على ما كتبه الآخرون وقد أعجب به المشايخ المشاركون في موضوع الدخان وقد طبعته مطابع دار طيبة عدة طبعات وهو مشهور متداول وإن كان مختصرا لكن حصل به فائدة لمن أراد الله به خيرا .
وفي عام 1402هـ رفع إليه كلام لبعض علماء مصر ينكر فيه إثبات الصفات ويرد الأدلة ويتوهم إنها توقع في التشبيه وكذا يميل إلى الشرك بالقبور ويمدح الصوفية وقد لخص كلامه بعض الأخوان في أربع صفحات وأرسلها لمناقشتها فكتب عليه جوابا واضحا وتتبع شبهاته وبين ما وقع فيه من الأخطاء بعبارة واضحة ومناقشة هادئة وطبع ذلك البحث في مجلة البحوث الإسلامية العدد التاسع ثم أفرده بعض الشباب بالطبع في رسالة مستقلة بعنوان (الجواب الفائق في الرد على مبدل الحقائق) وهو موجود متداول طبعته مؤسسة آسام للنشر وكتب أيضا مقالا يتعلق بمعنى الشهادتين وما تستلزمه كل منهما وطبع في مجلة البحوث العدد السابع عشر ثم أفرده بعض التلاميذ بالطبع بعنوان (الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما) وطبع في عام 1410هـ في مطابع دار طيبة في 90صفحة من القطع الصغير وقد التزم فيه وفي غيره العناية بالأحاديث للاستدلال بها وتخريجها مع ذكر درجتها باختصار.
وفي عام 1391هـ قام بتدريس متن لمعة الاعتقاد لابن قدامة لطلاب معهد إمام الدعوة العلمي وكتب عليها أسئلة وأجوبة مختصرة تتلاءم مع مقدرة أولئك الطلاب في المرحلة المتوسطة ومع ذلك فإنها مفيدة لذلك رغب بعض الشباب القيام بطبعها فطبعت بعنوان (التعليقات على متن اللمعة) عام 1412هـ في مطبعة سفير والناشر دار الصميعي للنشر والتوزيع وقد وقع فيها أخطاء تبع فيها ظاهر المتن والأدلة وقد أعيد طبعها مع إصلاح بعض الأخطاء.
وقد قام فيها بتخريج الأحاديث التي استشهد بها ابن قدامة تخريجا متوسطا حسب مدارك التلاميذ وفي عام 1399هـ سجل في كلية الشريعة لدرجة الدكتوراه واختار (تحقيق شرح الزركشي على مختصر الخرقي) وهو أشهر شروحه التي تبلغ الثلاثمائة بعد المغني لابن قدامة واقتصر في الرسالة على أول الشرح إلى النكاح دراسة وتحقيقا ونوقشت الرسالة كما تقدم ثم كمل تحقيق الكتاب وطبع في مطابع شركة العبيكان للنشر والتوزيع في سبعة مجلدات كبار وتم توزيعه وبيعه في أغلب المكتبات الداخلية وهو موجود متداول والحمد لله.
وقد اعتنى في هذا الشرح بتخريج الأحاديث والآثار الكثيرة التي يوردها الشارح وقام بترقيمها فبلغ عددها كما في آخر المجلد السابع 3936 وإن كان فيه بعض التكرار القليل وقد بذل جهدا في هذا التخريج بمراجعة الأمهات وكتب الأسانيد التي تيسرت له للرجوع إليها وهي أغلب المطبوعات وذكر رقم الحديث إن كان الكتاب مرقما أو الجزء والصفحة وذكر اختلاف لفظ الحديث إن كان مغايرا لما ذكر الشارح وذكر من صحح الحديث من المتقدمين أو ضعفه كالترمذي والحاكم والذهبي وابن حجر والهيثمي وإن كان في أحد الصحيحين لم يذكر ما قيل فيه للثقة بهما.
وحيث إنه بدأ دراسته في الصغر بكتب الحديث كما تقدم فقد أورث ذلك له شوقا إلى كتابة الحديث فحرص على اقتناء الكتب القديمة التي يهتم مؤلفوها بالأحاديث النبوية ويوردونها بأسانيدها المتصلة كما أحب كل ما يتعلق بالحديث من كتب المصطلح وعلل الحديث وكتب الجرح والتعديل ونحوها وذلك أن هذا النوع هو الدليل الثاني للشريعة أي بعد كتاب الله تعالى ولأن علماء الأمة أولوه عناية تامة حتى قال بعضهم إن علم الحديث من العلوم التي طبخت حتى نضجت ولأن هناك من أدخل فيه ما ليس منه برواية أحاديث لا أصل لها من الصحة فقد قيض الله لها نقادها من العلماء الذين وهبهم الله من المعرفة بالصحيح والضعيف ما تميزوا به على غيرهم وقد عرفنا بذلك جهدهم وجلدهم وصبرهم على المشقة والسفر الطويل والتعب والنفقات الكثيرة مما حملهم عليه الحرص على حفظ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتنقيتها مما ليس منها.
وقد يسر الله في زماننا هذا طبع هذه الكتب وفهرستها وتقريبها بحيث تخف المؤنة ويسهل تناول الكتاب ومعرفة مواضع البحوث بدون تكلفة والحمد لله، هذا وقد كان ألقى عدة محاضرات في مواضيع متعددة وتم تسجيلها في أشرطة ثم إن بعض التلاميذ اهتم بنسخها وإعدادها للطبع وقد تم طبع رسالتين الأولى بعنوان (الإسلام بين الإفراط والتفريط) في 59 صفحة والثانية بعنوان (طلب العلم وفضل العلماء) في 51 صفحة وكلاهما طبع عام 1313هـ في مطبعة سفير والناشر دار الصميعي للنشر والتوزيع وأما التسجيل فإن التلاميذ قد أولوه عناية شديدة وذلك بتتبع الدروس والمحاضرات وتسجيلها في أشرطة ثم الاحتفاظ بها ومن ثم نسخ ما تيسر منها للتداول وللطبع وقد سجل شرح زاد المستقنع وشرح بلوغ المرام وشرح الورقات في الأصول وشرح البيقونية في المصطلح وشرح منار السبيل في الفقه وشرح الترمذي وثلاثة الأصول ومتن التدمرية وغيرها كثير، ويباع كثير من الأشرطة في التسجيلات الإسلامية في الرياض وغيرها. وقد فرغ كثير منها وطبع بعناوين متعددة تتعلق بالصيام والحج والصلاة والزكاة وغيرها.
أما الكتابات السريعة فكثيرة فإن هناك العديد من الطلاب يحرصون على تحصيل جواب مسألة أو فتوى في مشكلة ويرفعونها إليه وبعد كتابة الجواب وتوقيعه ينشرونه في المساجد والمكاتب والمدارس فيتداول ويحصل له تقبل وفائدة محسوسة لثقتهم بالكاتب كما أن الكثيرين من الشباب الذين أعطوا موهبة في العلم إذا كتب أحدهم رسالة أو كتيبا رغب إليه أن يكتب له مقدمة أو تقريظا فيصرح باسمه في عنوان الرسالة ويكون ذلك أدعى لروجانه والإقبال عليه والاستفادة وهناك من العلماء من يساهم في بث تلك النشرات التي لها مسيس ببعض الأوقات كالمخالفات في الصلاة وأحوال الاقتداء بالإمام والمخالفات في الصيام وفي الحج وأعمال عشر ذي الحجة والمقال في التيمم ومتى يرخص فيه ونحوها فتطبع في مواسمها ويوزع منها ألوف كثيرة رجاء الانتفاع بها.
وهناك من العلماء من أخذ تلك النشرات وأودعها بعض مؤلفاته كالشيخ عبد الله بن جار الله -رحمه الله- وغيره ممن كتبوا في تلك المواضيع وضمنوها بعض ما كتبه المترجم له للاستفادة، وأما العلماء الأكابر فإن المناقشين لرسالة أخبار الآحاد بعد إقرارها كتبوا عنها تقريرا مفيدا يمكن الحصول عليه من المعهد المذكور حيث كتبوه عام 1390هـ وهكذا الذين ناقشوا كتاب شرح الزركشي وهم الشيخ صالح بن محمد اللحيدان والشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مع المشرف الدكتور عبد الله بن علي الركبان فقد قرروا الكتاب الذي ناقشوه من أول الشرح إلى النكاح وكتبوا عنه صلاحيته للنشر وحرص الأكثر على الحصول عليه قبل طبعه وتقبله أكابر العلماء وأقروا العمل الذي قام به تجاهه ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وسائر هيئة كبار العلماء ويمكن مراجعتهم لتقييمها وما لوحظ عليها وما تميزت به ولم يعرف أحد أبدى انتقادا لما نهجه في هذه الكتب المتعلقة بالحديث والمصطلح.
أما المنهج فقد سلك في تحقيق الزركشي الخطة التي رسمت في المخطط والموجود في المقدمة وقد حرص على البحث عن الأحاديث وأنها التي يستدل بها وقابلها على أصولها كما حرص على التعليق على ما يحتاج إلى تعليق من نقل أو مخالفة أو خلاف في مسألة وأما الشروح الأخرى كشرح اللمعة القديم والبيقونية والورقات والتوحيد والبلوغ والمنتقى...إلخ فإنه يرتجلها ارتجالا ويوضح العبارة التي في المتن بالأمثلة ويذكر الخلاف المشهور ويبين المختار عنده حتى لا يقع الطالب في حيرة ويتوسع أحيانا في الشرح بذكر ماله صلة بذلك الحديث أو تلك المسألة.
وقد تميزت هذه الكتب والشروح بوضوح العبارة وبذكر الأدلة ومناقشتها وبالتعليل إن وجد والحكمة من شرعية هذا الحكم والتوسع في ذكر الأمثلة فلا جرم صار عليها إقبال شديد حيث نسخ كثير من الطلاب بعض تلك الأشرطة بشرح منار السبيل وقد بلغ ما نسخوه عدة مجلدات وحرص الكثير على تصويره واقتنائه حيث وجدوا فيه مسائل واقعية ومعالجة لبعض المشاكل المتمكنة في المجتمع وتحذير من بعض الحيل والمكائد التي يستغلها بعض الناس ونحو ذلك من المميزات الكثيرة .
أما استقصاء المعلومات عند الكتابة فهذا يكون في الشرح الارتجالي كشرح أحاديث مسلم والترمذي ومنتقى الأخبار وأما الكتابة فالغالب الاقتصار على القدر المطلوب في السؤال دون استقصاء وتوسع في الجواب وكذا الإملاء إذا كان الجواب ارتجاليا كما وقع في الأسئلة التي طبعت بعنوان (حوار رمضاني) الذي طبعته مؤسسة آسام للنشر عام 1312هـ في 28 صفحة بقطع صغير وكذا في أسئلة متعلقة برمضان وقيامه والقراءة في القيام ودعاء الختم ونحوه حيث ألقى بعض الشباب 36 سؤالا وقد كتب عليها جوابا متوسطا ثم قام السائل وهو سعد بن عبد الله السعدان بتحقيقها وتخريج أحاديثها وطبعت بعنوان (الإجابات البهية في المسائل الرمضانية) نشر دار العاصمة مطابع الجمعة الإلكترونية عام 1413هـ 103 صفحة .
وبكل حال فإنها تختلف الدوافع إلى الكتابة وحال المستفيد فأما الصعوبات فإن الرسالة الأولى وهي (أخبار الآحاد) كتبها في زمن قصير وكانت المراجع قليلة أو مفقودة عنده فلا جرم لقي مشقة في البحث عن مواضع المسائل واضطر إلى الاختصار رغم سؤال المشرف وغيره فأما شرح الزركشي فقد لقي أيضا فيه صعوبة لسعة الكتاب وكثرة نقوله وندرة الكتب التي نقل عنها وعدم بعض المراجع للأحاديث التي يستشهد بها معتمدا على كتب الفقهاء التي لا تعزو الأحاديث إلى مخرجها فيحتاج إلى صعوبة في البحث في كتب الفهارس والتخريج التي تذكر المشاهير من الأدلة دون النادر منها ولكن الله أعان على الكثير وحصل التوقف في البعض الذي لم يعثر على أصوله كأول سنن سعيد بن منصور وكسنن الأثرم ومسند إسحاق ونحو ذلك ولو وجد من ينقلها لكن مع قصور واختصار وأما علم المصطلح فإن مراجعه كثيرة وكتبه متوفرة والغالب إنها متوافقة فيه وإن وجد في بعضها زيادة خاصة فلذلك يمكن الاختصار فيها ويمكن التوسع بذكر الأمثلة ولم يكتب فيها سوى شرح البيقونية وهو الآن يحقق ويعد للطبع وهو مجرد إيضاح للتعاريف المذكورة في النظم وقد تم طبعه ونشره.
وأما المشكلات التي تواجه من كتب في علم المصطلح فهي كثرة الكتب في الموضوع التي يلزم منها كثرة التعريف ووجود الفرق بينها حتى يحتار الكاتب في اختيار ما يناسب المقام ولكن الأجلاء من المحدثين قد ناقشوا التعريفات الاصطلاحية وذكروا ما يرد عليها والجواب عنه لكن قراءة ذلك كله تستدعي وقتا طويلا فالطالب إذا اقتصر على المختصرات التي كتبها أئمة هذا الفن كالنخبة والبيقونية وألفية العراقي والسيوطي رأى في ذلك كفاية ومقنعا .
وحيث إن هذا النص قد أكثر فيه العلماء من الكتب فإن أشهر كتبه التي تحتوي على ما يوضحه ويجلى معانيه هي الكتب الواسعة مثل تدريب الراوي شرح تقريب النواوي للسيوطي ومثل توجيه النظر لبعض علماء الجزائر ومثل توضيح الأفكار للأمير الصنعاني وإن كان بعضها ينقل من بعض ومن المعاصرين الشيخ صبحي الصالح فقد كتب مؤلفا في علوم الحديث ومصطلحه وذكر أشياء زائدة على ما كتبه الأولون لوجود كثير من المراجع التي توفرت له والأدلة التي أمكنه أن يستدل بها وبكل حال فالباحث في الموضوع يحسن أن يلم بكتب المتقدمين الذين وضعوا هذا الاصطلاح ثم من بعدهم.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

منوعات الفوائد

  • منوعات الفوائد
  • الصفحة الرئيسية