صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







سفر الحوالي .. الغصّة والسنّة !

دكتور استفهام

 
قيل في القديم ، بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ..

كما قال تعالى " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " .

إنه كلام الله لا يتخلف ولا يتبدل ، وسننه ماضية في الكون ، تجري على الانسان والمجتمعات ، كما تجري الكواكب في مساراتها ، والشمس في شروقها وغروبها .

ذاك النحيل القصير العظيم ... سفر بن عبدالرحمن الحوالي ، أمة برجل ، كانت رؤيته ثاقبة ، وعقله نير بصير ، والكلام حوله في حلمه وعلمه وأدبه ورؤيته تقصر عنه كلمات البلغاء ، وشعر الشعراء ، ولكنها ومضات بسيطة من حياته ، اركز فيها على منحى ربما لم يتنبه لها الكثير ، وهو منحى يدل على أن الرجل له رؤية خاصة ومشروع نهضة للأمة تمثلت في نتاجه العلمي والعقدي ..

كان شابا للتو متخرجا من كلية الشريعة ، ولكن عينه وهو يقرأ ويطلب العلم على حال أمة انهدت قواها ، وتفكك أوصالها ، وضعفت وخارت في زمن الاستكبار الغربي الذي احتلها فأحالها الى سوق استهلاكية ، ومرتع للنهب والسلب للثروات ، ومحال لتجربة نتاج الأفكار والقيم الغربية ...

في ذلك الوقت الذي كان الوعي غائبا في سماء الأمة ، يقدم رسالته فإذا هو يتحدث عن داء خطير ، وعلة كبيرة ، أتت على الأمة فسلبتها هويتها ، ورزحت تحت وطأة الفكرة الجديدة الغازية التي رأى فيها الغرب نجاته ، ورأت فيها الأمة موتها وهلاكها ، ألا وهي مسألة " العلمانية " التي بحثها الشيخ شفاه الله بحثا تاريخيا واجتماعيا وثقافيا ، لأنه يدرك أن أس القضية تكمن في نكوص الأمة عن الحكم بالشريعة وتنحيتها عن جوانب الحياة العامة .

لقد بحثها الشيخ سفر لأنه يدرك خطورتها على الناس كلهم ، على السياسة والاجتماع والقيم والثقافة ، ويدرك خطورة ان تحل " العلمانية " محل الشريعة الربانية ، ومن تأمل في آيات القران الكريم يدرك الحيز الكبير الذي جاءت فيه نصوص الحكم والتحاكم ووجوب الرد في أمور الناس كلهم الى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنه اذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من أمرهم ) ، ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ، ( أفحكم الجاهلية يبغون ، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) .

لقد كان الشيخ الجليل يدرك أن الأمم الكافرة لم يصبها الله بالذل والمهانة ويغري بينهم العداوة والبغضاء إلا لأنهم نسوا حظا مما ذكروا به ( ونسوا حظا مما ذكروا به ، فاغرينا بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة ..) ، ولذا كانت المرحلة الأولى عند الشيخ حفظه الله هي في بيان " الداء " قبل " الدواء " ، وإذا لم يعرف الداء ، فان المرض سيسري في الجسد حتى يأكله فيموت ...

ولا أظن عاقلا ابدا يشكك في خطورة العلمانية على الدين والدنيا ، ولربما كان التقدم " التقني " بالغرب يغطي على بعض مآسي العلمانية في الفكر والثقافة والفن والاجتماع والسياسة ، واعني بهذا " العلمانية الشمولية " على تعبير الاستاذ عبدالوهاب المسيري وفقه الله ، فهي شقاء للأسرة ، وللاقتصاد ، وللفن ، والروح، حيث يتحول الإنسان في المجتمع العلماني إلى " آلة " صماء لا قيمة لها ولا طعم ولا لون ولا رائحة ، حين تسلب منه الكرامة والإنسانية ، فيعيش حياة البهيمية المنتنة ، فليس له هم الا تمتيع غروره ، وتوسيع أطماعه على حساب المسحوقين من الضعفاء الذين لا يستطيعون الصمود أمام الترسانية الاستعمارية العلمانية التي تقاتل من أجل اقامة حياة منزوعة القيمة والأخلاق ، حين يتحول الانسان الى عبد للدرهم والشهوة والمتعة العاجلة .

لقد التفت الشيخ سفر شفاه الله وعافاه الى " داء " آخر ، سخر له وقته وبحثه وعقله ، وسعى حثيثا الى وضع اليد على رفيق العلمانية في الفساد والافساد ، حيث العلمانية تشكل خرقا في " السياسة " التي تنعكس على كل تفاصيل الحياة ، بينما " الإرجاء " يعمل على تفريغ الاسلام من هويته وعمله في الحياة ، حيث يتحول الاسلام الى كلمة تقال ، ثم ينطلق الانسان يفعل ما يشاء من دون رقيب ولا حسيب اذا قال " لا إله الا الله " بلسانة فقط ، حينها لا يصبح للدين أثرا على حياته ولا على خلقه ، ولا على صلته بربه او بالناس ، ولذا كانت رسالته العالمية حول موضوع " ظاهرة الإرجاء في الفكر الاسلامي " ، وقد درسها دراسة تاريخية وعقدية ، ووقف مع الشبهات التي يتذرع بها المرجئة عبر التاريخ الاسلامي في بحث قيم ورائع .

لقد كان " الإرجاء " يشكل ظاهرة بدأت تصبح اجتماعية في العالم الاسلامي ، فهو إن لم يكن إرجاء تصوريا عقديا ، فهو إرجاء عملي ، حين ترى ملايين من المسلمين يشهدون الا اله الا الله ، ومع ذلك تمر السنون والرجل منهم لم يسجد لله سجده ، فكيف بعد هذا سيكون حال الأمة إن تركت الشريعة وراء ظهرها ، وغرقت في الملذات ، وفقدت جذوة الايمان وأثره في حياتها ...

إن " الإرجاء " يعد من أخطر ما يقرغ الشريعة من مضامينها ، حيث ان الإيمان الذي ربى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته " قول وعمل ، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان " ، ولذا أتى الايمان على أخلاقهم وعبادتهم وجهادهم وكل تفاصيل حياتهم ، ولكن " الايمان " الإرجائي الذي هو " التصديق " والقول باللسان فقط يسلب الايمان حلاوته واثره على الناس .. ولذا جعله الشيخ ركيزة ومرحلة مهمة في حياته العلمية ، واعطاه من البحث والتنقيب والتشقيق ما اكتملت معه الصورة ، بغض النظر عن مخالفة البعض لما طرحه الشيخ سواء في المنهج او المحتوى !

لقد كان حضور الشيخ سفر الحوالي في الساحة الدعوية والفكرية حضورا فاعلا ، ونظرته نظرة ثاقبة ، فهو حين ركز على " العلمانية " من جهة ، وعلى " الإرجاء " من جهة ، نظر إلى قضية تعتبر امتداد لكبوة الأمة وانكسارها ، وهي قضية " فلسطين " التي تشكل صراعا سرمديا مع اليهود الملاعين ، والتي تعتبر دولتهم المسخ العصا التي يضرب بها الغرب ظهر الأمة كلها ، والتي صنعها في فؤاد العالم الاسلامي لتكون منفذا مهما في إعاقة أي مشروع وحدوي للأمة ، حيث أصبحت كأنها ورم سرطاني خبيث ، لا يستقيم الجسم الا بأن يضرب بالكيماوي او يستأصل من جذره ، ولا اتوقع ان تنجح أي دعوة للوحدة الاسلامية ما دامت دولة البغي على ظهر الوجود ، وهذا ما جعل الشيخ سفر حفظه الله يركز على هذه القضية المفصلية في واقع الأمة المعاصر ، فكتابه " القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى " فيه اشارة الى البعد التاريخي والعقدي في نظرة المسلمين واليهود والنصارى لمستقبل الصراع مع الصهاينة والصليبيين ، وفيه اشارة الى خطورة الدولة على مستقبل العالم الاسلامي ، ولذا كان للشيخ اهتمام كبير في وضعها وقضيتها ، ومتابعة لانتفاضة البواسل في أرض القدس السليبة .

إن هناك من العلماء والمفكرين من يسبق وقته في طرح الرؤى ، ولا يصادف في الواقع من يقدر له جهوده ، ولربما اعترف الاعداء بقيمته ورصد ما يقول في زمن تعاق فيه كل مشروعاته ، ولقد رأيت كتابا لم يترجم بعد اسمه " الفكر الاسلامي العربي المعاصر .. سفر بن عبدالرحمن الحوالي انموذجا " لكاتب غربي ، يدرس فيه عطاء الشيخ الفكري واثره في الوعي الاسلامي ، كما أن نظرية صموائيل هنتنتون في " صدام الحضارات " استقاها من الشيخ سفر ، حيث اشار اليه في اول مقال كتبه في النيويورك تايم عن هذه النظرة الاستشرافية لمستقبل الصراع بين الغرب والشرق ، حيث اشار اليها الشيخ في شريطه الوعد الحق والوعد المفترى .

لقد كانت نظرة الشيخ الاستشرافية لمستقبل الصراع حاضرة قبل سقوط الاتحاد السوفيني ، فلقد القى محاضرة عام 1989م اسماها " مستقبل العالم الاسلامي في ظل الوفاق الدولي " ، تنبأ فيها بسقوط الاتحاد السوفيتي ، وقيام النظام العولمي الجديد ، واشتعال فتيل الحرب في الخليج ، وهذا قبل غزو صدام للكويت بسنتين ، وتحدث في الشريط عن القنوات الفضائية والانترنت وغيرها من وسائل الاتصال التي لم يكن يعرفها أحد في ذلك الوقت الا النزر اليسير ..

إن في الأمة عقولا كثيرة ، وفيها طاقات جبارة ، تحتاج من يفعلها ، ويستفيد من رؤيتها الثاقبة بدلا من السعي الحثيث الى اسقاطها في عيون الناس ، ومحاربتها بكل وسيلة حربا لو وجه بعضها الى " الفساد " لقضي على كثير منه ..

إن الغرب يقدر أهل العقول واصحاب النظرات ، ويعطي لهم من الأجواء ما يفعّل وجودهم في الواقع ، والناظر في سياسة امريكا مثلا يدرك انها تقوم اصلا على رؤى " مفكرين ومثقفين " ، فنيكسون ، وكيسينجر ، وبرنارد لويس ، وغيرهم هم من يصوغ للساسة الامريكان وغيرهم استراتيجيات الصراع وطرائقه ، بل إن الرئيس الامريكي بوش عين كونداليزا رايس وزيرة للخارجية لأن رسالتها عن " آسيا الوسطى " ، فكم نحن بحاجة الى أن نرجع للعالم المثقف قدره ، ونترك هاجس المؤامرة التي قطع أواصر العلاقات في بلدنا ، ونترك منهج "التحريض " الذي يسعى فيه اقوام في الصباح والمسائء ضد الشيخ سفر واخوته من الدعاة والمثقفين والعلماء ..

نعم .. إن الشيخ سفر غصة في حلوق الكثير من أهل الشهوات والشبهات ، ولذا يوجهون اليه حربا لا هوادة فيها ، ولكنه في مقابل ذلك يمثل " سنة " ثابتة في رقي العالم بمثل هذه الأجواء ، فكلما زاد الكيد له ، والوقوف في طريقه كلما زاد قبول الناس له ، وانجافلهم اليه ، وما مرضه الا علامة على محبة الناس له ، فالمسؤولين من الأمراء والعلماء وكبار المجتمع وعامته أفزعهم ما أصابه ، ولهجوا بالدعاء الى الله ان يشفي الشيخ وان يعيده سالما معافى الى أهله وبلده ، وهذا هو العالم خير كله ، في صحته خير ، وفي مرضه خير ، وفي موته خير .. فلرب شمعة علم وفكر وتقوى تضاء بموت عالم رباني ..

الحديث عن الشيخ سفر حديث ذو شجون لا ينقضي .. ولكني احببت فقط ان أشير الى شي من مكانته في الواقع ، ودوره الذي لا بد ان يفعل حتى نستثمر طاقات أمتنا وحيوية شبابها وعلمائها ومثقفيها ...

اللهم إني اسألك ان تلبس الشيخ سفر لباس الصحة والعافية ، وترفع ما به من ضر وبأس ، وان تعافيه مما اصابه ، وان تجعل ما اصابه كفاره لذنوبه ، ورفعه لدرجاته ، انك على كل شي قدير وبالاجابة جدير .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..!

استفهام ...
5/5/ 1426هــ

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سفر الحوالي
  • كتب ومحاضرات
  • مقالات ورسائل
  • مطويات دعوية
  • الصفحة الرئيسية