صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







مسائل في الحسبة

 
حكم الحسبة
طـرق الاحتسـاب
أولاً : أن يعلم حكم الشرع في الأمور التي يحتسب فيها
ثانياً : كيف يكون الإنكار في مسائل الخلاف؟
ثالثاً : يلزم التثبت من وجود المنكر حال الإنكار
رابعاً : اعتبار المصالح والمفاسد في الاحتساب
خامساً : تشترط قدرة الداعية في الاحتساب
سادساً : درجات الاحتساب ومراتبه
سابعاً : حكم الستر على مرتكب المنكر


حكم الحسبة
للعلماء قولان في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
القول الأول:
أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين ، ومن الأدلة على هذا قوله تعالى: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (آل عمران:104)

ووجه الدلالة أن (مِنْ) هنا بيانية فتكون دلالتها تشمل الأمة جميعاً كقوله: ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) (الحج: من الآية30) .

ومن الأدلة على هذا القول حديث أبي سعيد عند مسلم وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده .. الحديث )) ، وهذا الحديث يدل على عموم وجوب الاحتساب على كل أحد لايخرج منه أي مسلم .

القول الثاني:
وهو الذي اختاره كثير من الفقهاء أنه فرض كفاية ، واستدلوا بالآية المتقدمة وقالوا: إن (مِن) في الآية تبعيضية فتفيد أن هذا الواجب خاص ببعض الأمة وليس جميعها.

والذي يظهر أنه يمكن الجمع بين القولين إذا جعلنا القول الأول منصرفاً إلى الإنكار بصوره كافة ومنها الإنكار بالقلب ؛ وهذا ممكن تحققه من الجميع كلٌ بحسب قدرته واستطاعته كما ورد في حديث أبي سعيد المتقدم ، والقول الثاني ينصرف إلى معنى الاحتساب باليد واللسان الذي لايمكن إلا لبعض الناس ممن تتوفر فيهم شروط معينة ، وهو منصرف كذلك إلى ولاية الحسبة كولاية إسلامية شرعية مقصودها تحقيق هذه الشعيرة وعلى هذا فهي بلا ريب من فروض الكفايات التي يجب على دولة الإسلام القيام بها في الجملة ، ولايتصور تفرغ جميع الناس للقيام بها وإلا تعطلت ولايات الدولة الأخرى ، وتعطلت مصالح الناس وسبل معاشهم؛ وهذا ممنوع . يقول تعالى: ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (التوبة:122)

فخلاصة القول: أن الإنكار واجب عيني بحسب الاستطاعة لايعذر أحد بتركه وأضعف الإيمان أن يكون بالقلب ، أما ولاية الحسبة فهي فرض كفاية وهي من واجبات الدولة المسلمة .


طـرق الاحتسـاب

هناك خطوات ينبغي للمحتسب اتباعها عند الاحتساب نوردها مرتبة :
أولاً : ينبغي للداعية أن يعلم حكم الشرع في الأمور التي يحتسب فيها ، وقد اشترط العلماء للمحتسب أن يكون عالماً بالمنكرات ، عالماً بحكم الشرع فيها . قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن وضح أن العمل لا يقبل إلا بالإخلاص والموافقة للشرع : (( وإذا كان هذا حدّ كل عمل صالح ؛ فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون هكذا في حق نفسه ، ولا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقهٍ فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً ، واتباعاً للهوى .. ، فلا بُدَّ من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، ولا بُدَّ من العلم بحال المأمور والمنهي ، ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود )) [ الأمر بالمعروف لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص15-16) ] فالعلم بالمنكر أمر مهم للمحتسب فقد ينكر ما ليس منهياً لجهله بالحكم ، أو يترك إنكار المنهي عنه لجهله بذلك ، وهذا موقع في المفاسد التي لاتخفى .

وهذا العلم نوعان:
الأول: علم بحقيقة المنكر حيث ينبغي للمحتسب أن يتعرف على المنكر المقصود إزالته لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، ولايمكن الاحتساب على منكر لانعلم عنه شيئاً .
الثاني : علم بحكم الشرع في هذا المنكر فمن المنكرات ما يكون مكروهاً ومنه مايكون محرماً، ومنه ما هو شرك ومنه ما كبيرة من الكبائر فيختلف الإنكار ودرجته وطريقته بحسب درجة النهي عن ذلك المنكر .


ثانياً : كيف يكون الإنكار في مسائل الخلاف؟
فمن المعلوم أن هناك أموراً اختلف العلماء في حكمها ، واختلفت أنظارهم نحوها . ولذا ينبغي للمحتسب النظر إلى هذه القضية من جانبين :

الأول : النظر إلى المحتسب نفسه ، فهو إما أن يكون عالماً مجتهداً ، أو ليس كذلك ، فهل للمحتسب أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده فيما ينكره من الأمور أَوْ لا ؟

الجواب على قولين عند أهل العلم :
الأول :- أن له ذلك إن كان مجتهداً .
الثاني:- ليس له ذلك وإن كان مجتهداً ، لوجود مجتهدين غيره يخالفونه الرأي ، وليس قول مجتهدٍ بحجة على مجتهد آخر .
أما إن كان المحتسب غير مجتهد فليس له ذلك لعدم أهليته للاجتهاد في نفسه فضلاً عن غيره

النظر الثاني : النظر إلى المسألة نفسها : وهنا قاعدة عند العلماء يجرونها في هذا الموضع وهي : "لا إنكار في مسائل الخلاف" ، ولكن ما هي مسائل الخلاف تلك ؟
أقول : لايخفى أن القول المبني على آية أو حديث أو إجماع لا يعدُّ قولاً للعالم وإنْ ذهب إليه ، وإنما هو القول الواجب الاتباع لورود النص فيه . أما إن قام العالم بالاجتهاد في استخراج قول في المسألة بناء على النصوص العامة والقواعد الكلية ورأى فيها رأياً ولم يعتمد مباشرة على آية أو حديث أو إجماع هي نص في المسألة ؛ فإن هذا الرأي يصبح قوله هو وينسب إليه ، ويسوغ فيه الخلاف .

فالنوع الأول من الأقوال لا يسوغ فيه الخلاف لأن مَن يخالفه يكون مخالفاً لنصوص الكتاب والسنة والإجماع فلا عبرة حينئذ به . وهذا ما عَبَّر عنه بعض العلماء في تقييد القاعدة السابقة بقولهم : إلا أن يكون الخلاف ضعيفاً . وكل خلاف عارض الكتاب والسنة والإجماع فهو ضعيف الاعتبار .

وعلى ما سبق يكون فهم القاعدة السابقة كالتالي : لا إنكار في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف .
وهذا يعني أن وجود الخلاف بحدِّ ذاته ليس مسوغاً لترك الإنكار ، ولكن الذي يسوغ ترك الإنكار هو وجود خلاف معتبر في مسألة اجتهادية .

وقد نبَّه العلماء على قيد آخر في هذه القضية وهو : ألا تكون تلك المسألة المختلف فيها ذريعة إلى مفسدة مجمع عليها ، فإن كانت كذلك لزم الإنكار اعتباراً بما تؤول إليه المسألة لا باعتبارها في نفسها ، وهذه قضية أخرى متعلقة بالمصالح وستأتي .


ثالثاً : يلزم التثبت من وجود المنكر حال الإنكار :
فينبغي للداعية أن يتثبت من وجود المنكر حال الإنكار ، فليس له أن ينكر بمجرد التوهم ، أو الظن المرجوح ، كما أن الاحتساب على منكر قد فات هو من باب العقوبة الراجعة للولاة ، ويدل على هذا ما رواه الإمام مسلم والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكم منكراً فلينكر بيده .. الحديث )) . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإنكار مرتبطاً برؤية المنكر ، فمن لم ير منكراً فليس عليه الاحتساب ، ويلحق بذلك العلم اليقيني بوجود المنكر لقيامه مقام الرؤية .

فإذا ظن الداعية وجود منكر ، فكيف يعمل ؟
أقول : إن كان ظنه مرجوحاً يدخل في قبيل الوهم والشك ، وذلك عند فَقْد السبب الداعي للظن وفَقْد الأمارات الدالة عليه ، فينبغي له هنا عدم الالتفات إليه ، لأنه من اتباع الظن السيئ بالمسلمين وهو لا يجوز ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) (الحجرات: من الآية12) وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)) .

وتتبع الداعية لمثل هذا موقع له في المفاسد التي منها : المخالفة لأمر الله ورسوله ، وإحداث العداوة والبغضاء بين المسلمين ، والوقوع في اتهام المقاصد والنيات وتتبع العورات وغير ذلك .

أما إن كان ظنه راجحاً وهو أقرب إلى اليقين ، فينبغي له عندئذٍ التثبت من كونه منكراً ، بأن يتفحص الأمر ، ويراعي شواهد الحال وينظر في القرائن ، فإن وجد ما يقوي ظنه ويصدقه ؛ أقدم على الإنكار ، ولكن لا يعجل بالتأديب إلا بعد استبانة الحال يقيناً .

ويجب أن لا يتثبت من وجود المنكر بالتجسس أو تتبع العورات، ومعنى التجسس هو : طلب الأمارات المعرِّفة بالمنكر ، ويقصد بتتبع العورات هو: تتبع العورات غير الظاهرة، وكل هذا فساد في نفسه محرم شرعاً ، مؤدٍّ للمفاسد ، قال تعالى : ( وَلا تَجَسَّسُوا ) (الحجرات: من الآية12) وروى الترمذي عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه ، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ، ولا تتبعوا عوراتهم ؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله )).

ولعل الحكمة من المنع من التجسس في الإنكار هو أن المعاصي إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ، وإذا أعلنت أضرت بالعامة ، ولذا يحتسب على المنكر الظاهر العلني ولا ينكر على المختفي . وقد تقدم في الأحاديث أن العذاب لا ينـزل إلا على قوم ظهرت فيهم المعاصي ولم يحتسب عليها . وعلى هذا الأئمة من السلف الصالح كما قال الإمام أبي محمد التميمي حاكياً اعتقاد الإمام أحمد رحمه الله : (( وكان يذهب إلى أنه لا يجوز كشف منكر قد استُسر به ، كما لا يجوز ترك إنكاره مع المظاهرة والمجاهرة ، ويأمر بأن يُظن بالناس خيراً )) . وفرَّق رحمه الله بين ظهور الأمارات أو العلامات الدالة على وقوع منكرٍ ، وبين طلب تلك العلامات والبحث عن العورات الذي هو التجسس ، قال: (( وكان يقول : إن التواري بالمنكر لا يمنع إنكاره إذا ظهرت رائحة أو صوت )) فظهور رائحة المسكر علامة على وجوده وهكذا .

وهنا مسألة نبه لها العلماء وهي : إن استسرَّ قوم بمعصية وكانت في تلك المعصية انتهاك حرمة يفوت استدراكها ، فإنه يجوز التجسس والكشف عن الحال حذراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحرمات ، ولو كانت الأمارات الظاهرة ضعيفة ، ومثَّل العلماء لذلك : بأن يخبر ثقة عن اختلاء رجل بامرأة ليزني بها ، أو برجلٍ ليقتله ، فإنه يجوز التجسس لمنع هذه المعاصي التي تفوت بانقضائها . وهذا راجع إلى القاعدة الشرعية : دفع أعلى المفسدتين بارتكاب أخفهما ، ولا شك أن مفسدة التجسس أقل من هتك العرض أو قتل النفس .

ومما يلحق بمسألة التثبت : أنه يجوز للمحتسب الإنكار على من وقف في موضع الشبه، ومواطن الريب ، قال الماوردي : (( ويمنع الناس - أي المحتسب - من مواقف الريب ومظان التهمة ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) فيقدِّم على الإنكار ولا يعجل بالتأديب قبل الإنكار )) [الأحكام السلطانية للماوردي (ص402) ] ولأن الوقوع في مواطن الشبهات وقوع في الحرام كما قال رسول الله  : (( ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام .. الحديث)) متفق عليه ، فالوقوع في مظنة المعصية هو معصية في نفسه ، قال الغزالي : (( كما أن الخلوة بالأجنبية في نفسها معصية لأنها مظنة وقوع المعصية ، وتحصيل المعصية معصية ، ونعني بالمظنة : ما يتعرض الإنسان به لوقوع المعصية غالباً بحيث لا يقدر على الانكفاف عنها )) [الإحياء للغزالي (2/352)].


رابعاً : اعتبار المصالح والمفاسد في الاحتساب :
لقد جاءت الشريعة لتحقيق المصالح ودفع المفاسد ، كما تقدم تقريره ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبني على هذه القاعدة ، فينبغي للمحتسب الحكيم العناية بها عند الاحتساب .

وبعد التأمل فإنه يمكن حصر حالات المصلحة والمفسدة في الاحتساب على النحو التالي :
1- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب ولا توجد مفسدة ، فيحتسب هنا .
2- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب مع وجود مفسدة أقل ، فيحتسب هنا .
3- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب مع تفويت مصلحة أقل ، فيحتسب هنا .
4- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب مع تفويت مصلحة أعلى، فلا يحتسب هنا.
5- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب مع وجود مفسدة أعلى ، فلا يحتسب هنا.
6- أن لا تتحقق المصلحة من الاحتساب . بل تقع مفسدة ، فلا يحتسب هنا .
7- أن تندفع المفسدة الأقل مع وجود مفسدة أعلى ، فلا يحتسب هنا .
8- أن تندفع المفسدة الأعلى مع وجود مفسدة أقل . فيحتسب هنا .
9- أن يتساوى تحقيق المصالح والمفاسد ، وهنا يتوقف في الاحتساب إلى أن يتبين الراجح وإلا يعمل بقاعدة : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .

والأمر في الجملة كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أنه لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه . ويقول رحمه الله : (( وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد ، والحسنات والسيئات ، أو تزاحمت ؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له ، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به ، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته )) [الأمر بالمعروف لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص10-11)].

وتقدير المصالح والمفاسد راجع إلى اعتبار الشرع لها ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (( لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام )) [الأمر بالمعروف لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص10)] وعلى هذا ينبغي للمحتسب التفقه في قضية المصالح والمفاسد حتى يقدم على الاحتساب بعلم وحكمة .


خامساً : تشترط قدرة الداعية في الاحتساب :
ومن المقرر في الشريعة أن التكليف يسقط بعدم الاستطاعة ، لقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) (البقرة: من الآية286) ، ولما كان الاحتساب من أشق التكاليف ومما يلحق صاحبه من جرائه الأذى كما قال لقمان لابنه في موعظته التي قصَّها القرآن : ( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ) (لقمان: من الآية17) فأمره بالصبر لأنه يلحقه الأذى بسببه ، ولذا اشترط في الاحتساب القدرة عليه على وجه مخصوص قال ابن العربي : (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل في الدين .. وهو فرض على جميع الناس مثنى وفرادى بشرط القدرة عليه والأمن على النفس والمال معه )) [عارضة الأحوذي لابن العربي (9/11)] .

والأصل في هذا الشرط للاحتساب هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )) ، فقد علَّق النبي صلى الله عليه وسلم الاحتساب على الاستطاعة ، وبحسبها تكون مرتبة الاحتساب ، تدرجاً من الأقوى إلى الأضعف ، فإن عجز الداعية عن الإنكار باليد انتقل إلى الإنكار باللسان فإن عجز عنه أنكر بقلبه .

وقد وضح الإمام الغزالي رحمه الله أنواع العجز المسقط لوجوب الحسبة ، ولعله أول من تناول هذه المسألة بالتفصيل والتوضيح ، وتتابع العلماء بعده شرحاً وتفصيلاً ونقداً، وأذكر فيما يلي مجمل هذه المسألة لأهميتها العظيمة للمحتسب ، فمن خلالها تتحدد قضية أخرى أخطر من ذلك وهي متى يجوز السكوت عن الإنكار ، فأقول :

العجز على نوعين : عجز حسي ، وهو أن يكون بالمسلم عاهة مانعة من الاحتساب ، أو يكون ضعيف البدن لا يستطيع الإنكار ؛ فهذا لا تجب عليه الحسبة لعجزه.

والنوع الثاني : ما يكون في معنى العجز ، وهو توقع حدوث مكروهٍ يناله من جراء الاحتساب ، وهذا فيه تفصيل سيأتي .

وتوقع المكروه إما أن يكون عن علم أو غلبة ظن فهذا المعتبر ، وإما أن يكون عن ظن مرجوح أو شك أو وهم ؛ فلا عبرة به ، فإن شك المسلم في حدوث الأذى واحتمل الحال أن يقع المكروه ، أو لا يقع ، ووقوعه أقل احتمالاً فلا عبرة حينئذٍ بذلك الظن المرجوح .

أما المكروه الذي يكون في معنى العجز ، فهذا المكروه إما أن يكون في النفس أو المال أو الجاه .

وإما أن يكون هذا المكروه راجعاً إلى خوف زوال الموجود منها أو راجعاً إلى امتناع ما هو منتظر مرغوب ، فأما امتناع ما هو منتظر فلا يكون مرخصاً لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه لا ضرر في ذلك ، وكل الأمر أن هذا المنتظر المرغوب قد يقع فتحصل للشخص زيادة خير ، أو لا يقع فلا تحصل له تلك الزيادة ، وهذا لا يصلح أن يكون مانعاً من الإنكار على منكر موجود حقيقة والسكوت عنه ضرر موجود ، وذلك المنتظر شيء غير موجود وليس فيه مضرة .

أما زوال ما هو موجود منها فيمكن أن يكون مرخصاً لترك الاحتساب ، فلو غلب على ظن المحتسب أنه إن أنكر ضُرب ضرباً شديداً ، أو قتل أو سلب ماله وخربت داره ؛ فهذا يعذر بترك الاحتساب مع بقاء الاستحباب ، وإن كان الضرب يسيراً فلا يكون عذراً في سقوط الإنكار.

ولو وقع ذلك الضرر فيما يزيل المروءة فيرخص له في السكوت أيضاً لأن المحتسب مأمور بحفظ مروءته ، وأما إن كان ما يقع يسيراً كالتعرض له باللسان بالسب والشتم والغيبة ونحو ذلك فهذا لا يرخص له ، فقد فعل برسول الله صلى الاله عليه وسلم مثل ذلك وأكثر ولم يردّه ذلك ، وكما يقول الغزالي : (( ولو تركت الحسبة بلوم لائم ، أو باغتياب فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله ؛ لم يكن للحسبة وجوب أصلاً إذ لا تنفك الحسبة عنه )) [ الإحياء للغزالي (2/351)].

وهذا الرأي هو قول أكثر العلماء ، ورأى شيخ الإسلام ابن تيمية: التفصيل فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ، ويقابله حصول الأذى وهو محرم ، فيوازن حينئذٍ بينهما فيقصد تحصيل أعلى المصلحتين ، ويرتكب أخف الضررين .

وتظهر هنا مسألة : لو خاف الداعية من تعدي الضرر إلى غيره ، فما الحكم ؟
وذلك أن للمرء التنازل عن مصلحته أو حقه ، ولكن ليس له حق التنازل عن الآخرين ، والأدلة الشرعية تحرم إلحاق الأذى بالمسلم بأيِّ وجه .

والأصل في هذه المسألة أن على المحتسب أن يحرص على عدم إلحاق الضرر بغيره من جراء حسبته ، ولكن إن لم يمكن الاحتساب إلا مع وجود ضرر للآخرين ، فهنا يصار إلى الموازنة بين المصالح والمفاسد فإن كان المنكر أكبر من ذلك الضرر الحاصل ولو كان على الآخرين ، فإنه يهون في سبيل الله كل شيء ، والداعية ليس هو المتسبب الرئيس في هذا الأذى ، وإنما قام بواجبه تجاه المنكر ، وإلحاق الأذى هو من تعدي صاحب المنكر وظلمه.

إلا إن كان المحتسب ضعيفاً ويعيش في موطن ظلم واضطهاد ، فإن حسبته حينئذٍ قد لا تنفع ويقع معها الضرر ، فلا حسبة حينذاك .


سادساً : درجات الاحتساب ومراتبه
تتنوع درجات الاحتساب ابتداءً من الأقوى إلى الأضعف بحسب قدرة الداعية إلى ثلاث درجات : أولها الاحتساب باليد ثم باللسان ثم بالقلب

أولاً : ًالاحتساب باليد
وذلك بإزالة المنكر باليد ككسر آلات اللهو أو إراقة الخمر أو نحو ذلك ، ولو احتاج الأمر إلى استعمال القوة بالضرب أو استعمال السلاح أو الاستنصار بالأعوان .

ومن الأمثلة على هذه الدرجة ما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن رافع بن خديج قال : كنا مع رسول الله في سفر فتقدم سَرَعَانُ الناس ، فتعجلوا من الغنائم فاطَّبَخُوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أُخرى الناس، فمرَّ بالقدور فأمر بها فأُكْفِئَتْ ثم قسم بينهم )) وفي رواية أخرى : (( إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه فأكفأ قدورنا بقوسه ، ثم قال : إن النُّهْبَة ليست بأحلَّ من الميتة )) ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء أخذوا من المغانم قبل قسمتها وهو لا يجوز ويعتبر من النهبة ؛ قام بإزالة المنكر بيده ، وعاملهم بنقيض قصدهم .

وصح عن ابن مسعود قال : (( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً فجعل يطعنها بمِخْصَرة في يده .. )) وفي هذا الحديث إزالة الأصنام ، وكذلك أتلف الصحابة الخمر وكسروا آنيتها لما جاء تحريمها .

ومن خلال هذه الأمثلة ونحوها استدل على مشروعية إزالة عين المنكر ، وله حالتان: إن كانت عينه لا تستخدم إلا في هذا المنكر كالأصنام فتتلف، وإن كان يمكن الاستفادة من بعضه فيتلف منه موضع المنكر فقط . قال البغوي : (( أما كسر الدَّنِّ وشقُّ الزِّق الذي لا يصلح إلا للخمر ؛ فمشروع فإن صَلُح لغيره فلا يفعل .. فأما الصنم والصليب والطنبور والملاهي فتكسر .. فإن كان الطنبور والملاهي بحيث لو حُلَّت أوتارها صَلُحت للمباح فلا تكسر وتُحلّ .. )) [شرح السنة للبغوي (8/34) ] .

وقد سئل الإمام أحمد عن كسر الطنبور الصغير يكون مع الصبي ، قال : يكسره . وسأله رجل فقال : أمر في السوق فأرى الطنبور (في موضع : الطبول) تباع ، أأكسره ؟ قال : ما أراك تقوى ، إن قَوِيْتَ . أي فافعل . [ الورع للإمام أحمد رواية الخلال عنه (ص118) ، والطرق الحكمية لابن القيم (ص272)].

وعلى هذا الإجماع كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (( وكل ما كان من العين أو التأليف - الشيء المركب - المحرم فإزالته وتغييره متفق عليها بين المسلمين ، مثل إراقة خمر المسلم ، وتفكيك آلات الملاهي وتغيير الصور المصورة )) [الحسبة لابن تيمية (ص50)].

ويمكن للداعية أن يأمر صاحب المنكر بتغيير المنكر بيده هو ، فلا يشترط أن تكون إزالته بيد الداعية نفسه ، كما جاء عن يعلى بن أمية قال : (( رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابياً قد أحرم وعليه جبة فأمره بنـزعها )) ، وكما جاء عن عائشة قالت : كان لنا قِرامُ سِتْرِ فيه تماثيل على بابي ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( انْزَعِيه .. الحديث )) فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لبس المخيط وهو مُحْرِم بنـزعه لأنه لا يجوز للمحرم فهو منكر بالنسبة له في تلك الحالة ، وكذلك أمَرَ عائشة بنـزع ذلك الستر .

ويلاحظ من خلال الأمثلة السابقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صاحب إزالته للمنكر بموعظة ، وهكذا ينبغي للمحتسب أن يعظ صاحب المنكر مع إزالته باليد .

ثانياً الاحتساب باللسان:
فيقوم الداعية ببيان تحريم ذلك المنكر ، وينهى عنه ويحذر من الوقوع فيه ، ويعظ صاحب المنكر ويخوفه بالله ، أو يزيد على ذلك بالإغلاظ له في الكلام والسب من غير فحش ، أو يتهدده ويتوعده بالعقوبة .

ومن الأمثلة على هذه الدرجة ، ما رواه البخاري والترمذي عن الرُّبيِّع بنت مُعَوِّذ قالت: جاء رسول الله فدخل عليَّ غداة بُنِيَ بي فجلس على فراشي .. وجويريات لنا يضربن بدفوفهن ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر ، إلى أن قالت إحداهن : وفينا نبي يعلم ما في غد . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اسكتي عن هذه ، وقولي الذي كنت تقولين قبلها )) فقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم قول هذه الجارية ونهاهاه عن المقولة غير الجائزة .

ومن ذلك ما رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صُبْرَةٍ من طعام ، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً ، فقال: (( يا صاحب الطعام ماهذا؟)) قال : أصابته السماء يا رسول الله . قال : (( أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ، ثم قال : من غشَّ فليس منا )) فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم وجود الغش في الطعام ، ووعظه بأسلوب التعميم ، والترهيب من الغش ، ويلاحظ في هذا المثال والمثال السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم مع نهيه عن المنكر فقد أرشد إلى البديل عن التصرف السيئ ، ومن هنا فإن على الداعية أن يستخدم هذا الأدب النبوي في احتسابه فينهى عن المنكر ويرشد للبدائل .

ويمكن أن يتم الإنكار باللسان عن طريق التعريض أثناء خطبة تلقى على الناس كما جاء في حديث بريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فخطب الناس وقال : (( ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ .. الحديث )) وينبغي أن يبتعد في الإنكار العلني عن التصريح بأسماء من وقع منهم المنكر حتى لا تكون فضيحة لهم ، قال ابن النحاس : (( ولا يُعَيِّنهم خشية أن يحصل لهم خجل واستحياء بالتعيين بين الناس ))[ تنبيه الغافلين لابن النحاس (ص48)] وينبغي كذلك أن لا يلجأ لهذه الطريقة إلا عند تحقق مصلحتها وعدم حدوث فتنة من جراء ذلك .

الاحتساب بالقلب
والإنكار بالقلب فرض على كل مسلم بكل حال ، قال ابن رجب : (( إن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم في كل حال ، وأما الإنكار باليد واللسان فبحسب القدرة )) [جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/260)] فمن لم ينكر بقلبه ، فإن هذا دليل على ضعف الإيمان في ذلك القلب ، ومن شهد الخطيئة فكرهها بقلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بيده أو بلسانه ، ومن غاب عنها ولكنه رضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها، لأن الرضا بالمنكر من أقبح المحرمات. وقد روى مسلم والترمذي عن أم سلمة عن النبي  أنه قال : (( إنه سيكون عليكم أئمة تعرفون وتنكرون ، فمن أنكر فقد برئ ، ومن كره فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع )) فقيل يا رسول الله : أفلا نقاتلهم ؟ قال : لا ، ما صَلَّوْا )) قال الإمام النووي : (( معناه من كره بقلبه ولم يستطع إنكاراً بيد ولا لسان فقد برئ من الإثم وأدى وظيفته ، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية ، ومن رضي بفعلهم وتابعهم فهو العاصي )) [رياض الصالحين للنووي (ص94)].

ويشهد للدرجات السابقة حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً : (( من رأى منكم منكراً .. الحديث )) .

ما معنى الإنكار بالقلب ، وكيف يكون ، وماذا يلزم له ؟
فأقول : يكون الإنكار بالقلب بأن لا يرضى المحتسب بالمنكر الذي رآه ، وينكر في باطنه على من قارفه ، وعلى هذا يكون تغييراً معنوياً ، فإذا كره المحتسب المنكر ونوى بقلبه أنه لو قدر على تغييره لَغَيَّرَهُ ، وبهذا يكون في قوة التغيير له لكن حال دون ذلك قدرته وكما هو معلوم فإن مَن هَمَّ بحسنة ولم يعلمها كتبت له حسنة ، وإن عملها كتبت له بعشر حسنات .

ولو استطاع المحتسب أن يظهر كرهه لذلك المنكر وإظهار الإنكار بعبوس الوجه أو تقطيب الجبين ونحو ذلك ؛ فهو أمر حسن ودليل على صدق الإنكار القلبي ، كما يقول ابن مسعود : (( جاهدوا المنافقين بأيديكم فإن لم تستطيعوا ، فبألسنتكم ، فإن لم تستطيعوا إلا أن تكْفَهِرُّوا في وجوههم فاكْفَهِرُّوا )) [شرح السنة للبغوي (14/350) ، واكْفَهَرَّ الرجل: عبَّس وجهه كراهية] وقال ابن النحاس : (( أن من لم يستطع الإنكار باللسان وأمكنه إظهار الإنكار بالتعبيس وتقطيب الوجه ؛ وجب عليه ذلك)) [تنبيه الغافلين لابن النحاس (ص102)] فتغير ملامح الوجه مشعر بما قام في قلب المرء من كره لذلك المنكر ، فالواجب على المسلم : الإنكار وإظهاره بأي شكل ولو على أضعف الوجوه .

ويلزم لإنكار المنكر بالقلب عدم مخالطة صاحب المنكر ، وعدم الجلوس معه حال مواقعة المنكر خصوصاً ، ولا يجوز الجلوس في مكان فيه منكر بل يجب مفارقته ، كما قال تعالى : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) (النساء:140) ، فأمر سبحانه بمفارقة المجلس الذي فيه المنكر.

وقد روى الترمذي عن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم ؛ فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، قال : فجلس رسول الله وكان متكئاً فقال : لا ، والذي نفسي بيده حتى تَأْطِرُوهم على الحق أطراً )) .

وفي رواية أبي داود : (( أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول له : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أَكِيلَهُ .. )) وزاد في آخرها : (( .. أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضاً ثم ليلعنكم كما لعنهم )) . ففي هذا الحديث توضيح أن مخالطة صاحب المنكر من أوائل الأمور التي سببت نقص الدين عند بني إسرائيل ، لما فيها من إقرار بالمنكر ورضا بالفاعل ، وهذا سبب لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر الذي يسبب إفساد المجتمع وهلاكه. وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المسلك وأرشد إلى ضرورة الإنكار والأخذ على يد العاصي .


سابعاً : حكم الستر على مرتكب المنكر
لهذه القضية صور لابد من توضيحها حتى يتضح هذا الحكم ، وذلك أن للمنكر حالين : منكر ماضٍ ، أو منكر واقع في الحال . ويختلف موقف المحتسب نحو ذلك. فأما المعصية الماضية فواجب المحتسب نحوها هو نصح ذلك العاصي ووعظه ، وهل له أن يستره أو يبلِّغ عنه من يستوفي منه الحد أو العقوبة ؟ هذه إحدى صور المسألة .

وأما المعصية الحالية فإن واجب المحتسب نحوها هو إنكارها والحيلولة دون وقوعها إن كان صاحبها في بداية الأمر ، أو إزالتها إن أمكن ، ويبقى جانب آخر : هل له أن يبلِّغ عنه من يستوفي الحدَّ أو العقوبة عليه بعد أن أنكر المنكر ، وذلك بهدف ردعه في المستقبل وإقامة الحدِّ عليه ؟ هذه الصورة الثانية .

ويختلف الحكم في هاتين الصورتين بحسب المنكر نفسه ، وبحسب صاحبه .

فإن كان المنكر بحيث لو سكت عنه تجددت مفسدته ، وانتشر ضرره على الناس فيلزم عدم ستر هذا المنكر ولا صاحبه ، بل يجب رفعه إلى من يقطع شره وضرره ، كأن يوجد رجل في دار يصنع الخمر ، فلا يجوز السكوت عنه أو ستره حتى لا يفسد الناس بما يصنعه من خمر ، فالستر في هذه الحالة مؤدٍّ إلى المفاسد فلا يجوز .

وأما صاحب المنكر فله حالان :
إن كان رجلاً مستوراً في نفسه ولم يعهد عنه فسق ولا مجاهرة بمعاصي ، أو كان من ذوي الهيئات أي الصلاح الظاهر والشرف الرفيع ، فإنه يمكن ستره عملاً بما رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة )) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم )) ثم إن ستر من هذا حاله أمر مفيد له فقد يرجع عن ذنبه ذلك لشرف نفسه وصلاحه ، وقد يكون فضحه مؤدٍ إلى إفساده بذريعة أنه أصبح لا يهتم بسمعته أو شرفه فيمكنه أن يفعل ما يشاء بدون وازع اجتماعي .

كما أن فضح المستورين يؤدي إلى إشاعة أخبار الفاحشة في المجتمع المسلم وهذا أمر منهي عنه كما قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور:19) وله مفاسد لا تخفى.

أما إن كان صاحب المنكر رجلاً معلناً بفسق مجاهراً بالمعاصي ، فإنه لا ستر عليه ، وكما يقول الإمام أحمد : (( ليس لفاسق حرمة )) [غذاء الألباب للسفاريني (1/241)]. فمثل هذا لا يدخل في حديث أبي هريرة في ستر المسلم ، فيجب على الداعية أن لا يستر عليه بل يكشف حاله لمن لا يعرفه حتى يتوقوه أو يرفع أمره لولي الأمر حتى يقيم عليه الحد أو العقوبة .

فيجب الستر على المسلم مع اعتبار حال المنكر وصاحبه ، والنظر في المصالح والمفاسد .


المصدر : الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سفينة المجتمع
  • مسائل في الحسبة
  • شـبـهـات
  • فتاوى الحسبة
  • مكتبة الحسبة
  • حراس الفضيلة
  • الصفحة الرئيسية