صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







ضربُ وقائعِ الأحوال للاستدلَالِ- ليسَ من دأْبِ الرِّجال....!

معاذ إحسان العتيبي


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


الحمدُ للهِ الذي برأ لدينِهِ المتين، رجالَ العلمَ والدين، يبصِّرونَ أعينًا عميًا، ويرشدونَ قلوبًا غلفًا، ويسْمعونَ آذانًا صمًّا، فلا يَدَعونَ رذلاً ولا هزلاً، ولا سخفًا ولا همْجًا، يقرِّرونَ الحقَّ بلا مِرية، يثبِّتونَ أهلَه بلا فِرية، عَلِموا فعلَّموا، صَدَقوا فصُدِّقوا.

للهِ دَرُّ عِصابَةٍ *** صُدُقِ المَقال ِمَقاوِلا
فاقوا الأنامَ فضائِلاً ***مأثورَةً وفواضِلا
حاورْتُهم فوجَدتُ سحْـ *** باناً لديْهِمْ باقِلا
وحللْتُ فيهِمْ سائِلاً *** فلَقيتُ جوداً سائِلا
أقسَمْتُ لوْ كان الكِرا *** م، حياً لكانوا وابِلا


أخي في الله... اعلمْ وتعلمْ


* إن تقرير المسائل الشرعية، ومعالجة القضايا الواقعية، كثيرًا ما يتصدَّى لبيانها وحلِّ مشكلها أولوا الألباب، وينبري لتنقيح مناطِها أولوا الفضلِ اللباب، وإنما يبرزُ دقيق قولهم ومسيسُ رأيهم إذا كانَ الحكمُ مبنيًا على الغالب إن عُدمَ العموم-، فهذا أصلُ بناءِ الأحكام كما هو متقرر في دينَا الحنيف، فتبيَّن لكَ أن الشريعةَ الإسلامية تبني أحكامها على أمورٍ عظيمةٍ؛ أهمها وأجلُّها:

ما كانَ غالبًا وشائعًا، وما كانَ واضحًا وبيِّـنًا، إذا علمتَ هذا فإليكَ تحقيقُ ذلك بالدليل:

* قال - تعالى -في ذمِّ المشركينَ الذي يتقلَّدونَ الآباء في المعتقداتِ (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) فذمَّ الله - تعالى -مطلقَ اتباعَ الظنِّ، وَالظَّنُّ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ: هُوَ الِاعْتِقَادُ الْمُخْطِئُ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، الَّذِي يَحْسَبُهُ صَاحِبُهُ حَقًّا وَصَحِيحًا، قَالَ - تعالى -: (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) وَمِنْه قَول النّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ)) قاله ابن عاشور

* القاعدةُ الشرعية الأصلية: " العبرة بالغالب الشائع لا بالقليل النادر"، وهذا قاعدة متفقة عليها بين أرباب الأصول، ومعناها: أنْ يكونَ العرفُ جاريًا بين الذين تعارفوه في أكثر أحوالهم، ويكونُ جريانهم عليهِ حاصلٌ في أكثرِ الحوادثِ لا تتخلَّف، وعلى هذا " قدَّرَ الخبراء ومن قبلهم الفقهاء- أنَّ السنَّ المعتبر لبلوغَ الأنثى تسع سنين"، ومنه كذلك قولهم: "أنَّ الغالب على الأطفال عدم جودةِ التصرف، فلا يصح التصرف منهم، وإن وجدَ من بعضهم جودةَ التصرفِ فهو نادر".... والأمثلةُ على ذلكَ أكثر من أن تُحصى وتُحصر

قال الكرخي: " الأصلُ أن السؤال والخطاب يمضي على ما عمَّ وغلبَ، لا على ما شذَّ وندر".

* مع تعقِّلِ وتدبُّرِ: الأصل المفهوم من قواعد الشرع: صيانة الأعراض بتحريم الخوض فيها، وأن الكلام في الأشخاصِ إنما أُجيز للضرورة، ولمصلحة الشريعة، فمن لم تكن له درايةٌ وسبرٌ، ولم تكن هناك مصلحة شرعية من ذكر عيوبه ونقائصه حرُمت غِيبته للأدلة القاضية بتحريم الخوض في أعراض المسلمين.

قال الإمام القرافي: والتفكُّه بأعراض المسلمين حرام، والأصل فيها العصمة اهـ. الفروق (4/206).

&فاعلمْ أن الأخذَ بوقائعِ الأحوالِ وهي التي تسمى عند الأصوليين: حكاية حال أو واقعة عين؛ ومعناها: الحادثة التي لها ملابسات خاصة بها، والقاعدةُ: وقائعُ الأحوال لا عمومَ لها- للاستدلالِ ليسَ هو سبيلُ القرآنِ الكريم، ولا هو منهجُ النبيِّ الأمين، ولا نهَجهُ أئمةُ السلفِ المتَّبعين، بل كلُّ ذلكَ من قبيلِ (الظنونِ) الذي لا يغني من الحقِّ شيئًا والقاعدةُ المعتبرةُ أن: " وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال، كساها ثوبَ الإجمال، وسقطَ بها الاستدلال" فإذا رأيتَ رجلاً يردُ الأدلةَ لمجرَّد أية احتمال كانَ هذا من الافتئاتِ على الشرعِ الحكيم، ومن إلقاءِ النصوص الراجحةِ في سلةِ الوساوس والشكوك
" وقد رأيتُ ضربًا من أولي الاستدلال بعضهم الفقيه فيقوله وأكثره الجاهل به- يبني أحكامَه أو يضْربُ أحكامَ غيره، بناءً على الشاذِّ والنادر، والقاعدةُ المقرَّرة أنَّ (النادرُ لا حكمَ له) وإنما بنيتُ هذه الأكثريةِ في جهلِ ما يقوله الأكثرونَ بناءً على (الأغلبية) كما هو بينٌ لكل فطِن عارف".

وسيءُ ما أرنو إليه هو: نطقُ كثيرٍ من المسلمين في أحكامهم -سواء أكانت مسألة عملية أو واقعية- أو في الحكمِ على الأشخاص سواء أكانت في الذمِّ أو المديح-: على ما شذَّ في الوقائع والأحوال، فيبنون عليه الأحكام، ويتصدَّرون فيه المقال، فيشتاطون في أحكامهم اشتياط الأسد الجائع، وينصرون لمقالتهم بأقلِّ الأحوال وقوعًا، ويستدلون لشذوذِها المسائل العلمية والعملية وغير ذلك.

مثال مؤسفٌ!!


* إذا ظهرَ أحد الأعلام المعلِّمين المربين وبدَا منهُ موقفٌ لا يليق بمكانته ولا منزلته، وخاضَ النَّاس فيه بين قادح ومادح، لم تكن حجُّة القادحِ -في ذمِّه- إلاَّ هذا الموقف!! ولا يعرفُ منه غيره!
فانظر إلى سيءِ هذا العمل كيف أنه (رمى بحر حسناته) و (ألقى بأصلِ كرامته) و (نظرَ إلى الإناء الفارغ)... و (نظر من ثقب الباب مع أنه مفتوح)!

قال الإمام المنصف ابن القيم - رحمه الله -: "من قواعد الشرع والحكمة أيضًا: أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث بخلاف الماء القليل فإنه لا يحتمل أدنى خبث"مفتاح دار السعادة (1-176).

أعود فأقول: هذه القاعدةُ "ابنِ الأحكامَ على ما شاعَ لا ما ندر" و"لا عبرة بالشاذ" وأشباهها، صالحةٌ لأضربٍ من الناس، منهم:

(1)
المجتهدُ المقرِّر الأحكام الشرعية بناءً على الأدلةِ التأصيلية، فإنَّ وظيفة المجتهد أو (المفتي) أن ينظرَ في واقع الأمةِ ليبني حكمَه، فإنه إن تمخَّض فكرهُ لفهم المسائل لبناءً على ما يقالُ أو يكتبْ كانَ تقريره من هذَر القولِ وزبَدِهِ، فالواقع الحال يستوجبُ النظرَ في حالِ أمتنا الإسلامية نظرةً فاحصةً، ولهذا أجدُ غالبًا "كل مرشد ٍوكاتبٍ مطلعٍ رأيهُ ونِتاجُهُ أسلمُ وأقنعُ ممن عكفَ الزوايا لتقرير المسائل، وكنفَ الوقائع عن فهم الغوائل.

قال عبد الله بن المبارك: إذا غلبت محاسن الرجل على المساوئ لم تُذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تُذكر المحاسن. (تذكرة الحفاظ 1/276).

وقال الشعبي: كانت العرب تقول: إذا كانت محاسن الرجل تغلب مساوئه فذلكم الرجل الكامل، وإذا كانا متقاربين فذلكم المتماسك، وإذا كانت المساوئ أكثر من المحاسن فذلكم المتهتك. (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) (2/260).

ولهذا الأمرِ بأسِّهِ كانتْ القاعدةُ الشرعية العظيمة (تتغيرُ الفتوى بتغيُّر الأحوال والأزمانِ والأماكن ِوالعوائد)، فحينما تتعرض علينا مثلاً "الدراسة النظامية في الجامعات المختلطة"، فإننا نصرِّح بأنَّ (الدراسةُ الأكاديمية في الجامعات المختلطة محرمٌ) وإن كانَ (أصل الدراسةِ جائزٌ) وإن كانَ (أصلُ الدخولِ في الجامعاتِ جائز) إلاَّ أنه لما فاضَ ما غاصَ به الناس من البلايا والرزايا كانَ الحكمُ بالحرمةِ هو الذي يجبُ المصير إليهِ.

وقسْ على ذلك:

(2)
المفكِّرُ الإسلامي والرجلُ العقلاني، عندَ معالجتهِ مشاكلَ الأمةِ، ولنضربْ لذلكَ (ظاهرة التمويهِ الإعلامي) فما يجوزُ لعاقلٍ مفكِّر أن يعوِّلَ تحليلَ أخبارَ الأمةَ على ما ظهر للناسِ في الإعلام، لأن كل حصيفٍ يعتقدُ أن "وراءَ الأكمةِ ما وراءها" بل لو حلفَ على ذلكَ ما حنَث! فقد أصبحَ غالبُ القضايا الحسَّاسة صدقُ ما فيها شاذٌ ونادرٌ!

(3)
الطبيبُ المعالجُ والخبيرُ المداوي، عندَ تحليلِهِ أمراضَ الناسِ في واقعهِ، ولنضربْ لذلكَ (ظاهرة مرض الإيدز) فإن هذا المحلِّل لن ينظرَ لمعالجةِ ظاهرةِ هذا المرض على نِتاجِ "دواءِ" نفعَ أناسًا بعدِّ الأصابعَ وأضرَّ أممًا.. بل إنه سينظر لما عمَّ نفعهُ وغلبَت فائدته.

إذا تقرَّر ما سبقََ ذكرهُ فإني أستطيع إيجازَ القولِ بنقاطٍ:


* إذا وكِّل إليكَ تحكيمَ المسائلَ ومعالجةَ المشاكل فابنِ أحكامكَ على ما شاعَ وذاعَ، فهذه لحظةُ العقلاء.
* إذا أشِرتَ ونوقِشتَ في معرفةِ القضايا فانظرْ إلى ما ظهرَ به تأثيره، وبانَ فيه كثيرة.
* إذا أردتَ أن يقالَ (أنتَ أنتَ فيمَ ارتأيتَ) فأمعنِ الفكرِ في سببه ومنشئهِ فإنَّ"معرفة الأسباب أول الطريق لمعالجةِ الأمراض".

* إذا أمِّنتَ في الحكمِ على الأشخاصِ بأن يعرفَ منك دينٌ وتقوى، فلا تحكم عليهم بموقفٍ رأيتَه، أو ظنٍ ارتأيتَه، بل احكم عليه بعد سبرِ حاله وأقواله.

وقد كانَ هذا منهجُ النقادِ أهل الحديث، قال المعلمي اليماني - رحمه الله -: الأئمة لا يوثقون أحدا حتى يطلعوا على عدة أحاديث للراوي تكون مستقيمة وتكثر حتى يغلب على الظن أن الاستقامة كانت ملكة لذلك الراوي، وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي اه.

قال الإمام الذهبي - رحمه الله -: "ونحن لا ندعي العصمة في أئمة الجرح والتعديل؛ لكنهم أكثر الناس صواباً وأندرهم خطأً وأشدهم إنصافاً وأبعدهم عن التحامل.

وإذا اتفقوا على تعديلٍ أو جرحٍ، فتمسك به واعضض عليه بناجذيك، ولا تتجاوزه فتندم؛ ومن شذ منهم فلا عِبْرة به، فخَلِّ عنك العَناء، وأعط القوس باريها.

فو الله لولا الحفاظ الأكابر لخطبت الزنادقة على المنابر. ولئن خطب خاطبٌ من أهل البدع، فإنما هو بسيف الإسلام وبلسان الشريعة وبجاه السنة وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول؛فنعوذ بالله من الخذلان". سير أعلام النبلاء (11/82).

وقال الإمامُ الشافعي - رحمه الله -: إذا كان الأغلب الطاعة فهو المُعدَّل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح. (الكفاية في علم الرواية) (ص 79).

وقد كانَ المحدِّثون يعيبونَ من ينتصرُ لمذهبِهِ بحصره عندَ النقلِ: أقوالَ النقادِ الموافق لمذهبه دونَ ذكرِ القولِ المخالفِ، فهذا الإمام شمس الدين الذهبي يقول في ترجمة (أبان بن يزيد العطار): قد أورده أيضاً العلامة: ابن الجوزي في الضعفاء، ولم يذكر فيه أقوال من وثَّقه، وهذا من عيوب كتابه يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق اهـ. (ميزان الاعتدال) (1/9).

وقال الشيخ ظفر أحمد التهانوي: الاقتصار على ذكر التضعيف والسكوت عن التوثيق عيبٌ شديد، وكذا بالعكس إلا أن يكون ممن ثبتت عدالته وأذعنت الأمة لإمامته. (قواعد في علوم الحديث) (ص 281).

وما أحسن ما قال التابعي الجليلُ محمد بن سيرين: ظلمٌ لأخيك أن تذكُر منه أسوأ ما تعلم وتكتُم خيره. (صفوة الصفوة) (3/245).

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

مقالات الفوائد

  • المقـالات
  • الصفحة الرئيسية