اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/arabic/880.htm?print_it=1

هل كان اعتقاد المشركين في الربوبية صحيحًا؟

محمد أنور محمد رسال


بسم الله الرحمن الرحيم

(( هل كان اعتقاد المشركين في الربوبية صحيحًا؟ ))
المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هل كان اعتقادهم في الربوبية صحيحًا؟
(( أُغْلُوطَةٌ مشهورةٌ )):
هذه الأغلوطة يذكرها بعض طلبة العلم في الدروس العَقَدِية، وربما ذكرها بعض المشايخ عندما يتكلمون عن توحيد الربوبية عند المشركين، وهي:
(( كان اعتقاد المشركين في الربوبية صحيحًا ))
ويستدلون على ذلك بآيات من كتاب الله، ومنها:
قال الله تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } {الزخرف:87}.
قال الله تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } {يونس:31}.
قال الله تعالى:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }{لقمان:25}.
والاستدلال بهذه الآيات على أنَّ (( توحيد الربوبية كان عند المشركين صحيحًا مطلقًا ولا خلل فيه )) خطأٌ وليس بسديدٍ.

والصواب:
المشركون يقِرُّون بتوحيد الربوبية في الجملة، ولم يكن سليمًا، بل كان فيه خللٌ وشِرْكِياتٌ، ومنها:

أ ــ (( نسبة المطر للكواكب والأنواء )):

فقد كانوا ينسبون إنزال الغيث _الأمطار_ إلى الأنواء
(( برهان ذلك  )):
أ ــ قال الله تعالى: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } {الواقعة:82}.
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } {الواقعة: 82} ثُمَّ قَالَ: (( مَا مُطِرَ النَّاسُ لَيْلَةً قَطُّ، إِلَّا أَصْبَحَ بَعْضُ النَّاسِ مُشْرِكِينَ يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا )) قَالَ: وَقَالَ « وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ » ([1]).
ب ــ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ _رضي الله عنه_ قَالَ:
صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ _صلى الله عليه وسلم_ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:(( هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ )) قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:(( أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِر،ٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ: فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بنَوْء كَذَا وَكَذَا: فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي، وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ )) ([2]).
قال الإمام ابن عبد البر ::
(( وأمّا العربُ: فكانت تُضيفُ المطرَ إلى النَّوءِ، وهذا عندهم معرُوفٌ مَشْهُورٌ في أخبارِهِم وأشْعارِهِم؛ فلمّا جاءَ الإسلامُ نَهاهُم رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-
عن ذلك، وأدَّبهُم وعرَّفهُم ما يقولُونَ عندَ نُزُولِ الماءِ، وذلك أن يقولُوا: "مُطِرْنا بفَضلِ اللَّه ورحمتِهِ"، ونحوَ هذا من الإيمانِ والتَّسليم لما نطقَ به القُرآنُ )) ([3]).

ب ـــ (( كانوا يأتون الكُهَّان )):

(( برهان ذلك )):
أ ــ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ، قَالَ:(( فَلَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ )) ([4]).
وفي رواية: قال: إنِّي حَديثُ عَهْدٍ بجَاهِلِيَّةٍ، وقدْ جَاءَ اللَّهُ بالإِسْلَامِ، وإنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الكُهَّانَ، قالَ: (( فلا تَأْتِهِمْ )) ([5]).

ب ــ
عَنْ عَائِشَةَ _رضي الله عنها_، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْكُهَّانَ كَانُوا يُحَدِّثُونَنَا بِالشَّيْءِ فَنَجِدُهُ حَقًّا، قَالَ: (( تِلْكَ الْكَلِمَةُ الْحَقُّ، يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقْذِفُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، وَيَزِيدُ فِيهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ )) ([6]).
وفي رواية: قَالَتْ عَائِشَةُ _رضي الله عنها_: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللهِ ه عَنِ الْكُهَّانِ؟
 فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِه:(( لَيْسُوا بِشَيْءٍ )) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا الشَّيْءَ يَكُونُ حَقًّا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ه: (( تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ،
 فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ )) ([7]).
فدلت هذه الأحاديث أنهم في الجاهلية كانوا يأتون الكُهَّان،وهذا شِرك في الربوبية ([8]).

ج ــ (( كانوا يتطيرون )):

( الطِّيَرَة ) - بكسر الطاء، وفتح الياء، وقد تُسَكَّن -: وهي التشاؤم بالشيء ([9]).
فالطيرة هي: التشاؤم بمرئيٍّ، أو مسموعٍ، أو معلومٍ ([10]).
(( برهان ذلك )):
حديث معاوية بن الحكم السلمي السابق ذِكره:
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ، قَالَ:(( فَلَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ ))، قَالَ: قُلْتُ: كُنَّا نَتَطَيَّرُ، قَالَ:(( ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ )) ([11]).
فثبت أنهم كانوا يتطيرون في الجاهلية، وقد سماها النبي _صلى الله عليه وسلم_: شِركًا،وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_: (( الطِّيَرَةُ مِنَ الشِّرْكِ )) ([12])،
وفي رواية: (( الطِّيَرَةُ شِرْكٌ )) ([13]).
والتطير يتعلق بعلم الغيب، وهو يتعلق بالربوبية.

د ــ (( ينسبون بعض الحوادث للدهر )):

(( برهان ذلك )):
 قال الله جل جلاله : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } {الجاثية:24}.
قال الإمام الطبري ::
(( وقوله: { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } يقول تعالى ذِكره مخبرًا عن هؤلاء المشركين أنهم قالوا: وما يهلكنا فيفنينا إلا مرُّ الليالي والأيام وطول العمر، إنكارًا منهم أنْ يكون لهم ربٌّ يفنيهم ويهلكهم )) ([14]).
كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثِّر في هلاك الأنفس، وينكرون ملك الموت، وقبْضَه الأرواح بإذن الله، وكانوا يضيفون كل حادثةٍ تحدُثُ إلى الدهر والزمان ([15]).
هـ ــ (( إنكار البعث )):
قال الله جل جلاله :{ زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } {التغابن:7}
وأصل إنكار البعث: شكٌّ في قدرة الله جل جلاله ، وهذا طعن في الربوبية.

(( خلاصة الكلام )):
 قول من يقول: (( كان اعتقاد المشركين في الربوبية صحيحًا ))
والاستدلال ببعض الآيات على أنَّ (( توحيد الربوبية كان عند المشركين صحيحًا مطلقًا ولا خلل فيه )) خطأٌ وليس بسديدٍ.
والصواب: المشركون يقِرُّون بتوحيد الربوبية في الجملة، ولم يكن سليمًا، بل كان فيه خللٌ وشِرْكِياتٌ، مما سبق وذكرناه.
وبالله جل جلاله لتوفيق...


وكتبه: أبو عبد الله
محمد أنور محمد رسال
الاثنين / الثاني من جُمادى الأولى ( 1443 هـ )
 الموافق: 6 / ديسمبر / 2021 م



----------------------------------------
([1]) ــ إسناده صحيح: رواه الطبري في تفسيره، ( 10 / 652 ) رقم: ( 33650 ) طـ ( دار الحديث ) القاهرة.
([2]) ــ رواه البخاري ( 1038 )، ومسلم ( 71 )، وأبو داود ( 3906 )، والنسائي ( 1525 ).
([3]) ــ التمهيد، ابن عبد البر ( 6 / 409: 410 ) طـ ( دار الكتب العلمية ) بيروت ـ لبنان.    
([4]) ــ رواه مسلم ( 537 ).
([5]) ــ رواه مسلم ( 537 ) وأبو داود ( 390 ).
([6]) ــ رواه البخاري ( 3210 )، مسلم ( 2228 ).
([7]) ــ انظر: صحيح مسلم ( 2228 ).
([8]) ــ وهذا عند التصديق واعتقاد أنهم يعلمون الغيب، وللمسألة تفاصيلُ من جهة أيٍّ منها يكون شركًا أو لا،
وأيٍّ منها يكون شركًا أكبر أو أصغر، ومتى يثبت الحكم على المعين؛ إذ التكفير المطلق لا يلزم منه تكفير المعين،
والغرض المقصود: أن للمسألة تفاصيلَ ليس هذا محل ذِكرها.
([9]) ــ النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ( صـ 564 ) مادة: (طير) طـ ( بيت الأفكار الدولية ).
([10]) ــ التشاؤم بالمرئي: كالتشاؤم بالقطة السوداء، والبُومة، وما شابه ذلك.
التشاؤم بالمسموع: كالتشاؤم من صوت الغراب، وصوت البُومة، وما شابه ذلك.
التشاؤم بمعلوم: كالتشاؤم من رقم (13)، والزعم بأن يوم الجمعة فيه ساعة نَحْسٍ - كما يقول جهلة العوام في زماننا _.
([11]) ــ رواه مسلم ( 537 ).
([12]) ــ صحيح: رواه أحمد ( 3687 )، الترمذي ( 1614 ).
([13]) ــ صحيح: رواه أبو داود ( 3910 )، وابن ماجه ( 3538 ).
([14]) ــ تفسير الطبري ( 10 / 127 ) طـ ( دار الحديث ) القاهرة.
([15]) ــ تفسير النسفي ( 3 / 304 ) ح، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، القسطلاني ( 13 / 186 )
حديث رقم: ( 6181 ) طـ ( دار الكتب العلمية ) بيروت ـ لبنان.

 

مقالات الفوائد