صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







مقالات في مآثر معالي الشيخ صالح الحصين رحمه الله تعالى
ت : 24-6-1434هـ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


معالي الشيخ صالح الحصين رحمه الله الرجل الذي عظم الشريعة ولم يبهره بريق الحضارة
د. صالح بن عبد الله بن حميد
 

الحمد لله وحده والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده.. وبعد:

فإن الحديث عن الكبار من أهل العلم والفكر ينقطع به صرير الأقلام وتنفد به مداد المحابر، وما ذاك إلا لسمو القدر، وعمق الحكمة، ورصد المواقف والمعارف. والعطاء العلمي

والمتابعة الفكريَّة لمثل هؤلاء يحتاج لهمّة تستوعب تلك المواقف وتعيش معها وتستلهم الدروس من فصولها، كما تبرز الواقع والظروف التي عاشوا فيها، وكشف أدواتهم التي صنعوا بها أمجادهم.

ومعالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين -رحمه الله وأنزله عالي الجنّان- جبل أشم وطود شامخ، عرفه عارفوه قائمًا بقيم، وزاهدًا بعلم، ومفكرًا بنضج، وموازنًا بشجاعة، عمله يسبق قوله. وسلوكه يتقدم توجيهه.

تعلّق به وسم المعالي منذ نعومة أظفاره فكانت المعالي ترقبه وما رقبها، أتته وهي راغمة لم يخط سوداء في بيضاء ليسود، ولم يشرئب للغرب ليُسوّد في الشرق، وظف حرفه بِحِرْفَة من غير انحراف، أخذ بخطام دنياه يقودها لا تقوده، أحبَّ المعرفة وزفها لواقعه بقيم دينه ومقاصد شرع ربه.

لن أتكلم عن سيرته الذاتية في علمه وفضله وورعه وزهده منقطع النظير، فقد كتب في ذلك إخوة أفاضل وأحسنوا، وبعضهم كتب عن مواقفه الشخصيَّة معه -رحمه الله- وهي مواقف كريمة فيها العبر والدروس والشهادة وهي مادة ثرية.

ولكني رأيت ألا يكون الكتابة عن رجل في مثل قامة معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين -رحمه الله- قصصًا وأحداثًا، ورصدًا للسيرة والمسيرة وأن كان هذا جميلاً وممتعًا ومفيدًا وثريًّا، بل حاولت أن تكون كلمات تنشر وعيًا وتبث أملاً للأجيال وصنَّاع التاريخ، فَيُشْرِق من الحدث حديثًا، ومن القصَّة درسًا وعبرةً، لأن في حياة هذا الرَّجل وفي سيرته من الثَّراء والعطاء ما تقوم به الحجة على الأجيال وناشدي الخبرات والمجربين.

معالي الشيخ -رحمه الله- خطا خَطْوهَ في العلم وتحصيله في محاضن علميَّة مُتعدِّدة وفي بلاد متنوّعة، فاخذ العلم نهمًا لا همًا، وسعى إلى التنوّع في المعرفة التي قادها وقيّدها بأصول الشرع وكلِّياته، فتعلم الشريعة ودرسها، ونظر في القانون وحصَّله فاجتمع لديه أصل ووسيلة، فحكم الوسيلة بالغاية، ولم يجعل الوسيلة تعود على الغاية بالابطال أو الإخلال، لقناعته بسيادة الشرع وعلّوه، علمًا وعملاً، وهذا بدوره رسخ عنده -رحمه الله- ثقة عالية بكلِّيات الشريعة وأصولها فأدرك مقاصدها في كثير من الجوانب في الاقتصاد والفلسفة الماليَّة وفصول السياسة الشرعيَّة وتأمَّل التاريخ وسنن الله فيه، فبهذا وذاك أسس بنيانه العقلي والعاطفي والمنطقي على قواعد متينة تصنَّع النجاح وتوظفه من خلال مهام عمله الحكومي، ومشاركته الأهلية، وبذله التطوعي، وتفسيره للظواهر السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

ومجامع الحكمة والحنكة لا تكون إلا بتوفيق من الله للعبد بأن يستعمله في طاعته لينشر شرعه وينفع خلقه.

تواصل معاليه -رحمه الله- مع الغرب فكرًا وحضارةً تواصلاً مشهودًا معدودًا في رواق الإيمان العميق والوسطية في التعاطي التي تعتز بالثوابت وتزاوج بين المُتغيِّرات وفق مقاصد ربانية تؤمن بالعدل وتنتج الاعتدال. يدرك ذلك من سبر سيرته وتأمَّل مكتوبه وملفوظه عندما يتكلَّم عن الغرب ونظرته للحياة وكيف يتعامل -رحمه الله- مع نظريات الغرب وممارساته من صناعة الأحداث أو توظيفها، فلا غرابة في هذا النَّظر الثاقب والعزَّة الشامخة؛ فهو لم يسبقه انبهار وانجذاب بظاهر حياتهم الدُّنْيَا ولا بمظاهر تقدمهم، فقد كان يتحرَّك في تلك الحضارة بعينين: عين القدر المشفقة وعين الشرع الموازنة بوضع الأمور في نصابها، ومن نظر في مقالات معاليه تبيّن له ذلك بجلاء بمثل: (تجربتي في الحوار مع الآخر)، وكتابه الماتع: (التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب) وطرحه المتميز: (جهود الغرب في تحجيم البذل التطوعي الإسلامي لماذا؟) و(العلاقات الدوليَّة بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة).

كان معالي الشيخ -رحمه الله- من أوائل من وطئت قدماه أرض أوروبا في حقبة كانت محط النَّظر ومقام الإعجاب من بعض أبناء العرب والمسلمين، ولكن معالي الشيخ -رحمه الله- كان ينظر إليها بِكلِّ ثقة، ينتقي النافع، ويكمِّل الناقص، ويكشف القصور بإحلال القيم والمبادئ الشرعيَّة في الحقِّوق والواجبات ليرسم للغربي والمستغرب عالميَّة الشريعة وشمولها وقيادتها لإصلاح الزَّمَان وإعمار المكان لما فيها من نصوص حاكمة، وكلِّيات ضابطة، واجتهادات محكمة، تعطي كل ذي حقٍّ حقَّه، وفق مناطاتها وأنماطها ووسائلها ومقاصدها.

وحينما يضعف بعض الكتَّاب والمفكِّرين أمام هجمة الغرب على الإسلام والمسلمين لاتهامهم بالعنف والأصولية والعدوانية والتعصب والإرهاب، وحينما يستسلم بعض أبناء العرب والمسلمين أمام هذه الهجمات أو يقف بعضهم مدافعين بضعف أو مبررين بيد مرتعشة وناظرين بفكر مهتز وبصر زائغ يقف هذا الجبل الشامخ والمفكر العميق وقبل ذلك وبعده المتدين الصلب والمؤمن القوي -أحسبه كذلك والله حسيبه- يقف ليتكلَّم بالبرهان وبلغة العلم وبلسان الحجة ويسعدني غاية السعادة أن تكون هذه الكلمة نقولات ومقتبسات من يراعه الشامخ وكلماته السامقة.

ولبيان عمق فكره وقوة حجته: -رحمه الله- فإليك مختصر بعض نظراته في أمور ثلاثة:


أولاً: حول الأصولية والتعصب والعدوانية:


يقول أحسن الله إليه: إن الكتّاب الغربيين والسياسيين والقائمين على وسائل الإعلام في الغرب يصرون على تثبيت صورة الإسلام على أنَّه ثقافة عدوانية تجعل من المسلمين مصدرًا للعنف والإرهاب. ولإيضاح تصور الإسلام في قضية التسامح والعدوانية يشير -رحمه الله- إلى أنَّه لم يكن هناك مفر من المقارنة بالقافة المعاصرة وبالذات الثَّقافة الغربيَّة، موضحًا أنَّه حيث تجري هذه المقارنة فلا بد من الفصل بين الإسلام كما في حقيقته وبين المسلمين على اختلاف عصورهم وأقطارهم، ليس ذلك فقط لأن الإسلام واحد وتصورات وسلوكيات المسلمين مختلفة مُتعدِّدة بل لأنَّه لا أحد يدَّعي أن حياة المسلمين في الوقت الحاضر تجري مطابقة للاسم تصوُّرًا ومنهجًا للحياة.

لا يوجد كتاب دين أو تربية في أيِّ ثقافة غير الإسلام يعطي مساحة للمعاني المذكورة حول التسامح مثلما أعطاها الإسلام.. فالتسامح بمعنى عدم العدوان قيمة مطلقة فريضة على كلٍّ مسلم إِذْ يعني ذلك العدل، والعدل مطلوب من كل واحد لِكُلِّ أحد في كلِّ حال.

اليونسكو في تحديدها للتسامح حدَّدته بِشَكلٍّ قريبٍ من التصور الإسلامي ولذلك فإنَّ فكرة الإسلام عن التسامح كانت واضحة للمنصفين من مفكري الغرب مستشهدًا في ذلك -رفع الله مقامه -بما ذهبت إليه المستشرقة الإيطالية لاورا فيشيا فاجلييري من أنَّه ليس من المبالغة التأكيد على أن الإسلام لم يكتف بالدعوة إلى التسامح الديني بل جعل ذلك جزءًا من قانونه الممارس دائمًا.

إن سماحة الإسلام ويسره اقترنت بحكم ما تقتضيه طبيعة الأمور بسمته العامَّة الوسطية والاعتدال والبعد عن الغلوّ والتطرف والتشدُّد والإسراف ولذلك لم يكن غريبًا أن يتكرَّر في القرآن الثناء على الوسطية والاعتدال والنعي على تجاوز الحدّ وما يَتولَّد عنه من تعصب وبغي وعدوان وأن يتكرَّر ذلك في أكثر من ثمانين موضعًا يعبّر فيها عن تجاوز الحدّ والخروج عن الوسطية والاعتدال بألفاظ الغلوّ والإسراف والطُّغيان والاعتداء.

التسامح طبع سلوك المسلمين بقدر التزامهم لمنهج الإسلام في كلِّ العصور وفي كلِّ الأقطار هو ما يفسر أن انحراف بعض المسلمين عن منهج الاعتدال والتوازن شكّل أول إخفاق للمسلمين في تاريخ الإسلام وكان عاملاً مهمًا في خلق ما واجهه المسلمون من مشكلات فيما بعد وعلى مدى الزمن.

من مؤشرات التسامح في الإسلام إلغاء الطبقية والتمييز العنصري، والتاريخ يكشف في مختلف العصور ومختلف الأماكن عن وجود ظاهرتين في العالم الإسلامي وهما إلغاء الطبقية في المجتمع ومنح الأديان واتباعها الحُرِّية في الاعتقاد والعبادة والتمتع بالحقوق المدنية بصورة لا تمنحها أيّ دولة حديثة للأقليات الموجودة بها.

وقد انتبه عدد من كتاب الغرب لهذه القيمة الإِنسانيَّة «التسامح» من قيم الإسلام وأشادوا بها ومن ذلك ما ذهب به المستشرق البريطاني جيب من أن لدى الإسلام تقليدًا رائعًا من التعاون والتَّفاهم بين مختلف الأعراق ولا يوجد مجتمع آخر كالإسلام كان له مثل سجله في النجاح في أن يوجد المساواة في المركز الاجتماعي والفرص في العمل والنجاح بين مثل هذا العدد والتنوّع من الأجناس البشرية.

في الدَّوْلة الحديثة تسود فكرة مبدأ السيادة ولذا فليس من الممكن أن تمنح الدَّوْلة الحديثة الأقليات فيها ما منحه الإسلام في عصوره المختلفة من حريات وحقوق للأقليات الخاضعة لسلطان المسلمين التي تعتنق أديانًا وثقافات مخالفة وإن كان ذلك لا يعني القول: إن مثل هذه الدول تعادي التعدُّدية غير أن قبول الإسلام ديانة وتاريخًا منح الأقليات الإثنية التي تكون تحت سلطان تلك الحريات والحقوق إنما يعد دليلاً منطقيًا على طبيعة الإسلام في صلته بالتسامح أو التعصب ومدى قابليَّته للتعددية ومدى قدرته على التَّعايش مع الأفكار والثّقافات المخالفة.

قد تمتعت الأقليات في ظلِّ سلطان الإسلام بالحرِّية الكاملة في ممارسة دينها وعباداتها وفي استمرارها في استخدام لغتها وعاداتها وطرق تربية أبنائها كما بقيت لها الحُرِّية في الاستقلال بقوانينها وقضائها واستثنت من القانون الجنائي العام الإسلامي.

وعلى صعيد العلاقات الدوليَّة: إن المبدأ الذي يرتكز عليه منهج الحضارة الغربيَّة في العلاقات الدوليَّة لا يختلف عن المبدأ الذي يحكم سلوك قاطع الطَّريق أو عصابات الجريمة المنظمة، بل سلوك الحيوانات في الغابة، مؤكِّدًا أن منهج الإسلام في العلاقات الدوليَّة يختلف عن منهج الحضارة المعاصرة اختلافًا كليًّا، إِذْ يرفض الإسلام من البداية أن تبنَّى العلاقات الدوليَّة على المصلحة الوطنيَّة أو القُوَّة ويفرض أن تبنَّى على العدل والقُوَّة الإلزامية للاتفاقية في ضوء ما هو معروف أن الاتفاقات بين الدول هي المصدر الرئيس للقانون الدولي.

ثانيًا: العمل التطوعي:


وفي موقفه من العمل التطوعي وإفرازات أحداث الحادي عشر من سبتمبر تراه بعينه الباصرة ورؤيته الثاقبة يقرر أن من أهم آثار «أن يكون البذل التطوعي مكوِّنًا مهمًا من مكوِّنات شخصيَّة المسلم» أن الحضارة الإسلامية قامت على أساس «البذل التطوعي» وقد أكْسَبَها ذلك خصائصها التي انفردت بها عن الحضارات الأخرى ومن أهمها:

أ‌- أنّها حضارة شعبية بمعنى أنّها ليست كغيرها من الحضارات من صنع الأباطرة والملوك أو القوى العسكريَّة والسياسيَّة وإنما كانت تقوم كلية -تقريبًا- على «البذل التطوعي» من جمهور المسلمين.

ب‌- أنّها حضارة إِنسانيَّة لأن الدافع لمنجزاتها دائمًا قصد البر والتَّقوى سواء في مواجهة الإِنسان أو الحيوان أو البيئة.

ج- أنّها نتيجة للأمرين كانت دائمًا تستعصي على الظروف المتغيّرة من أن تكون عاملاً لانهيارها، فالتقلُّبات السياسيَّة، والحروب واكتساح الغزاة للعالم الإسلامي من الصليبين والتتار، هذه العوامل لم يترتَّب عليها انهيار الحضارة، بل ظلَّت باقية مستمرة العطاء.

في عقيدة المسلم، أن أيّ جهد يبذل للنفع العام مع الإخلاص هو في سبيل الله، وأن الصد عن سبيل الله بأيِّ وجه يستحقُّ ما وصفه الله به في القرآن، وتوعد عليه، ففي سورتي الفجر والماعون نعى على من لا يحض ّ على طعام المسكين فكيف بمن يعوق إطعامه، لقد أوضح القرآن الكريم أن منع الإِنسان من العبادة الخاصَّة النَّفع به من أشنع الظلم، فكيف بمنع العبادة التي يتعدى نفعها إلى الغير. وعندما يغفل أهل البلد عن هذا الجانب فلا يقدر قدره، فقد يغفلون أيضًا عن آثار هذا الوضع المدمر على أمن المجتمع واستقراره وسلامته، ليس الأمر قاصرًا على تعويق مواجهة الحاجات الأساسيَّة للبشر من طعام وغذاء وإيواء وتعليم وتهيئة للعيش الكريم، بل حرمان النَّاس -ولا سيما شبابهم- الذين تملأ قلوبهم ومخيلاتهم الأشواق إلى المثل العليا والإرضاء النفسي بالبذل للغير، حرمانهم من المجالات النَّافعة السَّلِيمَة فيدفعهم الإحساس بالفراغ Existential Vacuum والحرمان من البذل للغير والحاجة النفسية الملحة لمثله إلى مجالات قد لا تكون نافعة ولا سليمة.

مغزى ما تقدم أن البذل التطوعي في سبيل النَّفع العام في جانب الإِنسان المسلم ليس فقط وسيلة للإرضاء النفسي ومِنْ ثمَّ تلبية لحاجة طبيعيَّة للإِنسان السوي، بل هو عبادة وشوق على رضا الله وتلبية لنداء ملح من الضَّمير والوجدان.

هذا يعني أن أيّ تحديد لفرصة الإِنسان المسلم في ممارسة البذل التطوعي للنفع العام لن يكون فقط مُجرَّد انتهاك للحرِّية الشخصيَّة والمدنية، بل انتهاك لحق الإِنسان في حرية العبادة وحرية الضمير.

المقصود من إيراد ما سبق هو التقييم الصحيح لجهود الغرب الجادة في تحجيم البذل التطوعي في العالم الإسلامي ومن أبرز مظاهر ذلك جهوده في تحجيم النَّشاط الخيري لبلدان الخليج في الخارج، ونشاط الغرب الدعائي المحموم في هذا المجال:

أ‌- فور غياب «الشيوعية» عدو الرأسماليَّة «الأحمر» رشح الغرب «الإسلام» عدوًا بديلاً وسماه العدو الأخضر (كان أول تصريح معلن بذلك الترشيح قد صدر عن الأمين العام لحلف الأطلسي) ومنذ ذلك الوقت بدأت التهيئة لحرب باردة بديلة «الرأسماليَّة الغربيَّة» في مواجهة «الإسلام» وبرز من وقت مبكر من مظاهر هذه الحرب قرن الإسلام بـ»الأصولية» و»العنف» ففي النصف الأول من العقد الأخير للقرن المنصرم كانت أوروبا كلّّها تشاهد فيلم «الإرهاب في سبيل الله» وكانت أمريكا تشاهد الفيلم الوثائقي «الجهاد في أمريكا».

ب‌- ومن الحقائق أن التَّخْطِيط الغربي الذي كانت إجراءاته تنشط على قدم وساق لتنصير مجتمعات إسلاميَّة معينة، قد واجه معوقًا جديًّا لانتشار التنصير من قبل بعض المؤسسات الخيريَّة الخليجيَّة، فكان من الطّبيعي أن تتصدى القوى الامبريالية لإضعاف هذا المعوق أو إزالته.

ثالثًا: احتفاؤه بأقوال المنصفين:


ويعجبه -رحمه الله- أن يستشهد بكلام من منصفي الغرب وعقلائهم وفلاسفتهم ومفكريهم قصدًا منه أن يخاطبهم أو يخاطب من يسير في ركابهم بما يكون أقرب للإقناع لِمَنْ يريد الحق وينشد الحقيقة.

وهذه قبسات من بعض استشهاداته حول اعتراف هؤلاء المفكِّرين بالحاجة إلى الإسلام وقيمه مهما بهرت الإنجازات الحضارية والمكتسبات والمخترعات الجديدة.

فمما نقله واستشهد به قول محمد أسد: «ولا تظهر إشارة إلى أن البشرية في حالتها الحاضرة قد تجاوزت الإسلام، فلم تتمكن من إنتاج نظام أخلاقي خير مما تضَّمنه الإسلام، ولم تتمكن من وضع فكرة الاخوة البشرية على أساس عمليّ كما فعل الإسلام في معنى الأمة.. ولم تتمكن من إعلاء كرامة الإِنسان وشعوره بالأمن ورجائه الأخرويّ -أخيرًا وليس آخرًا- سعادته».

«في كلِّ هذه الأشياء فإن الإنجازات الحديثة للبشرية أقصر بوضوح عمَّا حقَّقه الإسلام فأين المسوّغ -إذًا -لمقولة: إن الإسلام قد انتهى زمنه؟».

« لدينا كل الأسباب لنعتقد أن الإسلام قد دلت عليه كلّ إنجازات البشرية الصحيحة أنّه قررها وأشار إلى صحتها قبل تحقيقها بزمن طويل، ومساويًّا لذلك فقد دلّت عليه أيضًا النواقص والأخطاء والعقبات التي صاحبت التطوّر البشريّ؛ لأنّه حذّر منها بقوة ووضوح قبل أن يتبيّن البشر هذه الأخطاء بزمن طويل».

«ولو صرفنا النَّظر عن الاعتقاد الديني للفرد فإن في وجهة النَّظر الفكريَّة حافزًا لاتباع هداية الإسلام العملية بِكلِّ ثقة». انتهى.

ولقد كتب ريتشارد نيكسون، الرئيس الأسبق للولايات الأمريكيَّة، في آخر مؤلفاته المعنون Beyond Peace ما يأتي:

«أصولية الإسلام عقيدة قوية... إنّها تستجيب لحاجات الرُّوح وليس لحاجات الجسد (فقط) والقيم العلمانية في الغرب لا تستطيع أن تغالبها، وكذلك لا تستطيع ذلك العلمانية في العالم الإسلامي».

خاتمة:


وأختم هذه الكلمة بهذه الواقعة التي تعكس شخصيته في تواضعه وفلسفته منذ كان يافعًا:

حينما كان شابًا في أول عمله موظّفًا في وزارة الماليَّة كلف مع زميل له في مهمة عمل لفرنسا وحينما دخلا أحد المطاعم، والفرنسيون لا يتكلمون الإنجليزية ويصرون على الحديث بلغتهم وزميله دارس في أمريكا ويجيد الإنجليزية وكان يحاول جهده ما استطاع أن يحدثهم باللُّغة الإنجليزية ولم يفلح أن يتوصل إلى شيء وطال الجدال وضاقت الأنفس، فما كان من الشيخ صالح وهو الذي يجيد الفرنسية والعليم بها إلا أن نطق بكلمات يسيرة أنقذت الموقف وانقضى بها الغرض، فالتفت إليه صاحبه قائلاً: أما كان هذا مبكرًا حتَّى نسلم من هذا التوتر؟ فقال الشيخ بصوته الهادئ الهامس الواثق: أتكلم باللُّغة الأجنبية إلا من أجل الحاجة وبقدر الحاجة.

نعم إنّه الدرس البليغ من هذه الشخصيَّة العزيزة المؤمنة فعند الشيخ أن اللُّغة الأجنبية والرطانة ليست محل فخر ولا اعتزاز ولكنَّها حاجة فقط. ناهيكم بمن يراها رمز التقدم، بل لا يَرَى تقدمًا إلا على حساب لغته ووطنه، فيلوك لسانه بالرطانة وكأنّه قد حاز المجد في برديه وهو لا في العير ولا في النُغيِّر فالله المستعان.

وبعد هذه الكلمات المختصرة عن جميل سيرة وصدق سريرة، فإني أوصي بدراسة شخصيَّة هذا العالم دراسة تكشف مكوِّنات فكره وطبيعة تعامله مع المعرفة وتحليله للنظريات والظواهر.

كما أوصي بعمل مؤسسي يعني نظريات معالي الشيخ -رحمه الله- واعتبارها في منظومة الأعمال التطوعية والماليَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

سائلاً المولى عزَّ شأنه أن يرحم معالي الشيخ رحمة واسعة وأن يبارك في ذريته وعلمه وما بذل من أعمال. وأن يرفع درجاته في عليين وألا يحرمنا أجره ولا يفتنا بعده إنه سميع مجيب.
 



مع خطاب الشيخ صالح الحصين
د. عصام بن سعد بن سعيد *
 

لقد أفضى معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين رحمه الله إلى ربه عز وجل، وقيل عنه الكثير وكتب عنه الكثير، ولا يزال في جعبة محبي الشيخ وعارفيه ما يمكن قوله مما يزيد سيرته الوضّاءة ألقًا ويضيف إليها تفصيلات أدق، مما يضفي عليها مزيدًا من الثراء لمن أراد أن يقتبس منها أو يطلع عليها، ويعمّق القيم والمرتكزات التي كان معاليه يستحضرها في كل أموره ويبني عليها جُلَّ شؤونه، ومما لاح لي خلال تأملي فيما عرفته عنه أن القيمة التي قد توصف بأنها تعد علامة مميزة للشيخ ومهيمنة على غيرها من القيم ومعياراً حاكمًا على ما سواه، قيمة التوازن ومعيار الاتزان في كل شيء، مما جعله في حياته العامرة ومناصبه المختلفة يسير على خطىً ثابتة ورؤىً تامة الوضوح، مما لا يتأتى إلا للقليل من الناس.

وإن كان غالب ما كتب عنه يتناول مسيرة حياته الشخصية من نواحٍ مختلفة، إلا أنني ألمس قصوراً في تناول مسيرة حياته من الناحية الوظيفية، وبخاصة في مجال اختصاصه القانوني، ولعلي هنا أدعو أخي معالي الدكتور مطلب بن عبدالله النفيسة إلى أن يكتب مقالة مفصلة في هذا الشأن فهو من أعرف الناس به واكثرهم لصوقاً به في عمله.

لن أضيف في مقالي الموجز قصصًا عشتها معه أو أخبارًا سمعتها منه أو تجارب عملية أو علمية شاركته فيها فذلك شرف لا أدعيه، وإن كان يسرني الانتساب إليه بأنني حللت في مكان كان من رواده منذ أكثر من ثلاثين عامًا، إذ كان مشرفاً على شعبة الخبراء (قبل أن تصبح هيئة فيما بعد)، فكل ذلك مما لا أرمي إليه في هذا المقال، فهناك من هو أقرب إلى الشيخ مني وأعرف بجميع أحواله وأقدر على إبرازها وإظهارها، وهو مدرسة فيها كلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. أما ما أود إلقاء الضوء عليه فهو خطاب أرسله إلي بتاريخ 22/10/1433ه ونصه:

"معالي الأخ العزيز الدكتور عصام بن سعد بن سعيد

رئيس هيئة الخبراء بمجلس الوزراء حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فبرفقه كتاب كان الدكتور مطلب النفيسة اقترح علي قراءته فاستعرته من مكتبة الهيئة، وللأسف نسيت إعادته للهيئة بعد قراءته، ولكن لحسن الحظ أني كنت كتبت ورقة بداخله تفيد بأنه مستعار من الهيئة، وعثرت عليه الآن عند إعادة ترتيب مكتبتي الخاصة.

آمل التلطف بالإيعاز بوضعه في مكتبة الهيئة، ولمعاليكم أوفر الشكر وأجزله.

أخوكم
صالح بن عبدالرحمن الحصين"

ودعونا نتأمل معًا هذا الخطاب بوصفه ( علامة ) تبرز شيئًا من ملامح شخصية هذا الرجل الفذ، فمن ذلك ما يأتي:


أن الشيخ حرص على أن ينسب الفضل ولو كان يسيرًا إلى أهله، بأن معالي الدكتور مطلب هو من اقترح عليه قراءة الكتاب، فما بالك وقد مضت على ذلك سنوات طويلة، وربما كان المقام والهدف من الخطاب لا يستدعي ذلك، إلا أنه صاحب نفس كريمة وكبيرة، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل.

أن الشيخ كتب خطابًا يطلب فيه إعادة كتابٍ واحد مرت على استعارته إياه سنوات طوال، ومع ذلك لم يقل (بسيطة والكتاب بداله كتاب) أو (إنني زودت مكتبة الهيئة بأضعافه من الكتاب) ولا يضير بقاء هذا عندي أو (الكتاب ليست له علاقة باختصاص الهيئة ومن ثم فلا حاجة إلى إعادته).. إلى غير ذلك من الأعذار التي قد تتبادر إلى الذهن في أمور أكثر أهمية، لكنها قيمة الأمانة المترسخة في وجدان الشيخ النبيل رحمه الله، والمحافظة البالغة الندرة على المال العام، لا رجاءً لشيء ولا خوفاً من شيء بل هي قناعة متغلغلة في أعماقه، إنها نموذج راقٍ للمواطنة الحقة.

أنه بعد حياة مديدة حافلة، اكتفى الشيخ بخطاب بسيط على ورقٍ عادي، وكلنا نعرف أن الصغير قبل الكبير يحرص على أن تكون ورقة الخطاب من خامة فاخرة وذات إطار مميز وربما كانت مذيلة في أعلاها أو أسفلها بالاسم بلونٍ ذهبي. وهذا مؤشر على منهجية (البساطة) في الحياة أو ما يسميه اليابانيون (الكايزن) أو ما يسمى بالتحسين المستمر في العرف الإداري وهو ملمح من ملامح زهده، ولو كان يسيرًا، إلا أنه يدل على ما بعده.

أن الشيخ استفتح خطابه ب(الأخ العزيز) وهو شرف لي، وهذا من تواضعه الجم، وإلا فأنا في مقام أبنائه، بل زاد من إكرامي وأرسل مع الخطاب مقالين مطولين رغبة منه رحمه الله في اطلاعي عليهما، وهذا من حسن ظنه، وهو من هو علمًا وحكمة وبعد نظر وحسن تأتٍّ للأمور.

ولعلي أختم بما ختم به د. زياد الدريس مندوب المملكة الدائم لدى اليونسكو مقاله المميز (وزير بلا أوزار) المنشور في صحيفة الحياة الأربعاء 8 مايو 2013، حاكيًا عن موقف حصل له قبل سنوات عدة، حيث أقيم حوار جماهيري مفتوح مع الشيخ صالح الحصين والدكتور غازي القصيبي رحمهما الله، وبدأ الدكتور زياد في مداخلته فبدأ بامتداح الضيفين البارزين، فقاطعه القصيبي مبتسماً: يا زياد امدحني أنا بس، الشيخ صالح لا يحب المدح.

وبعد، فمجال القول واسع وميدانه رحب، ولا سيما إذا كان عن قامة قانونية وعلمية شامخة كالشيخ صالح الحصين أجزل الله مثوبته وجمعنا به في جنات النعيم، ولعل الأيام المقبلة تخبئ في طياتها بشرى لنا بسيرة جامعة لكل ما يتصل به، مما ستقرؤه الأجيال وتستفيد منه وتترسمه في حياتها.



* رئيس هيئة الخبراء بمجلس الوزراء
 



الصالح الحصين
مات الشخص وبقي الأثر
(تجربة شخصية)
حبيب بن محمد الحارثي
 

قبل خمسة عشر عامًا تقريبًا هاتفت معالي الشيخ: صالح بن عبدالرحمن الحصين - رحمه الله -، لأعرض عليه بعض النشاطات الدعوية في القارة الإفريقية، فضرب لي موعدًا بالمسجد النبوي - عند الساعة التي على يسار البوابة رقم (37) بعد دخولك المسجد - وكان هذا أول لقاء لي معه، وذهبت حسب الموعد بعد صلاة العشاء، وجلست أتأمل في الموجودين بالقرب من الساعة: أين صاحب المعالي؟!

أين صاحب الفضيلة أو الوزير أو المسؤول؟! فلا أجد من الحاضرين (حسب انطباعي) من له هذه الصفات، فقلت أنتظر لعله في مكان آخر وسيأتي، ولكن طال انتظاري والانتظار ممضّ. ولم يبق أحد سوى رجل متواضع الثياب نظيفها، يلبس غترة بيضاء يضع طرفيها على كتفه الأيسر، يدعو ربه بخشوع تحت الساعة الموعد، جلستُ بجواره بحيث يراني، ولم يخطر ببالي أنه هو، فلما أحس بي أنهى الدعاء، والتفت إليَّ وسلّم فعرفت أنه هو، فسلمتُ وجلستُ بين يديه أُكلمه ويكلمني وأنا غير مستوعب لما أرى، الشيخ يتكلم عن أفريقيا وما تحتاجه من دعوة وإصلاح، وأنا أتأمل في نفسي وحاجتها إلى إصلاح جديد وخاصة إصلاح السرائر!، ودعوتِها إلى معرفة حقيقة الدنيا، هذه الصدمة التي أصابتني في أول لقاء مع الشيخ جعلتني أحاول أن أتواصل معه من وقت لآخر علَّ ذلك يُخفف ما في النفس من أثقال الأطماع، ويُضعف ما في القلب من أعلاق الدنيا.

إذا التقيتَ بشيخنا أبي عبدالله - رحمه الله -، فإنك لفرط تواضعه تتحير: مَنْ المُعلِّم ومَنْ التلميذ؟! يُفخِّم كلامَك ويُطرزه كأنَّه يسمعه لأول مرة (وأنا أجزم أنه سمعه قبل أن تلدني أمي) ويُحطّ من قدر كلامه ويقدمه على أنه مجرد ملاحظات يسيرة قابلة للنقاش، وإذا بها منارات وقواعد قل أن تجدها عند غيره، ويذكرك هذا بما كان يردده كثيرًا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (مالي شيء ولا منّي شيء ولا فيّ شيء).

كان التواضع عند الشيخ صالح - رحمه الله - سجية، بل هو التواضع في صورة إنسان:
في منطقه وملبسه ومجلسه، في غدوه ورواحه، رأيته مع البسطاء ورأيته مع الأمراء طلق المحيا، دائم البشر لم تتغير نفسه ولم يتناقض سلوكه في الحالين.كنت معه مرة في مصلى مطار الملك خالد بالرياض وهو يقرأ فرءاه أحد المسئولين فجاء من خلفه يريد أن يقبل رأسه فمنعه حتى كاد الشيخ يسقط على الأرض.

وهذا ديدنه مع كل من يحاول أن يقبل رأسه مهما كان منصبه أو سنه أو علاقته به.

كنت قد كتبت تقريرًا عن جنوب أفريقيا والشيخ بها خبير، فدعوته ودعوت مجموعة من المهتمين على شرفه لعرض التقرير ولأستفيد من توجيهاته فوافق وحضر على الموعد بعد العشاء، فقدمتُ التقرير، وأفدت من ملحوظاته وتوجيهاته، واستفاد كل منْ حضر، فلما حضر العَشاء لم يأكل، فعزمت عليه أن يأكل فاعتذر فلما رأى إصراري قال يا أخي لي أربعون سنة لا أتعشى حتى في المناسبات الرسمية، ولكن سآكل فاكهة إكرامًا لك، فقلت له يا شيخ لو أخبرتني، لما كان عشاء ولتبسطنا في اللقاء، فقال غفر الله له: وهل يعقل أن تحرم الناس بسببي؟!

جئته مرة وعنده بعض المحتاجين فكان يعطيهم من مالٍ عنده، وسعادته بعطائه أكثر من سعادتهم بقضاء حوائجهم، ورأيته يخدمهم قائمًا قاعدًا كأنهم يعطونه ما هم آخذوه.

إذا زرته في بيته في المدينة أو مكة تعجب من بساطة منزله، وتواضع أثاث مجلسه، لكني أجزم أنك ستشعُر بأنس وطمأنينة وراحة لن تجد مثلها في أجمل المجالس وأفخمها.

في بداية علاقتي بالشيخ كنت أهاتفه طمعًا في نيل شرف إيصاله لموعد مشترك لنا جميعًا، وذات مرة كنت أنا وهو في سيارتي وتطفلت وسألته: أين سيارتك يا شيخ؟ فقال كل الذي ترى سياراتي!

فتعجبت وسألته: كيف ذلك؟ فقال: أنا لست مثلك ليس لديك إلا سيارة واحدة، إذا تعطلت تعطل عندك كل شيء، أنا أخرج إلى الشارع العام فأشير بيدي وأركب السيارة التي تناسبني، فتعجبت ودهشت أن الشيخ لا يرى حاجة أن يشتري سيارة بل أخبرني أنه حتى في المواعيد الرسمية مهما كان الداعي! فإن سيارات الأجرة هي المفضلة لديه، وعندنا في المدينة كانت الوانيتات من ضمن أسطول الشيخ - رحمه الله -.

فإذا علمتَ ذلك فإنَّ من نافلة القول أن الشيخ ليس لديه جوال ويقول ليس لي به حاجة فأنا إما في البيت أو في العمل وفي كليهما هاتف فلِمَ الجوال؟!.

بحكم أن الشيخ أحد أعضاء مجلس إدارة الهيئة العالمية للتعريف بالإسلام؛ كنا نزوده بتقارير دورية عن عمل الهيئة ، أو ما يتعلق بمحاضر اجتماعات المجلس للتوقيع عليها، أحيانًا يتعذر اللقاء به خاصة بعد انتقاله إلى مكة، فأكلمه بأني سأرسل الملفات عبر البريد الممتاز، فكان يرفض ذلك ويرى أنه من الأسرع أن أسلمها لأحد سائقي سيارات ماء زمزم العائدين إلى مكة ويعطيني رقمه، ويقول أنه سيلتقي به عند وصوله مكة، ويستلم منه الملفات.

أحيانًا احتاج خلال النقاش معه في مشاريع وبرامج الهيئة أن أتكلم في أشخاص بأعيانهم ومدى الحاجة إليهم من عدمها فمع موافقته على القرار أو رفضه له إلا أنه لا ينسى الفضائل فلا يدع اللقاء يمر دون أن يعرج على فضل الرجل ومآثره التي يعرفها، ثم يحيل إلى آخرين لبيان فضل الرجل ومنزلته.

كنت أعجبُ من احترام المسئولين له، واستجابتهم لشفاعته، حتى رأيت مكاتباته لهم، وكيف يحسن تقديرهم وإنزالهم منازلهم دون نفاق أو تطبيل، أو إطراءٍ بخلاف الحقيقة، مع حسن عبارة، وجودة أسلوب، امتزج بنيةٍ صادقةٍ في الشفاعة أو نصحٍ للحاكم والمحكوم.

كان الشيخ في اجتماعٍ مع عدد من المسئولين المعنيين بشؤون الحج، وتكلموا عن حج الأرصفة (الافتراش) وأنه يشوه منظر الحج، ولابد من إلزام الناس (كل الناس)، بالحملات، فاستأذن في الكلام، وتكلم كعادته بكل لطف عن خطورة أن يتحول الحج إلى مظهر من مظاهر المفاخرة بين المترفين، ويُحرم منه البسطاء والمساكين ويكون الحج خاصًا بالأغنياء فقط، ثم ذكر أنه حج حجة مُلوكية وحج حجة الأرصفة، ولم يجد قلبه إلا في حج الأرصفة.

كان الشيخ - غفر الله له - يحب القراءة، ولم أدخل عليه في منزلٍ أو مكتبٍ أو حتى في غرفته في المسجد الحرام إلا وكتابٌ بجواره يقرأ فيه، وكان يعشق القراءة لمحمد أسد، وخاصة كتابه الطريق إلى مكة، اختصره ورتبه وقرأه أكثر من مرة، ومن تواضعه كان يسألنا عمن يحُسن اختصاره لأن ما قام به لا يرقى للمستوى المطلوب!.

الشيخ لا تمل الحديث معه والجلوس بين يديه ولكنك أيضًا لا تستطيع أن تطيل معه، رفقًا بنفسك، ولشعورك أن الرجل لديه ما يشغله فلا تُضْيِعَ وقته بهذا الجلوس.

معالي الشيخ صالح الحصين - رحمه الله -، جمع بين الفكر والوعظ والسلوك، صفاء فكرٍ، وسلامة قلبٍ، وحسن عملٍ، في قالبٍ من البساطةِ واللطفِ ودماثة الخلق.

هذه زخات من غيث حياته، عاصرتها بنفسي ولامس نداها فؤادي، وأجزم أن لدى خواص طلابه وجلسائه وأصفيائه صيبًا نافعًا من هذا الغيث والخير، فهل من مغيث؟!

همسة: لتكن خطاك في دروب الخير على رملٍ ندّيٍ لايسمع لها وقعٌ ولكنّ آثارها بينة.

رحمك الله يا أبا عبدالله، وأخلفنا خيرًا، وجعل روحك في عليين وجمعنا بك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
 



وَرَحَلَ
مَدرسةُ الزّهـدِ والتّواضع
معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصيّـن
رحمه الله تعالى
بقلم د. محمد بن خالد الفاضل*
 

هذا الوصف: (مدرسة الزهد والتواضع) لا يكاد ينطبق على أحد من الأعلام المعاصرين- فيما أعلم- أكثر من انطباقه على معالي الشيخ الراحل صالح بن عبد الرحمن الحصيّـن - رحمه الله - الذي حمل لقب (معالي) وحظي بعضوية مجلس الوزراء قبل أربعين عاماً، ثم عضوية هيئة كبار العلماء، وتدرّج في مناصب وعضوية مجالس كبيرة واستشارات عليا، وكان من آخرها وظيفة الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي ورئاسة الحوار الوطني، وكل هذه المناصب والمراتب لم تغيِّر شيئاً من سمته وزهده وتواضعه وحسن خلقه، بل زادته زهداً وتواضعاً، ثم زاده ذلك الزهد والتواضع رفعة في عيون الناس كباراً وصغاراً، وصحّ فيه الأثر: (من تواضع لله رفعه)، وقد انفتحت أبواب سيرة هذا الرجل الكبير بعد وفاته، وأقبل الناس يتحدثون عنه ويكتبون بشهيّة ورغبة وانبهار وإعجاب عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فظهرت جوانب مخبوءة من علمه وكرمه وبذله في أبواب الخير، وزهده وتواضعه فوق ما يعرفه الناس عنه، وصار - كما قال أحدهم - كزجاجة عطر فاخر ثمين فتحت بعد وفاته فوصل الناسَ من رائحتها النفاذة أضعاف ما يعرفون ويتوقعون، وأنا أجزم أن الأيام القادمة ستتحفنا بمزيد من الدرر من سيرة وأخبار هذا العالم الزاهد من خلال ما سيكتبه عنه عارفوه ومرافقوه من الذكريات العطرة، وقد ظهرت بعض المقالات المهمة منها ما كتبه الدكتور زياد الدريس، والأستاذ فيصل المعمر، والدكتور محمد الأحمري، والدكتور عبدالوهاب الطريري، وغيرهم، وما حواه موقع (تويتر) من التغريدات التي بدأت في الهطول فور صدور بيان الديوان الملكي بنعيه وما زالت مستمرة، وقد استمتعت بحلقة تلفزيونية عن الشيخ في قناة المجد، شارك فيها زميلنا الدكتور عبدالرحمن اللويحق، والأستاذ عبدالله المسفر، والدكتور يحيى اليحيى عبر الهاتف، وذكروا جوانب مشرقة من رعايته للعمل الخيري - وهو من أبرز رواده - وعنايته بطلاب المنح داخل المملكة، وبعدد من الطلاب النابهين في عدد من الدول الإسلامية، وقد لا يتوقع البعيدون عن الشيخ أن شيخاً نجدياً عضواً في هيئة كبار العلماء من خريجي كلية الشريعة يجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية قراءة وكتابة وحديثاً، وخُلِعت عليه ألقاب كبيرة كالخبير الاقتصادي، ورجل الأنظمة والقوانين الأول في المملكة، وفيلسوف الشرعيين، وهو صاحب فكرة صندوق التنمية العقارية ورئيس مجلس إدارته الأول، إلى غير ذلك من الألقاب والأوصاف.

ومع ما عرف عنه من أنه الزاهد والمتواضع، فهو العالم والمفكر والباذل والمحتسب والتقي الخفي، فهو يؤثر التخفي وصدقة السر، ولا شيء يزعجه كالمدح والإطراء والإعلام والإعلان، ويؤكد ذلك كل من يعرفه عن قرب، وعندما اقترحت قبل أشهر مع زميلي الدكتور إبراهيم أبو عباة على ابنه عبدالله (أبي حذيفة) أن يكتب شيئاً من سيرته قال إنه يمنعنا من ذلك، وأعدت الاقتراح عليه في أيام العزاء أنا والدكتور زياد الدريس فقال: ما عققته في حياته، ولن أعقه بعد وفاته، ولا يمكن أن أقدم على عمل أعرف أنه يكرهه، ولكني سأحرص على جمع تراثه العلمي فقط.

ولَمْ يُتَحْ لي التعرف على الشيخ والالتقاء به عندما كنا في شقراء؛ لأنه غادرها وأنا صغير، وأول لقاء جمعني به كان في مكتبه في هيئة التأديب قبل أربعين سنة تقريباً، وهو حديث عهد بالوزارة وبرئاسة هيئة التأديب، وأنا حديث عهد بوظيفة معيد، وقد طلب مني زملائي المعيدون في كلية اللغة زيارته - وهو الخبير القانوني والقريب من صناعة القرار - لاستشارته ثم طلب شفاعته لنا - إن كان لنا حق - حول تصنيفنا الوظيفي ومساواتنا بزملائنا خريجي الشريعة، فذهبت إليه وهو لا يعرفني ولم يرني في حياته، ولما وصلت مكتبه دخلت ولم أجد حاجباً وإذا بي أمامه مباشرة، فاستقبلني ورحب بي ترحيباً حاراً وظننت من فرط حفاوته وترحيبه أنه قد عرفني فتعجبت، لكنه سرعان ما قال لي: من أنت وماذا عندك يا ولدي؟ فقلت أنا محمد بن خالد الفاضل.

وقبل أن أكمل قال: أنت ولد خالد بن فاضل ما غيره؟ قلت: نعم، فقام من مكانه وقال: (هذا يبي له سلام جديد) فعانقني ورحب بي وسألني عن والدي، وقال إن والدك يغبط على علاقته بالمسجد وبالقرآن، ثم سألني عن حاجتي، فأعطيته الأوراق التي معي، فأبدى اهتماماً بالموضوع ووعدني خيراً ثم استأذنت منه فصحبني إلى باب المكتب فودعته ودعوت له، وقد انتهى موضوعنا إيجابياً وتمت مساواتنا بزملائنا، ولا أزعم أن مسعاي هذا هو السبب، أو أنه هو المسعى الوحيد، وليس هذا محل الشاهد في موضوعنا، وإنما محل الشاهد تواضع هذا الراحل الكبير واحتفاؤه بشاب صغير دون الرابعة والعشرين وهو لا يعرفه، وهذه ليست غريبة وإنما هي من أصغر مناقبه.

رحم الله فقيدنا وفقيد المملكة وفقيد الأمة وأسكنه فسيح جناته وجمعنا به ووالدينا ووالديه وأحبابنا وأحبابه في الفردوس الأعلى، وهذه الكلمات غيض من فيض، ونقطة في محيط هذه السيرة العطرة الحافلة المتنوعة.

---------------
* عضو هيئة التدريس بجامعة الأمير سلطان
 



(إمام الزهد) صالح بن عبد الرحمن الحصيّن رحمه الله
يوسف بن عبدالعزيز المهنا


( صالح الحصين ) هكذا يُحب أن يدعى، مجرداً من عبارات التبجيل والتفخيم والوصف ،ودون مقدمات أو مدح
أو إطراء ،ولو قيل فيه ما قيل، لكان أهلاً لذلك .
إمام زاهد باع دنياه بآخرته، كلَّما أوغل في التخفي زاده ظهوراً وبريقا. ترك الدنيا وبهرجتها فزهد فيها زهداً حيّر الكثيرين وأدهشهم . أقبلت عليه فهرب منها ،ثم أدركته فغلبها جاعلاً نصب عينيه قوله تعالى: { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى } [ النساء : 77 ] وقوله تعالى : { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } [ النحل : 69 ]
زهد في الدنيا فأراح نفسه, والزهد مقام شريف من مقامات السالكين ، قال بعض السلف : " الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة فيها تكثر الهم والحزن "
نال- رحمه الله- ثقة الكبار، وأحبه الجميع، وزهد فيما عند الناس فأحبه الناس , مؤمن تقي خفي، وفي الأثر : ((إن الله يحب العبدَ التقيَّ الغنِيَّ الخفيَّ)) رواه مسلم .
وفي الصحيح )وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ( قال أهل العلم : فيه وجهان : أحدهما : يرفعه في الدنيا ، ويثبّت له بتواضعه في القلوب منزلة ، ويرفعه الله عند الناس ، ويجلّ مكانه . والثاني : أن المراد ثوابه في الآخرة ، ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا .
أما التواضع، وصغر النفس فأمر عجيب، وشيءُ فاق الوصف . لم تؤثر فيه المناصب فيحدوه حادي الخُيلاء، ولم يثنِ أعطافه الزهو والكبر، والعُجب بالنفس ، فما زاده المنصب إلا تطامناً للنفس, وليناً في الجانب , وخفضاً للجناح، رحمه الله وغفر له .

تواضعَ وهو النجمُ عِزاً ورِفعةً ... وخفَّ على الأرواحِ وهو شَمام

يذهب لعمله، ويرجع لبيته - في أجياد قريباً من الحرم - على قدميه دون تكلف أو تكليف، يدخل في الناس، ويختفي في أوساط العامة، وكأنه أحدهم يصيبه ما أصابهم، ويمر عليه مايمر عليهم من ضيق ،أوتدافع، أوزحام، أو عكسه . لا يشعر به أحد، ولا يعرفه إلا الخواصّ فلله دره ! ترك البهرجة والحرس، وفتح الطريق وآثر ألاّ يؤذي أحداً، ولا يلفت نظراً،
فلا يضيق على حاج أو معتمر أو زائر .
شرفه الله في آخر عمره برئاسة شؤون الحرمين الشريفين، والقرب والمجاورة فيهما، فقام بما أوكل اليه خير قيام وأكمله ، ابتداءً بمسؤوليات عمله الإداري الكبير ،ونهايةً برفع ما يراه ملقى على الأرض من كؤوس ماء الشرب المستعملة، أو غيرها ؛ليضعها في مكانها المخصص، وقد رأيته - رحمه الله- عام 1427هـ في صحن الكعبة المشرفة بعد الصلاة، وهو في طريقه للخروج من المسجد يرفعها من الأرض، فيبادره أحد الناس - وقد عرفه - ليأخذها منه تقديراً لمقامه، وإجلالاً له، فيخفيها خلف ظهره مبتسماً في وجهه داعيا له في تواضع فطري، وهدوء غير متكلف، فسبحان الملهم لا إله غيره! .
كانت حياته حافلة بالعمل والدعوة، والاحتساب وبذل الخير، ونفع الناس مع بعد عن أضواء الإعلام ،وبهرجته يعمل بصمت ،ويتحرك بسكينة ووقار، لا يُرى إلا مبتسماً يتهلل وجهه لكل الناس ،من يعرف ومن لا يعرف .
والشيخ صالح من بقية السلف الصالح، يُذكِّر من رآه بسير المتقدمين من الزهاد والعباد، والعلماء الصالحين، كابن أدهم ،والفضيل، وابن حنبل ،والجنيد، وغيرهم .
ما رآه أحد إلا أحبه، ولا عمل معه أحد إلا أثنى عليه بما يستحق , وسع الناس بدماثة خلقه وطيب نفسه ،وصدق حديثه، وتواضعه الجم . سره وعلانيته سواء نحسبه - والله حسيبه- ،ولا نزكي على الله أحدا .
لقد غيب الموت شيخاً جليلاً، فقده رزية وموته ثلمة ، وقد جاء في الحديث : " مَوْتُ الْعَالِمِ مُصِيبَةٌ لا تُجْبَرُ ، وَثُلْمَةٌ لا تُسَدُّ ... " و صدق القائل :-
إذا ما ماتَ ذو عِلْمٍ وتقوى * فقَدْ ثُلمتْ مِن الإسلام ثُلمة
ولقد ترك - رحمه الله - بعد وفاته حديثاً حسناً يروى، وذكراً جميلاً يتناقله الناس، يشنف الآذان، ويملأ المسامع، وهم شهود الله في أرضه . ولقد أحسن القائل :
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها * فالذكر للإنسان عُمر ثانِ
رحم الله أبا عبد الله، الشيخ الزاهد ،وغفر له، ورفع درجته في المهديين .

صحيفة شقراء


وزير بلا أوزار
زياد الدريس *
الأربعاء ٨ مايو ٢٠١٣
 

حتماً ستكون هذه هي المرة الأخيرة التي أعيد فيها نشر مقالتي الأثيرة عندي عن الفقيد الراحل صالح الحصين يرحمه الله. نشرت هذه المقالة في عام ١٩٩٧م. (١٤١٩هـ.) في مجلة «المعرفة»، ثم أعاد نشرها آخرون لأكثر من مرة في مطبوعات ومنتديات. والآن وقد رحل هذا الرمز/ الفقيه الوزير المفكر الزاهد/ عن دنيانا مساء السبت الماضي، فإني لا أجد ما أرثيه به أفضل من أستعيد مقالتي الحوارية تلك، بتصرف طفيف.

****

«حين قررت أن ألتقي ثم أكتب عن صالح الحصين لم تكن رحلة البحث عنه سهلة كما توقعت، ليس ذلك لأنه شخص نكرة بين أهل المدينة المنورة، ولكن لأنه شخص لا يفقأ أعين الناس باسمه في كل مكان من صحيفة أو سقيفة. كان زاهداً في الأضواء وما تحمله كل حزمة ضوئية من ضجيج وصخب لا يكاد ينطفئ حتى تنطفئ شمعة الإنسان المضجوج بالزحام من قبل... ثم المضجوج بالإهمال من بعد!

في شقة متواضعة داخل عمارة أكثر تواضعاً وجدت العنوان. طرقت الباب ثم دخلت فإذا أنا أمام بيت لا يكاد يزوره «وزير»... فكيف يسكنه؟!

فتح الباب بنفسه ثم أدخلني في مجلسه الصغير المنعش بالبساطة والتلقائية.

حاولت أن آخذ منه دلة القهوة، لكنه أصر على إبقائها معه، كان مخجلاً أن يكون هو الذي يصب القهوة لمثلي، ليس لأنه وزير فحسب، ولكن لأنه رجل شارف السبعين من عمره ولا يزال بريئاً من عقد الألقاب وقوانين الشيخوخة! قال لي - عندما رأى تحرجي من شرب القهوة من يده - : «تقهوَ»... أنا ألذ ما عندي في القهوة صبّها!

هذا هو الإنسان/ صالح الحصين، الاقتصادي القانوني الوزير الخبير في وضع الأنظمة الأساسية لشعبة الخبراء وتأسيس صندوق التنمية العقاري، وغيرها من المهام والأعمال التي لا يعلمها كثير من الناس.

تلفتُّ في بساطة مجلسه... وتواضع ملبسه، بل حتى اللوحة المعلقة على أحد جدران مجلسه، فيها نهر جارٍ وحوله أشجار تبدو علامات التقشف على أغصانها الناحلة وأوراقها الشاحبة على رغم قرب الماء منها، فهي زاهدة في الارتواء من المياه المحيطة بها، وكأنها تقول لأغصانها: اخشوشنوا فإن المياه لا تدوم!

من وحي هذه اللوحة «الصالحة» لم أجد بداً من أن أسأل الشيخ عن حكاية الزهد والمعادلة الصعبة التي يقع كثير من الناس بين كماشة شطريها، قلت له: كيف نجمع يا شيخ صالح بين التحبيب إلى الزهد، ثم دعوة الله عباده إلى إظهار النعمة؟

أجابني فوراً إجابة الخبير الممارس: ليس هناك تعارض كما يبدو لك وللبعض، بل الجلاء في التوازن بين هذا وذاك، وموجز هذا قولة ابن تيمية عن زهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الشاكر نعمَ ربه: «لا يردُّ موجوداً، ولا يطلب مفقوداً»، بهذه المعادلة يزن الإنسان بين زهده وشكره.

قلت: وإذا كان الإنسان يملك رصيداً ودخلاً كبيراً من المال، فكيف يزهد؟

التفت إليّ وقال: وهل ينبغي عليه أن يصرف كل ماله في ملذاته؟ إن الرجل الرشيد ليستهلك من أمواله ما يحتاج، ثم ينفق ما بقي لمستقبله الذي أمامه.. ليس مستقبل الدنيا فحسب، بل الآخرة أيضاً.

ما دمت أنني أمام خبير في علم الزهد فلا بد أن أغتنم الفرصة فأسأله عن الإشكالية التي يلوكها كثير من الناس، حول الفروقات بين البخل والزهد. قلت للشيخ: كيف نفرق بين الزاهد والبخيل؟

قال لي من دون تردد: الفارق بسيط يكمن في فعل واحد هو التخزين أو الكنز، فالزاهد هو الذي لا يخزن أموالاً لديه، فهو لا يركض وراءها، وما جاءه منها فهو ينفق جزءاً منه على نفسه والباقي ينفقه في سبيل الله. أما البخيل فهو الذي يخزن الأموال لديه فهو لا ينفقها في سبيل الله ولا على نفسه، فهو يبدو في مظهره كأنه زاهد... وهو زهد كاذب!

حين انتهى الشيخ من كلامه في علم الزهد، أدركت كم تحمل أرقام الحسابات البنكية من حكايات البخلاء أو الزهاد. أدركت كم من هؤلاء من ينبغي أن يُودَع في الصحراء «الجاحظية» وكم منهم من يودع في الحديقة «العتاهية».

إذا جلست أمام الشيخ صالح الحصين فإنك لا بد أن تستحضر في ذاكرتك «الربا»، ربما لأن وقت الجلوس مع صالح الحصين «يربو» ويتضاعف من دون أن تشعر بحركة الرصيد من الدقائق! وربما أيضاً لأنك تدرك أنك تجلس أمام رجل حارب «الربا» بقواته وخيله ورجله كافة، ولا يزال يحاربه حتى يثخن جراحه ويطرده من جغرافيا الاقتصاد الإسلامي إلى تاريخ الاقتصاد اليهودي.

ولو سألت صالح الحصين إن كانت هناك إمكانية حقيقية لقيام عمل مصرفي إسلامي في خضم هذه الدوامة الرأسمالية الكاسحة في العالم اليوم؟ لأجابك بمنتهى الوضوح والصدق: إنه في كثير من الأحيان تكون العوائق وهمية وليست حقيقية، أي أن ذهن الإنسان يخلقها لتكون معاذيره في عجزه عن العمل أو عدم رغبته فيه. وعلى كل فإن الإنسان عندما يحرم العمل ويعطى الجدل يتشاغل بالبحث النظري عن النشاط العملي.

هكذا، يؤمن صالح الحصين بحكمته وحنكته أن التغيير إلى الأفضل لا يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها، وأن التدرج في التغيير هو أبرز عوامل رسوخ التغيير فيما بعد، وما لا يدرك كله... لا يُترك جله! (وقد كتب لاحقاً في نقد المصارف الإسلامية التي تستغل الاسم ترويجاً لأعمالها فقط، في مقالة عنوانها: المصارف الإسلامية ما لها وما عليها).

أردت أن أنتقل بالشيخ من هموم «الإيداعات» إلى متعة «الإبداعات».

كان ذلك في ريعان الشباب عندما أمضى خمس سنوات من عمره بين نهارات القاهرة ولياليها قبل قرابة 40 سنة، حين كانت القاهرة تزخر بجهابذة الثقافة والأدب العربي، وكان هو يمضي لياليه وأيامه في دراسة القانون حتى حصل على الماجستير فيه. ثم انتقل إلى باريس - بعد أن أمضى سنوات عدة وظيفية في الرياض - لإتمام رسالة الدكتوراه هناك، لكن ظرفاً وظيفياً قاهراً لم يمهله لإتمام رغبته التعليمية فعاد إلى مهمة جديدة في أرض الوطن.

قلت للشيخ - وأنا أبتسم - : ماذا بقي من الفرنسية؟

أجابني بابتسامة أوسع وأودع وقد أدرك سرّ ابتسامتي من شيخ نجدي يتحدث الفرنسية: عدم الممارسة أفقدني معظمها، بقي ما يكفي لقراءة روشتة الأدوية الفرنسية، أو تصفح بعض المقالات في القانون.

وقد أفاد الشيخ صالح في تجربته تلك في التعامل مع الآخر بأن استطاع أن يدرك الصيغة التعاملية التي ينبغي أن تقوم بين المسلم والآخر من دون انعزال مطلق أو انكباب مطلق. ها هو يقول - في إحدى مشاركاته الإعلامية - في معرض الحديث عن هذه العلاقة: «وإذا كان لا بد للمسلم أن ينتقد الغرب فليوجه انتقاده إلى عيوبه، أما مزاياه فينبغي أن ينافسه فيها ويسابقه إليها، واعياً أن العدل في الإسلام قيمة مطلقة، لا مجال فيه لازدواج المقاييس أو نسبية التطبيق، وسبْقُ الإسلام للغرب في تصور العدل لا يماثله مع الأسف إلا سبق الغرب للعالم الإسلامي الجغرافي المعاصر في تطبيقه - أي العدل».

تأملت وجه الشيخ فإذا هو مفعم بالنشاط والانتعاش، وجسمه نحيل لا يكاد يسمح بقدوم «شحمة» واحدة تفترش من جسده ما يحلو لها من المكان.. ومن عنفوانه ما يحلو لها من الزمان!

قلت في نفسي: ترى لماذا ترك هذا الرجل الحيوي العمل الحكومي باكراً من حياته، هل هي رغبة في عملٍ أكثر إدراراً... أو موقع أكثر ظهوراً وحضوراً؟ ولكن، أنّى لهذا الرجل الزاهد أن يكون همه الإدرار أو الإظهار؟! إذاً ما الأمر؟

سألته فقال: بعد أن أصبحت وزيراً انتظرت قليلاً حتى أتممت 20 سنة خدمة، الحد الأدنى للسن التقاعدي، فوجدت حينها أن راتبي قد أصبح عشرة آلاف ريال، وأنني إذا تقاعدت سأحصل على نصف الراتب أي خمسة آلاف ريال. وهو مبلغ كافٍ لأن يوفر لي حياة في منتهى الرفاهية (!)، ماذا سأعمل بما يزيد عن هذه الـ5000 ريال لو انتظرت؟!

هذه هي إجابة الرجل الزاهد، ويحسن بنا أن نطبق هنا قانون «النسبية» لندرك أي نوع من الرفاهية تلك التي سيعيشها صالح الحصين بهذا المبلغ من المال!

ها هو الوقت يمضي مع هذا الإنسان الودود، ولم يكن ليقطع هذا التواصل العقلي والروحي بيننا سوى ما هو خير من ذلك، إنه أذان المغرب يرتفع من مآذن المسجد النبوي تزف إلينا خبر الصلاة بجوار سيد الزهاد وأعمل العاملين الحبيب المصطفى محمد .

قلت في نفسي ستكون تجربة مميزة أن أحظى بمرافقة معالي «المأموم» صالح الحصين إلى الحرم النبوي، حيث ستفتح الأبواب المغلقة والصفوف المصطكة أمام حضرة هذا «المعالي». لم يكن يشغلني قبل الخروج من منزل الشيخ سوى التفكير، إن كنت سأكون الرجل الثاني خلف الإمام من اليمين، أم الثاني من اليسار؟! وهل سأكون ملزماً إن أخطأ الإمام أن أرد عليه لدنوّي منه قبل الناس جميعاً أم لا؟! كانت هذه هي الهواجس «العالية» عندي حتى خرجنا من منزل الشيخ، ثم إذا اقتربنا من الحرم وضع حذاءه تحت إبطه ثم سار بي وسط جموع «عامة» الناس. فلما وصلنا الحرم، تقدّم وسط الصفوف غير التامة من المأمومين حتى بلغ الصفوف المتكاملة وهو لمّا يصل بعد إلى باب الحرم، فتوقف في الساحة الخارجية المكتظة ووضع حذاءه بين قدميه ثم وزن قدميه على حافة البلاط غير المفروش... ثم كبّر للصلاة.

تلفتُّ يمنة ويسرة فلم أجد الإمام أمامي، ولا السّدنة خلفي، أما المأمومون المحيطون بنا من كل جهة فإني أكاد أجزم بأنهم قد تقاعدوا من عملهم في بلدانهم براتب أقل من راتب صالح الحصين ورفاهيته!

دعوت الله أن يرزقني قناعة مثل قناعة شيخي صالح الحصين.. ثم كبّرت للصلاة.

****

سأختتم بموقفين:

في مساء الأحد الماضي، أثناء العزاء في الفقيد، أخبرني ابنه د. عبدالله أن والده كان إذا أراد أن يعطي نسخة من أحد كتبه الذي طبعته إحدى المؤسسات وجعلت مقدمته مقالتي تلك للتعريف بالمؤلف (!)، كان يرحمه الله يعمد إلى تمزيق الصفحات التي فيها كلامي هذا عنه قبل أن يعطي الكتاب لأحد. ليسامحني الشيخ الفاضل الآن فمن حقه أن يتورع في مديحه وليس من حقنا أن نزهد في مديحه وذكره كما يستحق.

وقبل سنوات عدة، أقيم حوار جماهيري مفتوح مع الراحلين: صالح الحصين وغازي القصيبي، وفي مداخلتي بدأت بامتداح الضيفين البارزين فقاطعني القصيبي قائلاً مبتسماً: يا زياد امدحني أنا بس، الشيخ صالح لا يحب المدح. قلت مستغلاً السياق الفكاهي: وأنت يا د. غازي لا تحب الذم! فضحك الاثنان يرحمهما الله. كم ستفقد بلادي برحيل هذين الرمزين الفذّين!


* كاتب سعودي
twitter|@ziadaldrees
 




بعض أخبار ومآثر الشيخ صالح الحصين
2013-5-6 |
د. محمد الخضيري / أستاذ في جامعة الملك سعود
 

- زرت الشيخ صالح الحصين في شقته المتواضعة بمكة ومعي الشيخ عبدالله المسفر وكان الشيخ مريضا فجاءنا بالشاي ورفض أن نكفيه المؤنة فسقانا بنفسه.

- كان الشيخ صالح الحصين يطوف على الدول الأفريقية بنفسه وينفذ المشاريع بماله وإذا نزل بلدا حرص أن ينزل عند أحد الدعاة بدلا من الفندق.

- وحدثني الشيخ عبدالله المسفر أن الشيخ صالح الحصين اتصل به وطلب منه أن يكلف أحد الدعاة باستقباله في أحد مطارات الدول الإفريقية، فعلم الداعية وبلغ بقية الدعاة أن يقوموا بواجب الشيخ، وذهبوا ينتظرونه في صالة كبار الضيوف ولكنهم لم يعثروا على الشيخ صالح الحصين، وبعد وقت علموا أنه قد نزل مع سائر الناس وجلس في صالة المطار بثوب باكستاني ينتظرهم. فاعتذروا للشيخ عن تأخرهم وبينوا له أنهم ظنوه في صالة كبار الضيوف.

وأخبروه أنهم حجزوا له في فندق فخم فأبى وقال للداعية بل أسكن معك إن لم يكن عليك حرج، وفرح به الداعية.

وكانت عادته أن يتجنب سكنى الفنادق ما استطاع وينزل عند الدعاة ويعطيهم الأجرة ليستعينوا بها على حوائجهم.

- كان الشيخ صالح الحصين آية من آيات الله في التواضع واحتقار النفس والإزراء عليها، وكان يحترم الجميع ولا يفرق بينهم لنسب أو جاه أو منصب.

- صليت أكثر من مرة في صحن الحرم على البلاط فإذا سلمت رأيت الشيخ صالح الحصين يصلي بلا حشم ولا خدم ولا فراش ولا وطاء وهو رئيس إدارة الحرمين.

- لم يكن عند الشيخ صالح سيارة، وكان يقضي حوائجه ويسعى في مشاويره على سيارات الأجرة، ويقول ممازحا أنا أركب سيارات متنوعة وأنتم تركبون واحدة.

- عرضنا على الشيخ صالح الحصين مشروع قناة إفريقيا، ففرح به وشجع عليه وكتب تزكية له، وجعل للقنوات شيئا من وقفه لعلمه بعظم أثره وبالغ نفعه.

- وحدثني الشيخ يحيى اليحيى قال: رافقنا الشيخ صالح الحصين لإقامة دورة علمية في طاجكستان وكانت الدورة في مكان مليء بالبعوض، فلما أصبحنا رأيت في وجه الشيخ أثر الإرهاق، فأخبرني أنه لم ينم فقلت له نستأجر لك في الفندق في المدينة فتمنع وألححنا عليه فرضي، ثم جاءنا اليوم الثاني والإرهاق باد عليه، فقلت له: ألم تنم. فقال: ما جاءني النوم كلما تذكرت مكانكم تألمت وجفاني النوم. وكان الذي ذهب به إلى الفندق شاب فلسطيني، فأحبه الشيخ وسأله هل حججت؟ فقال: لا. فوعده بأن يحج على حسابه. ففرح الشاب بالخبر ودعا للشيخ كثيرا.

- كان الشيخ صالح الحصين يحج ماشيا ويحمل معه متاعه ويجلس بين الناس، وإذا سأله أحد عن الحملة؟ قال: في حملة الرصيف الصالح أو رصيف الرحمن.

- وكان الشيخ صالح الحصين يرى أن لا يلزم الناس بالحج في الحملات وأن يخصص للحجاج المشاة مكان يسكنون فيه، وأن المحظور هو السكنى في طرقات الناس.

- لما عاد د. السلومي الشيخ صالح الحصين في مرضه الأخير، دعا بدعوة لم تكن معهودة فقال له: نسأل الله أن نلتقي في الجنة، كأنه آنس دنو أجله.

- تقلد الشيخ صالح الحصين لقب معالي قبل 40 عاما، وما رُئي عليه شيء من أبهة اللقب ولا غروره، لكنه كان يحمل معاني المعالي بحق ويمشي بها في الناس.

- لم يكن الشيخ صالح الحصين يتكلف في حديثه ولا منطقه ولا نبرة صوته، وكنت إذا سمعته يتحدث قلت هذا من أعيا الناس ووالله لقد كان من أوعاهم.

- يقول الشيخ عبدالرحمن آل الشيخ كُلف الشيخ صالح الحصين بصياغة كثير من الأنظمة، ويجلس على صياغتها مع أصحابه الساعات الطويلة ولا يتقاضى شيئا، ويقول: أنا آخذ راتبا مجزيا وهذا من عملي ولا ينكر على من يأخذ. وكانوا يجلسون من بعد العشاء إلى قريب من الفجر.

- يقول الشيخ عماد الدين بكري، وهو من فضلاء السودان، زرت الشيخ صالح الحصين في مكتبه فدعاني لغدائه، فخرجنا من المكتب إلى بيت الشيخ، وكان في الجبل، وكان بيتا متواضعا، فلما رآني قد حفزني النفس من الصعود، وكنت مصابا بالربو، اعتذر إلي بشدة وقال لو علمت أنه يؤذيك لنزلت بك إلى المطعم. قال الشيخ عماد وحدثته عن طالب علم سوداني أخذ للسجن بغير حق وطلبت منه الشفاعة، فلما توثق كتب لأمير مكة كتابة قوية، وقال أنا ضمينه فأُفرج عنه.

- لا أعلم من وقف مع شيوخ العمل الخيري يزكيهم ويسعى في الإفراج عنهم كما فعل الشيخ صالح الحصين، لأنه كان يخالطهم ويرافقهم وكانوا يستفتونه ويستشيرونه.

- قال د. صالح العايد: للشيخ صالح الحصين مشروع رائد قبل 30 عاما في رعاية الطلاب الموهوبين في تنزانيا، تخرج فيه عدد من القيادات وأساتذة الجامعات.

- عندما طلبنا من الشيخ صالح الحصين أن يكون رئيسا لمجلس أمناء قنوات إفريقيا، اعتذر لانشغاله ومرضه وقال متلطفا: أخدمكم وأنا خارج المجلس أفضل.

- حضرت حفلا بمشلحي، وكان على شرف الشيخ صالح الحصين، فلما قدم رأيته بثوب وحذاء متواضع، فاستحييت وخلعت المشلح ولما تكلم بهر الحفل بمعلوماته.

- قدم الشيخ صالح الحصين خدماته بكل تفان وبلا مقابل للبنوك والشركات التي ترغب في أسلمة معاملاتها، فإذا أنس منهم عدم الجدية بادر بالانسحاب.

- كان يتمنى أن يوجد بنك إسلامي متميز يأتيه الناس رغبة في حسن تعاملاته وجودتها لا لأجل الديانة والبعد عن المعاملات المشبوهة والمحرمة.

- ناصر الشيخ صالح لحصين العمل الخيري ودافع عنه ويكفي للتدليل على ذلك مقاله الذي كتبه على فراش المرض: جهود الغرب في تحجيم العمل الخيري.

- كان الشيخ صالح الحصين إذا سافر لحضور بعض المؤتمرات يحمل كيسا بيده فيه غيار واحد من اللباس ولم يكن يحمل حقيبة ولا شيئا مما يفعله الناس.

- لما تقلد أحد المناصب جاء الخادم ليخلع مشلحه خدمة له، فالتفت إليه وقال: إن خلعته أو تركتني أخلعه فلن يتغير اسمي فأنا صالح الحصين.

- للشيخ صالح الحصين عناية فائقة بالأوقاف ودعوة إلى إحيائها وتنويعها وشمولها وتأصيل لها ومعرفة بتاريخها في الإسلام.

- وللشيخ صالح الحصين حرص بالغ على الإعلام الإسلامي ودعم له بالمال والجاه والمشورة والتزكية، وخصوصا ما كان منه بغير العربية. وقد جربت ذلك منه.

مجلة العصر
 



صالحون عرفتهم: الشيخ الزاهد صالح الحصين
2013-5-5 |
د عبدالعزيز السدحان
 

آل حصيّن أُسرة كريمة خرج منها علماء وعبّاد رحم الله موتاهم وبارك في أحيائهم،وإليك تغريدات قليلة فيما رأيت فيه وسمعت منه:

١/ الشيخ صالح الحصين من أعجب رجال هذا الزمن زهداً وتواضعاً وأدباً. وللتاريخ أقول: لو أدركه ياقوت لترجم له في (معجم الأدباء)، ولو أدركه أبونعيم لترجم له في (حلية الأولياء) ولو أدركه الذهبي لترجم له في (سير أعلام النبلاء).

٢/ صالح الحصين من الثلة القليلة المتميزة من المشايخ الذين عرفتهم بالبعد عن حب الظهور ديانةً وطبعاً وسلوكاً.

٣/ حدثني الشيخ صالح الحصين: فذكر أنّ المدينة النبوية كانت صغيرة في أول رؤيته لها. ثم قال: والحرم الآن أكبر منها مساحة من دون ساحاته الخارجية.

٤/ ذكر لي الشيخ صالح الحصين أنه يحب المشي، لكنه يتضايق من كثرة من يقف له بسيارته ليركبه. قال فكنت أمشي جهة إقبال السيارات جانب الطريق لتعذّر رجوع السيارة إذا تجاوزتني ولو قليلاً.

٥/ حضرت للشيخ صالح الحصين محاضرة أقامتها دارة الملك عبدالعزيز، تحدث فيها عن كتاب للأمير مساعد بن عبدالرحمن. فلله دره في حسن عرضه وجمال استشهاده؟

٦/ تواضع الشيخ صالح الحصين: أحسبُ لو أنه قُسِمَ على ثُلّة من المسؤولين لكفاهم.

٧/ يذكرني الشيخ صالح الحصين بالخليل بن أحمد عندما يذكر الفائدة النفيسة دون توطئة لها أو إشعار السامعين بما يدل على نفاسة الفائدة.

٨/ زارني في بيتي للعزاء في والدي رحمه الله تعالى -بعد انتهاء العزاء بأيام- دون سابق خبر بمجيئه وكنت في شرق الرياض فدخل عند أحد الجيران، وأخبروني أن الشيخ عندهم فرجعت إليه وأخذته إلى بيتي وكانت نفسه سمحة مع طول انتظاره. وآنسني بعزائه وحديثه عن والدي وجدي رحمهم الله جميعاً.

٩/ زرته مرة -عندما كان مريضاً- في بيت ابنه ولم أتقن وصف بيته، فاتصلت على البيت فردّ عليَ ووصف لي البيت وخرج بنفسه في شارع المنزل، فجزاه الله خيراً على تواضعه.

١٠/ الشيخ صالح الحصين بُلي بالشهرة فجلس على كرسي الرئاسة في مناصب كثيرة وداخل الوجهاء، ثم قام عن تلك الكراسي وفارق تلك المناصب، ولم يفارقه تواضعه، بل أحسب أنه زاد تواضعاً.

١١/ الشيخ صالح الحصين من الذين إذا حضروا لم يُعرفوا، مع رفيع منزلته وأحسبُ أنّ هذا من عظيم تواضعه رحمه الله تعالى.

١٢/ من عجيب أمره عندما كان رئيساً لرئاسة الحرمين، أنه كان يصلي في الحرم في أماكن بعيدة عن الإمام، مع أنه بحكم منصبه يستطيع أن يصلي خلف الإمام في كل فرض. وأحسبُ أن تركه ذلك من باب الورع في حجز مكان له.

١٣/ توفي رحمه الله تعالى يوم السبت ١٤٣٤/٦/٢٤ وصُلي عليه بعد صلاة عصر يوم الأحد ٦/٢٥ في جامع الراجحي بعد صلاة العصر.

اللهم ارفع درجته في المهديين واخلفه في أهله في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين.
 



هيبة الرحيل..كلمات خلف جنازة الشيخ الجليل صالح الحصين رحمه الله
2013-5-7 |
شعر: د. حبيب بن معلا
 

وداعك يا جم المهابات جارحُ  --- وفقدك في روع الشجيين قارحُ

سلام ٌعلى الوجه المشعّ سماحة --- يفيض به نبل وتسنى ملامحُ

أما والذي ساق القلوب لحبه --- لقد خفقت من حزنهن الجوانحُ

يقولون لا تذر الدموع فانكفي --- أغالب قلبا أثقلته الفوادحُ

سلام على الشيخ (الحصيّن) كلما --- تقلب طير في الفضاءات سابح

فقدنا بفقد الشيخ علما ورحمة --- ونبلا زكا لا تحتويه المدائح

وزهدا يحار الواصفون بوصفه --- من القلب ليست تستبيه المطامحُ

يعيش على حد الكفاف ولو يشا --- لكان له في كل سوق مرابحُ

وعقلا سديد الرأي تعلوه هيبة --- وسمتا على نهج التقى لايبارح

وبذلا لنصر الدين سرا وجهرة --- وسيبَ عطاء كلما عنّ سانح

يحج بركب الأخفياء ويتقي --- ضجيج (المعالي) تصطفيه المطارحُ

تراه على درب المساكين باسما --- يلاطفهم والقلب بالبشر طافح

ترى جهده في كل صرح من الهدى --- بصمت وفقه طيبته النصائح

ويسلب لب السامعين محدثا --- ويكتب سرا لم تنله القرائح

عليك سلام الله كل عشية --- لقد بعت دنيانا وبيعك رابحُ

إذا افتخر الأقوام ..كل برمزه --- فنحن لنا فخر هو الشيخ (صالح).
 



الشيخ صالح الحصين: شخصيته وفكره (1)
2013-5-5 |
د. محمد الأحمري
 

* شخصيته:
"رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربته، إن أمر بشيء كان ألزم الناس له، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، ما رأيت ظاهرا أشبه بباطن منه، ولا باطنا أشبه بظاهر منه"، قال ذلك الحسن البصري عن عمرو بن عبيد، وما أراني قائلا خيرا من هذا عن الشيخ صالح الحصين.

كتبت مرة عن الشيخ: "ما عرفت فيلسوفا حيا إلا صالح الحصين"، إنه من أبرز الحكماء الأحياء، وجاءت الردود لتسأل ما هي مؤلفاته؟ وماذا كتب؟ وما هي النظريات؟ وكأن حكماء البشرية ما عرفوا إلا بالكتابة والتأليف أو أن تقييمهم يتم من خلال كتبهم، فسقراط لم يترك كتابا وكذا كثير من حكماء البشرية الكبار؛ مقابل ذلك نجد أخبار الفلاسفة الحمقى قد ملأت مكتبات العالم.

لذا، فإن العقلاء عبر القرون لا يخلطون بين مقولة ذكية أو تركيبة فكرية مهمة وبين حياة حكيم وتعاليمه وسلوكه، أمّا هنا فنحن أمام حكيم من الحكماء عزّ وجود مثله، ولكنه أيضا عالم فطن، ترك آثارا ورؤى تستحق المعرفة والفهم.

ومن هنا قسمت هذه المقالة ما بين الشخصية والفكر تسهيلا على المهتم، لا لأن الأمر كان سهلا، فإن من اليسير لمن عرفه أن يمزج الحديث عن فكره بالحديث عن سلوكه، لأنه ما كان يستطيع التفريق ولا الحياة بشخصيتين، كما يفعل كثيرون ممن يلبسون لكل حالة لبوسها.

فالحكمة عنده هي أن يعيش الإنسان وفق منهج حكيم يلزم به نفسه ويمارسه، ويحرص على نشره في مجتمعه بواقعه الحي ونقاشه مع من تتلمذ عليه أو اقترب منه -ولا يحب أن يقول أحد إنه تلميذ له، ولا أخذ عنه شيئا- فالتواضع عنده مسألة محسومة بكل طريق.

والشيخ طالب حكمة كبير، ومنفّذ لما يؤمن به، وأعلى الشجاعة أن تعيش وفق ما تؤمن به، وليس وفق ما يرى الناس أن تكونه، فالغالب أن الناس يعيشون حياة القطيع، لأنها أسهل، ولا تحمّل الفرد صعوبة المخالفة للمجموع. ولعلك تجد في نص طريف كتبه بنفسه ما يدلك على الشخص الذي نتحدث عنه؛ كتب مرة:

"كنت مغرما في مرحلة المراهقة بقراءة كتب الصحة النفسية، والعبارة التي قرأتها في أحد هذه الكتب ولم أنسها حتى الآن هي: (كن كما أنت) أي لا تتظاهر بأنك أغنى، أو أذكى، أو أعلم، أو أتقى، أو أفضل مما أنت في الحقيقة. طبعا لا أدعي بأني -في حياتي الطويلة- التزمت بمضمون هذه العبارة، ولكني أعتقد بأن رياضة النفس وتدريبها على مضمون هذه العبارة وسيلة نافعة للصحة النفسية، والشرط الأول في ذلك محاولة معرفة النفس على حقيقتها، والله الموفق".

وقد سمعت عن الشيخ صالح الحصين كثيرا قبل أن يزورنا مع أهله في شهر أغسطس في أمريكا من عام 2001م، ورتب لهذه الزيارة قريبُه الأستاذ سامي الحصين، فتوجه من نيويورك إلى مدينة (بتسبرج) بالسيارة في طريقه إلى مقر "التجمع الإسلامي لأمريكا الشمالية" في (آن آربر ميشجن) واستقبلته وبقي في المدينة وما جاورها حوالي أسبوعين، وسافرت معه إلى كندا، وزرنا معالم ومدناً ومؤسسات عديدة، وتحدثت معه حول كل ما خطر بالبال ومشينا معه على الأقدام مسافات، وكان صحيح البنية خفيف المشي، لا نكاد نلحق به وهو في أواسط السبعينيات من عمره.

وكان يمشي -قبل الوزارة- مع زوجته مسافات حول الحرم المدني كل ليلة بعد صلاة العشاء، وربما احتاج للتنكر أحيانا حتى لا يشغله الناس بسؤال أو سلام.

ولد الشيخ في شقراء عام 1351هـ الموافق: 1932م وهو ينتسب إلى قبيلة تميم، ثم غادرها مع أقاربه إلى المدينة المنورة واستقر فرع من العائلة هناك منذ ذاك، قال: "كان ذلك سبب نزوحنا للمدينة المنورة"، وكان كثير الثناء على مؤسسي القضاء في المدينة المنورة وبعضهم من ممن مارسوه في العصر العثماني ثم لم ينقطع عملهم ومدرستهم وتأثيرهم في العهد الجديد.

معتدل الجسم خفيف البنية أبيض خفيف الشعر جدا، درس في كلية الشريعة في مكة 1374هـ، ودرس لمدة ثلاث سنوات في معهد الرياض العلمي، وأتم دراسته للماجستير في معهد جامعة الدول العربية في القاهرة.

وكان من أهم أساتذته الشيخ القانوني الكبير عبد الرزاق السنهوري، وقال عنه: "ما فهمت حكمة الفقه والتشريع الإسلامي إلا منه"، ثم ذهب إلى باريس لاستكمال الدراسات العليا القانونية وبقي بها عاما ثم مرضت أمه فعاد ليهتم بها، وهو يعرف اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وأعلمُ عنه إجادة عالية للإنجليزية وكان يقرأ بها ويسمع ويتحدث، وفي فترة دراسته في مصر وفرنسا قال: إنه اهتم بالأفلام الأمريكية فما خرج فلم في تلك الأزمنة إلا رآه.

وما كان يحرص على أن يقول رأيه في الأشخاص إلا عندما يرى الحاجة كبيرة لذلك، في أحد النقاشات أظهرت له إعجابي بأحد المفكرين وجهوده الرائعة، ولما أحس مني اندفاعا لتأييد ذلك المفكر المؤثر، أثنى عليه بما هو أهل له، ثم أخبرني أنه متطرف –وعصبته- في موقف محدد، وكأنما أيقظني من نومة فكرية سببها الإعجاب بالحق ونسيان ما تلبسه، مما سبب تسللا لأفكار غير مفحوصة سببها الثقة العامة في مفكر أو عالم ما، وكانت تلك المرة ربما المرة الوحيدة التي صدم قناعتي لغاية تبينتها. وما غبطت ممن عرفت من المثقفين على عقله مثله، وكان يختار كلماته بعيار دقيق، يجعلك تهتم بمستوى العبارة فلا يرتفع إلا لسبب مهم عنده، أما سياقه العام فهادئ متوازن.

وقد عرف عنه الاهتمام بالعمل الفكري الحضاري، فكان ممن أقنع الراجحي برصد مبلغ كبير لتأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، فكان أن منح المعهد وقفا بمائة مليون دولار للتشغيل وإنشاء أوقاف للمعهد.

وكانت له تبرعات ويجمع الأموال من الأغنياء الذين لا يردون له طلبا للمدارس وللأعمال الخيرية الكثيرة حول العالم، من الباكستان والهند إلى غرب إفريقيا وجنوب إفريقيا وأمريكا وأوربا.

وكان مهتما بعملنا الإعلامي والثقافي في أمريكا سنوات قبل زيارته لنا هناك، وقرر العمل على شراء مقر كبير للتجمع لولا أن حالت أحداث سبتمبر دون ذلك، ثم بقي مهتما بمجلتنا "المنار الجديد" وكان يراجع معي بعض المقالات ويناقش وينتقد. واهتم بإذاعة وموقع "طريق الإسلام- إسلام واي"، وبأعمال ومؤتمرات كنا نقيمها في دول وولايات عديدة.

كان من أصحاب فكرة مشروع رائد وهو "صندوق التنمية العقاري" وتولى رئاسة مجلس الإدارة. وكان عضوا في المجالس العليا لخمس جامعات، ويكره الإعلام والشهرة، ويعتذر عن المقابلات التلفزيونية وغيرها. وقد تجده مهوّنا من جهده ومن نفسه بلا تصنع فينقل عن والدته أنه قال لها: عيّنوني مستشار ا في الديوان الملكي، قالت له أمه "دولة أنت مستشار لها الله يعينها" -أو نحو قولها- وكان يعمل في مزرعته ساعات طوالا بنفسه، ويقوم بكل العمل المعتاد، ولا يحب مظاهر الرئاسة ولا ألقابها، ويركب على الدرجة السياحية في الطائرة مع عامة الناس.

ولما طلب منه نشر فتاوى وخطب مشايخ الحرم قال بنظرة عميقة واسعة: "ليس كل ما يقال من محاضرات وفتاوى في الحرم يصلح لكل المسلمين في العالم" فهو يعرف قصور نظر بعض المشايخ والخطباء عن وعي قضايا أبعد من مداهم، كما لم يكن له علاقة بتعيين الخطباء والقراء.

كان يعيش حياة بسيطة لا يثقل نفسه بمتاع ولا غيره، دخلت مساكنه في مكة والمدينة فكانت في غاية البساطة، بل دون متوسط عامة الناس بكثير، ولم يكن يدّخر لنفسه شيئا فيما أعلم، كانت له شقتان إحداهما في مكة والأخرى في المدينة المنورة، وإذا حلّ الموسم وجاء الحجاج أعطاها للحجاج من مختلف البلدان، زرته عدة مرات، في مكة والمدينة والرياض، فكانت لقاءاتنا علمية حميمة معرفية، ننهل خلالها من حكمته ثم نخفّ عليه قدر ما نستطيع فهو حيي جدا، كان يحرص على مشاركته طعامه البسيط، وفي مرة زرته مع نسيبي فأكرمنا بمشاركته غداءه، وعندما خرجنا قال عجيب هذا الرجل لا يكاد يصدق من يراه أنه وزير!

ومرة قال لصديق: "إنه لم يعزم أمير مكة عبد المجيد رغم قربه منه تجنبا لما يكرهه من التبذير"، وكان لا يحب أن يأكل طعام الطائرات، قال: "إن أخذته أخذت قليلا منه، ثم يرمونه ولا ينتفع به أحد".

عين في أول أمره مستشارا في وزارة المالية بعد عودته من فرنسا 1961، ورئيسا لهيئة التأديب، وزير دولة للشئون القانونية ورئيسا لشعبة الخبراء، وعضوا في مجلس الوزراء، عام 1964 في عهد الملك فيصل، وهو من أصدر قرار تعيينه، فلم يحب هذا المنصب، وقرر من بداية الأمر الخلاص وقال: "استشرت صديقا لي عين معي فقال: "إن الملك قد لا يفسر قرارك كما تظن، فاصبر ستة أشهر ثم قدم طلب تقاعد مبكر، قال ولما مر على عملي ستة أشهر قدمت للملك طلبا للتقاعد أو الاستقالة، فأخذه ثم وضعه في الدرج، ثم انتظر أربع سنين وبعدها استدعاني ثم قال ألم تزل على رأيك؟ يقول قلت نعم، قال كما تحب ولكن إن احتجناك تأتينا؟ قلت له: نعم على طلبكم، ثم غادرت. وبعد زمن استدعاه مدير الديوان وكان شخصا جديدا تعين بعد ذهابه، قال: "فجئت الديوان وسلمت وجلست، وقابل مدير الديوان الموجودين فلما انتهى منهم قال: وأنت ماذا تريد؟ قال: لم آتكم وإنما طلبتنموني، قال أنت صالح الحصين؟ قلت نعم، فلماذا ملابسك أشبه بملابس الفلاليح؟ أي الفلاحين. قلت هذه طريقتي، ثم أعانهم بما أرادوا وخرج." وقد بدأ مشروع مرزعة عندما ترك العمل الحكومي في المرة الأولى، وكانت مزرعته مهوى محبيه وزواره على بساطة وتخفف من أثقال الدنيا، وكانت مفتوحة لرجال الدعوة من أي مكان، وكان كثير القراءة ولا يقتني الكتب، جئته بأحد الكتب الغربية التي كتبت عنه وعن زيارته لأمريكا وقصة الأستاذ سامي الحصين، فقال لي : "إني لا أحب أن يُعيرني أحد كتبه، فإما أن تأتي وقت إنهاء الكتاب وإلا فإنني أتخلص منه، قلت: هذه نسختك، وكان يقرأ في العقود الأخيرة بالمكبر، وكان له خط جميل، وهو من العقول الكبيرة الذين أفادتهم الكتب ولم تستول عليهم، يأخذ حكمتها وخير ما فيها ثم لا يتبعها ولا يجمعها ولم يحرص على الكتابة إلا قليلا في أواخر نشاطه. وكان في مكتبه وزيرا عندما زرته، فكان لا يأبه بقول ما يعتقد في أمور لا يجرؤ من هو في مثل منصبه أن يقولها.

عندما تعين وزيرا لشئون الحرمين عام 1422هـ رفض إيداع رواتب الموظفين في البنوك، ولم يقبل حتى رفعوا عليه دعوى في ديوان المظالم، هربا من أن يكون له دور في مساندة البنوك الربوية أو رفعا لحرج مساندته للربا.

وفي الحج كانت الحكومة تمنع الافتراش في مناسك الحج، وتمنع الحجاج أن يحجوا دون أن يشتركوا في حملة توفر السكن لهم، ولكن وزير شئون الحرمين الشيخ صالح يحج مع البسطاء والزهاد ويفترش مع فقراء المسلمين الذين لا يجدون مكانا ولا مخيما، ويأبى البقاء في القصور الحكومية، كما ذكر هذا لي الدكتور محمد السلومي.

ولم يمتلك سيارة في حياته، قال: "كان يصر ناس على نقلي بسياراتهم فأتجنب طريقهم وأمشي على الجهة الأخرى المخالفة لاتجاههم من الطريق"، ولم يحمل هاتفا جوالا، وقيل: إنه طلب منه بعد توليه الوزارة ففعل إذا سافر خارج مكة والمدينة، ولم يكن يحرص على مكانه المخصص خلف إمام الحرم في الصلوات بل يصلي حيث يتيسر له، وبيّن مكانه للموظفين وهو مكان قريب من أحد مداخل المسجد ليجدوه فيه لو طرأ طارئ فاحتاجوه.

وقد كان ممن يشرف بهم المنصب ولا يشرف هو به، فكان متواضعا يكره أن يقال له: "معالي الوزير"، ومرة قال: "إن كتبت عني يا فلان فريحني ولا تقل معالي ولا مهابط". فكان يأبى كتابة وصف منصبه بـ "رئيس كذا"، ويأنف من الألقاب الرسمية، تلك التي يرتقي بها ويتطاول لها الصغار ، ولكنها لا ترفع الكبار مثله فهو يدرك أنها ألقاب دونه، ولا يترفع بها على أحد.

وكان الشيخ لا يتكلف في اللباس، ويلبس اللباس البسيط، فقد قابلته أول قدومه في لباس رسمي قميص بين الكوت والقميص -على طريقة لباس المصريين- الصيفي في الستينات يوم كان لهم لباس وطني يعتزون به، ليس الغربي تماما ولا القديم، ثم رأيته في لباس البنجاب، وفي البلد في ثوب أبيض وغترة بيضاء.

كان كثيرا ما يفضل الجلوس على الأرض بدلا من الكنب، مفترشا رجله اليسرى رافعا ركبته اليمنى، ويستقبل ويناقش، قلت له مرة ألا ترتفع فوق على الكنب قال: "أرتاح بهذه الجلسة"، قال: كان والدي يجلس هكذا في الحرم المكي يوم توفي عام 1384هـ عام 1964م تقريبا.

وكان يمنع أي أحد أن يقبله على رأسه كما درج على ذلك الناس تقديرا للكبير وذي العلم والقدر. وما كان يحب أن يحاضر إلا في فكر وبحث جديد، وإلا فإنه يفضل النقاش أو الصمت، ومرة جاء يزوره شباب سمعوا عن وجوده في آن آربر، فطلبوه محاضرة أو فاتحة علم "ما" فرد عليهم: بأن "النقاش أفضل من تكرار قول معروف أو معاد"، وكان النقاش معه متعة لا مثيل لها.

كان في سفره يحرص على مشاركة زملائه ولو في سن أحفاده على خدمتهم ومساعدتهم في شئون السفر والطعام، ومرة قدم لي الشاي فحرصت على صبه فأبى قائلا لا أمتهن ضيفي، فمازحته: أعلم تقديرك وقدرك، ولكن أعطني أصب الشاي حتى لا تكبه علينا!

وكان يصر على خدمة ضيفه ويداه ترجفان مع ضعف البصر، ولا أعلم أنه استخدم خادما حتى مرض مرضه الذي مات منه. وكانت آخر زيارة له وقد أقعده المرض في بيت ابنه الدكتور عبد الله الذي عرفته منذ نحو ثلاثين عاما فكان من خير من عرفت نبلا وتواضعا.

ومن صرامته مع مبادئه أنه لم يقبل المساومة عليها، فقد كان عضوا في لجان شرعية لبعض البنوك ثم تركها بناء على أن تلك اللجان كان يهمها وضع أغلفة إسلامية لممارسات ربوية.

ويكفي أن تقرأ له هذه الكلمة في مقدمة كتابه: خاطرات حول المصرفية الإسلامية، قوله: "والمقالات التي تضمها هذه المجموعة تظهر أن النظام المصرفي المبني على الربا الصريح أو الربا المغلف الذي يطبق تحت اسم المصرفية الإسلامية، ليس هو الوسيلة الصحيحة للإصلاح الاقتصادي في العالم الإسلامي" [1]، وكان يتجنب الفتوى دائما، ومرة سأله حاج عن حكم فأحال السؤال لطالب علم بجواره، فأبى الجواب فدلّه على ركن المفتين في الحرم.

وكان يحرص على فتح أفق مخاطبه لما لم يتنبه له من أطراف أي موضوع يطرح، ففي مواقف عديدة تسأله أحيانا فيجيب بغير ما كان أجاب به سابقا، أي يعطيك المناسب للحظة من الموضوع والنقاش، ولا يجمد على جواب واحد إن كان سبق أن قاله لك أو لغيرك.

وعندما شاركت في الحوار الوطني الثالث 1424هـ 2004م -وكان قد تعين مدير لمركز الحوار الوطني ذلك العام- بعد عودتي للبلاد شهدت إدارته للمؤتمر، وما كان يحرص على حضور شخصي ثقيل ولا توجيه مركزي للجلسات، بل أعطى فكرة موجزة ثم سلم إدارة الحوار لآخرين، وفوجئت به يأتي إلي مرحبا ومسلما بعد أن سمع صوتي، فما كان يبصر عبر القاعة بسهولة.

ولما حضرنا عند الملك قدم محاضرة ضافية في نحو عشرين دقيقة أو تزيد معتمدا على شواهد ومراجع وقصاصات كان يحملها بجانب النص، ولم يهزه جمع ولا إعلام ولا تباين آراء، ثم جلس إلى جوار الملك فرحب به، وأثنى على علمه وتواضعه.

كان الشيخ يهتم بآراء بعض الكتاب ممن ترجمت أعمالهم أو لم تترجم للعربية ومنهم محمد أسد وقد كتب تلخيصا لآرائه الحضارية والإسلامية، وكان يقرأ للفيلسوف القسيس الأمريكي "نيبور" واهتم بقضايا المرأة الغربية والاقتصاد، ولعل الاقتصاد هو ميدانه الأهم الثاني بعد فلسفة التشريع والقانون.

ولما عدت للرياض وقابلته حرص على أن يطلعني على نصوص مؤلفاته ومقالاته المهمة وكانت تنشر في مجلة العصر، وكان يتواضع ويطلب ملاحظات وتعليقات وجل ما راجعت وكتبت له عن كتابه: "التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب"، كانت أمورا شكلية ولكنه كان يحرص على كمال نصوصه وتدقيقها.

ودعته يوم 8 أو 9 سبتمبر من عام 2001 من مطار ديترويت متجها لواشنطن وليقابل بعض أصدقائه في معهد الفكر، ونزل هناك وكان من المفترض أن يغادر واشنطن يوم 11 سبتمبر 2001، ولم يتمكن من السفر وجاءه رجال الإف بي آي في فندقه لعله كان اليوم الثاني للحدث، وحققوا معه طويلا، وفقد وعيه أثناء التحقيقق ولعلهم أرهقوه، ثم استعاده فزعموا أنه كان يمثل عليهم.

وقد وضعوه في غرفة وزوجه في أخرى فلم يجدوا إلا تطابقا تاما في كل شيء، ولعل ما أثار شبهتهم ما قيل إن أحد الذين قادوا الطائرة سكن في الفندق نفسه الذي سكن فيه الشيخ ليالي قبل ذلك، أو أنه بات في الفندق في الوقت الذي كان الشيخ في الفندق نفسه، ولفت انتباههم جدول زياراته المليء وعلاقاته الواسعة، ومعرفته.

فآذوه بالسؤال الطويل ولكنهم لم يؤخروه عن سفره، لأنهم لم يجدوا عنده ما يمكن ربطه بمن عبر وسكن في الفندق، وقد سافر في أوائل الرحلات بعد استعادة الطيران بين أمريكا والعالم.

رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وقد حرصت على سرعة نشر هذا قبل دفنه، وفي الحلقات القادمة إطلالة على بعض أفكاره وآرائه الفقهية والفكرية بإذن الله.

[1] ص 9


مجلة العصر

 



عالم الزهاد وزاهد العلماء
2013-5-6 |
 زياد الدريس


الشيخ صالح الحصين الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف ووزير الدولة عضو مجلس الوزراء سابقاً.

* عندما تراه تحس أنك رأيت رجلاً من التابعين:

في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت رحلة البحث عن هذا الرجل الذي سيأخذني من هذا العصر المشتعل إلى ذلك العصر اللامع قبل مئات السنين، عصر الصفوة من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أولئك الذين باعوا دنياهم بدينهم.. وحياتهم بآخرتهم.

أولئك الزهاد الذين اكتفوا من الدنيا بلقيمات يقمن صلب حياتهم المعيشية.. لقيمات من المأكل ولقيمات من المال ولقيمات من النوم، تمنحهم القدرة على القيام بمناشطهم في الدعوة والعبادة، ويشبعون بها شهوتهم من الدنيا دون الركون إليها.

لم تكن رحلة البحث عن هذا الرجل سهلة كما توقعت، ليس ذلك لأنه شخص نكرة بين أهل المدينة المنورة، ولكن لأنه شخص لا يفقأ أعين الناس باسمه في كل مكان من صحيفة أو سقيفة!

كان زاهداً في الأضواء وما تحمله كل حزمة ضوئية من ضجيج وصخب لا يكاد ينطفىء حتى تنطفىء شمعة الإنسان المضجوج بالزحام من قبل.. ثم المضجوج بالإهمال من بعد!

أخذت وصف منزله من أحد العارفين بشؤونه، قال لي: في إحدى عمارات الأوقاف قبالة الحرم النبوي ستجد الرجل «القديم» الذي تبحث عنه.

طرقت الباب ثم دخلت فإذا أنا أمام شقة لا يكاد يزورها «وزير».. فكيف يسكنها؟!

هاهو أمامي الآن: أبو عبدالله بن عبدالرحمن الحصين.. وإن شئت تعريفه باللغة الحديثة المفعمة باجتلاب الألقاب فإنه: معالي الشيخ صالح الحصين وزير الدولة عضو مجلس الوزراء سابقاً.

| * |


فتح الباب بنفسه ثم أدخلني في مجلسه الصغير المنعش بالبساطة والتلقائية.

حاولت أن آخذ منه دلة القهوة، لكنه أصر على إبقائها معه، كان مخجلاً أن يكون هو الذي يصب القهوة لمثلي، ليس لأنه وزير فحسب، ولكن لأنه رجل شارف السبعين من عمره ولايزال بريئاً من عقد الألقاب وقوانين الشيخوخة!

قال لي ـ عندما رأى تحرجي من شرب القهوة من يده ـ «تقهو».. أنا ألذ ما عندي في القهوة صبّها!

| * |


هذا هو الإنسان صالح الحصين، الاقتصادي القانوني الوزير الخبير في وضع الأنظمة الأساسية لشعبة الخبراء وتأسيس صندوق التنمية العقاري، وغيرها من المهام والأعمال التي لا يعلمها كثير من الناس.

تلفت في بساطة مجلسه.. تواضع ملبسه، لم أجد بداً من أن أسأل الشيخ عن حكاية الزهد والمعادلة الصعبة التي يقع كثير من الناس بين كماشة شطريها، قلت له: كيف نجمع ياشيخ صالح بين التحبب إلى الزهد، ثم دعوة الله عباده إلى إظهار النعمة؟

أجابني فوراً إجابة الخبير الممارس: ليس هناك تعارض كما يبدو لك وللبعض، بل الجلاء في التوازن بين هذا وذاك، وموجز هذا قولة ابن تيمية عن زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاكر لنعم ربه: «لا يرد موجوداً، ولا يطلب مفقوداً». بهذه المعادلة يزن الإنسان بين زهده وشكره.

قلت: وإذا كان الإنسان يملك رصيداً ودخلاً كبيراً من المال، فكيف يزهد؟

التفت إليّ وقال: وهل ينبغي عليه أن يصرف كل ماله في ملذاته، إن الرجل الرشيد ليستهلك من أمواله ما يحتاج، ثم ينفق ما بقي لمستقبله الذي أمامه.. ليس مستقبل الدنيا فحسب، بل الآخرة.

مادمت أني أمام خبير في علم الزهد فلابد أن أغتنم الفرصة فأسأله عن الإشكالية التي يلوكها كثير من الناس، حول الفروقات بين البخل والزهد، فكم من بخيل يتعذر لبخله بالتعلق بأستار الزهد المباركة، ولا يدري الناس أهي يده اليمنى التي امتنعت عن الإنفاق خشية الإغراق في الرفاهية.. أم هي يده اليسرى التي امتنعت عن الإنفاق خشية الإملاق؟

قلت للشيخ: كيف نفرق بين الزاهد والبخيل؟ قال لي ـ دون تردد ـ الفارق بسيط يكمن في فعل واحد هو التخزين أو الكنز، فالزاهد هو الذي لا يخزن أموالاً لديه، فهو لا يركض وراءها، وما جاءه منها فهو ينفق جزءاً منه على نفسه والباقي ينفقه في سبيل الله. أما البخيل فهو الذي يخزن الأموال لديه، فهو لا ينفقها في سبيل الله ولا على نفسه، فهو يبدو في مظهره كأنه زاهد.. وهو زهد كاذب!

حين انتهى الشيخ من كلامه في علم الزهد، أدركت كم تحمل أرقام الحسابات البنكية من حكايات البخلاء أو الزهاد، أدركت كم من هؤلاء من ينبغي أن يودع في الصحراء «الجاحظية» وكم منهم من يودع في الحديقة «العتاهية».

| * |


إذا جلست أمام الشيخ صالح الحصين فإنك لابد أن تستحضر في ذاكرتك «الربا»!

ربما لأن وقت الجلوس مع صالح الحصين «يربو» ويتضاعف دون أن تشعر بحركة الرصيد من الدقائق! وربما أيضاً لأنك تدرك أنك تجلس أمام رجل حارب «الربا» بكافة قواته وخيله ورجله، ولايزال يحاربه حتى يثخن جراحه ويطرده من جغرافيا الاقتصاد الإسلامي إلى تاريخ الاقتصاد اليهودي مهزوماً مدحوراً (بإذن الله).

* الشيخ الخبير الاقتصادي:


ولو سألت صالح الحصين إن كانت هناك إمكانية حقيقية ـ تماماً كما يتمنى كل مسلم ـ لقيام عمل مصرفي إسلامي في خضم هذه الدوامة الرأسمالية الكاسحة في العالم اليوم؟ لأجابك بمنتهى الوضوح والصدق: إنه في كثير من الأحيان تكون العوائق وهمية وليست حقيقية، أي أن ذهن الإنسان يخلقها لتكون معاذيره في عجزه عن العمل أو عدم رغبته فيه.

وعلى كل فإن الإنسان عندما يحرم العمل ويعطى الجدل يتشاغل بالبحث النظري عن النشاط العملي.

هكذا يؤمن صالح الحصين ـ بحكمته وحنكته ـ أن التغيير إلى الأفضل لا يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها، وأن التدرج في التغيير هو أبرز عوامل رسوخ التغيير فيما بعد، ومالا يدرك كله.. لا يُترك جله!

| * |


أردت أن أنتقل بالشيخ من هموم «الإيداعات» إلى متعة «الإبداعات».

كان ذلك في ريعان الشباب عندما أمضى خمس سنوات من عمره بين نهارات القاهرة ولياليها قبل قرابة 40 سنة، حين كانت القاهرة تزخر بجهابذة الثقافة والأدب العربي، وكان هو يمضي لياليه وأيامه في دراسة القانون حتى حصل على الماجستير فيها.

ثم انتقل إلى باريس ـ بعد أن أمضى عدة سنوات وظيفية في الرياض ـ لإتمام رسالة الدكتوراه هناك، لكن ظرفاً وظيفياً قاهراً لم يمهله لإتمام رغبته التعليمية فعاد إلى مهمة جديدة في أرض الوطن.
قلت للشيخ ـ وأنا أبتسم ـ ماذا بقي من الفرنسية؟

أجابني بابتسامة أوسع وأودع ـ وقد أدرك سرّ ابتسامتي من شيخ نجدي يتحدث الفرنسية ـ: عدم الممارسة أفقدني معظمها، بقي ما يكفي لقراءة روشتة الأدوية الفرنسية، أو تصفح بعض المقالات في القانون.

وقد أفاد الشيخ صالح في تجربته تلك في التعامل مع الآخر بأن استطاع أن يدرك الصيغة التعاملية التي ينبغي أن تقوم بين المسلم والآخر دون انعزال مطلق أو انكباب مطلق.

هاهو يقول ـ في إحدى مشاركاته الإعلامية ـ في معرض الحديث عن هذه العلاقة: «وإذا كان لابد للمسلم أن ينتقد الغرب فليوجه انتقاده إلى عيوبه، أما مزاياه فينبغي أن ينافسه فيها ويسابقه إليها، وأعياً أن العدل في الإسلام قيمة مطلقة، لا مجال فيه لازدواج المقاييس أو نسبية التطبيق، وسبق الإسلام للغرب في تصور العدل لا يماثله ـ مع الأسف ـ إلا سبق الغرب للعالم الإسلامي الجغرافي المعاصر في تطبيقه ـ أي العدل ـ»!

هكذا يعي صالح الحصين علاقتنا مع الغرب خصوصاً.. ومع الآخر عموماً، في ظل العدل المغموس بالإفادة دون الرقادة.. والازدياد دون الانقياد!

| * |


تأملت وجه الشيخ فإذا هو مفعم بالنشاط والانتعاش، وجسمه نحيل لا يكاد يسمح بقدوم «شحمة» واحدة تفترش من جسده ما يحلو لها من المكان.. ومن عنفوانه ما يحلو لها من الزمان!

قلت في نفسي: ترى لماذا ترك هذا الرجل الحيوي العمل الحكومي باكراً من حياته، هل هي رغبة في عمل أكثر إدراراً.. أو موقع أكثر ظهوراً وحضوراً؟! إذن ما الأمر؟

قال: بعد أن أصبحت وزيراً انتظرت قليلاً حتى أتممت 20 سنة خدمة ـ وهي الحد الأدنى للسن التقاعدي ـ فوجدت حينها أن راتبي قد أصبح عشرة آلاف ريال، وأنني إذا تقاعدت سوف أحصل على نصف الراتب أي خمسة آلاف ريال. وهو مبلغ كافٍ لأن يوفر لي حياة في منتهى الرفاهية! ماذا سأعمل بما يزيد عن هذه الـ5000 ريال لو انتظرت؟!

هذه هي إجابة الرجل الزاهد صالح الحصين، ويحسن بنا أن نطبق هنا قانون «النسبية» لندرك أي نوع من الرفاهية تلك التي سيعيشها صالح الحصين بهذا المبلغ من المال؟!

| * |


هاهو الوقت يمضي مع هذا الإنسان الودود، ولم يكن ليقطع هذا التواصل العقلي والروحي بيننا سوى ماهو خير من ذلك، إنه أذان المغرب يرتفع من مآذن المسجد النبوي تزف إلينا خبر الصلاة بجوار سيد الزهاد وأعمل العاملين الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.

قلت في نفسي ستكون تجربة مميزة أن أحظى بمرافقة معالي «المأموم» صالح الحصين إلى الحرم النبوي، حيث ستفتح الأبواب المغلقة والصفوف المصطكة أمام حضرة هذا «المعالي». لم يكن يشغلني ـ قبل الخروج من منزل الشيخ ـ سوى التفكير، إن كنت سأكون الرجل الثاني خلف الإمام من اليمين، أم الثاني من اليسار؟! وهل سأكون ملزماً إن أخطأ الإمام أن أرد عليه لدنوي منه قبل الناس جميعاً أم لا؟!

كانت هذه هي الهواجس «العالية» حتى خرجنا من منزل الشيخ وقد وضع حذاءه تحت كتفه ثم سار بي وسط جموع «عامة» الناس.

فلما وصلنا الحرم، تقدم وسط الصفوف غير التامة من المأمومين حتى بلغ الصفوف المتكاملة وهو لمّا يصل بعد إلى باب الحرم، فتوقف في الساحة المكتظة ووضع حذاءه بين قدميه ثم وزن قدميه على حافة البلاط غير المفروش.. ثم كبّر للصلاة.

تلفت يمنة ويسرة فلم أجد الإمام أمامي، ولا السّدنة خلفي، أما المأمومون المحيطون بنا من كل جهة فإني أكاد أجزم أنهم قد تقاعدوا من عملهم ـ في بلدانهم ـ براتب أقل من راتب صالح الحصين ورفاهيته!

دعوت الله أن يرزقني قناعة مثل قناعة شيخي صالح الحصين.. ثم كبّرت للصلاة.

 



د. يحيى اليحيى يتحدث عن شيخه صالح الحصين
2013-5-6 |
د. يحيى اليحيى / المستشار في العمل التطوعي


- كان الشيخ صالح الحصين رحمه الله كثير الصلاة يأتي إلى الجمعة مبكرا، ولا يزال مصليا حتى يدخل الإمام ويصلي العشاء ويستمر في التنفل حتى يقفل الحرم.

- وكان رحمه الله كثير الذكر لا يفتر لسانه عن تسبيح أو تحميد أو تهليل أو استغفار.

- وكان كثير القراءة للقرآن كثير الختمات للتدبر والبحث، فلا يكاد يمر عليه موضوع مهم إلا وقرأ له ختمة يستخرج ما يخصه من القرآن.

- وكان يواصل الحج كل عام ويحج على قدميه ويفترش في أغلب حجاته ولا أعلم أنه فاته الحج منذ عرفته إلا حين أعجزه المرض.

- وكان يمتثل قول النبي صلى الله عليه وسلم تابعوا بين الحج والعمر فيكثر اﻻعتمار.

- ومن لطائفه أنه كان ينوي بالرياضة القيام بحق أمانة الجسد ويقول: الجسد أمانة ائتمنا الله عليه فلا يصلح إهماله.

- ومن بره بأمه أني كنت آتيه عصرا فيدخل عليها نصف ساعة يرقيها لا يفوت ذلك أبدا.

- العالم الزاهد: فلم تكن له سيارة خاصة ولا يحمل جوالا، ولا يسكن فلة ولا يقيم للمناصب والألقاب وزنا.

- قد عد نفسه في أهل الآخرة منذ بلغ الستين وقال لي: الآن أستعد للقاء ربي، انتهيت من الدنيا.

- حين عين برئاسة الحرمين زرته، فناولني كتابا أقرؤه فوجدت فيه خطاب اعتذار للملك، يذكر ضعفه وأنه لا تبرأ الذمة في تعيينه بالمنصب.

- ما رأيت أحدا عرف وزن الدنيا مثله اعتبرها مزرعة للآخرة ليس له منها نصيب، حتى في اللباس. لقد سخر دنياه لخدمة الخير والدعوة.

- كان شديد الحرص على التحري في الكلام عن مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتهم نفسه بقلة العلم.

- وكان رحمه الله كثير التحرز من شبه الأموال بل الدنيا لا تساوي شيئا عنده.

- كان جادا مشمرا للآخرة صاحب هم لا يعرف الهزل منشغلا عن ذلك بما يقوم به من أعباء اﻷمة.

- ومن جد الشيخ واستثماره لوقته في نفع الأمة أنه كان وهو على سرير المرض يكتب المقالات القوية التي يحتاجها الناس في واقعهم.

- ومن تشميره واجتهاده أنه مع كثرة أسفاره لم يقف على أماكن السياحة والفرجة بل كان كل وقته في عبادة وعمل خير في ليله أو نهاره.

- وقد صحبته كثيرا وسافرت معه، فهو هو في الحضر والسفر لا تراه إلا جادا مجتهدا تاليا ذاكرا مصليا ناصحا.

- كان كريما كثير البذل لماله في وجوه الخير عضو في كثير من الجمعيات يتبرع لها كلها، ولا يذكر له مجال خير إلا ساهم فيه

- لم يكن يدخر نفسه عن شيء من الخير، فرغم كبر سنه ومرضه يشارك في جميع المناشط التي يدعى لها ويسافر في الداخل والخارج لأعمال الخير.

- ومن كرمه بجاهه الشفاعة عند كبار المسؤولين وغيرهم لكل من سأله من صغير وكبير.

- كان يعطي الغرباء كثيرا من اهتمامه ويحترمهم ويقربهم وينصرهم ويدافع عنهم ويساعدهم ويكتب لهم إلى أي جهة أرادوا.

- ومن كرمه قوله ليس من العدل أن نأمر الناس بالتبرع للجمعية ولا نتبرع، فليتقاسم مجلسنا رواتب الموظفين، والذي ليس عنده أدفع نصيبه.

- كان من أهل هذه الآية (والذين هم عن اللغو معرضون)، فعلى طول صحبتي له لم أسمع منه كلمة لغو.

- لم أر أعذر للعلماء منه، بل يراهم أعلم وأورع منه وإن خالفهم في مسألة، وبخاصة في المعاملات البنكية أكثر من التماس الأعذار لهم.

- كان سمحا سهلا لينا يخالط الفقراء ويتزيا بزيهم، ويصل إليه كل صاحب حاجة، ولم تكن له شارة ولا علامة ولا حجاب.

- من سمو أخلاقه يحترم كل من يعامله ويقدر الناس مهما اختلفت مناصبهم وألوانهم وأجناسهم، ويسأل عن أحوالهم وأهليهم ويكرم من يستصغر نفسه ولا يرى أعماله الجليلة شيئا، ويقول أنتم أعلم مني وأنشط في الخير، تم تعملون وأنا جالس، نا والله ما خبر عندي شيء.

ينصح للعامة وينصح للمسؤولين ولا يدخر وسعا في إظهار ما فيه الخير للأمة وإيصال النصيحة لمن يحتاجها بخطاب أو مهاتفة أو زيارة.

- من صفات الشيخ المذكورة الجرأة في الحق والصدع به مع حسن الأدب وجمال الأسلوب، وله في ذلك مواقف معروفة.

- كان مدركا للأخطار التي تمر بالأمة والمؤامرات التي تحاك لها، فقد أخبرني حين أحداث سبتمبر أن هذه لعبة يكاد بها للإسلام والمسلمين.

- كان من أكثر الناس دفاعا عن العمل الخيري يقول لي والله ما يقف أحد ضد العمل الخيري وهو يريد الصلاح للبلاد والنصح للحكومة.

- من أعظم اهتماماته بناء الجمعيات والمؤسسات الخيرية ودعمها، وكان آخر ما قال لي كل مشروع يحتاج لاسمي فضعه فيه.

- كان يسارع بل يهب لكل أمر فيه مصلحة للإسلام أو للمسلمين ولا يتردد في بذل ماله أو جاهه أو وقته في ذلك.

- من وفائه حين سجن أحد تلاميذه العاملين في الدعوة في الخارج كتب خطابا يشفع له ومن ضمن ما قال: إن كل ما عمله فلان فهو بأمري.

- يحب طلاب المنح ويهتم بهم ويقوم برعايتهم والعناية بهم ويكثر السؤال عنهم ويتفقد أحوالهم وينفق على برامجهم.

- كان من أبعد الناس عن التكلف، ويكره أن يتكلف له أحد بزيارة أو تقديم خدمة أو طعام.

- من تقلله من الدنيا كان يكتفي بالبلغة من الطعام واليسير من النوم والقليل من الراحة.

- كان من أشد الناس خوفا من عقوبات الربا ومن أعرفهم بمواطنه ومعاملاته المصرفية، وقد كتب وحاضر وحذر من الربا مرات كثيرة.

- حذر أبلغ التحذير من المضاربة بالأسهم إبان ثورتها وبين أخطارها الشرعية والاقتصادية.

فمن أخذ بقوله سلم ماله.

- من نعم الله عليه معرفته بحقيقة كثير من وسائل الإعلام، فكان من أبعد الناس عن التأثر بها.

- كان رحمه الله من أبعد الناس عن وسائل الإعلام قراءة واطلاعا ومشاركة، ومع ذلك لا يكاد يخفى عليه شيء من اﻷحداث.

- كان إذا اضطر إلى حضور إعلامي حرص على استغلاله فيما ينفع الأمة في المسائل الكبار التي تمر بها كحصار العمل الخيري والربا والمرأة.

- حين سافرت معه رأيت سجادته سفرت طعام، فسألته، فقال بلاستيك لا تأخذ مكانا وأضعها في مخباتي ولا يصلني الندا إن كانت الأرض ندية.

- كانت نظرته عميقة حين بناء الوقف المشترك بالمدينة رفض تخصيصه لفئة أو لأهل منطقة معينة، أو مذهب. ورد المبالغ المشترطة لذلك.

- أكثر من عشرين سنة وأنا أحاول إذا زرت الشيخ في بيته أن أناوله الشاي أو أصب لنفسي، فيأبى ويقول: عيب على الرجل أن يستخدم ضيفه.

- كثيرا ما أتحدث معه من الحرم إلى بيته فما إن نسكت لحظة إلا ويشرع بالذكر والاستغفار أو إتمام تلاوته من القرآن.
 



في وداع الشيخ صالح الحصين
الاثنين 26 جمادى الآخرة 1434الموافق 06 مايو 2013
عبدالوهاب بن ناصر الطريري
 

إذا ذكر الشيخ صالح الحصين توافدت إلى القلب قوافل من خصال الخير التي كانت متمثلة في شخصه، وحاضرة في شخصيته.

كان الشيخ من الشخصيات الجامعة لخصال الخير، وجوانب الإشراق.

كان صاحب شخصية مشعة؛ لا يمكن أن تلقاه إلا وينفذ إليك إشعاعه الرُّوحي، ويصحبك تأثيره الوجداني.

كان الشيخ رحمه الله من أوائل المبتعثين إلى فرنسا لدراسة القانون، وكان ذلك في وقت الانبهار والاستلاب الثقافي، ولكنه كان يتمتع بمتانة فكرية جعلته ينظر إلى الحضارة الغربية من علو وليس بانبهار، وكان من النوعية الفريدة التي تعاملت مع الحضارة الغربية بتمييز واعٍ، مثل قلة قليلة في ذلك الوقت كالدكتور محمد عبد الله دراز، والأستاذ محمد أسد، وظهر هذا التوازن في العمق الفكري والتوسع المعرفي الذي يقابلك في مقالاته ومؤلفاته.

عرف الشيخ بالزهد الرباني، ليس زهد التبذل والبذاذة، ولكن زهد من نظر إلى الدنيا على حقيقتها، وعاملها بحجمها، فلا تلحظ في شخصيته تشوفًا إلى كثير مما يخطف أبصار الناس، ولن تجد له حضورًا في تزاحم على طمع.

تميز الشيخ بالتواضع الفطري الصادق الذي لا تشعر أنه يتصنع رسومه أو يتكلف أداءه، وإنما هو هكذا يرى نفسه. لذا فإن المناصَب التي عبرت حياته لم تكن حاضرة في تعامله مع الناس، ولا معاملته لنفسه.

كنتَ تراه يحمل نعله في يده، ويصلي حيث انتهى به الصف في غمار الناس في ساحة الحرم، وهو الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي.

كان الشيخ ممن وضع له الحب والقبول في قلوب الناس؛ فكان حبه محل إجماع، ولقد حضرتُ مؤتمر الحوار الوطني الذي جمع أطيافًا متنوعة ومختلفة، وكان الشيخ في المؤتمر هو الشخصية التي يلتقي الحاضرون على الإعجاب بها والانجذاب إليها.

الشيخ مسيرة طويلة من الرسوخ العلمي، والعمق الفكري، والسلوك الرباني.

الشيخ كما قال عنه أخي أحمد الصقر: زاهد يخالط الناس، وبسيط يفكر بعمق، ومتواضع رفع الله قدره.

الشيخ من الشخصيات المشعة؛ تلقاه فيملأ عليك نفسك، ثم تتركه ولا يتركك تأثيره الوجداني، وتتحدث عنه فتشعر أن في نفسك الكثير تريد أن تقوله عنه، ولكن لا تجد التعبير الذي يسعفك لذلك؛ لأن حال الشيخ حال ربانية لا تؤخذ من الأوراق ولكن تدرك بالأذواق.

أتحدث عن الشيخ عن معرفة ومعايشة وتكرار لقاء، فلقد أكرمني بتكرار لقائه وكريم حفاوته؛ فأفدت وتعلمت منه كما تعلم منه أبي يوم درس عليه في المعهد العلمي، فهو ملحق الأصاغر بالأكابر.

ثم أتذكره فكأنما مر في حياتنا ومضة ضياء أو نفحة عطر.

نودع الشيخ اليوم ونحن نثني عليه بخير، ونذكره بالذكرى الحسنة، وندعو ربنا:

اللهم اجعل هذه الليلة أسعد ليلة بات بها عبدك صالح الحصين.

اللهم تلقه برحمتك ورضوانك وكريم بشراك.

اللهم أحسن العزاء، واجبر المصاب، وأعظم الأجر، وأحسن الخلف.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.
 



مواقف بالذاكرة والشيخ صالح الحصين يرحمه الله
حمد العنقري
 

تربطني بالشيخ صالح الحصين رحمه الله ، علاقة قربى وصداقة على مدى سبعين عام أو أكثر، فهو خال زوجتي بنت ابراهيم العوشن رحم الله الجميع، وعديلي في نفس الوقت، فهو زوج أختها من أم أخرى ( آخر شربكة)..
كان وزير الزراعة والمياه آنذاك حسن المشاري يستشيره في كثير من الأمور، حينما كان الشيخ صالح مستشارا قانونيا في وزارة المالية (وقتها كان مساعد بن عبد الرحمن وزيرا للمالية) وكنت يومها مديرا لمكتب المشاري..وإليكم بعضا من المواقف العالقة بذاكرتي:

1- دعاه يوما لاِستشارته في أمر ، وكانت الساعة الواحدة والنصف ظهرا ، وقال هذا مكتبي اجلس فيه واكتب رأيك ، وأنا ساخرج لاِرتباطي، فجاءني الشيخ في مكتبي، وطلب مني أن اوصله لبيته اذا انتهى دوام العمل، فقلت الساعة المباركة وانتهى الدوام وخرجت دون أن يصحبني ، فقد نسيت للأسف، وجاء الحارس لاِغلاق المكاتب، فوجد الشيخ في مكتب الوزير، والوزارة خالية من الموظفين.. فأتصل الحارس بي في بيتي ،وقال الشيخ ينتظرك توصله، فعدت للوزارة مرة أخرى ، وأوصلته ولم أسمع منه كلمة عتاب أو خصام!!!!

2- جاءني يوما آخر في مكتبي، وقال خزان الماء في بيتي فيه تسرب، فأرجوك اشترلي تنكة (زفت) لطلاء الخزان، قلت: أبشر ، وبعثت أحد زملائي، وبحث في السوق ولم يجد ، فهداه أحدهم أن لاِبن لادن براميل زفت (منطولة في أرض بجوارمحطة سكة الحديد ) ..
فذهب الى هناك وسأل الحارس ، وقال : ليست للبيع.. كم برميل تبي؟ قال زميلي: أبي تنكة ..قال : شف هناك براميل مشققة ومكبوبة ،خذلك تنكة..
فجائني زميلي يأخذرأيي ،واذا بدخول الشيخ الى مكتبي، فقلت له ووجهي يتهلل سرورا وفرحا ( أبشرك يالشيخ ..لقينا لك زفت ,وبلاش بعد) فرفض ,,,
قلت له: ياشيخ مافيها شيء ..مكبوبة في الأرض.. قال: لا لازم نستأذن صاحبها !!!!

3 - يقول لي المحامي أحمد بن خالد السديري -وهو بالمناسبة اِبن أختي- كتبت مذكرة مرافعة عن قضية لتقديمها للقاضي، مكونة من أكثر من خمسة عشر صفحة ، واحتجت الى مزيد من الاِيضاح، فرجعت الى مكتبتي وبحثت في كتاب (مرجع قانوني باللغة الفرنسية) فوجدت رأيا للشيخ الحصين مكون من عشرة أسطر في هذا الكتاب، وكان فيه ضالتي ..
فمزقت الخمسة عشر صفحة واكتفيت بالعشرة أسطر وقدمتها للمحكمة وكسبت القضية ( الشيخ صالح الحصين أتقن اللغة الفرنسية بسماع الراديو!!!!)

4 -
جاء من الرياض بالطائرة الى الطائف، ومعه زوجته وبناته الصغار، فخرجت تستقبلهم اِحدى قريباته بسيارة تعود ملكيتها للدولة ، رفض ركوبها وأولاده الصغار واستقل سيارة أجرة !!!!
أمره عجيب هذا الشيخ..قمة في التواضع ونكران الذات..

5-
قُبِلت استقالته من هيئة التحقيق والتأديب، فأعاد سيارة الدولة للدولة ، فاحتجت أمه رحمها الله ، فقال لها: ( شوفي يمه اطلعي للشارع ، كل مابغيتي تروحين لحد، وكل السيارات اللي عليها "دوويرات " ولونها أصفر أشري لوحدة منها ..وتراها لك) يقصد سيارات الأجرة !!

6 -
طرفة يقصها علينا الشيخ صالح الحصين يرحمه الله، يقول: (أيام سقي المزارع بواسطة السواني كان في مدينة شقراء نجار وحيد، وكان أحدهم يذهب اليه كلما اِحتاج الى اصلاح (محالته) أي (البكرة) ولكنه لايعطيه أجرة الاِصلاح ، ويكتفي بجزاك الله خير ، مرة مرتين ثلاث أربع ، طفح كيل النجار (فلصمقها له) وأعادها اليه ، وقبل أن يصل صاحبنا لمزرعته، تبعثرت المحالة فعاد للنجار يشكو فأجابه !!!( قطك راكض)؟؟

7 -
في عنفوان نشاطه ، بالرغم من توفر الاِمكانيات في الحج (5 نجوم) ، كان يرحمه الله، يحج راجلا كأي حاج آخر ..ويرفض كل الأبهات والتجهيزات والأماكن الفخمة..

هذا غيض من فيض من قصص هذا الزاهد المتبتل جمعنا الله ووالدينا وذرياتنا وكل من نُحب ويحبنا في الفردوس الأعلى من الجنة أللهم آمين..

حمد العنقري
 



الأسى والحزن البيِّن في رثاء شيخنا الحُصَيِّن

عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
إمام وخطيب المسجد الحرام
والرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي


الحمد لله ذي الملك والملكوت، المُتَّصِف بجلال الصفات والنعوت، كتب على نفسه البقاء، وعلى عباده الفناء، وقال في محكم التنْزيل: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان  وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ﴾ [الرحمن:27]، تفرد –سبحانه- بالدوام، وجعل الموت نهاية كل الأنام، وأصلي وأسلم على من قال فيه ربه –سبحانه:﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء:34]، وقال له
–جل وعلا:﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر:30]، صلى الله وبارك عليه، وعلى آله الأتقياء الأنقياء، وصحبه بدور الاهتداء، وأنجم الاقتداء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فبمزيد من الإيمان بقضاء الله وقدره، وببالغ الحزن والأسى وفي الحلق شجن وشجى، أبوح بهذه الكلمات الحزينات، والأنَّات المبكيات، من قلب حزين مهموم، وفؤاد شارد موجوم، وصدر محشرج الصُّعداء، وأعين مكلومة دمعاء، تجود بألوان البكاء، فقد جاء النفير، فأهاج الزفير، ينعى معالي الشيخ الهُمَام، درة الأيَّام، الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين رحمه الله رحمة الأبرار، وألحقه بعباده الأخيار، وأسبغ عليه الرحمة والغفران، وأمطر على قبره شآبيب العفو والرضوان، وجعل مستقره في أعالي الجِنَان، ورفع درجته في المهديين وجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
 

رحلتم فكم مـن أنَّةٍ بعد زفـرة  --- مبينة للناس شوقـي إليـكم
وقد كنت أعتقت الجفون من البكا  --- فقد ردها في الرق حزني عليكم


إن الحديث عن فقد قامة شماء، وأفول شمس بلجاء، مثل شيخنا الحصين، لهو خطبٌ عظيم، ومصاب جلل جسيم، وإن أعظم أنواع الفقد على النفوس وقعًا، وأشده على الأمة لوعةً وأثرًا، فقد العلماء الربانيين والأئمة المصلحين.
 

إذا ما مات ذو علمٍ وتقوى --- فقد ثُلِمَتْ من الإسلام ثُلْمَة


لكنها سنة الله في الكون، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب:62]، فالموت كأسٌ وكل الناس شاربه، تحسّى مرارته الأنبياء والأولياء والعلماء والزعماء والنبلاء.
 

كلُّ حيٍّ سيـموت  --- ليس في الدنيا ثبوت
حركات سوف تفنى  --- ثم يتلوها خفـوت
ليس للإنسـان فيها  --- غير تقوى الله قوت
 

لقد تَضَلَّع معالي الشيخ –رحمه الله وطيب ثراه- بصفات يندر أن يجتمعن في رجل واحد، فهو رجل من طراز فريد، وأعماله على ذلك خير دليل وشهيد، فقد كان رجلاً بصيرًا، وعالمًا خبيرًا، وإمامًا كبيرًا وداعيًا نحريرًا، كان ~ كنزًا علميًا، وفقيهًا قانونيًا ومتحدثًا ألمعيًا، مع عبقرية نادرة في ثوب التواضع والبساطة، وزهد وورع صار بهما مضرب الأمثال، وطاول بهما كبارات الرجالات الأجْلاَل، وأنَّى لغيره جمع هذه الخلال، في سموٍّ وريف الظلال.

والمتأمل في سيرة معاليه يدرك عصاميته وهمته العالية، فقد كان من أوائل من نال الشهادة الجامعية، ثم الماجستير في الدراسات القانونية، وعمل بعدها مستشاراً قانونياً في وزارة المالية، ثم رئيساً لهيئة التأديب، وشارك في عضوية المجالس العليا للجامعات، كما عُيِّن وزير دولة، وعضو مجلس الوزراء، وكان أحد الأعضاء الذين درسوا نظام الحكم والشورى والمناطق، وكُلِّف برئاسة شعبة الخبراء في مجلس الوزراء، وأسهم في تأسيس صندوق التنمية العقاري لنظرته الاقتصادية الصائبة، كما عُيِّن رئيسًا عامًّا لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي لمدة إحدى عشرة سنة، وأُسْنِدَ إليه رئاسة مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، كما أنه رائد من رواد العمل الخيري، فكان رئيساً وعضواً في عدد ليس بالقليل من المؤسسات الخيرية، كما نال جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام في دورتها التاسعة والعشرين، وعُيِّن عضوًا في هيئة كبار العلماء بالمملكة.
 

يجزيك ربك ما قدمت من حسنٍ  --- من واسع الفضل والإحسان والنول
ويكتب الله ما عانيت مـدخرًا  --- إذا كان صبرك أعيا الداء بالكـلل


لقد فقدت الأمة الإسلامية بوفاة الشيخ الجليل عالمًا من علمائها الذين اشتهروا بالتواضع ولين الجانب وحسن الخلق، مع إخلاص في عمله، ووفاء نادر لزملائه وأصدقائه، وحسن نصح وتوجيه، وذكاء في الإصلاح والإرشاد.
 

فلله ما أعطى ولله ما جزى --- وليس لأيام الرزية كالصبر
***
هوّن عليك ولا تولع بإشفاق --- فإنمـا مآلنا للوارث الباقي
***
فيا راحلاً عنا رحيلاً مؤبـدًا  --- عليك سلام الله ما الصبح أشرقا
إلى الخلد في دار البقاء منعما  --- تروح وتغدوا في الجنـان محلقا


نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحم فقيدنا، ويجزيه خير الجزاء كفاء ما أبدى، ولقاء ما أسدى، وجزاء ما قدّم وأعطى، وأن يجمعنا به في عليين مع النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.


اصبر لكل مصيبــة وتجلد  --- واعلم بأن المـرء غير مخلد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بها  --- فاذكر مصابك بالنبي محمد


وصدق الله العظيم القائل:﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة:155-157]، لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، والحمد لله على قضائه وقدره ، وإن القلب ليحزن ، والعين لتدمع، ولا نقول إلا مايرضي ربنا، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

وإنني باسمي واسم جميع منسوبي الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي لَأرفع أَحَرَّ التعازي، وصادق المواساة لمقام خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- وسمو ولي عهده الأمين والنائب الثاني والحكومة الرشيدة، وأبناء الشيخ وأسرته وإخوته ومحبيه. سائلاً الله للجميع أن يُلْهِمَهُمْ الصبر ويَهَبَهُمْ المثوبة والأجر، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 



الشيخ صالح الحصيّن: عاش سمحاً ومات سمحاً
د. فايز بن عبدالله الشهري
 

رحم الله الشيخ "صالح الحصيّن " وأسكنه فسيح جناته. هذا الشيخ الجليل السمح الهاشّ الباشّ مع القريب والبعيد..

لقد كان يرحمه الله مدرسة عليا في الكرم والخلق الحسن بحيث تجدك وأنت تحدثه تبحث عن حيلة لتطيل الحوار معه فتراه بنفس رضيّة مقبلا غير معرض.

كنتُ سمعتُ عنه قصصا عجيبة رحمه الله، ثم تيسّر أن ألتقيه لأول مرة قبل حوالي العقد من الزمان وكنت ضمن زملاء مشاركين في ندوة علمية مغلقة تخصصت في بحث موضوعات وطروحات تتعلق بتوسعة المشاعر المقدسة في مكة المكرمة. كان الشيخ رئيسا للندوة وعجبت كيف لمثله أن يناقش أوراق العمل والخطط المقدمة التي تفاوتت بين الهندسة والجيولوجيا والعمارة والبحوث الشرعية، وكل يجتهد في توصياته ومقترحاته. ثم عجبت أكثر حين وجدت الشيخ يستفسر عن مصطلح إنجليزي وينطقه بلكنة سليمة. واستفسرت عن سر هذا الشيخ وسحر تعليقاته بوجهه البشوش الذي تذكرك قسماته بِسِمات الصالحين الذين نقرأ عنهم في كتب التراث ولم نرهم.

ابتسم رفيقي وهو ممن عرف الشيخ وذكر لي أن الشيخ يتحدّث الفرنسية ويلمّ بالإنجليزية وقد درس في القاهرة وباريس وهو قارئ شغوف في فنون المعرفة.

مضت أعوام ثم التقيت الشيخ مرة أخرى في جلسات الحوار الوطني وما زلت اذكر جمال كلماته وسماحة تعابير وجهه وهو يعالج مناطق الاختناق وبعض اللغط وشيء من حب الاستعراض عند بعض المشاركين. كأنه حين يفتتح أية فعالية أو يختتمها يقول لكل من حوله بغير كلام "الدنيا لا زالت بخير". وأذكر ليلة إعلان حصوله - غفر الله له - على جائزة الملك فيصل العالمية سنة 1426ه أنْ كنتُ بصحبة مجموعة من الفضلاء في مجلس لكبير مقام وتحدّث صاحب المجلس عن الشيخ الحصيّن وتدفقت عباراته بالمعلومات العجيبة ولم يكد يتوقف. وأتذكر من حديث صاحب المجلس الكريم موقفاً ذكر أنّه حصل مع الشيخ الحصيّن حين عيّن وزيرا في عهد الملك فيصل وكان مرتب الوزير حينها حوالي 13 الف ريال وكيف أن الشيخ لما تسلم مرتبه استكثر المبلغ فأخذ منه 3 آلاف ريال وأعاد 10 آلاف للملك فيصل وهو يقول ثلاثة آلاف تكفيني مقابل عملي وتزيد.

يقول عارفوه إن الشيخ لم يكن يوما رهن أُبّهة المنصب بل كان بسيطا في ملبسه ومسكنه، كبيرا في تواضعه، ليّناً مع صغار الموظفين والبوابين وعمّال النظافة، وكثيرا ما شوهد يدخل بعض البوابات الرسمية في سيارة اجرة وأحيانا في سيارة متواضعة يقودها بعض محبيه واقاربه.

أما وقد غادر الشيخ "صالح الحصيّن " دنيانا الفانية مذكوراً بالخير، متبوعاً بالدعاء والذكر الحسن لخدمته دينه وأمته بلا مزايدات فلعل من أوجب الواجبات علينا أن نتنادى لتأسيس عمل يليق باسمه مثل مؤسسة خيرية أو دعوية وربما جائزة دولية، وكذلك سننتظر أن تبادر جامعة أم القرى أو الجامعة الإسلامية إلى إنشاء كراسي علمية باسمه فهل نفعل؟

*مسارات


قال ومضى: كثيرون مرّوا من هنا.. ولكنهم قليلون مَن فتح التاريخ لهم بياض الصفحات..


 



الشيخ الحصين: مصابيح دجى انطفأت! .. أحمد العساف

الشيخ صالح الحصين..المفكّر الإسلامي الحقوقي المصلح (1) .. د. سعد بن مطر العتيبي

الشيخ صالح الحصين .. المفكّر الإسلامي المصلح (2)  .. د. سعد بن مطر العتيبي

 



كتب الشيخ صالح الحصين في الموقع

بحوث معالي الشيخ صالح الحصين

العلاقات الدولية بين منهج الإسلام والمنهج الحضاري المعاصر

محمد أسد في الطريق إلى مكة

 



مقالات الشيخ صالح الحصين  في الموقع

تجربتي في الحوار مع الآخر في مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني

اقتراح لصياغة مفهوم الوطنية السعودية

هل من الممكن أن نتحرّر من هذا الرقّ الثقافي

الإسراف في التقنين عامل مؤثر في وجود الفساد الإداري

الطريق الروحي إلى مكة

أسباب الكوارث في الحج

التواصل بين الحجاج



 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

منوعات الفوائد

  • منوعات الفوائد
  • الصفحة الرئيسية