بسم الله الرحمن الرحيم

ورحل درع الإسلام
بقلم/ محمد بن إبراهيم الصمعاني


الحمد لله الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير والصلاة والسلام على إمام المجاهدين وقائد الغر المحجلين وسيد الأنبياء والمرسلين عليه افضل الصلاة وأزكى التسليم وبعد.
فهذه الأسطر تتحدث عن أحد أئمة الدعوة وهو الإمام حمود بن عبد الله بن عقلاء الشعيبي رحمه الله ولا غر أن يكون إماما فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين لقد فقد بصره عند سن التمييز وحفظ القرآن قبل البلوغ وشرع في طلب العلم بعد حفظ القرآن وكان جادا في طلبه ، وتتلمذ على الشيخ عبد اللطيف آل شيخ وسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد الشنقيطي وغيرهم من العلماء الأجلاء وكان من زملاءه في رحله طلب العلم سماحة الشيخ محمد المنصور رحمه الله واستمرا على الزمالة طيلة حياتهما ثم بعد ذلك شرع الشيخ حمود في التدريس وتتلمذ على يديه ثلة من العلماء والقضاة وأعضاء هيئة التدريس في الجامعات وغيرهم من المشايخ الأفاضل.
ولعل من أبرز ما يتلهف إلى سماعه هو الحديث عن مواقف الشيخ وصدقه وإخلاصه فقد كان الشيخ نحسبه والله حسبنا وحسيبه أنه كان صادقا في تعامله مع الآخرين محبا الخير للمؤمنين مبغضا للكفر والكافرين حربا على من حارب الدين سلما للإسلام والمسلمين كان رحمه الله عطوفا على فقراء المسلمين فطالما أتى الفقراء إليه عندما نكون في الدرس تأتي الأم مع أولادها وتشكو للشيخ سؤ حالها فيسأل الشيخ عن عددهم فيعطي الأم والأولاد ما كتب الله أن يعطيهم فلا أذكر يوما أنه رد أحدا من المحتاجين مع كثرتهم وإلحاحهم فكنت أقول في نفسي لو كانت هذه النفقات في غير وجوه الخير لنفد ما عند الشيخ وهذا ما أطلعني الله عليه فماذا عما لم اعلم عنه اسأل الله أن يكون ذلك سياجا له عن النار ملحقا إياه في الفردوس مع الأبرار أما من جانب صبره وتجلده فقد كان جبلا في الصبر وأذكر مره أني أتيت للدرس فلم أجد الشيخ في المسجد فطرقت عليه الباب في بيته فلم يجبني أحد فصبرت قليلا إذا بي اسمع الشيخ قادما وفجأة إذا بالشيخ يسقط على الجدار فبدأت أنادى الشيخ واذكر اسم الله عليه ثم قليلا إذا الباب يفتح قفله فعندما فتحت الباب إذا بالشيخ ساقطا على الأرض ففزعت إليه أريد حمله للمستشفى فرفض الشيخ بشده وقال ليس بي شي فمن كان محتسبا الأجر عند الله رفض أن يبث شكواه لغير الله ومن صبره انه كان ينتظر طلابه في المسجد ولا ينصرف حتى يأتوا إليه وكان مراعيا لظروفهم إن تأخروا وكان رحمه الله دقيقا في المواعيد محافظا عليها ولا اذكر انه تكلم عن دقة المواعيد ووجوب الحرص عليها ولكن قد ترجم عن ذلك بفعله رحمه الله وهذا بخلاف من يتكلم والفعل ينقض وكان رحمه الله ابعد الناس عن الدنيا وزخرفها وكان سجوده على التراب متذكرا بذلك سرعة الانتقال إليه قال تعالى (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) وكان يرفض عيش المنعمين المترفين ويدخر ذلك في جنات النعيم وكان مراقبا لله تعالى شديد الخوف منه شديد الخوف من الريا فطالما قدمت له القهوة والتمر بعد العصر وهو صائم فيبدي للحاضرين انه محجوب عنها وكان رحمه الله واقفا عند حدود الله شديد الخوف منه اسأله بعض الأحيان عن بعض الأسئلة فيجيب عن بعضها وقد يقول بعض الأحيان الله اعلم ولا يجد في ذلك غضاضة بل لا تستغرب عندما أقول لك أنه رجع عن قوله في أحد المسائل عندما ناقشه عنها أحد طلابه وسئل أحد الأيام هل ستقف عن الفتوى يا شيخ فقال قد أتحمل ما يصيبني في الدنيا مهما عظم ولكني لست مستعدا أن أتحمل كيه واحده من النار وقال في موضع آخر أن البس لجام من نار فسجل أيها التاريخ سجل هذه الكلمات العظيمة من رجل عظيم فالتاريخ لا يسجل إلا العظماء سجلها كما سجلت (أنا جنتي وبستاني في صدري) و(إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة) ومن قال (كيف استعبدتم العباد وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا). وكان الشيخ دائما ما يوصي بالصبر والإخلاص وأذكر أني كنت في موعد معه لزيارة الشيخ محمد المنصور رحمه الله يوم أن كان مريض في المستشفى فعندما أتيت في الموعد المحدد إذا بالشيخ حمود ينتظرني فذهبنا سويا إلى الشيخ محمد فعندما التقى الشيخين سأل كل واحد منهما عن حال الآخر قليلا ثم انتقل الحديث سريعا عن أحوال المسلمين وعن المنكرات وكل واحد منهما يناشد الآخر ماذا صنعت وماذا ستصنع وأنا أبصرهما أتذكر قوله تعالى (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) وكان رحمه الله شديد الغضب عندما يسمع مخالفه للشرع المطهر وكان يحذر من القول بالرأي والهوى ويوصي بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكان رحمه الله قوي البصيرة وان كان أعمى البصر كما قال تعالى (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وكان قوي الإحساس بمن حوله حتى أن بعض أبناءه وأحفاده يحاولون التسلل من المنزل إلى المزرعة عن طريق المسجد في غير وقت اللعب فكان رحمه الله يشعر بهم فيصدهم إلى المنزل وكان يحفظ الطريق ويعلمه اشد من معرفة المبصر وأذكر انه كان سيأتي للشيخ جماعة من طلاب العلم والمشايخ وقد ضاع مفتاح المجلس فذهبت أنا والشيخ نبحث عنه فكان الشيخ هو الذي يدلني على الطريق فإذا وصل إلى المكان الذي يعتقد أن المفتاح به يقول أبصر هذا المكان بل لا تستغرب إذا قلت لك أني أسير أنا والشيخ وكان الشيخ مسرع فأردت إيقافه لأن أمامه درج فسبقني الشيخ ونزل وهو مسرع واحد المرات سألني هل الغيوم في السماء كثيرة أم قليلة فقلت في نفسي وما يدريك أن في السماء غيوم وأنت أعمى فسبحان من ابصر الأعمى ما لم يبصره المبصرون وكان رحمه الله متقنا لحفظ كتاب الله بل كان يقرا عليه أحد الاخوة من خارج البلاد بقراءة ورش ويرد عليه الشيخ بإتقان وكان بارعا في النحو مهتما بالإعراب اكثر من اهتمامه بالقواعد وكان عارفا بعلم العروض متقنا له وقد قرء عليه رحمه الله في هذه الفنون أعداد من الطلاب وقرء عليه بفنون أخرى كالفقه وأصوله والحديث والسيرة ومن ابرز ما قرء عليه بكثرة بالعقيدة فقد كان بحرا لا ساحل له في علم العقيدة حافظا لكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هاضما لفتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه بل في الفتوى الحمويه والتدمريه كان يوقف القاري ويقول هذه اللفظة لا اذكرها ثم نقف قليلا إذا بالطبعة جديدة ولعل من ابرز ما عرف عن الشيخ هو دفاعه عن الدين وعن قضايا المسلمين فكان كالأسد الذي يذود عن عرينه تسلل المعتدين فكان الشيخ رحمه الله لا يقر له قرار ولا يهدا له بال إذا تكلم بدين وانتقص منه فكان سياجا من العقيدة للمسلمين وسدا منيعا في وجوه المعتدين وبذلك يحق لنا جميعا أن نطلق عليه لقب [درع الإسلام بن عقلاء] وكان شجاعا لا يخاف غير الله كما كان لا يرجو غير الله وكان نبيها ذكيا حذقا لا ينطلي عليه تحايل وكذب وكان قوي الحجة مفحما للخصوم ولعل ذلك راجعا إلى تعلقه بالكتاب والسنة ومعرفته بردود الأئمة على الخصوم وكان لا يعرف المجاملة في دين الله لا لشريف أو وضيع ولا لكبير أو رضيع ولذلك كان مهيبا يهابه العظماء ويحبه الفقراء والضعفاء وكان حريصا على تحريك قضايا المسلمين في انفس المسلمين وخصوصا العلماء فكان يستدعي العلماء والدعاة ويعاتبهم على تقصيرهم في الدفاع عن الإسلام وقضاياه وكان يرسل طلابه لتحريكهم أو يتصل عليهم إذا لم يحضروا ويذكرهم بأحوال المسلمين حتى انه اتصل مره على أحدا العلماء وأنا بجواره وقال له أي مهزلة هذه يا شيخ تسقط عمارتين فتقوم الدنيا ولا تقعد ويبيت شعب كامل بين التهجير والإبادة وكأن الأمر عادي لابد أن نقف موقف صارم فقلت في نفسي إذاً ماذا يقول غيرك من العلماء إذا انك أنت لم تقف موقفا صارما فرحم الله الشيخ رحمة واسعة فلعمر الله أن اعظم من فجع بالشيخ وسيفقده هم المجاهدون المرابطون على ثغور المسلمين الذين سهروا لينام المسلمون وجاعوا ليشبع المسلمون وقتلوا ليحيا المسلمون وسيفقده رجال الحسبة الذين كان الشيخ بجلسة ومهاتفه وبرقية ينكر مالا ينكره مئات المسلمين سيفقده العلماء الذين قال منصفهم أن الشيخ حمود حمل عنا حملا لا نستطيع حمله سيفقده المظلومون الذين وجدوا عند الشيخ القدرة على استرجاع حقوقهم ووجدوا عنده صدرا منشرحا في استقبال قضاياهم وباختصار سيفقد الشيخ كل مسلم مخلص صادق وبالمقابل سيفرح بموت الشيخ كل شيطان وفاسق ولكننا نقول لهؤلاء الذين فرحوا إن الجولة لم تنتهي بعد بل هناك جولة قادمة وهي قريبة بوعد الله لنا قال تعالى (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) فبعد قيام القيامة سيقوم الأشهاد وستأتي كل نفس معها سائق وشهيد ويكون النصر في تلك الساعة للمؤمنين الصادقين قال تعالى (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) و قال (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) في هذه الساعة سيكون النصر للمؤمنين وسيأتي الظالمون الذين قتلوا المسلمين في فلسطين والبوسنة وكسوفا والشيشان وكشمير والفلبين وأفغانستان والذين فرحوا بموت العلماء وفرحوا ببقاء المنكرات سيأتي هؤلاء الظالمون وسيعتذرون لما بدر منهم ولكن هل يقبل اعتذارهم (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سؤ الدار) إن النصر الحقيقي والسعادة الحقيقة ليست لمن بقي في الدنيا الفانية وطال بقاؤه بل هي لمن كانت له عقبى الدار ويا ويل من كانت له سؤ الدار فلعمر الله لهذه هي الخسارة الحقيقية وأما من انقص من قدر الشيخ بمقال الحاقد فيقال له لا يضر السحاب نبح الكلاب ودأب الصعاليك انتقاد الأئمة من أجل الشهرة وقد انتقد هذا الصعلوك إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله وأثنى على إمام المعتزلة أحمد بن أبي دؤاد الذي كان يقول للمعتصم اقتل ابن حنبل ودمه في رقبتي وذلك بمقال سابق له ويقال لذلك الساخر ابشر بسوء الخاتمة فهذه حال من تكلم بالعلماء الربانيين وعودا على بدء فالشيخ حمود رحمه الله قد شهد له عباد الله الصادقين بتبليغ الرسالة واكنوا له الحب العميق وأحبه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وما أدل على ذلك من رسائل العزاء التي وردت من القاصي والداني بل وجنازته رحمه الله كان لها مشهدا عظيما تذكرنا موقف القيامة الرهيب فصلى على الشيخ أعداداً لا يعلمهم إلا خالقهم وبعد الصلاة عليه ساروا به إلى المقبرة فإذا بالمقبرة ممتلئة قبل الوصول إليها والشوارع مكتظة بالمسلمين والناس على أسطح المنازل وعلى جدران المقبرة والأبواب لا تسع الداخلين لها فكان الناس يقفزون من الجدران وصلي على الشيخ في الطريق وداخل المقبرة ولم يستطيعوا إيصاله إلى قبره إلا بعد مشقة بالغة وكاد البعض أن يهلك من الزحام ثم بعد قبره لم يتمكن من حثي التراب عليه إلا نفر قليل بالنسبة للحاضرين واستمر الناس يتوافدون على قبره ويصلون عليه ويترحمون عليه أياما وقد رُئي الشيخ يُقتل شهيدا في أرض الجهاد ولعل ذلك بيانا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر )) وقوله عليه الصلاة السلام : ( من سأل الله الشهادة خالصا من قلبه بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ..)
و والله إننا بقدر ما نحزن على فراق الشيخ رحمه الله يجب أن نفرح بأمر مهم وهو أن الشيخ مات على ما هو عليه من صدق وثبات فماذا الحال لو تذبذب وتراجع لكانت اعظم فجيعة على المسلمين أولا وعليه ثانيا فنحمد الله على هذه النعمة العظيمة وفي حقيقة الأمر أن الشيخ لم يمت بل هو لازال حي بكلماته الخالدة ومواقفه المشرفة وبما ترك من علم مازال حيا لأن كل واحد منا قد نقش على صدره [درع الإسلام بن عقلا].