اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Minute/859.htm?print_it=1

كتاب "الباعث الحثيث": تسميةُ مَن؟

وليد بن عبده الوصابي


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فإن كتاب: "الباعث الحثيث" كتابٌ مهمٌ من كتب مصطلح الحديث، وهو كتابٌ درسي، استفاد منه كل من درسه دراسة صحيحة، وعند أهله الخرِّيتين.
وقد اختلف الناس في هاته التسمية، لمن تكون؟
هل هي للإمام ابن كثير؟
أم للعلامة أحمد شاكر؟
أم لغيرهما؟
فقيدّتُ نقولاً، واستنبطت استنباطات قديمة في دفتر لدي، واطلعت عليه هذه الأيام، وزدت عليه زيادات، فأحببت مشاركة إخواني طلبة العلم.
فأقول -وبالله التوفيق-:
إن هذه التسمية ليست تسمية أحمد شاكر -رحمه الله- المتوفى سنة ١٣٧٧ه‍. وإنما جاء وقد طبع الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة -رحمه الله- المتوفى سنة ١٣٩٢ه‍- كتاب ابن كثير باسم: "الباعث الحثيث".
والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، هو أول من اطلع على الكتاب في عالم المخطوطات في وقته، وأول من حققه وصححه، وكتب له مقدمة وعلق عليه، سنة ١٣٥٣ه‍.
قال -رحمه الله- في مقدمته: ". . . ثم جاء الإمام ابن كثير الفقيه الحافظ المفسر -الذي ستقف على تاريخ حياته فيما بعد- فاختصرها في رسالة لطيفة سماها: (الباعث الحثيث في معرفة علوم الحديث).
ينظر مقدمته لـ (الباعث الحثيث: صـ١٣) الطبعة الثالثة سنة ١٣٧٠ه‍.
فهنا يضِحُ أن الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة عزا التسمية لابن كثير، وذلك لسببين:
-إما أنه وجد الكتاب مخطوطاً بهذا الاسم.
-أو أنه اعتمد تسمية غيره له -وهو صديق حسن خان-.
وهو قد اطلع على الكتاب قبل أن يطلع عليه الشيخ أحمد شاكر، فجاء شاكر وجرى مجراه، ولم يغيّر مسمّاه.
ولا أظن أن الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، قد ارتضى هذا، أو قطع به؛ لأنه عندما ترجم للإمام ابن كثير في مقدمة الكتاب، ذكر في ثناياها مصنَّفاته، ومن ضمنها: (مختصر مقدمة ابن الصلاح) ولم يذكره، باسم: (الباعث الحثيث) مما يدل أنه عندما رجع للتراجم، وجد التسمية الأولى.
وهاك كلام الشيخ أحمد شاكر، في مقدمة الطبعة الثانية لـ (الباعث الحثيث) عام ١٣٧٠ه‍.

قال -رحمه الله-:
"قصة هذا الكتاب (اختصار علوم الحديث لابن كثير) وتقرير دراسته في بعض كليات الأزهر، وإعادة طبعه، مفصلة في مقدمة الطبعة الأولى، وهي مثبتة بنصها في مقدمة هذه (الطبعة الثانية)، حفظاً لحق التاريخ في عرض وقائعه على قارئ هذه الطبعة.
وقد غيّرنا شيئاً قليلاً من خطتنا التي أشرنا إليها في الطبعة السابقة.
فرأيت أن أجعل الشرح كله من قلمي، وأن أزيد عليه وأعدّل، بما يجعل الكتاب أقرب إلى الطلاب، وأكثر نفعاً لهم إن شاء الله.
ثم رأيت أن أصل كتاب ابن كثير عرف باسم: (اختصار علوم الحديث)، وأن الأخ العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة جعل له عنواناً آخر في طبعته الأولى بمكة، فسماه: (اختصار علوم الحديث)، أو (الباعث الحثيث إلى معرفة علوم الحديث) التزاماً للسجع الذي أغرم به الكاتبون في القرون الأخيرة.
وأنا أكره التزام السجع، وأنفر منه، ولكن لا أدري كيف فاتني أن أغيّر هذا في الطبعة الثانية التي أخرجتها.
ثم اشتهر الكتاب بين أهل العلم باسم (الباعث الحثيث)، وليس هذا اسم كتاب ابن كثير، وليس من اليسير أن أعرض عن الاسم الذي اشتهر به أخيراً.
فرأيت من حقي -جمعاً بين المصلحتين: حفظ الأمانة في تسمية المؤلف كتابه، والإبقاء على الاسم الذي اشتهر به الكتاب أن أجعل (الباعث الحثيث) عَلماً على الشرح الذي هو من قلمي، ومن عملي، فيكون اسم الكتاب (الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث). والأمر في هذا كله قريب" اه‍.
فكلام الشيخ أحمد شاكر واضح، أن التسمية ليست تسميته، وإنما جرياً وراء ما اشتهر به الكتاب، جعل "الباعث الحثيث" عَلماً على شرحه!
قال: "والأمر في هذا كله قريب".
ونفى أن تكون التسمية تسمية ابن كثير، بل يفهم من كلامه أنه عزاها للشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، وقد تقدم معك أن الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، لم يدَّعِها لنفسه.
فإلى هنا، زال إشكال أن التسمية، ليست تسمية الشيخ أحمد شاكر، ولا تسمية الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة؛ لنص كل منهما على ذلك.
بقي معنا: هل التسمية للإمام ابن كثير، أم تسمية غيره؟
أقول: إن العلامة صدّيق حسن خان المتوفى سنة ١٣٠٧ه‍ ذكر هذه التسمية في كتابه "أبجد العلوم" ونسبها لابن كثير، في موضعين.
والشيخ صدّيق توفي قبل الشيخ أحمد شاكر بـ ٧٠ سنة.

وهاك كلامه:
قال العلامة صديق حسن خان: (وهذا العلم كثير النفع لا غنى عنه لمن يدخل في علم الحديث.
والكتب فيه كثيرة جداً ما بين مختصر ومطوّل.
منها: كتاب: (إسبال المطر على قصب السكر) وكتاب: (توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار)، كلاهما للسيد الإمام المجتهد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير اليمني -رحمه الله-.
و (الباعث الحثيث) للحافظ ابن كثير".
(أبجد العلوم: صـ٢٧٥) دار ابن حزم.
وقال أيضاً: "أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي الفقيه الشافعي الحافظ عماد الدين ابن الخطيب شهاب الدين المعروف بالحافظ ابن كثير.
ولد سنة سبعمائة، وقدم دمشق وله نحو سبع سنين مع أخيه، بعد م
وت أبيه، وحفظ "التنبيه" و "مختصر ابن الحاجب"، وتفقه بالبرهان الفزاري، والكمال ابن شهبة، ثم صاهر المزي، وصحب شيخ الإسلام ابن تيمية ومدحه في كتابه: (الباعث الحثيث) أحسن مدح".
(أبجد العلوم: صـ٦١٧) دار ابن حزم.
فالمتأمل لأول وهلة لكلام الشيخ صدّيق، يكاد يجزم أن التسمية قطعاً لابن كثير، ولكن عند السبر والنظر في كتب التواريخ والطبقات، لا يجد ذكراً لهاته التسمية "الباعث الحثيث" منسوبة لابن كثير، وهذا عجيب بحق؛ إذ لو كانت له؛ لذكرها المترجمون له، كما ذكروا بقية كتبه؛ لأن كتبه معروفة مشهورة، وقد ذكرها العلماء والمؤرخون في أثناء ترجمتهم له، أو في ذكر بعض تواليفه عرَضاً.
وشكك البعض: في صحة نسبة هذا الكلام لصديق، وقال: لعل هذا من تصرف الناسخين أو المحققين؟!
ولكن رجع بعض المشايخ لمخطوطات (أبجد العلوم) ووجد الكلام مثبتاً فيها.
وزاد البعض: لعل للإمام ابن كثير كتابين: "الباعث الحثيث" و "اختصار علوم الحديث" ؟
ولكننا لم نجد من ذكر هذا من أهل العلم المحققين، ولا مَن ترجم له من المؤرخين، وإنما هو ظن وتخمين لا يغني من الحق شيئا.
وقد أرشدني أخي الكريم الشيخ غازي أفلح إلى تتبع غرر المخطوطات، وما هو مكتوب عليها؟
فسألت بعض المشايخ، فأفادني الشيخ أبو بسطام الكناني: أن عنده عدة نسخ للكتاب منها نسخة مقروءة على ابن كثير، باسم: "اختصار علوم الحديث".
قال: وجُل النسخ بهذا الاسم: "اختصار علوم الحديث".
ولكن اصطلاح خبراء التحقيق والمخطوطات أن تتبع غرر المخطوطات ليس كافياً في النسبة.

قال الأستاذ إبراهيم اليحيى:
ما يكتب على الطرر وخاصة صفحة العنوان يستأنس به ولا يعتمد عليه، خاصة إذا وجد أدنى معارضة.
وعندنا في علم المخطوطات: أضعف ورقة هي صفحة العنوان.
العنوان أقوى ما يكون يوجد في مقدمة النص.
ثم بعد ذلك في مواضع أخرى أقل قوة.
ينظر كتابه: (قواعد تحقيق النصوص: ١٠٨- ١٠٩).
وأخبر البعض: أن في بعض الفهارس، تسميته، بـ (الباعث الحثيث) ومنسوباً لابن كثير؟!
ولكن الفهارس قد تسمي الكتاب بالاسم المشهور المتداول، فلا حجة في ذلك.
وأخبرني الشيخ بسام حمزاوي -محقق الكتاب على أربع نسخ بعضها عليها خط ابن كثير في المقابلات-: أنه بغضّ النظر عن غرر المخطوطات، إلا أنه استقرأ كل من عزا إلى ابن كثير الكتاب قبل القرن الثاني عشر؛ فلم يذكر هذا الاسم.
قلت: وقد جهدت أن أقف على عالم متقدم نسب هذه التسمية لابن كثير؛ فلم أظفر بشيء من ذلك.
ووجدت أن أول من ذكر هذه التسمية، هو العلامة صديق حسن خان، ولعلها تسميته هو؛ إذ أنه كان -رحمه الله- مُولعاً بسجع عناوين تواليفه، فلا أستبعد أن يكون جرى قلمه بتعديل إلى عنوان كتاب الإمام ابن كثير. -والله أعلم-.

فتحصل لنا التالي:
-أن التسمية قطعاً ليست للشيخ أحمد شاكر.
-أن التسمية قطعاً ليست للشيخ محمد عبد الرزاق حمزة.
-أن التسمية -على الراجح- ليست للإمام ابن كثير؛ إذ لو كانت له؛ لتوارد عليها المؤرخون وذكروها في ترجمتهم له، أو عند عدِّهم تواليفه.
وإنما وقع اللبس؛ لتسمية الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة كتاب ابن كثير، بـ "الباعث الحثيث" عند طبعه -وهو أول من طبعه-؟
ولكن يجاب عليه: أنه لعله اعتمد على ما وجده في: "أبجد العلوم" لصديق حسن خان.
-أن التسمية -في الغالب- هي للعلامة صديق حسن خان؛ لما أسلفت.
ولعل هذا هو المتعيّن؛ للأدلة الماضية، ولعلها تكون على الخلاف قاضية.
والله أعلى وأعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.


كتبه: وليد بن عبده الوصابي.
.١٤٣٤/٣/٩
وتمت مراجعته ١٤٣٩/٢/١٠.
.١٤٣٩/٤/٢١

 

منوعات الفوائد