اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Warathah/Alkharashy/mm/38.htm?print_it=1

هل وافق الشوكاني الشيعة في الوصية بالخلافة لعلي - رضي الله عنه - ؟ ( مبحث )

سليمان بن صالح الخراشي

 
للشوكاني – رحمه الله – رسالة بعنوان (العقد الثمين في إثبات وصاية أمير المؤمنين) ، يُفهم منها أنه يذهب مذهب الشيعة والزيدية في إثبات وصية النبي صلى الله عليه وسلم ( بالخلافة ) لعلي – رضي الله عنه - ، وقد أشكل هذا على البعض بسبب تعارض مافي الرسالة المذكورة مع أقوال الشوكاني في كتبه الأخرى ، التي جاءت موافقة لعقيدة أهل السنة .
وقد رأيت الباحث الأخ خالد الدبيان – حفظه الله - قد حل هذا الإشكال في رسالته الجامعية التي لم تُطبع حسب علمي : " قضايا العقيدة عند الإمام الشوكاني " ، رغم مناقشتها عام 1412هـ ، فأحببت نقل ذلك فيما يلي :
قال – وفقه الله - : " إن الحديث عن موقف الشوكاني لا ينفصل عن تحديد منهجه، وذلك كما بين سابقاً أن الإمام الشوكاني قد عاش في بيته ساد الفكر الزيدي عليها(1 )، والعالِمُ فرد من أفراد المجتمع يؤثر فيه كما أنه يتأثر به.
ولهذا نجد أن الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى، لم يغفل هذه المسألة التي طال فيها النـزاع، فقد صنف رسالة في ذلك أسماها (العقد الثمين في إثبات وصاية أمير المؤمنين) ( 2) .

ففي هذه الرسالة عالج الإمام الشوكاني قضية إثبات وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، لعلي بن أبي طالب، وقسم الرسالة إلى مبحثين:
المبحث الأول: إثبات مطلق الوصية منه صلى الله عليه وسلم، وذكر لذلك عدة أمثلة ؛كقوله صلى الله عليه وسلم : (الصلاة وما ملكت أيمانكم) و(أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)...الخ( 3) .
المبحث الثاني: إثبات تقييد الوصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر الأحاديث التي تفيد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصي للرسول صلى الله عليه وسلم، مثال: (وصي ووارثي ومنجز موعدي علي بن أبي طالب) و(لكل نبي وصي ووارث وأن علياً وصي ووارثي) و(هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا) ... الخ(4 ) . وهذا المبحث هو مجال حديثنا.
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: (والواجب علينا الإيمان بأنه – أي عليا - عليه السلام وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يلزمنا التعرض للتفاصيل الموصى بها، فقد ثبت أنه أمره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين وعين له علاماتهم وأودعه جملاً من العلوم وأمره بأمور خاصة كما سلف، فجعل الموصى بها فرداً منها ليس من دأب المنصفين) .
فالشوكاني رحمه الله تعالى، يثبت أن علياً رضي الله تعالى عنه وصي للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه يرى أن هذه الوصية يجب ألا تخصص في شيء من الأشياء، فهي تشمل كل ما أوصى به صلى الله عليه وسلم، لعلي بن أبي طالب. مع أنه رحمه الله تعالى أورد في رسالته من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم، لعلي بن أبي طالب قوله : (هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا) وأيضاً : (ألا أرضيك يا علي؟ أنت أخي ووزيري تقضي ديني وتنجز موعدي وتبرئ ذمتي) (5 ) فعلي رضي الله عنه على رأي الإمام الشوكاني أنه منجز الوعد، وقاضي الدين، ووارثه، ووزيره، وخليفته في الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم.
ويؤيد هذا ما ختم به رسالته (العقد الثمين) بقوله: "اعلم أن جماعة من المبغضين للشيعة عدوا أن علياً عليه السلام وصي لرسول الله من خرافاتهم، وهذا تعنت يأباه الانصاف، وكيف يكون الأمر كذلك وقد قال بذلك جماعة من الصحابة كما ثبت في الصحيحين أن جماعة ذكروا عند عائشة أن علياً وصي، وكما في غيرهما. واشتهر الخلاف بينهم في المسألة وسارت به الركبان"( 6).
وبهذا يُفهم أن الشوكاني –رحمه الله تعالى- يذهب أيضاً إلى جواز إمامة المفضول بوجود من هو أفضل منه، وذلك في شرحه لكتاب (حدائق الأزهار)، فقد قال على شرط صاحب المتن(7 ) (بأن الإمام يجب أن يكون علوياً فاطمياً) : "العلوي الفاطمي هو خيرة الخيرة من قريش، وأعلاها شرفاً وبيتاً، ولا ينفي ذلك صحّتها في سائر بطون قريش كما تدل عليه الأحاديث المصرحة بأن الأئمة من قريش"(8 ) .
فقوله: "العلوي الفاطمي هو خيرة الخيرة من قريش، وأعلاها شرفاً وبيتاً، ولا ينفي ذلك صحتها في سائر بطون قريش كما تدل عليه الأحاديث" يفهم منه فضل النسب العلوي الفاطمي واستحقاقه بالإمامة، ولكن هذا لا ينفي أن يتولى الإمامة من هو أقل فضلاً من العلوي الفاطمي، شريطة أن يكون قرشياً كما دلت الأحاديث على ذلك.
و" القول بجواز إمامة المفضول، ذهب إليه أكثر أهل السنة والجماعة وأكثر المعتزلة وأكثر الخوارج "( 9) "إذ المعتبر في ولاية كل أمر معرفة مصالحة ومفاسده وقوة القيام بلوازمه ورب مفضول في علمه وعمله هو بالزعامة أعرف وبشرائطها أقوم"(10 ) .
وسئل الإمام أحمد: "عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزو؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزو مع القوي الفاجر"(11 ) .
والقول "بجواز إمامة المفضول بوجود من هو أفضل منه هو أحد أقوال الشيعة الزيدية"(12 ) .
وكذلك نجد الإمام الشوكاني يثبت إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فحين استعرض طرق انعقاد الإمامة قال: "ومن طريقها أن يعهد الخليفة للآخر كما وقع مع أبي بكر لعمر ولم ينكر ذلك الصحابة، ومن طرقها أيضاً أن ينص الإمام الأول على واحد من جماعة يتوالون عليه ويبايعون كما فعل عمر إلى أولئك النفر من الصحابة ولم ينكر ذلك عليه"( 13) فاعتباره بطريقة تولي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما دليل على إثبات خلافتهما رضي الله عنهما.

مناقشة موقف الإمام الشوكاني من الإمامة :
بعد عرض موقف الإمام الشوكاني –رحمه الله تعالى- من الإمامة، نريد أن نناقش هذا الموقف الذي اتخذه في هذه المسألة.
من الملاحظ أن رسالة الإمام الشوكاني (العقد الثمين) كانت مجالاً لدراسة بعض الدارسين في تحديد منهج الإمام الشوكاني، ومدى اتفاقه أو اختلافه مع فرقة الشيعة الزيدية، فيرى البعض أن الشوكاني زيدي المذهب، قبل، وبعد اجتهاده، وحتى وفاته، وقد استدل صاحب هذا الرأي بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي رضي الله عنه التي أفرد لها الشوكاني رسالة خاصة سماها "العقد الثمين في إثبات الوصية لأمير المؤمنين"، وأشار إلى أن تفتحه على أهل السنة أو إعراضه عن علم الكلام، يمثل تسامح المذهب الزيدي، وتجديد أصوله( 14) .
فإذاً كانت الرسالة عند صاحب هذا الرأي هي الحكم الفاصل في بيان منهج الإمام الشوكاني، وأنه زيدي المذهب، لأن فيها إثبات الوصاية بالإمامة وغيرها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ما يقول به الشيعة الزيدية، وكذلك الدفاع عن المنهج الشيعي في قولهم بالوصاية.
- بينما يرى البعض أن رسالة "إثبات الوصية" لم تُثبت الإمامة أو الخلافة لسيدنا علي رضي الله عنه ، بل أوردت وصايا عامة للمسلمين كأداء الصلاة، والزكاة، وعدم مفارقة الجماعة، والطاعة، والتحذير من الفتن وغيرها، ووصايا خاصة لسيدنا علي رضي الله عنه تضمنت اهتمامه بريحانتيه الحسن والحسين رضي الله عنهما، وبتغسيله، وقضاء دينه، وغيرها، ولم تتضمن الوصية بالخلافة في الحكم( 15). وبنفس الفكرة قال محقق كتاب (قطر الولي) (16 ) .
- ويرى بعض الدارسين بأن الشوكاني لا يتقيد بالمذهب الزيدي، ولا بمذاهب أهل السنة الأربعة المشهورة، ولا بالمذهب الأشعري أو المعتزلي، وإنما ديدنه البحث عن الدليل، بمنهج علمي، خال من التمذهب المسبق(17 ) .
هذا عن موقف الدارسين من رسالة الإمام الشوكاني (العقد الثمين)، والذي يراه الباحث أن الرسالة تفيد إثبات الوصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما هو مسماها، ولكن الخلاف في تحديد هذه الوصية( 18) .
والقول بأنها لا تفيد إثبات الإمامة لعلي رضي الله عنه يدحضه أن مفهوم الوصية عند الزيدية والإمامية هو الوصية بالإمامة( 19) ورغم أن تفصيل الشوكاني في مسألة الوصية قد يوهم أنه لا يريد الوصية بالإمامة خاصة، إلا أن استشهاده بالأحاديث التي استدل بها الشيعة عموماً ضعفت من هذا الاحتمال، وتدل على أن الشوكاني قد قال بقول الشيعة في الإمامة، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصي للرسول صلى الله عليه وسلم.
نفي السلف رحمهم الله وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالخلافة:
وبعد تقرير هذا يقال: وردت أحاديث في نفي الوصية من الرسول صلى الله عليه وسلم، وفهم السلف رحمهم الله تعالى منها أن المراد بالنفي، نفي الوصية بالخلافة.
من هذه الأحاديث: عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبدالله بن أبي أوفى، هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، لم يوص ) ( 20) .
قال السلف: قوله (لم يوص) معناه: "لم يوص بثلث ماله ولا غيره، إذ لم يكن له صلى الله عليه وسلم مال، ولا أوصى إلى علي رضي الله عنه، ولا إلى غيره بخلاف ما يزعمه الشيعة. وقد تبرأ علي من ذلك( 21) وأما الأحاديث الصحيحة في وصيته بكتاب الله ووصيته بأهل بيته، ووصيته بإخراج المشركين من جزيرة العرب، وبإجازة الوفد، فليست مرادة بقوله (لم يوص) إنما المراد به ما قدمناه وهو مقصود السائل عن الوصية"( 22) .
وقالوا: "ويؤيد هذا الاحتمال ما وقع في رواية الدارمي(23 ) وابن ماجة( 24) : قال طلحة فقال لهزيل بن شرحبيل: (أبو بكر كان يتأمر على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ود أبو بكر أنه كان وجد عهداً من رسول الله فخزم أنفه بخزام) وهزيل هذا أحد كبار التابعين ومن ثقات أهل الكوفة. فدل هذا على أنه كان في الحديث قرينة تشعر بتخصيص السؤال بالوصية بالخلافة"( 25) .
ومن الأحاديث أيضاً: حديث عائشة رضي الله عنها أنهم ذكروا عندها أن علياً رضي الله عنه كان وصياً، فقالت: متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري –أو قالت: حجري- فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري فما شعرت أنه قد مات، فمتى أوصى إليه( 26) .
وقد بين السلف رحمهم الله تعالى أن القائل بالوصية عند عائشة رضي الله عنها هم الشيعة( 27)، "فذكروا عندها أنه أوصى له بالخلافة في مرض موته، فلذلك ساغ لها إنكار ذلك، واستندت إلى ملازمتها له في مرض موته إلى أن مات في حجرها، ولم يقع منه شيء من ذلك، فساغ لها نفي ذلك، لكونه منحصراً في مجالس معينة لم تغب عن شيء منها"(28 ) .
ومن الأحاديث قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قيل له : ألا تستخلف؟ قال: "إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم"( 29) .
قالوا: "كأن عمر رضي الله عنه قال: إن أستخلف فقد عزم صلى الله عليه وسلم على الاستخلاف فدل على جوازه، وإن أترك فقد ترك فدل على جوازه، وفهم أبو بكر رضي الله عنه من عزمه الجواز فاستعمله، واتفق الناس على قبوله"( 30)
واستدل السلف أيضاً بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فأكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا) قال عبيد الله: سمعت ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهم الكتاب لاختلافهم ولغطهم( 31) .
وقالوا: "إن قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه، قد جاء مبيناً، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: (ادعي لي أباك وأخاك أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ) .
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم (.. لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد: أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ويدفع الله ويأبى المؤمنون).
وقد اشتبه هذا على عمر، هل كان قول النبي صلى الله عليه وسلم من شدة المرض، أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على الأنبياء. ولهذا قال: (ماله؟ أهجر؟) فشك في ذلك ولم يجزم بأنه هجر، والشك جائز على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم لاسيما وقد شك بشبهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضاً فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض، أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله. وكذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع، علم أن الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال: (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) .
ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة، فيقولون: إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب"(32 ) .
ومن أدلة السلف في نفي الوصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ما ورد عن علي رضي الله عنه، فقد سئل رضي الله عنه : هل خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: "ما هو إلا كتاب الله وفهم يؤتيه الله من شاء في الكتاب"(33 ) .
وقد قال رضي الله عنه لما ظهر يوم الجمل: "يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمامة شيئاً"(34 ) .
وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا توصي؟ قال: "ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فأوصي، اللهم إنهم عبادك فإن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم"(35 ) .
وقال أبو الطفيل عامر بن وائلة: "كنت عند علي رضي الله عنه فأتاه رجل فقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك؟ قال: فغضب وقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلي شيئاً يكتم الناس، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع. فقال: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: (لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض)" ( 36) .
ومع استدلال السلف رحمهم الله تعالى بهذه الآثار في نفي الوصية، فقد استدلوا من جانب النظر والعقل، فقد قالوا: إن هناك "برهان آخر ضروري وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وجمهور الصحابة رضي الله عنهم حاشا من كان منهم في النواحي يعلم الناس الدين، فما منهم أحد أشار إلى علي رضي الله عنه بكلمة يذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليه، ولا ادعى ذلك قط لا في ذلك الوقت ولا بعده، ولا ادعاه له أحد في ذلك الوقت"(37 ) .

- وبعد إبطال السلف رحمهم الله تعالى لدعوى الوصية لعلي بن أبي طالب بالخلافة يظهر من تتبع ما كتبه الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى، من شرح لبعض الأحاديث سابقة الذكر والتعليق عليها، قد يكون تراجع عن هذا الرأي (الوصية لعلي بن أبي طالب) إذ أن رسالة (العقد الثمين) كتبت في شهر شعبان من عام خمس ومائتين وألف (1205) من الهجرة النبوية( 38) فإذا كان تاريخ وفاة الإمام الشوكاني عام خمسين ومائتين وألف من الهجرة (1250) فإنه بين التأليف والوفاة فترة طويلة جداً، فقد يكون كتابته للرسالة في أوائل الطلب، مع عدم إغفال التأثر بالمجتمع المحيط به والغالب عليه الفكر الزيدي. إضافة إلى أن الرسالة قد أثبتت الوصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولم تفرق بين قضاء الدين ونحوه وبين الخلافة، ولكن نجد الإمام الشوكاني قد فرق بين الوصية بالخلافة وبين الوصية بأمور عامة، وذلك عند شرحه لقول عائشة رضي الله عنها (متى أوصى وقد مات بين سحري ونحري) وقول ابن أبي أوفى رضي الله عنه (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص) فقد قال: "المراد بنفي الوصية منه صلى الله عليه وسلم نفي الوصية بالخلافة لا مطلقاً، بدليل أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الوصية بعدة أمور"( 39) وبلا شك فإن هذا النص الذي يفيد التفريق يناقض ما ذكره في رسالته، مما يدل على أن الإمام الشوكاني قد تراجع عن قوله السابق.
ويؤكد تراجع الإمام الشوكاني عن إثبات الوصية، أنه قال عند شرحه لقول عمر رضي الله عنه: (فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني أبا بكر، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبدالله: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف) .
قال الشوكاني: (يعني أنه سيقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك الاستخلاف ويدع الاقتداء بأبي بكر وإن كان الكل عنده جائز، ولكن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في الترك أولى من الاقتداء بأبي بكر في الفعل )(40 ) فالشوكاني رحمه الله يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك ولم يستخلف، وهذا ما يقول به علماء السلف.
وعن حادثة تولي عثمان رضي الله عنه للإمامة، وقول عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: لك من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه وبايعه علي، وولج أهل الدار فبايعوه.
قال الشوكاني: " وفي هذا الأثر دليل على أنه يجوز جعل أمر الخلافة شورى بين جماعة من أهل الفضل والعلم والصلاح، كما يجوز الاستخلاف وعقد أهل الحل والعقد " ( 41) فلم يتعرض الشوكاني إلى القول بالوصية، وأن علياً رضي الله عنه أفضل وأحق كما تفعله الشيعة، وإنما أجاز انعقاد الإمامة بالشورى، وبعقد أهل الحل والعقد.
ويؤكد تراجع الشوكاني –رحمه الله- عن القول بالوصية لعلي رضي الله عنه، أنه كثيراً ما كان يتراجع عن آراء اتخذها، وصنف كتاباً في تأييدها والدعوة إليها، وقد أشار إلى بعضها( 42) .

فمن خلال ما سبق يتبين لدى الباحث من موقف الإمام الشوكاني ما يلي: أولاً: إن رسالة العقد الثمين، فيها إثبات الوصية بالخلافة وغيرها، بل كونها إلى الخلافة أقرب من غيرها، لأن النـزاع بين أهل السنة والجماعة والشيعة في الإمامة، فالشوكاني كان يقول بقول الشيعة في الوصية.
ثانياً: تعتبر رسالة العقد الثمين، من الكتب المبكرة في الحياة العلمية لدى الإمام الشوكاني، فهي تمثل الموقف الذي كان عليه سابقاً من الإمامة.
ثالثاً: يكون الرأي المختار والذي يوصف بأنه الموقف المتأخر للإمام الشوكاني من الإمامة، هو قوله بأن الإمامة تنعقد بالشورى وبعقد أهل الحل والعقد والعلم والفضل، وليس بالوصية أو بالنص، كما هو مبين في كتابه نيل الأوطار، وهو رأي أهل السنة والجماعة.
رابعاً: لم يقدح الإمام الشوكاني –رحمه الله تعالى- في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تفعله الشيعة، بل كان موافقاً لما ذهبوا إليه من طرق انعقاد الإمامة.

_________________________
(1 )انظر: الإمام الشوكاني حياته وفكره – د/ عبدالغني الشرجي- 76.
(2 )العقد الثمين في إثبات وصاية أمير المؤمنين – الشوكاني- ضمن مجموعة الرسائل اليمنية (الرسالة الثانية)- المطبعة المنيرية، القاهر- 1348هـ.
(3 )العقد الثمين – 6 – 8.
( 4)العقد الثمين – 8-10.
(5 )العقد الثمين 8-9.
( 6) العقد الثمين – 10.
( 7) هو الإمام الهادي أحمد بن يحيى المرتضي. انظر: كتاب قطر الولي -55.
( 8) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار –الشوكاني- 4/506.
(9 )الإمامة العظمى – 299.
(10 )المواقف –للإيجي- 413.
(11 ) السياسة الشرعية – ابن تيمية – 21- دار الكتاب العربي. وانظر: منهاج السنة النبوية – 6/475
(12 ) الملل والنحل – الشهرستاني – 1/154.
(13 )السيل الجرار – الشوكاني – 4/511.
( 14) الزيدية – أحمد محمود صبحي – 727 – 728.
(15 ) الشوكاني المفسر –رسالة دكتوراه- لم تنشر – قسم التفسير وعلوم القرآن- كلية أصول الدين- جامعة الأزهر- 1977م (نقلاً من كتاب الشوكاني حياته وفكره- 28).
( 16) مقدمة قطر الولي – إبراهيم هلال – 107.
(17 )الإمام الشوكاني حياته وفكره – عبدالغني الشرجي – 291.
(18) انظر البداية والنهاية 5/200.
( 19) كتاب الأمامة والرد على الرافضة – للحافظ أبي نعيم الأصبهاني – تحقيق الدكتور/ علي بن محمد الفقيهي- 232- مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة- الطبعة الأولى- 1407هـ.
( 20) أخرجه البخاري – 3/186- كتاب الوصايا – باب الوصايا. وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه – 3/1256- برقم (1634) – كتاب الوصية- باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصى فيه. وأخرجه الترمذي في السنن – 4/376- برقم (2119) – كتاب الوصايا – باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص.
( 21) شرح الإمام النووي على صحيح مسلم – النووي- 11/88. وانظر: معالم السنن – لأبي سليمان الخطابي – 4/144 – تحقيق محمد حامد الفقي- دار المعرفة- بيروت – لبنان.
( 22) شرح الإمام النووي على صحيح مسلم – النووي- 11/88.
( 23) انظر سنن الدارمي – 2/291- برقم (3184) كتاب الوصايا – باب من لم يوص.
(24 ) سنن ابن ماجة – 2/900 – برقم (2696) – كتاب الوصايا – باب هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(25 ) فتح الباري – ابن حجر – 5/425. وانظر: كتاب الأمة والرد على الرافضة – أبي نعيم الأصفهاني – 233.
( 26) صحيح البخاري – 3/185- كتاب الوصايا – باب الوصايا.وأخرجه مسلم في صحيحه – 3/1257- برقم (1636)- كتاب الوصية – باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه. وأخرجه الإمام أحمد في المسند – 6/32.
( 27) انظر: فتح الباري – ابن حجر – 7/757.
( 28) فتح الباري –ابن حجر – 5/426. وانظر: كتاب الأمة – أبي نعيم الأصفهاني – 232. وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم – 11/88.
(29 ) صحيح البخاري – 8/125- كتاب الأحكام- باب الاستخلاف. وأخرجه مسلم في صحيحه – 3/1454- برقم (1823)- كتاب الإمارة – باب الاستخلاف وتركه.
(30 ) فتح الباري – 13/219.
( 31 ) معالم السنن 4/198
(32) أخرجه مسلم ( 2385) .
( 33) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه – 5/137 – كتاب المغازي – باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. وأخرجه الإمام مسلم – 3/1257- برقم (1637)- كتاب الوصية – باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه.وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في المسند- 1/325. وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة – 7/225.
( 34)منهاج السنة النبوية – ابن تيمية – 6/23-25. وانظر: كتاب الأمة –لأبي نعيم الأصفهاني – 234-235. والبداية والنهاية – ابن كثير – 5/200. وشرح العقيدة الطحاوية – 2/223.
( 35) صحيح البخاري – 1/36- كتاب العلم – باب كتابة العلم.
( 36) أخرجه الإمام أحمد في المسند . وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة – 7/223.
( 37) أخرجه عبدالله بن أحمد – السنة – 2/538- برقم (1249). وأخرجه الخلال في السنة – 273- برقم (332). وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة – 7/223.
(38 ) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه – 3/1567- برقم (1978)- كتاب الأضاحي.
( 39) الفصل في الملل والأهواء والنحل – ابن حزم- 4/161.
( 40) رسالة العقد الثمين – الشوكاني – 10.
(41 ) نيل الأوطار – الشوكاني – 6/40.
(42 ) التحف في مذاهب السلف – الشوكاني – 57. والبدر الطالع – الشوكاني – 2/37.

 
سليمان الخراشي
  • كتب ورسائل
  • رسائل وردود
  • مطويات دعوية
  • مـقــالات
  • اعترافات
  • حوارات
  • مختارات
  • ثقافة التلبيس
  • نسائيات
  • نظرات شرعية
  • الصفحة الرئيسية