اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/arabic/182.htm?print_it=1

مِنْ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الجَرِيمَةِ المعَالَجَةُ الإِعْلاَمِيَّةُ الأَثِيمَةُ

عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ


إن وسائل إعلامنا التي نرجو منها ولها كل خير قد حَادَت عَنْ منهاج الإسلام فى التعامل مع الجريمة والمجرمين؛ إذ تقدِّم للجمهور أخبار الجرائم من قتلٍ وزنًا وسرقَةٍ ما يشوه أخلاقيات المجتمع ومبادئه وقيمه وثوابته بحجة معالجة هذه السلبيات، والحق أنهم يزيدونها ألمًا وجراحًا.
 
فانتشرت الصحف والبرامج المرئية التى تُعنى بأخبار الجرائم والحوادث وزاد من حجم هذه المأساة قبول الناس لهذه النوعية من الأخبار وتهافتهم عليها.
 
وأيضًا وجود الفضائيَّات (الفضائحيَّات) التى تطرق أبواب الجنس، وتعزف على أوتار الغرائز والرذائل، وإشعال نار الفتنة فى قلوب الشباب والشيوخ على حد سواء.
 
إنَّ للإسلامِ منهجًا يختلف عما يحدث اليوم فى دنيا الناس من السخرية والتشهير بالعُصَاةِ عبْرَ وسائل الإعلام المختلفة، فهو يحافظ على كرامة الإنسان وإن كان عاصيًا؛ بهدف البقاء عليه كفرد يمكن علاجه، أو على أقل تقدير لا يكون سببًا فى انحرافه، فقد كان النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم يستر على مرتكب الجريمة؛ لعله أنْ يتوب بينه وبين نفسه أو يعود إلى ربِّه، فعَنْ جَابِرٍ([1]): أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ أَتَى النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِي أَعْرَضَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ فَدَعَاهُ فَقَالَ: «هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟! هَلْ أَحْصَنْتَ؟!» قَالَ: نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ؛ حَتَّى أُدْرِكَ بِالْحَرَّةِ فَقُتِلَ.
 
فانظر إلى النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم وهو يُعْرِضُ بوجهه عنه؛ لا يريده أن يعترف، بل يريد منه أن يتوب بينه وبين ربه ويستر على نفسه كما ستره الله؛ إذ يقول فى الحديث الآخر([2]): «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ» بل انظر إليه وهو يُلقِّنُهُ ما يسقط الحد، ولكنه لَمَّا أصرَّ على موقفه أَمَرَ به فرُجِمَ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ([3]): أُتِيَ النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ».
 
فما يحدث لكثير من العصاة والمجرمين فى هذه الأزمان، أنه يحس أن المجتمع يقف مع الشيطان مناوئًا له فى كل شيء؛ لا يعطه الفرصة؛ ليثبت توبته وعودته إلى طريق الحق وسلوكه سبيل المؤمنين.
 
فما يكون من هذا الموقف العدائى الشائن من المجتمع -بسبب ما أخذه من جرعات إعلامية- إلا أن يتحول هذا العاصى إلى مجرم حقيقى يتلذذ بالمعاصى بل ويكون معلمًا لغيره؛ حتى لا يكون وحده فى هذا المستنقع، فبذا يسود الشر فى قطاع كبير من المجتمع!.
 
ولعلَّ هذا وغيره كثير من الحِكم الرَّبَّانيَّة التى جعلت الشريعة بمنْأًى عن السخرية أو التشهير بالعصاة.
 
فالإسلام أمر بالستر على الأعراض؛ حتى لا تشيع الفاحشة بين المجتمع لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ([4]): «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ؛ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ».
أمّا من عُرِفَ بالأذى والفساد والمجاهرة بالفسق وعدم المبالاة بما يرتكب، ولا يكترث لما يقال عنه فيندب كشف حاله للنّاس وإشاعة أمره بينهم حتّى يتوقَّوْهُ ويحذرُوا شرَّهُ.
 
وقد تعرض وسائل الإعلام الأفلام والمسلسلات التي من خلالها تبث المناظر الخليعة، واللقطات التى يخجل الحياء منها، ووصف جرائم الزنا وصفًا تشريحيًّا وتمثيليًّا، ولقد وصف النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم من يتحدث أمام الناس عن حال نفسه مع زوجه فى الفراش بأنَّه مثل الشيطان لقي شيطانة؛ فعن أسماء بنت يزيد قالت: قال صلى الله عليه وسلم([5]): «عَسَى رَجْلٌ يُحَدْثُ بِمَا يَكُونُ بَيْنَهُ و بَيْنَ أَهْلِهِ أو عَسَى امرَأةٌ تُحْدِثُ بِمَا يَكُونُ بَيْنَهَا و بَيْنَ زَوجِهَا؛ فَلا تَفْعَلَوا، فَإنَّ مَثْلَ ذَلِكَ مِثْلَ شَيْطَانٌ لَقِي شَيْطَانَةٌ في ظَهْرِ الطَرِيقِ فَغَشْيَهَا و النَّاسُ يَنْظُرُون».
 
فما أقدمت عليه وسائل الإعلام يُعَدُّ مخالفةً صريحةً لمنهاج الإسلام في التعامل مع الجرائم والمجرمين وَكسبًا للمال وجمعًا للحرام وأكل أموال الناس بالباطل، وتقليدًا أعمى للغرب الكافر، والتشدق بحرية الرأى! ألاَ فليتَّقِ اللهَ القائمون على إعلامنا؛ وليكونوا إخوانًا لنا صادقين.
 
هذا، وتوجد آثار سلبية تنشأ عن نشر الجرائم بشكلها الراهن على المجتمع، منها:


جُرْأَةُ السُّفَهَاءِ
إن نشر الجريمة على هذا النحو المعروف يُجرِّئُ السُّفَهاء فى المجتمع على ارتكاب تلك الجرائم التى يقرؤنها أو يشاهدونها عَبْرَ وسائل الإعلام المختلفة، وقد يُعدّلون فى بعض الخطط والوسائل؛ وبذا يتحولون إلى مجرمين حقيقيين، وتزداد رقعة الجريمة ولا تنكمش ويتسع الخرق على الراقع كما هو الحال -الآن-فى البلاد، والمطلع على أحوال السجون يعرف ذلك جيِّدًا.
 
قَسْوَةُ قُلُوبِ النَّاسِ
عندما تطالعنا وسائل الإعلام بالجرائم وأخبارها ليل نهار فإنه يقَلُّ وقعها على قلوب الناس وتذهب هيبتها من ضمائرهم، ويصبحوا لا يعبأون بها، حتى لو قيل: إنَّ فُلانًا قتل عشرة أشخاص، قال الناس: لا جديد، أو قيل: إن فلانًا زنا، قال الناس: لا يهم.. وهكذا لم يَعُدْ يكترث الناس بهذه الأخبار ولا ثمَّ تأثر فى قلوبهم.
 
وقد وَبَّخَ اللهُ -تعالى- بنى إسرائيل؛ لقسوة قلوبهم بعد أن رأوا الآيات البينات على حقيقة وجوده وقيومته وصدق رسله، ومعلوم أنَّ الاطلاع على الآيات البينات ترقق القلب، فقال تعالى مُوَبِّخًا إيَّاهم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة74]
 
انْتِشَارُ المفَاهِيمِ الخَاطِئَةِ
إذا اعتاد الناس أن يروا الجرائم ليل نهار فسوف يتكون فى أذهانهم مفاهيم خاطئة عن المجتمع وأهله فيتخيل الواحد منهم أنَّ المجتمع كله أشرارٌ مجرمون آثمون، ويردد العبارة التى طالما سمعناها فى هذه الأزمان وهى: (إنه لم يعد فى الدنيا خير) وتكون أقواله وأفعاله وتصرفاته حسب ما تكوَّن لديه من أفكار ومفاهيم خاطئة، بل قد يقع فى تلك الرذائل؛ من رشوة وقذف المحصنات.. إلخ.
 
وهكذا الذين يعتادون قراءة الصحف ومطالعة أخبار الحوادث والجرائم تتكون لديهم صورة باهتة سوداء عن المجتمع، فعندما يرون الناس يمشون فى الشوارع يقولون فى أنفسهم: إنهم جميعًا لصوص أو إنهم جميعًا زُنَاة، ولا يثقون فى تعاملهم معهم، ومهما أوتى الدعاة من قوة البيان وسحر اللسان وعذوبة القلم؛ فإنهم لا يستطيعون زحزحتهم عن مواقفهم وإقناعهم بأن الذين ارتكبوا الجرائم وعُرضوا فى الجرائد والمجلات أو شاهدوهم عبر وسائل الإعلام المرئية ما هم إلا شواذ المجتمع، مع هذا كله لا تجدى النصيحة؛ ولا ينفع الدواء بعد أن تمكن الداء وبعد أن تجرعوا من وسائل الإعلام السُّمَّ الزعاف الذى لا يستطيع المعالجون علاجه!.
 
وقد كان منهاج النبي صلى الله عليه وسلم يخالف تمامًا منهاج وسائل إعلامنا فكان صلى الله عليه وسلم يحرص على تعليم الصحابة الخير ونشره فيهم، ويرغب عن نشر أخبار الفساد؛ حتى لا يتأثروا بها، أو تميل قلوبهم إليها، فكانت حياته صلى الله عليه وسلم مع الصحابة فى خير دائم، يخرجون من طاعة إلى طاعة، ومن معروف إلى معروف؛ فعن أبى هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم ([6]):«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَنَا،قَالَ فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ:فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِصلى الله عليه وسلم : مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ».
فلم يكن صلى الله عليه وسلم يتوانى عن صحبه الكرام فى نصحهم ودفعهم للخير دفعًا، وحثهم على بذل الطاعة التى تبعدهم عن المعاصى، بل وعن ذكرها أو تخيلها، وإن كان ها هنا مقال لأهل الصحافة والتلفاز فنقول لهم: هلا أعلنتم فى صحافتكم وتلفازكم وقلتم: من أصبح متبرعًا لمستشفى؟ من أصبح منفقًا على دور الأيتام؟ من أصبح منفقًا على إخوانه الضعفاء؟ من كذا..؟ من كذا...؟! من نشر أخبار الخير التى تعم البلاد والعباد، وأن تقصروا عن أخبار الفساد التى تلقى قبولاً يومًا بعد يوم من الجماهير الغافلة عن شريعة الله!.
وكان النَّـبِيّ صلى الله عليه وسلم عندما يغضب من فعل شخص أو لا يعجبه قوله، ويخاف أن ينتشر هذا القول أو الفعل فى المجتمع المسلم كان صلى الله عليه وسلم يصعد المنبر (أداة الإعلام) ويخطب، ويقول: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا...».
 
إن هذا ليس من منهجنا ولا على طريقتنا، ولا يذكر اسم الفاعل؛ حتى لا يُشعره بحرج أو يجعله مَسَارَ تندُّرٍ للمجتمع؛ فعَنْ عَائِشَةَ ل قَالَتْ([7]): (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ: مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ؛ وَلَكِنْ يَقُولُ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا؟!.
 
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يعالج الانحرافات التى تطرأ أو السلبيات التى تظهر فى حنَايَا المجتمع بأسلوب بديع ينُمُّ عن عقلية واعية محافظة على الآداب العامة للمجتمع؛ من هذا يتضح أنَّ ما يفعله بعض إخواننا الخطباء -أيضًا- من شرح الجرائم على المنبر شرحًا مفصَّلاً كما يفعله أهل الصحافة ليس من دين الإسلام فى شيء، بل هو نشر للجريمة فى عقول طائفة من المجتمع؛ تتلذذ بسماع مثل هذه الأخبار، ولو أنهم فعلوا مثل ما فعل النَّـبِيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا: هناك بعض الناس يفعلون كذا وكذا، ويُعرِّضون ولا يصرحون ويجملون، ولا يفصلون لكان خيرًا لهم وللإسلام والمسلمين.
والمطلوب -أيها الأخوة الكرام- الإقلاع -فورًا- عن قراءة أو مشاهدة أخبار الجرائم لما لها من تأثير سلبى هدام لأخلاق الفرد والجماعة، والبحث عن أخبار الخير والبناء والتعمير فى المجتمع المسلم لِمَا لها من تأثير إيجابى فى نفس المسلم، وبالتالى على المجتمع.
 
والمطلوب -أيها الإعلاميون الكرام- أن تكون هناك جرائد أو مجلات أو برامج إذاعية أو تلفزيونية خاصة بأخبار الخير فى المجتمع، تُُعنى بنشر التبرعات لإقامة المساجد وتعميرها، ودور الأيتام وخدماتها، والمستشفيات وعلاجها، وإعانة الأرامل، بل ويتعدى هذا الخير إلى البلاد الإسلامية المجاورة فى حالة حدوث الزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية، وشرح تجارب المتبرعين الأثرياء فى هذه الخيرات.
 
وأخيرًا.. أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفع بها كاتبها وقارئها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


---------------------------------------
([1]) (صحيح): البخارى 5270، مسلم 1691، أبو داود 4433، الترمذى 1429.
([2]) (صحيح): صحيح الجامع 149.
([3]) (صحيح): البخارى 4477، أبو داود 4477، أحمد 7926.
([4]) (صحيح): ابن ماجة 2546، صحيح الترغيب والترهيب 2338.
([5]) (صحيح): صحيح الجامع 4008.
([6]) (صحيح): مسلم 1028.
([7]) (صحيح): أبو داود 2788، صحيح الجامع 4692.
 

مقالات الفوائد