بسم الله الرحمن الرحيم

حتى لا تضيع الحقيقة
لفضيلة الشيخ د. عوض بن محمد القرني
(#)
( 3 / 8 / 1422هـ )


في غمرة الأحداث الجارية اضطربت كثير من العقول وتاهت كثير من البصائر واختلط في كثير من المفاهيم الحق بالباطل واستغفل الناس إلى درجة كأن وسائل الإعلام لم تتخاطب مع أناس ذوي عقول ومدارك ، ونال من الإسلام وأصوله كل من هب ودب ، وأصبح الكثير من العرب والمسلمين أمام أنفسهم قبل غيرهم محل التهمة والشبهة .

وكل هذا ما كان ليحدث مهما كان ضخامة الأحداث وأعاصير الفتن لولا أن الكليات العاصمة والأصول المنقذة في ديننا وعقيدتنا غابت عن حياة وفكر الكثير منا عند تحليل الأحداث والتعامل مع النوازل .

ثم أمر آخر يعجب الإنسان كيف غاب عن عقول الكثيرين من أهل الفكر والعلم ورجال الإعلام وهو المناقشة العقلية والمنطقية لكثير مما يجري من أحداث .

وثالثة الأثافي هو التقصير المريع في الدفاع عن هذا البلد الذي أصبح مستهدفاً في نظامه ودينه وشريعته واقتصاده وشعبه بصور شتى مما يفرض على كل غيور صادق أن يسهم في رد هذه الهجمة الظالمة بالحقائق المستندة إلى الحق .

ولكل هذا وحتى لا تضيع الحقائق في غبار وظلمات الأباطيل وتهريج الأعداء وتخرصات المرجفين الضعفاء كان هذا الإسهام من خلال المحاور الآتية :

( :: ) أصول حذار من نسيانها :

إن الإسلام دين ودنيا باعتباره وحياً من الله سبحانه وتعالى أثمر الاهتداء به في الممارسة الإنسانية حضارة تاريخاً وتجربة حية للعديد من الأمم والشعوب استقر لديه العديد من الأصول الكلية الجامعة في العلاقة بين المسلمين وغيرهم المستنبطة من وحي الله والتي رسختها أثبتتها التجارب الحية عبر أكثر من ألف وأربعمائة سنة ولا ينبغي لنا أن نتنصل من ديننا ومبادئنا وقيمنا لتهديد من الآخر أو لشدة من البلاء والفتن ومن هذه الأصول :

1 ـ إن التدافع بين الحق والباطل من سنن الحياة اللازمة لها التي فطرها الله عليها لا لأن المسلمين عشاق حرب ودماء ودمار بل لأن الآخرين لا يرضون ولا يسلمون بوجود للمسلمين يعبر عن ذاته ويحتكم إلى قناعاته في الالتزام بدين وشريعته ومن هنا فإن عداوة الكفار للمؤمنين حقيقة لا تحتمل التساؤل إلا حينما حين يكون كتاب الله لدينا محل شك والعياذ بالله قال تعالى : {{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثير .. }} ((الحج40)) وقال تعالى : {{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }} ((البقرة120)) وقال تعالى : {{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .. }} ((البقرة217)) . والواقع التاريخي يؤكد ويشهد لهذا الخبر الإلهي الحق من فجر الإسلام إلى اليوم ومروراً بالحروب الصليبية والإبادة التي تعرض لها المسلمون في الأندلس وانتهاء بالغزو الاستعماري الحديث وما تلاه وما يتلوه من أنهار الدماء وجبال الجماجم والأشلاء وآلاف حالات الاغتصاب في البوسنة وكوسوفا والشيشان وفلسطين وكشمير والفلبين وبورما وغيرها وحتى في بعض الجزر الإندونيسية ولئن كانت دواعي وأعراف الدبلوماسية والسياسية تلطف عبارات الشكوى والألم فإن ذاكرة الشعوب المسلمة لازالت تتذكر كلّ ذلك ولا يعني إيمان المسلم بهذا التدافع بين الحق والباطل والعداوة بين المسلمين والكفار أن نتعامل معهم أو أن نظلمهم أو ننكر حقوقهم التي جعلها الله لهم لأن الوحي الذي اخبر أن من لوازم الحياة عداوتهم لنا جعل من الأحكام التي نتعامل بها مع غيرنا ما ينظم العلاقة بين المسلم وغير المسلم والالتزام بها ديناً لا خيار لنا في العمل به أو تركه ما دمن مسلمين .

لكن المشكلة في التاريخ كله تأتى من الطرف الآخر من نقض للعهود وانتهاك للأعراض وإبادة للشعوب وإكراه على ترك الدين واعتناق غيره وتدمير للمساجد وإن أردت أن ترى الفرق بين الإسلام والغرب شاخصاً أمام ناظريك فقارن حال البلاد الإسلامية التي مازال النصارى فيها منذ ألف وأربعمائة سنة لم تهدم لهم كنيسة ولم ينلهم مكروه مع الأندلس وغيرها من البلاد التي سيطر عليها النصارى وهل بقي فيها للإسلام ذكرى حتى بداية هذا القرن وقارن ما فعله الصليبيون بالمسلمين عندما دخلوا القدس مع ما فعله صلاح الدين بالنصارى عندما استعاد الأرض المقدسة وخذ أفعال النصارى في البوسنة وفي الشيشان في هذه السنين دليلاً آخر على صحة ما نقول .

وليس هذا النهج الغربي مع المسلمين فقط ، بل مع جميع الشعوب الأخرى ؛ فقد استأصل الغربيون الهنود الحمر من الأمريكتين وقضوا على تراث وحضارة الأستراليين والنيوزلنديين بالحديد والنار واستعبدوا الشعوب الأفريقية وغيرها ولم يتغير الوضع نسبياً إلا في العصر الحديث بعد أن فقدت الكنيسة سلطانها على الغربيين وأصبح نهجهم الحياتي في الجملة ليبرالياً ديقراطياً علمانياً .

وإن كانت الذاكرة الاجتماعية الصليبية والعنصرية الغربية لا زالت الموجهة للكثير من تصرفات ومواقف المجتمعات الغربية حتى على مستوى النخب السياسية والفكرية ؛ وما مقولات ((نهاية التاريخ)) وصدام الحضارات وإعلان بوش أنها حرب صليبية والدعم الغربي غير المتحفظ وبلا حدود للنبتة الخبيثة ((إسرائيل)) إلا أدلة حية على ما نقول ولن تفيدنا الافتراضات الوهمية المثالية والأماني والأحلام الخيالية في السلام وانعدام الصراع من الحياة شيئاً في عالم الواقع والحقيقة .

فلم تشهد البشرية من الحروب والإبادة مثلما شهدت في ظل سيادة النموذج الغربي عالمياً مع قيام عصبة الأمم المتحدة ومجلس الأمن وغيرها .

صحيح أن القوى من الناحية المادية غير متكافئة وأن الظروف في الجملة غير مواتية . لكن لا يعني هذا أننا لا نمتلك أي عنصر من عناصر القوة بل لدينا الكثير فنحن أمة قدرها أن لا تموت وتندثر وإن ضعفت أو اعترتها الأمراض ؛ بل إنها أشد ما تنتفض شباباً وقوة وحيوية ونهوضاً وتجديداً أشد ما تكون الابتلاءات والمحن التي تتعرض لها وتصيبها . وان الأنظمة والحكومات في العالم الإسلامي حين تقف مواقف الرجولة والشجاعة لا التهور والطيش فستجد من شعوبها من التضحيات والفداء والعطاء ما لا يوجد في أمة أخرى . ولا يفهم جاهل أو متجاهل أن هذا القول يستدعي منع قائله من إقامة العلاقات مع الكفار والوفاء بالعهود والتعامل معهم والاستفادة مما لديهم والتحاور معهم ودعوتهم لكن ما سماه علماؤنا ((الولاء والبراء)) هو السياج الذي يسمح للمسلم بأن يعيش حياته مع الناس أخذاً وعطاءاً من غير تبعية ولا ذل ولا مهانة ولا تنازل ولا مساومة على ديننا ولا حقوقنا ولا كرامتنا ولا قيمنا . وان في التاريخ لعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ؛ فملوك الطوائف في الأندلس وأمراء الأقاليم في بلاد الشام أيام الغزو الصليبي لم ينفعهم ولم يشفع لهم إعطاء الدنية في دينهم وأمتهم وانتهوا على أيدي من ركنوا إليهم من الكفار اسوأ نهاية وما زالوا لكل من يقلب صفحات التاريخ مثل السوء وقاع الاحتقار والخسة لدى أمتهم وأجيالها المتلاحقة .

2 ـ أن العاقبة والنصر والتمكين ستكون لدين الله الذي تكفل الله بحفظه {{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }} ((الحجر9)) وإن المواجهة بين الحق والباطل محسومة في آخر المر لصالح الحق وأهله والذي تمثله بلا شك الرسالة الخاتمة ـ الإسلام ـ قال تعالى : {{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد }} ((غافر51)) .

وهذه الحقيقة الراسخة في وجدان المسلم جزء من عقيدته والوعد بها من الله سبحانه وتعالى في كتابه ووعده لا يتخلف ولذلك فإن المؤمن يعتقد أن ما قد يصيب المؤمنين من ابتلاءات ونكبات إنما هو نوع من التأديب لهم لتقصيرهم في تأهلهم بالاستجابة لأمر الله والالتزام بدينه ليستحقوا نصر الله وانه كذلك وسيلة ربانية لتمحيص المؤمنين وزيادة تأهلهم لتحمل تبعات التمكين في الأرض وليظهر للناس بغي أهل الباطل وظلمهم للمؤمنين وأنهم لا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة ولا يعرفون عدلاً ولا إنصافاً وإنما هو التجبر والاستكبار في الأرض بغير الحق ثم يكون بعد الصبر والمصابرة والمثابرة والثبات على الحق والاحتساب لما يصيب المؤمنين نصر الله لعباده كما قال تعالى : {{ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الوارثين }} ((القصص5)) وقال تعالى : {{ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }} ((السجدة24)) وهذا اليقين بنصر الله للمؤمنين يورثهم قوة وعزة وثباتاً واطمئناناً ومعنويات عالية في مواجهة الأحداث والنوازل والمصائب وبصيرة في فهم كثير من الأحداث وتحليل كثير من المواقف .

وأحداث التاريخ تؤكد هذه الحقيقة في عالم الواقع فما من مواجهة تمت بين الكفر والإيمان وكان جند الإيمان متأهلين إيمانياً وعقدياً ودينياً وباذلين لإمكاناتهم وجهدهم في نصرة دينهم إلا كتب الله لهم النصر مهما قل عددهم وعدتهم من الناحية المادية بالنسبة لما لدى عدوهم وبالتالي فإن الصراع بين الحق والباطل لا يحسم بناءا على الحسابات المادية فقط بل إن في هذه المواجهة بالذات حسابات أخرى لا يفهمها ولا يدركها ولا يعول عليها إلا من كان من أولياء الله الصادقين الذين نور الله قلوبهم بالإيمان وعقولهم بالعلم وزكى جوارحهم بالعمل الصالح المبرور وهذا المفهوم هو الذي جعل خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو يواجه مائتين وأربعين ألفاً من الروم في اليرموك بأربعين ألفا من المسلمين يقول لمن قال له ما أكثر الروم : بل ما أقل الروم إنما يكثر القوم بنصر الله ويقلون بخذلانه قال تعالى : {{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم كم بعده }} ((آل عمران 160)) .

3 ـ إن تغير واقع الأمة لتنهض من كبوتها وتستيقظ من غفلتها وتستدرك ما فاتها وتقوم بدورها في الأرض أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر ومقيمة لموازين العدل والقسط بين الأمم ومانعة للفساد والإفساد والظلم الذي عم الأرض في ظل مدنية الإلحاد والمادية إن كل ذلك بدايته تغيير النفوس المؤمنة من الجمود إلى المرونة ومن السلبية إلى الإيجابية ومن الانغلاق إلى الانفتاح ومن عبادة الدنيا إلى عبادة الله والتجرد لطاعته ومن البدعة إلى السنة ومن الضلال محض الإيمان والهدى ومن الجهل إلى العلم وقل ما شئت من المعاني والأمراض التي نخرت في قلوب المسلمين وعقولهم فحولتهم إلى كائن كلٌ أينما توجهه لا يأتي بخير .

إن بداية الحركات الإنسانية التي تحدث تحولات جذرية في مسيرة التاريخ الإنساني تبدأ ولا شك بتغيير حقيقي جذري في النفوس في العبادات والشعائر وفي النظم والشرائع ولا يكفي التغيير الشكلي القشوري! إن التغيير المطلوب هنا ينبغي أن يعود بنا للنبع الصافي: الكتاب والسنة مع استيعاب وتوظيف جميع منجزات العلم والعقل والحضارة الإنسانية لخدمة ذلك التغيير وتوسيع مداه وجعله رحمة للناس وتقدماً وتطوراً لا شقاء ولا بلاء فما جاء دين الله إلا رحمة للعالمين يعلمهم ويزكيهم ويسمو بهم إلى أعلا درجات الإنسانية الممكنة ، قال تعالى : {{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }} ((الرعد11)) .

4 ـ من سنن الله التي انبأ بها عباده في كتابه أنه إذا تخلت فئة من الأمة عن حمل رسالة الإسلام والبذل في سبيلها ورضيت لنفسها الهوان والدونية وزهدت في شرف القيام بدور الهداية للعالمين والشهود على البشر بالحق والعدل فإن الله يستبدل قوماً غيرهم يكون لديهم الاستعداد للتأهل لحمل تلك الرسالة الخالدة والظهور بها والإسهام في قيادة ركب البشرية نحو الرقي والتقدم في إطار الإيمان والتوحيد وقيمه الخلقية الخالدة قال تعالى : {{ وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم }} ((محمد 38)) .

وبهذا فإن دين الله محفوظ لا يخشى عليه الزوال ولا على رسالته الاندثار أمر يقيني ، فالفئة التي تربط مصيرها المحتمل للحفظ والضياع بمصير الدين المحفوظ يقيناً فقد ضمنت وجودها حية باقية مؤثرة الوجود الاجتماعي والحضاري الفاعل لا الوجود الحياتي الحيواني الاستهلاكي الكل العبء على سواه قال تعالى : {{ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لا ئم }} ((المائدة 54)) .

ومن يتأمل تاريخ الإسلام يجد أن هذا الدين كان محفوظاً منتصراً عالياً كلما قصرت أمة في حمله بعث الله أمة جديدة تتشرف بحمله والجهاد في سبيله فتنال بذلك عز وسعادة الدنيا فضلاً عما ادخره الله لها في الآخرة .

5 ـ من لوازم كل ما سبق وضروراته أن تكون ولاية المؤمن لإخوانه المؤمنين فيحبهم وينصرهم وينصح لهم وأن يتبرأ من الكفر أهله ويبغضهم لكفرهم فيتولى المؤمنين ويبرأ إلى الله من الكافرين والأدلة على ذلك كثيرة جداً قال تعالى : {{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وأبناءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون }} ((التوبة 23)) وقال تعالى : {{ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين }} ((التوبة 24)) وقال تعالى : {{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة .. ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل }} وقال تعالى : {{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين }} ((المائدة 51)) .

ومرة أخرى نؤكد أن البراءة من الكفر وأهله لا تعني أبداً ظلمهم أو الاعتداء على حقوقهم وحرمانهم بل إن الإسلام كفل لهم من الحقوق والرعاية إن كانوا من رعايا الدولة المسلمة مثلما للمسلمين إلا في أمور محدودة لا يمكن أن تقوم لدولة الإسلام قائمة إلا بمراعاة هذه الأمور إذ أن تطبيق الإسلام وحفظه وحمايته لا يمكن أن يسند إلى غير المؤمنين به وكل عاقل لا يجادل في هذا ولا ينكره .

لكن كما أن الإسلام يفرض على أتباعه العدل والإنصاف وعدم الظلم لغير المسلمين فإنه يحرم على المسلم أن يدخل تحت ولايتهم أو ينصرهم على إخوانه المسلمين ويجعل ذلك من كبائر الذنوب التي قد تخرج من وقع فيها من الإسلام ما لم يكن مكرهاً أو جاهلاً أو متأولاً .

(( :: )) مناقشة هادئة للأحداث :

لقد ابتدأت الأحداث بالتفجيرات المروعة التي وقعت في أمريكا وتحول العالم إلى هرج ومرج وكأنما فقد الناس عقولهم فلا منطق ولا عقل ولا تفكير وإنما تهم وتهديد ووعيد والجميع مذهولون قد فوجئوا بما حدث وسلموا بكل ما قيل والحديث عن هذه القضية طويل كثير التشعبات
ولكنني سأختصره في النقاط التالية :

1 ـ إن الكثير من علماء المسلمين فضلاً عن زعمائهم وحكامهم بادروا إلى استنكار الحدث إما لعدم مشروعيته أصلاً في نظر البعض وإما لما يترتب عليه من مفاسد ومضار للمسلمين في نظر آخرين وإما لدفع قالة السوء ومنع تشويه صورة الإسلام عند غير المسلمين وإن كان جمهور وعوام المسلمين في كل مكان ابتهجوا وتشفوا في رد فعل عفوي تجاه أمريكا وما يلقاه منها المسلمون في كل مكان وبالذات في فلسطين على يد ابن أمريكا المدلل ((إسرائيل)) وإني لا أظن أن هذا الشعور العفوي كان أيضاً لدى الكثير من السياسيين والعلماء والمفكرين لكن حساباتهم السياسية وموازناتهم العملية هي التي جعلتهم يعلنون مواقف غير هذا .

2 ـ بادرت أمريكا وعلى لسان أكابر مسؤوليها وخلال ساعات من وقوع الحدث إلى اتهام أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة وحركة طالبان وشعب أفغانستان بالعملية والإرهاب عموماً دون انتظار لنتائج التحقيق ولا تقديم لأي دليل ، أخذت آلة الإعلام الهائلة تدير معركة فاجرة ضد الإسلام وحضارته وتاريخه وشارك في ذلك الكثير من مفكري الغرب بل وبعض السياسيين وأعلن بوش الحرب الصليبية الجديدة وبدأت المضايقات بل والاعتداءات على المسلمين في أمريكا والغرب عموماً وبدأت الاعتقالات والاستدعاءات للكثير من المسلمين في أمريكا ، ولم ينج أو يسلم من ذلك حتى أساتذة جامعة هارفرد من المسلمين ، وحتى هذه الساعة لم تقدم أمريكا دليلاً واحداً قطعياً يثبت دعواها بل ظنياً .

وبدلاً من ذلك ابتزت العالم كله بالتهديد والوعيد وأعلنت أن من لم يكن معها فهو مع الإرهاب وأعلنت أن من حقها ضرب أي دولة أو جماعة في أي مكان ودون إبداء أي أدلة وأصبح المنطق السائد هو منطق فرعون (( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد )) .

ويتساءل الناس أين أدلة عدالة الغرب المزعومة ، أين المبدأ القانوني الشهير الذي يقول : (( إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته )) .

وإن الناس ليعجبون أين كانت الهبة العالمية والحمية الأمريكية عندما قتل مئات الآلاف في البوسنة والشيشان وغيرها .

وأين حتى الاستنكار أو الشجب لما يجري في فلسطين من قتل للأطفال والنساء وتهديم للبيوت وجرف للمزارع وقتل لشعب كامل بالحصار والجوع واستخدام الرصاص المشع ضده ، بل لماذا هناك يدعم ويؤيد الإرهاب اليهودي من قبل أمريكا ويلام الضحية الفلسطيني الذي لا يستسلم لقاتله ليتم القتل بدون أي إزعاج للقاتل أو جرح لمشاعره ، حتى إلقاء الحجارة على الدبابات والطائرات ذات المواصفات الأمريكية الفائقة أصبح عملاً إرهابياً في نظر أمريكا!

3 ـ إن كلمة الإرهاب هذه المفردة التي دخلت كل لغة هذه الأيام اختلطت مفاهيم الناس عنها بين القليل من الحقائق والكثير من المغالطات ، وإن أمريكا التي تطالب العالم بالوقوف معها بدون أي نقاش لم تكلف نفسها عناء أن تدعوا لمؤتمر يبحث في تحيد معنى الإرهاب والفرق بينه وبين الدفاع المشروع عن النفس وعن الأوطان والأديان والمقدسات ، إن الكيل بمكيالين والتعامل مع حوادث الإرهاب بازدواجية المعايير وفرض ذلك على العالم بالقوة لن يولد إلا مزيداً من ردود الفعل الأسوأ وإن الشعوب المقهورة والمسلوبة حقوقها والتي ترى مقدساتها تنتهك وكرامتها تداس لم يبق لديها ما تسعى للحفاظ عليه في الحياة وإن أمريكا تخطئ خطأ فادحاً حين تظن أنها ببوارجها وجبروتها ستقتلع من قلوب الناس السعي للموت حين يقتنعون بأنه الطريق الوحيد الباقي أمامهم للخلود في الجنة حين لم يتمكنوا من تحقيق طموحاتهم في الدنيا في العيش أحرارا من وجهة نظرهم وهم يعتقدون أن أمريكا هي السبب في كل مصائبهم ومصائب شعوبهم .

بماذا ستفسر الشعوب الإسلامية ما قاله وزير الخارجية الأمريكي في أول مؤتمر صحفي بعد أحداث 11 سبتمبر حين سئل من أحد الصحفيين هل تعتقد أن دعم أمريكا لإسرائيل سبب فيما حدث ؟

فكانت إجابته : بلا شك أن دعم أمريكا لإسرائيل أحدد الأسباب لما حدث لكنني أؤكد لكم أننا سنستمر في دعم إسرائيل لتبقى القوى في المنطقة ولن نتوقف عن ذلك أبداً!!

إن المعالجة الحقيقية للإرهاب في اجتثاث أسبابه الحقيقية التي نبت في تربتها وسقته بمائها وليس المقام مقام تفصيل فيها وما أظن أمريكا تجهل الأسباب لكن غرور القوة يعمي ويصم حتى أن الإنسان حين يمتلك القوة يظن أنها الحل الوحيد لكل مشكلة ويتجاهل ما عداها من حلول وإن كانت هي الحلول الحقيقية .

4 ـ ماذا يا ترى سيقول القانون الدولي لو كان المطلوبون في هذه الأحداث يقيمون في أمريكا وتطالب بهم دولة أخرى دون أن يكون بينها وبين أمريكا أي اتفاقات لتبادل المطلوبين ماذا كان سيكون موقف أمريكا بل والعالم الذي يصفق لأمريكا وهي تذبح الشعب الأفغاني وتقتل في قراه ومدنه المئات والسبب أن الصواريخ والقذائف (الذكية) اخطأت هدفها فقط .

فكيف إذا أضيف إلى ذلك أن الدولة التي يقيم فيها هؤلاء المطلوبون وهي هنا أفغانستان تصرخ قدموا لنا أي دليل ويحاكمون في دولة إسلامية أخرى . ولكن المنطق السائد هو منطق القوة والجبروت لا منطق العقل والقانون والإقناع .

ثم كما أن أمريكا تحترم دستورها وقانونها ولا يمكن أن تخالفه تحت أي ظرف ومن أجل سواد عيون أي دولة فإن الشريعة الإسلامية التي تقول أفغانستان أنها دستورها وقانونها تحرم عليها أن تسلم أي مسلم ليحاكم أمام قانون وضعي ، فلم لا ترضى أمريكا أن يحاكم هؤلاء أمام محكمة شرعية في أفغانستان وترسل مدعيا ينوب عنها أولى من إرسال صورايخ توماهوك وطائرات ب 52 .

5 ـ توالت الأحداث سريعاً وظهر أن أمريكا مصممة على ضرب أفغانستان بل صرح بوش ورامسفيلد صراحة بأنه حتى لو قامت أفغانستان بتسليم بن لادن فإن ذلك لن يحول دون ضرب أفغانستان وكأن القرار قد اتخذ ولابد من تنفيذه وكما يقال في المثال الشعبي: عنز ولو طارت .

ولئن كان المسلمون في الأعم الغالب أعلنوا رسمياً ما بين حكومات وعلماء استنكارهم لما حدث في أمريكا فإنهم أيضاً وبصورة أقوى سيقفون صفاً واحداً في وجه الهجمة الوحشية الأمريكية على أفغانستان التي أوقعت مئات القتلى من المسلمين المستضعفين ومن الشيوخ والنساء والأطفال وقد عدّ علماء الإسلام من نواقض الإسلام إعانة الكافر على المسلمين .

ولا شك أن أمريكا ورطت نفسها واستعدت للمسلمين ووسعت دائرة الفتنة ولم تتعامل مع الحدث بحكمة .

6 ـ وأخيراً هل يطمع المسلمون في أن يعامل الإرهابيون من اليهود والنصارى الذين اعترفوا وافتخروا بإرهابهم وما فعلوه بالمسلمين ببعض ما يعامل به الأفغان الآن ؟

أين شارون صاحب صبرا وشاتيلا؟ أين كارادتش صاحب فضائح البوسنة والهرسك؟ أين يلتسين المشرف على مجازر الشيشان وغيرهم الكثير؟

أم أن القضية كانت جاهزة ومعدة لإشعال شرارة الحرب الصليبية في صدام الحضارات لكي نصل إلى نهاية التاريخ وكانت تنتظر فقط المبرر المناسب لإخراجها!

( :: ) ماذا يراد بأرض الجزيرة ومهبط الوحي ومعقل الإسلام :

إن المتأمل في ما يقال ويكتب في الإعلام الغربي وعلى ألسنة الكثير من مسؤوليه زخبرائه ليلمح ويستشف من وراء ذلك تحاك ويعقد لواؤها ضد المسلمين في كل مكان وبالذات ضد أرض الحرمين: ديناً ومجتمعاً ونظاماً وحكومة وثروة وإني لأرجو أن أكون مخطئاً في ذلك لكن بذل النصح وبيان الرأي لن نخسر منه شيئاً بإذن الله .

وسيكون الحديث في هذا المحور في النقاط الآتية :

1 ـ إن هذا البلد مستهدف من قبل هذه الأحداث لإسلاميته تاريخاً وواقعاً وهذا الاستهداف يظهر جلياً في الإعلام الغربي وفي دعاوى منظمات حقوق الإنسان وهجومها على تطبيق شريعة الله والآن زاد مع ذلك تصريحات الكثير من المسؤولين الغربيين من الدرجة الثالثة وما دونها وفي تحليلات الخبراء ومراكز البحوث والدراسات التي تصر على أن هذا البلد هو مصدر الإرهاب بسبب تمسكه بالإسلام وحفاظه على القرآن وقيام وحدته السياسية على الشريعة الإسلامية والمطالبة صراحة في بعض وسائل الإعلام بضرب المملكة والسعي لإحداث تغيير فيها ومع الأسف أن نجد من أبناء المسلمين بل أحياناً أبناء البلد من يتبنى هذه الحملات الظالمة ويرددها في مقولاته ويزعم أن مناهجنا أو الوهابية كما يزعمون هي المسؤولة عن تفريخ الإرهاب .

2 ـ وجوب تلاحم جميع المسلمين في هذا البلد للوقوف في وجه هذا الاستهداف الظالم واتخاذ جميع الوسائل المشروعة لبيان حقيقة الدور الريادي لهذا البلد الكريم في احتضان قضايا المسلمين وإغاثة المنكوبين في كل مكان في الدنيا وأن أبناء هذا البلد حكومة وشعباً في خندق واحد للدفاع عن الإسلام وعدم السماح بالمساس به ورفض التشكيك في مبادئه الربانية السامية وأن الهيئات الإغاثية الإسلامية كالرابطة والندوة العالمية هي بعض مظاهر التعبير عن الوجه المشرق لهذا البلد الذي وصلت مساعداته وجهود أبنائه إلى مشارق الأرض ومغاربها تمسح الدموع وتواسي المعوزين وتغيث المنكوبين ، إننا في حاجة إلى إخراج الأرقام وذكر الإحصائيات التي ترد على كل من مشكك وتلجم كل بوق يردد ما لا يعي ويزعم أنه لا يوجد لدينا إلا البترول والإرهاب .

إن في تصريحات المسؤولين الشجاعة المشكورة التي بينت أن الإسلام ليس محل اتهام وأن التمسك به لن يكون أبداً محل مساومة مهما كانت الظروف وإن ضرب الشعب الأفغاني غير مقبول وإن مبرر ذلك تحت لافتة حرب الإرهاب أقول إن في هذا الموقف النبيل ما يستحق الدعم والمساندة والاحتذاء والاقتداء به في رد الباطل وإن كانت وراءه أمريكا وإن من الأمثلة المضيئة المشكورة في هذا الباب تصريحات سمو الأمير نايف بن عبد العزيز التي تصدر من رجل يمتلك الرؤية القائمة على توفر المعلومات والاطلاع على حقائق الأمور إلى حد كبير فله من المسلمين الشكر والدعاء بالثبات والأجر .

3 ـ قيام الدعاة والمفكرين والكتاب والخطباء بتأصيل المنهج الشرعي الوسطي المعتدل القائم على الفهم الحق للكتاب والسنة وتوعية الناس بذلك بعيداً عن غلوا الغلاة وتميع المنهزمين لأن ذلك أولاً هو واجبنا الشرعي ولأنه ثانياً صمام الأمان لحفظ مسيرة مجتمعنا ووحدته وهديه وتميزه . ولنتفق أن الأفهام الخاطئة تعالج بالإقناع والعلم الشرعي وضوابطه .

وأخيراً فإني لعلى قناعة تامة أرجو أن يوافقني عليها الآخرون أن أي اضطراب واختلاف في هذا البلد وفي هذه الظروف سيكون لا قدر الله كارثة على المسلمين وفي كل مكان ولا يفوقها في سوء العاقبة والعياذ بالله إلا التخلي عن الإسلام وبيعه في أسواق السياسة العالمية التي يمارس دور النخاسة فيها اليهود المجرمون وينفذ مخططاتهم الصليبيون المغفلون .

وتبقى بإذن الله أرض الحرمين موئل الهدى بإذن الله وعصمة الناس في وجه كل بلاء وفتنة وأهلها المسارعون إلى كل مكرمة في نصرة الإسلام والوقوف مع أهله وقضاياهم والتحاور مع العالم كله بالحكمة والهدى .

وأخيراً فلابد من اللجوء إلى الله والتوكل عليه والإلحاح في الدعاء أن يرفع عن المسلمين هذه المحنة ومن يتوكل على الله فهو حسبه والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..

===========
(#) أستاذ جامعي سابق ومفكر إسلامي سعودي .