اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/arabic/202.htm?print_it=1

الرياضة في مفهوم العلماء

عبدالله الباتل


قال ابن سعدي رحمه الله في كتابه الجميل الرياض الناضرة الفصل السابع والعشرون في الرياضــــة وهي التمرن والتمرين على الأمور التي تنفع في العاجل والآجل والتدريب على سلوك الوسائل النافعة التي تدرك بها المقاصد الجلية وهي ثلاثة أقسام :

رياضة الأبدان ,ورياضة الأخلاق ,ورياضة الأذهان ,ووجه الحصر أن كمال الإنسان المقصود منه تقوية بدنه لمزاولة الأعمال المتنوعة ,وتكميل أخلاقه ليحيا حياة طيبة مع الله ومع خلقه ,وتحصيل العلوم النافعة الصادقة وبذلك تتم أمور العبد ,والنقص إنما يكون بفقد واحد من هذه الثلاثة أو اثنين أو كلها .
والأقسام الثلاثة مما حث عليها الشرع والعقل ,ولو لم يكن إلا الاستدلال بالقاعدة الشرعية العقلية الكبيرة ,وهي أن الوسائل لها أحكام المقاصد ,وأن الأمر الذي يتم به المأمور مأمور به ,أمر إيجاب أو استحباب ,لكفى دليلا وبرهاناً على العناية بالرياضة بأنواعها .

أما الرياضة البدنية
فبتقوية البدن بالحركات المتنوعة وبالمشي وبالركوب وأصناف الحركات المتنوعة ,ولكل قوم عادة لا مشاحة في الاصطلاحات فيها إذا لم يكن فيها محذور وإذا تدبرت العوائد الشرعية في الحركات البدنية عرفت أنها مغنية عن غيرها ,فحركات الطهارة والصلاة والمشي إلى العبادات ومباشرتها ,وخصوصا إذا انضاف إلى ذلك تلذذ العبد بها وحركات الحج والعمرة والجهاد المتنوعة ,وحركات التعلم والتعليم والتمرين على الكلام والكتابة وأصناف الصناعات والحرف كلها داخلة في الرياضة البدنية ,ويختلف نفع الرياضة البدنية ,باختلاف الأبدان قوة وضعفا ونشاطا وكسلا ,ومتى تمرن على الرياضة البدنية قويت أعضاؤه واشتدت أعصابه وخفت حركاته وزاد نشاطه واستحدث قوة إلى قوته يستعين بها على الأعمال النافعة ,لأن الرياضة البدنية من باب الوسائل التي تقصد لغيرها لا لنفسها ,وأيضا إذا قويت الأبدان وحركاتها ازداد العقل وقوى الذهن وقلت الأمراض أو خفت ,وأغنت الرياضة عن كثير من الأدوية التي يحتاجها أو يضطر لها من لارياضة له .
ولا ينبغي للعبد أن يجعل الرياضة البدنية غايته ومقصوده فيضيع عليه وقته ,ويفقد المقصود والغاية النافعة الدينية والدنيوية ، ويخسر خسراناً كثيراً كما هو دأب كثير من الناس الذين لاغاية لهم شريفة ، وإنما غايتهم مشاركة البهائم فقط ، وهذه غاية ما أحقرها وأرذلها وأقل بقاءها .

وأما رياضة الأخلاق
فإنها عظيمة صعبة على النفوس ، ولكنها يسيرة على من يسرها الله عليه ،ونفعها عظيم وفوائدها لاتنحصر ، وذلك أن كمال العبد بالتخلق بالأخلاق الجميلة مع الله ومع خلقه ،لينال محبة الله ومحبة الخلق ، ولينال الطمأنينة والسكينة والحياة الطيبة ،وشعبها كثيرة جداً. ولكن نموذج ذلك أن يمرن العبد نفسه على القيام بما أوجب الله عليه ويكمله بالنوافل على وجه المراقبة والإحسان كما قال صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان في عبادة الله " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "فيحاسب العبد نفسه على القيام بها على الوجه الكامل أو مايقاربه ، ويقاطعها على تكميل الفرائض ، والجد على إيقاعها على أكمل الوجوه ، وكلما رأى من نفسه قصوراً أو تقصيراً في ذلك جاهدها وحاسبها وأعلمها أن هذا مسلوب منها ، ويجاهدها على تكميل مقام الإخلاص الذي هو روح كل عمل ، فالعمل إذا كان الداعي لفعله وتكميله وجه الله وطلب رضاه والفوز بثوابه ، فهذا العمل المقبول الذي قليله كثير ، وغايته أشرف الغايات ونفعه مستمر دائم ، فإذا رأى من نفسه إخلالا وتقصيراً بهذا الأمر ، لم يزل بها يقيمها على الصراط المستقيم ، بحيث تكون الحركات الفعلية والقولية كلها خالصة لله تعالى ، مراداً بها ثوابه وفضله، فلا يزال العبد يمرن نفسه على ذلك حتى يكون الإخلاص له طبعاً ، ومراقبة الله له حالا ووصفاً، وبذلك يكون من المخلصين المحسنين ، وبذلك تهون عليه الطاعات، وربما استحلى في هذا السبيل مشاق الطاعات ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وكذلك يمرن نفسه على التخلق بالأخلاق الجميلة مع الخلق على اختلاف طبقاتهم ، فيحسن خلقه للصغير والكبير والشريف والوضيع ،ويعفو عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه ، ويحسن إلى من أساء إليه بقول أو فعل ويمتثل ما أرشده الله إليه بقوله ( ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ،وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) .
أخبر الله تعالى أنها من أعظم الحظوظ المسلوبة ، وأنه لايوفق لها إلا الصابرون الذين مرنوا نفوسهم وراضوها على التزام هذه الأخلاق ، ووطنوها على الاتصاف بها ، فتوطين النفس على كل أمر ممكن حدوثه من الناس ، من أقوال وأفعال ، وعلى الصبر عليه عوناً كبيراً على التوفيق لهذا الخلق الجليل . وكذلك يمرن نفسه ويروضها على النصح لجميع الخلق بقوله وفعله وجميع حركاته ، فإن النصح هو غاية الإحسان إلى الخلق وهو الدين الحقيقي ، ويمرنها على الصدق والعدل واستواء الظاهر والباطن .
فهذه الرياضة لايتم القيام بحقوق الله وحقوق عباده إلا بها ، وكل أمر من الأمور يحتاج إليها فيه ، فإن النفس مجبولة على الكسل وعدم النهوض إلى المكارم ، فلا بد من مجاهدتها على ماتصلح به أمورها .

وأما رياضة الأذهان
فهي الاشتغال بالعلوم النافعة وكثرة التفكر فيها والابتداء فيما يسهل على العبد منها ، ثم يتدرج به إلى مافوقه ، وتعويد الذهن السكون إلى صحيح العلوم وصادقها ، وذوده عن فاسدها وكاذبها ومالانفع فيه منها ، فإن من تعود السكون إلى الصدق والصحيح ، والنفور من ضده ، فقد سلك بفكره وذهنه المسلك النافع ، وليداوم على كثرة التفكر والنظر ، كما حث الله على ذلك في كتابه في عدة آيات .

وأنفع ما ينبغي تمرين الذهن عليه كلام الله وكلام رسوله ,فإن فيهما الشفاء والهدى ,مجملا ومفصلا ,وفيهما أعلى العلوم وأنفعها وأصلحها للقلوب والدين والدنيا والآخرة .

فكثرة تدبر كتاب الله وسنة رسوله أفضل الأمور على الإطلاق ,ويحصل فيها من تفتيح الأذهان ,وتوسع الأفكار والمعارف الصحيحة ,والعقول الرجيحة ,ما لايمكن الوصول إليه بدون ذلك ,وكذلك التفكر فيما دعا الله عباده إلى التفكر فيه ,من السماوات والأرض وما أودع فيهما من المخلوقات والمنافع ليستدل بها على التوحيد والمعاد والنبوة وبراهين ذلك ,وليستخرج ما فيها من المنافع النافعة للناس في أمور دينهم ودنياهم ,فمن عود نفسه ودربها على كثرة التفكر في هذه الأمور وما يتبعها ,فلا بد أن تترقى أفكاره وتتسع دائرة عقله وينشحذ ذهنه , ومن ترك التفكر جمدت قريحته وكل ذهنه ,واستولت عليه الأفكار التي لاتسمن ولا تغني من جوع ,بل ضررها أكثر من نفعها .

ومن الأفكار النافعة التفكر في نعم الله ,الخاصة بالعبد والعامة ,فبذلك يعرف العبد أن النعم كلها من الله ,وأنه لايأتي بالخير والحسنات إلا الله ,وأنه لايدفع الشر والسيئات إلا هو وبذلك تستجلب محبة الله وبه يوازن العبد بين النعم والمحن لانسبة لها إلى النعم بوجه من الوجوه ,بل إنها تكون في حق المؤمن القائم بوظيفته ,الصبر نعمة من الله ,فكل ما يتقلب فيه المؤمن فهو خير له ,لأنه يسعى بإيمانه ويكتسب به في جميع تنقلاته ,وهذه أفضل حلى الإيمان وثمراته البهيجة ,وكذلك من أنفع الأفكار الفكر في عيوب الناس وعيوب الأعمال والتوصل إلى الوقوف عليها,ثم السعي في طريق إزالتها ,فبذلك تزكوا الأعمال وتكمل الأحوال ,وبالله التوفيق .

 

مقالات الفوائد