صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







كن مباركاً أينما كنت

حميدان بن عجيل الجهني
@humidanj


 بسم الله الرحمن الرحيم

 
إن قيامك -أيها الداعية- بدور ولو يسير، ومساهمتك بشيء ولو قليل، في الدعوة إلى الله، ونشر الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر= لَدليلٌ على صدق إيمانك، والجدية في التزامك، ومظهر من مظاهر استقامتك، وبرهان على احتسابك وثباتك، وإثبات لصدق ولائك لربك، واتّباعك لنبيك ﷺ، وانتمائك لدينك، وعلامة لفوزك وفلاحك، وإصلاحك وصلاحك، وتفوقك ونجاحك.
قال عز وجل: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾
حوّل عواطفك الجيّاشة، إلى أعمال فاضلة مثمرة، واجعل انتسابك إلى الإسلام مواقفَ خالدة، ولا تكن كَلًّا على مولاك؛ أينما يوجّهْك لا تأتِ بخير، وبرهن على صحة إيمانك بصلاح أعمالك؛ شكراً لله على نعمة الهداية والاستقامة، وجزاءً لما تفضل به عليك من العلم والإيمان.
 
كن مباركاً أينما كنت ...
فأنت أيها المسلم الملتزم بشرع الله تعالى، ثروة هائلة؛ لكنها مهدرة، وعملة نادرة؛ لكنها مهملة، وكنز عظيم؛ لكنه مدفون، وجهاز عجيب؛ لكنه معطَّل!
مواهب مقتولة، وطاقات مكبوتة، فهل عرفتَ قيمة نفسك؟ واستفدت من قدراتك؟

دواؤكَ فيك وما تشعرُ *** ودائك منك وما تُبصرُ
وتحسب أنك جِرْمٌ صغيرٌ *** وفيكَ انطوى العالَمُ الأكبرُ


فكن مباركاً أين ماكنت ...
فمَن للبشرية ينتشلها من المستنقعات الآسنة، والجاهلية المعاصرة=إلا أهل الإسلام، وحملة الرسالة، ودعاة الحق.
نعم .. فهم وحدهم المسئولون أمام الله عن هذا الدين. فلن ينزل الله إلينا ملَكاً من السماء، ولن يرسل إلينا رسولاً في الأرض! فإنْ تخلّينا عن هذه المسؤولية، وفرّطنا في تلك الأمانة، ولم نؤدِّ ما يجب علينا تجاه ديننا = فلننتظر العقوبة العاجلة!
فقد تكون العقوبة الحرمان -والعياذ بالله- من نعمة الهداية؛ لأننا لم نرعها حقَّ رعايتها، ولم نشكر الله عليها.
 
وكم سمعنا بمستقيمين انحرفوا، وصالحين فسدوا، ومهتدين ضلوا وانتكسوا؛ وما ذلك إلّا لأنهم لم يأخذوا الكتاب بقوة، فتولوا عن طريق الهداية بسبب ذنوبهم. قال تعالى: ﴿فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم﴾
بل أشد من ذلك، نخشى أن يحلّ بالمجتمعات البلاء العام، حين تنتشر المنكرات في المجتمع المسلم، فيألفها الناس وتصبح بينهم معروفاً، وينتشر الشر ويعم، ويقلّ الخير ويكاد يندثر. فإن العلاقة بين الخير والشر تناسب عكسي.
فضعف المؤمنين عن إظهار الدين والسنة، يقابله مجاهر الفساق بالمعاصي والمنكرات.
والله يقول محذراً المتخاذلين عن نصرة الدين: ﴿وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة﴾
ويقول جل شأنه: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة﴾
 
فكن مباركاً أينما كنت ...
وإنْ وجدتم -معاشرَ الدعاة- في أنفسكم عجزاً وخوراً وضعفاً عن القيام بالمسؤولية -وأنتم أهلها- = فاعلموا أن الله سيأتي بأجيال يحملونها، وأفذاذ يرفعونها ﴿وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾
ويقول جلّ جلاله مستغنياً: ﴿ومن يتولّ فإن الله هو الغني الحميد﴾
فلا يكفي أن نتشدق بالكلمات الرنانة التي ليس منها نفع، وننخدع بالمظاهر الجوفاء التي ليس من ورائها طائل؛
بل نريد:

شباباً مؤمناً بالله يمضي *** وللإسلام يندفع اندفاعـا


أيها الداعية: أفلا كنت مباركاً حيث ماكنت! كذاك الشاب الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، نبي الله يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام، الذي لم يمنعه بُعده عن أهله، وحبسه في سجنه، وغربته، ووحدته = من حمل همّ الإسلام فقال: ﴿يا صاحبي السجن أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار﴾
أو كفتية الكهف، الذين لم يكتفوا بالإيمان، بل أنكروا فعل قومهم قائلين: ﴿هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن...﴾
أو كأصحاب النبي ﷺ، ورضي الله عنهم، الذين كانوا أسمى النماذج، وأعلى المُثل في ذلك؛ فعندما أراد الأنصار مبايعة النبي ﷺ بيعةَ العقبة الثانية، -وكانوا شباباً- أخذ أصغرهم بيده، وهو أسعد بن زرارة t فقال: (رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الـمَطِيِّ إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إنّ إخراجَهُ اليوم مفارقةُ العرب كافة، وقتلُ خيارِكم، وأنْ تَعَضَّكُمُ السيوف، فإمّا أنتم قوم تصبرون على السيوف إذا مسّتْكُم، وعلى قتلِ خيارِكم، وعلى مفارقةِ العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله، وإمّا أنتم قوم تخافون من أنفسكم خِيْفَةً فذَرُوْهُ، فهو أعذر عند الله، قالوا: يا أسعد بن زرارة أمِطْ عنّا يدَكَ، فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها)[1] فبايعوه رجلاً رجلاً، فكانوا حقّاً ﴿رجال صدقوا ما عاهدوا﴾

أقاموا عمودَ الدينِ مِن بعدِ صَدْعِهِ *** وأعلَوْا لواءَ الحقِّ فوقَ الخلائقِ

 
وهذا فاروق الإسلام عمر t بعد أن أسلم مباشرة يقول: (يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟
قال: ((بلى، والذي نفسي بيده إنكم لعلى الحق إن متم وإن حييتم)) قال: فقلت: ففيمَ الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجنّ، فأخرجناه)[2]
 
وأبو ذرّ الغفاري t -الضعيف الغريب- عندما أسلمَ، قال له النبي ﷺ : ((ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)) فقال: (والذي نفسي بيده لأصرخنّ بها بين ظهرانيهم)[3] 
 
فقد ضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء بالنفس والنفيس والغالي في سبيل الله، نصرةً لدينه ورسوله حتى يلاقي أحدهم الموت فيقول:

ولست أبالي حين أُقتَل مسلماً * على أي جنب كان في الله مصرعي

وإذا ترددت نفسه قليلاً أرغمها قائلا:

أقسمت يا نفس لتنزلنّهْ * مالي أراك تكرهين الجنّةْ

فقيمة كل واحد منا ما يحتسبه ويفعله في خدمة دينه. وإذا استطعت باباً من الخير فاعمل به على أي وجه من أوجه الخير وطرق البر، ولو مرة؛ تكن من أهله. هكذا ينبغي أن يكون الداعية.
 
فكن مباركاً أينما كنت ...
ولاتكن كمن قيل فيه:

وأنتَ امرؤٌ منّا خُلقتَ لغيرنا *** حياتُكَ لا نفْعٌ وموتك فاجعُ

وهذا حال الأكثرين من أبناء الأمة -للأسف-، أرقامٌ بلا رصيد، وأشخاص بلا نفع، وأشباح بلا حركة، كما قال الرسول ﷺ: ((أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل))[4]

عدد الحصى والرمل في تعدادهم *** وإذا حسبت وجدتهم أصفارا

وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة))[5]

والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ *** وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عَنَا

فكن أنت ذلك الواحد.
 
وكن مباركاً أينما كنت ...
فقد تحول البعض إلى أبواق يردد الشكاوى، ويكثر الأنين، ويكتفي بندب حال المسلمين، ويتسخط من ظلم الظالمين، دون المساهمة في أعمال إيجابية أو مشاريع عملية، فما تسمع له إلا جعجعة ولا ترى طحيناً، يصدق عليهم ما جاء في الأثر: (يأتي في آخر الزمان أقوام أخر قصدهم التلاوم) أو كما قالت العرب: أوسعتهم شتما وساروا بالإبل.
فعجباً لجلد الفاجر، وعجز الثقة!
فهؤلاء الضالون يخططون الليل والنهار لقضاء شهواتهم، وتحقيق مآربهم، وتنفيذ رغباتهم، ويذوقون في سبيل ذلك ألماً ومشاقّاً، وهم على الباطل، وليس لهم هدف شريف، ولا غاية كريمة! فلماذا أخي لا تركب الصعاب؟ وتتجاوز العقبات، لنيل أشرف هدف وأكرم غاية؟ ﴿إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون لله ما لا يرجون﴾
وانفض عنك غبار الكسل، وارفع رأسَك، وأزِلْ عن وجهك غشاء الوهم ..
وكن مباركاً أينما كنت ...
وقل:

إذا القوم قالوا مَن فتى؟ خِلْتُ أنني *** دُعيتُ ولم أكسلْ ولم أتبلّدِ

ولا تردد قولَ الجاهلي يوم الفيل: (أنا ربّ الإبل، وللبيت رب يحميه)
بل ردّدْ قولَ الشافع المشفّع يوم المحشر ﷺ : ((أنا لها))[6] ونافس على الفردوس بجد ومثابرة، وتضحية ومغامرة، وسابق إلى رضا الله بهمة عالية، ونفس أبية، وطموح وإصرار، وتوكُّلٍ واحتساب، لا تغريك الملهيات، ولا تشغلك الترّهات، ولا تفتنك الملذات، متّبعاً لسيد الكائنات، راغباً في أعلى الدرجات من الجنات، ولا تعيقك أي عقبة مهما عظمت، ولا تمنعك أي معضلة مهما صعبت، فما هي إلا أوهام وشبهات فلا تبالِ بها، ولا يصدنك الشيطان عن معالي الأمور بسببها. واعلم أن العمل للدين لا ينحصر على فئة من الناس، أو طائفة من الأمة؛ بل كل من ينتسب للإسلام فعليه جزء من المسئولية حسب قدراته وإمكانياته.
ولا تحتقرن من المعروف شيئا ولو رأيا، أو فكرة، أو اقتراحا، أو أي عمل مهما كان صغيراً؛ فإن لم تكن ذهبا فكن فضة، وإن لم تكن طريقا فكن ممراً، وإن لم تكن كاتبًا فكن قارئا، وإن لم تكن بندقية فكن رصاصة، وإن لم ترمِ فاجمع الحصى لمن يرمي به، أو كن حصاةً تُرمى!! واستعن بالله ولا تعجز، واعلم أنّ العاقبة للمتقين.
 
وكن مباركاً أينما كنت...
قال ابن القيم رحمه الله: (فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حلَّ، ونصحه لكل من اجتمع به، قال الله تعالى إخباراً عن المسيح عليه السلام: ﴿وجعلني مباركاً أينما كنت﴾ أي معلّماً للخير داعياً إلى الله، مذكرا به، مرغباً في طاعته، فهذا من بركة الرجل)[7]
 
 
حميدان بن عجيل الجهني.
ربيع الأول 1432

----------------------------------
[1] مسند أحمد: 14653
[2] دلائل النبوة لأبي نعيم :192
[3] صحيح مسلم: 2474
[4] صحيح الجامع: 8183
[5] البخاري: 6498
[6] البخاري: 7510
[7] رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه: 3.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية