اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/arabic/ar173.htm?print_it=1

ومتى فقناهم عددا أو عدة؟

بقلم: محمد حسن يوسف

 
يعتري الكثير من الناس حالة من الإحباط واليأس من جراء ما يحدث للمسلمين في كل مكان من العالم الآن، حيث ينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ثوبان، أنه قال: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل! ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت [1].
ويتساءلون: هل بعد كل هذه النكبات من وثبة أخرى للمارد؟! هل يستطيع المسلمون الخروج من قمقم الهزائم التي مُنيت بهم وتوالت عليهم، حتى أصبحت صفة ملازمة لهم؟! ومتى سيكون ذلك؟! أم أن على المسلمين الاستسلام لتلك الضربات المتوالية التي تلحق بهم، وفي كل مكان من العالم، لكي تستأصل شأفتهم وتزيل دولهم، ومن ثم وجودهم من على خريطة العالم؟!!
وفي الواقع فإن المتبصر بأمر الدين لا يعتريه مثل هذا الشعور المحبط، بل على العكس تجده واثقا في قدرة الله. فكل ما يحدث للمسلم هو خير له. وحسبك تلك النازلة العظيمة التي حدثت ببيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وما قيل في عرضه، وما اُتهمت به أعز زوجاته إليه وأحبهن إلى قلبه من حادثة الإفك. فإذا بالوحي يتنزل قائلا بأن كل ذلك إنما هو في حد ذاته خير للمسلمين وليس شرا، حيث قال تعالى: ﴿ َلا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ ] النور: 11 [ .
إذن ما يحدث للمسلمين في جميع أنحاء العالم من حولنا إنما هو في حقيقة الأمر قَدَر رباني يجري وفقا لسنن الله الكونية التي يستحيل تغييرها إلا إذا تغير مضمونها. فإذا أردنا الخروج من الأزمة التي ألمت بنا حاليا، فعلينا العمل من أجل تغيير الواقع من حولنا حتى نسمح لسنن الله التي تساند المسلمين من العمل مرة أخرى. ونوضح هذا الأمر فيما يلي:

مفاهيم ينبغي ترسيخها في النفس

هل يريد المسلمون حقا تحقيق النصر؟!! هذا سؤال هام لابد لكل منا أن يسأله لنفسه ويحدد إجابته عليه. إن نصر الله يتنزل وفقا لسنن ربانية لابد من تحققها. وحين يريد المسلمون أن يتحقق ذلك النصر في أرض الواقع فلابد من عدة أمور تستقر في عقيدتهم تكون محركا ودافعا لهم على الانطلاق، حتى يستفيدوا من " معية الله " في المعركة إلى جانبهم:

◘ التخلي عن المعاصي واللجوء إلى الله: فلن يتم النصر إلا بذلك، فالإيمان أقوى سلاح لتحقيق النصر. ولنستعرض في ذلك ما كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ومن معه من الأجناد حينما أرسله في أحد فتوح العراق: أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما يُنصَرُ المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم. فإذا استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا نُنْصَرْ عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حَفَظَةً من الله يعلمون ما تفعلون، فاستَحْيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدوّنا شرٌ منا فلن يُسلَّط علينا وإن أسأنا، فرُبّ قوم سُلّط عليهم شرٌ منهم، كما سُلّط على بني إسرائيل – لما عملوا بمساخط الله – كُفّارُ المجوس ﴿ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً ﴾ ] الإسراء: 5 [ . واسألوا الله العونَ على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوّكم. اسأل الله ذلك لنا ولكم [2]. وانظر إلى هذا القول الملهم: وإنما يُنصَرُ المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم. فهنا يتجلى سر نصر المؤمنين في معاركهم. فمتى تحقق هذا الشرط، جاء النصر بإذن الله ولا ريب. وإلا فقل لي بربك كيف ينصر الله قوما يخذلون نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ويكرهون تطبيق سنته المطهرة، ولا يجدون في وقتهم متسعا لقراءة القرآن، ويبارزون الله بالمعاصي جهارا نهارا؟!! فالنصر لن يتحقق إلا بعد التمحيص، أي تنقية المسلمين وإفراز القلة المتمسكة بدين الله. قال تعالى: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ ] آل عمران: 141 [ . قال القرطبي في تفسيره: فيه ثلاثة أقوال: يمحص: يختبر. الثاني: يطهر; أي من ذنوبهم ... والمعنى: وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا ... الثالث: يمحص: يخلص ... فالمعنى ليبتلي المؤمنين ليثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم. " ويمحق الكافرين ": أي يستأصلهم بالهلاك. أ. هـ. فلابد للأمة من الإقلاع عن الذنوب التي يرتكبها أفرادها ليل نهار، سرا وجهرا. والأمثلة كثيرة: الإقلاع عن التدخين، التخلي عن الكذب، عدم النميمة والغيبة، ترك النفاق ... الخ. فقد أصبحت تلك المعاصي متفشية كالسرطان الخبيث في جسد الأمة. ولابد أن تتيقن أنك أنت - بذنبك الذي تصر عليه – من يؤخر النصر عن الأمة. فابدأ بنفسك وأعلنها توبة شاملة لله لعل نصر الله يتنزل على الأمة بسببك.

◘ جهاد النفس في مرضاة الله: ذلك أن نصر يتحقق بعد العمل بتشريعه والكف عن مناهيه، قبل أن يتحقق الجهاد في ميدان القتال. قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ ] العنكبوت: 69 [. قال القرطبي في تفسيره: أي جاهدوا الكفار في الله، أي في طلب مرضاة الله ... وقال ابن عباس وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون ... وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا، تقصيرنا في العمل بما علمنا. ولو عملنا ببعض ما علمنا، لأُورثنا علما لا تقوم به أبداننا. قال الله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ ﴾ ] البقرة: 282 [. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين والرد علي المبطلين; وقمع الظالمين; وتعظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر. وقال سفيان بن عيينة لابن المبارك: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول: " لنهدينهم ". والجهاد في عمل الطاعات يستلزم إرغام النفس على الاستيقاظ لأداء صلاة الفجر في جماعة، وقيام الليل، وقراءة جزء من القرآن على الأقل يوميا، وأداء جميع الصلوات في جماعة، وإخراج جزء من مالك للفقراء من حولك، ومساعدة المشردين من المسلمين في أنحاء العالم. كل هذه أمثلة على الجهاد في سبيل مرضاة الله.

◘ تحقيق التربية الإيمانية المطلوبة لأفراد الأمة: فلابد من سلوك طريق الأنبياء وهو تعبيد الناس لرب العالمين حتى يتحقق النصر من عند الله. إذن لابد من طريق الدعوة إلى الله عز وجل، والارتفاع بقلوب الناس وعقولهم إلى المستوى الإيماني المطلوب، وتبيين حقائق الإسلام، والدعوة إلى توحيد الملك العلام. قال تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ] الروم: 47 [ . فلابد أن يكون الجميع متشوق لرؤية نواة المجتمع المسلم تتحقق على أرض الواقع. أما البيئة التي تطرد من كيانها امرأة لأنها ارتدت النقاب، أو تنظر بعين الشك إلى رجل أطلق لحيته فما زالت بعيدة عن نيل رضا الله بله نصره.

◘ انفراد الله تعالى وحده بالقدرة: وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدرته. فقال عز من قائل: ﴿ قُلْ إِنَّ اْلأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ﴾ ] آل عمران: 154 [ ، ﴿ بَلْ لِلَّهِ اْلأَمْرُ جَمِيعًا ﴾ ] الرعد: 31 [ ، ﴿ لِلَّهِ اْلأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾ ] الروم: 4 [. أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء. أي هو المالك لجميع الأمور, الفاعل لما يشاء منها, فكل ما تلتمسونه إنما يكون بأمر الله. وهذا دحض للنظرية التي مفادها أن " 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا ". بل جميع مقدرات الأمر بيد الله، ولا تملك لا أمريكا ولا غيرها أياً من مقدرات الأمور، ولا حتى نصف بالمائة! فالله سبحانه ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، ويرفع من يشاء، ويذل من يشاء. تلك العقيدة يجب أن تستقر في النفوس، وتكون هي الموجه الأول والأخير لنا في كل تحركاتنا.

◘ ترسيخ مفهوم الاستطاعة: وهو أن المطلوب منا إعداد ما في الطاقة، وليس كل شيء. قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾ ] الأنفال: 60 [. وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ولم يقل كل القوة. إذن ما استطعتم أي ما في أيديكم. وقوله تعالى: " من قوة ": أي من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها. وهذه القوة تتحقق بما يتحقق به معناها، وهو القدرة على تنفيذ إرادة صاحبها. فقد يكون تحقيقها بإعداد السلاح للجند، وتدريبهم على فنون القتال، وتربيتهم على معاني الإيمان التي تهيئهم للقتال في سبيل الله والرغبة في الشهادة في سبيله [3]. إذن توافر اليقين مع القوة المؤمنة هو المحك الأصلي للجهاد وليس العدة أو العدد. قال القرطبي في تفسيره: " وأعدوا لهم " أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى. فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب, كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ. ولذلك فإن السيف الخشب الذي أخذه عكاشة بن محصن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر قتل به الكفار، لأنه كان يضرب بإذن الله. فقد شهد عكاشة بن محصن بدرا وأبلى فيها بلاء حسنا، وانكسر في يده سيف، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عُرْجُونا – أو عودا – فعاد في يده سيفا يومئذ شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يزل يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قُتل في الردة وهو عنده، وكان ذلك السيف يسمى العَوْن [4].

◘ إرجاع النصر لله: بمعنى أنه حتى مع تحقق العدة الكافية في أيدي الفئة المؤمنة، وحين يتحقق النصر لهذه الفئة، فإن هذه الفئة يجب أن تُرجع هذا النصر لله، وألا تنسب تحقيق هذا النصر لنفسها. وذلك مصداقا لقوله تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ ] الأنفال: 17 [. فما يتحقق من نصر فمرجعه الله وحده، وليس كثرة العدد أو تطور الإمكانيات.

◘ التخلص من حب الدنيا ونعيمها: انظر إلى سؤال الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت. هذا هو الداء. أننا أصبحنا الآن نتعلق بالدنيا ونتمسك بها، وكأنها أصبحت هي دار القرار بالنسبة لنا. مع أن المسلمين على مدار تاريخهم كانوا ينظرون إلى الدنيا باستهانة، وأنها ليست إلا ممر لدار مقر. انظر إلى قول خالد بن الوليد، حينما سار إلى الحيرة بعد فراغه من أمر اليمامة، فخرج إليه أشرافهم مع أميرهم الذي عيّنه عليها كسرى. فقال له خالد ولأصحابه: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم الجزية فقد أتيكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة، جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا و بينكم [5]. فهذه هي ثقافة الإسلام، أو ثقافة الدار الآخرة التي يحملها الإسلام. الحرص فيها على الآخرة يكون مثل حرص غير المسلمين على دنياهم، التي هي جنتهم. إن أهم شيء في حياة المسلم هو نظرته إلى الدار الآخرة، حتى وإن كان ثمن ذلك حياته.

◘ تغيير ما بأنفسنا: فلابد أن يستشعر كل فرد منا بفداحة الوضع الذي أصبحنا عليه الآن. فالأمر ليس هزلا. ولابد لكل فرد أن يتغير، وأن يستشعر هذا التغيير في كل مفردات حياته. فما لم يحدث ذلك، فلن يُنزل الله نصره علينا. قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ َلا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ ] الرعد: 11 [. إن نصر الله لا يتنزل على قوم إلا إذا كانوا قد اتخذوا منهج الله شريعة لهم تحكمهم ويتمسكون بتطبيقها مستقبلا بعد تحقق نصر الله لهم. فهل ينزل نصر الله علينا الآن، ونحن لم نتغير بعد، حتى إذا انتهت المعركة، عدنا لإدارة حياتنا بالطريقة التي كان أعداؤنا يديرون بها حياتهم؟! كلا! لن يحدث هذا. قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصََّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ ﴾ ] الحج: 41 [.

مواقف من السنة المطهرة

ومن أهم المواقف التي تثبت عدم سريان قانون الإمكانيات مع رسوخ عقيدة الإيمان والتوكل على الله في العهد النبوي، موقف الصحابة في غزوة مؤتة. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمانٍ من الهجرة، واستعمل عليهم زيد بن حارثة. وقال: إن أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب على الناس. فإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة على الناس.

فتجهز الناس، ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف. فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلموا عليهم. ثم مضوا حتى نزلوا مكانا قريبا من أرض الشام. فبلغ الناس أن هرقل زعيم الروم، إحدى أكبر إمبراطوريتين في ذلك الوقت، قد نزل بالقرب منهم في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من القبائل القريبة مائة ألف آخرين. مائتي ألف في مواجهة ثلاثة آلاف!! وإمبراطورية عريقة ضالعة في الحروب في مواجهة دولة فتية ناشئة لم تثبت أركانها بعد!!

فلما بلغ ذلك المسلمين، أقاموا في مكانهم ليلتين يفكرون في أمرهم. وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فوقف عبد الله بن رواحة يشجع الناس، وقال: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة. فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس. وذهبوا للقاء عدوهم. أرأيت إلى قول عبد الله بن رواحة: وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. هذا هو سر الحرب لدى المسلمين. ولنتابع بقية القصة.

ثم بدأت المعركة. فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى استشهد برماح القوم. فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب يقاتل تحت لوائها. وقد أخذ جعفر الراية بيمينه، فقطعت. فأخذها بشماله، فقطعت. فاحتضنها بعضديه، حتى قُتل رضي الله عنه. فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين.

فلما استشهد جعفر، أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها، وهو على فرسه. فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد. ثم حسم أمره وتقدم نحو العدو. فلما كان في طريقه نحو العدو، أتاه ابن عم له بعرق من لحم. فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده، ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس. فقال لنفسه: وأنت في الدنيا!! يريد أن المعركة حامية وهو مازال بأكله عرق اللحم هكذا يفكر في الدنيا! ثم ألقى عرق اللحم من يده، وأخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قُتل.

ثم أخذ الراية أحد المسلمين، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم وحاول تثبيت مواقع الجيش حتى نزول الظلام. فلما أصبح بدأ في إعادة ترتيب جيشه: فجعل مقدمة الجيش مكان ساقته، وساقة الجيش مكان مقدمته. وميمنة الجيش مكان ميسرته، وميسرة الجيش مكان ميمنته. فلما رأى الروم جيش المسلمين بهذه الهيئة، أنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئاتهم. وقالوا: قد جاءهم مدد! وهم قد كانوا رأوا الأعاجيب من هذه القلة التي تقاتلهم، فما بالك بمدد يأتيهم ليشد أزرهم. فرُعبوا وانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم. فأين كانت الإمكانيات التي قاتل بها المسلمون في هذه الموقعة؟!!

بل قد تكون الوفرة في العدد والعدة سببا في نزول الهزيمة بالمسلمين، إذا تمسكوا بأسبابها ولم يتجهوا إلى حول الله وقوته. وأكبر دليل على ذلك ما شهدته غزوة حنين في بادئ الأمر من هزيمة ماحقة للمسلمين حين اتكلوا على أنفسهم. فلما فاءوا إلى الله وتمسكوا بحبله، أنزل نصره وسكينته على المؤمنين. وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ اْلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ ] التوبة: 25 [ ، يُعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس على كثرة العدد ولا بلبس اللأمة والعِدد، وإنما النصر من عنده تعالى. كما قال تعالى: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ] البقرة: 245 [ .

مواقف من جيل الصحابة

كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه: أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر ما جمعت الروم من الجموع. وأن الله لم ينصرنا مع نبيه صلى الله عليه وسلم بكثرة عدد ولا بكثرة جنود. وقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معنا إلا فَرَسَان، وإن نحن إلا نتعاقب الإبل. وكنا يوم أُحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معنا إلا فرس واحد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركبه، وقد كان يظهرنا ويعيننا على من خالفنا [6].

ومما يروى في ذلك، قول خالد حين قال له رجل: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقل الروم، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر ( اسم فرس خالد ) براء، وأنهم أضعفوا ( أي: زادوا ) في العدد [7].

وفي فتوح العراق، كان الفرس قد فروا بكمالهم إلى المدائن، وتحصنوا بها. وقد فروا إليها عن طريق نهر دجلة وأخذوا كل سفنهم معهم. فلما وصل سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين في فتوح العراق إلى شاطئ دجلة لم يجد شيئا من السفن، ورأى دجلة قد زادت زيادة عظيمة وأسود ماؤها.

فوقف سعد يخطب في المسلمين على شاطئ دجلة. فأوضح للمسلمين أن عدوهم قد اعتصم منهم بهذا البحر ... فهم لا يستطيعون الوصول إلى هذا العدو بسببه، بينما هم يستطيعون الوصول إلى المسلمين متى شاءوا. وأنظر إلى تلك العبارة الرائعة التي قالها لهم في هذا الموقف: وليس وراءكم شيء تخافون أن تُؤتوا منه، وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصدكم الدنيا. ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم [8]. انظر إلى هذه الكلمات الرائعة التي يبثها القائد في جنوده. فالمسلمون لا يهمهم شيء أن يفوتهم إذا ما قورن بالجهاد. فالجهاد هو أفضل الأعمال في الإسلام. والشهادة في سبيل الله هي أسمى ما يتوق المسلم لنيله. والموت قادم لا محالة. فمن لم يمت بالسيف مات بغيره. فالنهاية محتومة. فلماذا لا تكون شهادة ومنزلة رفيعة في الآخرة، بدلا من حياة ذليلة يعقبها موت أيضا، ولكن في درجة متدنية من الجنة أو في النار نعوذ بالله منها! وقد عزم على خوض البحر إليهم بلا سفن يمتلكها! يمضي في البحر هكذا! بلا إمكانيات! يواجه جيش إمبراطورية فارس بعدتها وعتادها بلا سفن!! لا ... إنه يواجه ذلك بسلاح أقوى من أي سلاح آخر ... إنه سلاح الإيمان. ولذلك فقد طلب منهم إخلاص نياتهم لله، وقد كان.

ونعود للقصة. فقد وافق الجند على خوض البحر مع سعد رضي الله عنه. فانتدب لذلك كتيبة تسمى في كتب التاريخ بكتيبة الأهوال. وهي كذلك بالفعل. وكانت هذه الكتيبة تتكون من ستين فارس من ذوي البأس، وكان عاصم بن عمرو أميرا عليها. وكانت مهمة هذه الكتيبة عبور البحر إلى العدو وتأمين ثغرة المخاضة من الناحية الأخرى حتى تستطيع بقية الجيش أن تعبر هذه المخاضة وهم آمنين. تأمل هذا الموقف ... العدو واقف على شاطئ النهر، يرصد تحركاتك، ويشهر سلاحه في وجهك، وأنت تقف على الشاطئ الآخر، تريد أن تعبر هذا النهر لكي تصل إلى العدو، وتشتبك معه، وتتحصن في بقعة تكون بمثابة نقطة ارتكاز تُؤّمن من خلالها الطريق لبقية الجيش حتى يعبر ويستقر فيها وينطلق للبدء في عملياته منها. موقف في غاية الصعوبة!
وقد أحجم أفراد الكتيبة في بادئ الأمر عندما فكروا في هذا الأمر بهذه الطريقة المنطقية. إلى أن تقدم رجل من المسلمين وقال لهم: أتخافون من هذه النقطة؟ ثم تلا قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إَِّلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً ﴾ ] آل عمران: 145 [ . ثم أقحم فرسه فيها ومضى. فلما رأى الناس ذلك اقتحموا معه. هنا زالت العقلانية المثبطة، وارتفعت سحائب الإيمان والثقة بالله وبوعده للمؤمنين، فبدأوا في اجتياز المخاضة.
فلما رآهم الفرس يقفون على وجه الماء، قالوا: مجانين! مجانين! ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا! وحاولوا منع هؤلاء المتقدمين نحوهم عن طريق الماء ليمنعوهم من الخروج منه. ولكن المسلمين شرعوا لهم الرماح وتوخوا الأعين، فقلعوا عيون الخيول. فرجعوا أدراجهم من حيث أتوا، وواصل المسلمون تقدمهم. حيلة بسيطة استخدمها المسلمون، وهداهم الله إليها لما رأى شدة تمسكهم به، فأدت إلى السيطرة على النقطة الحصينة التي ستكون محور تحرك الجيش بعد ذلك.
ثم نزلت الكتيبة الثانية فالثالثة. ثم أمر سعد بقية الجيش بالنزول في الماء، وذلك بعد تحصن الجانب الآخر بوجود نقاط الارتكاز الإسلامية فيه. وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه. حسبنا الله ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم [9]. هذه هي مبادئ النصر في الحرب في الإسلام. تفويض مطلق للأمر لله، ثم تضرع وابتهال له بأن ينزل نصره وسكينته على المسلمين.

يقول المؤرخون: وسار الناس في النهر كأنما يسيرون على وجه الأرض، حتى ملؤوا ما بين الجانبين. فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة. وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده. فكان ذلك معجزة بكل المقاييس.

ثم أكمل المسلمون معاركهم انطلاقا من هذه النقطة وأكملوا بقية فتوحات العراق. فأين هي الإمكانيات التي كانت متاحة للمسلمين في ذلك الوقت. إنها لم تكن إلا بقدر الاستعانة المطلوبة، ولكن جيشان الإيمان في الصدور هو الذي يقف وراء هذه الانتصارات الباهرة.

وكان سعد يقول: والله لينصرن الله وليه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات [10]. وهكذا يحدد سعد بن أبي وقاص مفاتيح النصر في المعركة. عدم وجود بغي أو ذنوب تغلب الحسنات.
والمتأمل في تاريخ المسلمين يجد الكثير والكثير من المواقف التي وقف فيها المسلمين يواجهون أعتى الظروف، من أسود وفيلة وغيرها، بمجرد إيمانهم القوي المتدفق من صدورهم، ليكتب الله لهم النصر في معاركهم التي خاضوها.

مواقف معاصرة

ومن الأمثلة الحديثة على هذه القضية، ما حدث في جهاد الشعب الأفغاني ضد روسيا. فقد كان هذا الجهاد هو الذي أعاد لأذهان المسلمين مفهوم الجهاد في الآونة الأخيرة. لقد واجه الشعب الأفغاني الدبابات الروسية أول أمره بالحجارة والصخور. لقد آمن الشعب الأفغاني بالحقيقة الإيمانية البديهية التي تمثلها المعادلة التالية: الله أقوى من روسيا. الله لا يُقهر ولا يُهزم! إذن ستُهزم روسيا وتُقهر بإذن الله.

ومن المواقف المثيرة التي واجهتها المقاومة الأفغانية في ذلك الوقت، أنها تعرضت على مدى سبعة أشهر تقريبا لقصف الطائرات الروسية كل يوم مرتين إلى خمس مرات، ولم يستشهد واحد من المجاهدين، وذلك لأنهم كانوا يدعون الله قائلين: اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا تجاه الطائرات، فيحميهم الله.

ويقول أحد المجاهدين: ما هجمت الطائرات علينا مرة إلا ورأيت الطيور تحتها، فأقول للمجاهدين: جاء نصر الله! ولقد توقف ذات مرة مضاد الطائرات، فدعوت الله، فساق الله علينا الغمام تغطينا من الطائرات. ويقول: لقد هجمت علينا ستمائة دبابة وناقلة، وكنا مجموعة من المجاهدين ليس معنا سوى ( 14 ) بندقية مع العصي والسيوف، وهزمهم الله!

ويحكي أحد المجاهدين الأفغان: كانت معنا قذيفة واحدة مع مضاد واحد للدبابات. فصلينا ودعونا الله أن تصيبهم هذه القذيفة، وكان مقابلنا مائتا دبابة وآلية. فضربنا القذيفة، فإذا بها تصيب السيارة التي تحمل الذخيرة والمتفجرات، فانفجرت ودمرت ( 85 ) دبابة وناقلة وآلية، وانهزم العدو، وغنمنا كثيرا [11].

كما أن ما قامت به المقاومة الفلسطينية مؤخرا يعطي أكبر الدلالة كذلك على هذه القضية. فعلى الرغم من قلة إمكانيات المقاومة، وعلى الرغم من تطوير العدو الصهيوني لعرباته المدرعة ودباباته بحيث فشلت أسلحة المقاومة المتمثلة في قذائف الآر بي جي في وقف زحف الدبابة ميركافا من قبل، وخاصة بعد تطوير وتحديث هذه الدبابة لتكون الأحدث والأولى في العالم، حيث ترك هذا التطوير مآسٍ كبيرة في نفوس الأبطال عندما استعدوا لها في مخيم جنين، ولكن كانت طلقات الآر بي جي لا تفعل معها شيئا. وبالرغم من ذلك نجد المقاومة قادرة اليوم على تفجير هذه الدبابة بعد أن قامت المقاومة بتطوير أسلحتها هي أيضا، فأصبحت قادرة على النيل من هذه الدبابة وتدميرها.

فهذه إرادة التحدي التي يبثها الله في قلوب عباده المخلصين ليثبتهم وينصرهم على عدوهم هي التي جعلت المقاومة تستطيع إدخال التطوير على نوعية سلاحها، بحيث استطاعت تفجير هذه الدبابة حتى بعد تطويرها، لتصيب العدو بالصدمة والذهول. لقد نوّعت المقاومة الفلسطينية أسلحتها من الحجارة إلى صواريخ القسّام وهاون حماس والعمليات الاستشهادية.

ويقول أحد قادة لواء ( حبعاتي ) الذي سقط جنوده على أيدي عناصر المقاومة، في معرض تعليقه على ثبات وبسالة المقاومة: كان بإمكان الفلسطينيين أن يتركونا ننسحب متذرعين بتفوقنا الهائل عليهم. لكنهم تحدونا وتجاهلوا مظهر تفوقنا. إن المقاتل الفلسطيني لا يهاب أي شيء. وأضاف ضابط آخر في نفس اللواء: ماذا لو كان هؤلاء يملكون عشرة بالمائة من إمكاناتنا؟ بكل تأكيد لابد أن شكل هذه المنطقة كان قد تغير منذ زمن بعيد.

ونفس الشيء يحدث في الفلوجة. فئة قليلة لا تكاد تملك من حطام الدنيا وأسلحتها إلا الشيء اليسير تقف بالمرصاد في مواجهة أعتى ترسانة للسلاح في العالم اليوم، وتجبرها على التراجع والانسحاب مذعورة من المدينة.

إن الفلوجة هي الأكثر وضوحا والأعمق في هذا الإطار، لأنها مدينة صغيرة ( حوالي 200 ألف نسمة )، وهي تواجه أكبر قوة غاشمة في التاريخ، فليس بعد الولايات المتحدة قوة الآن. وبالتالي فإن درس الفلوجة هو الدرس الأوضح، الذي لا يمكن أن يكابر أحد أو يغالط أحد في أننا أمة قادرة على المواجهة والصمود. وأن أصغر قرية في العالم، وبالذات العالم العربي والإسلامي، لأسباب حضارية وثقافية ودينية مرتبطة بالجهاد والاستشهاد، قادرة على مواجهة الولايات المتحدة والصمود أمامها، بل وإنزال أكبر الأذى بها.

إن ظهور المقاتلين في فلسطين والفلوجة يمسكون المصحف الشريف بيد، والبندقية أو أي سلاح آخر باليد الأخرى، هو دلالة هامة على تطور البعد الإسلامي والعقائدي في الصراع ضد العدو، وهو شرط ضروري للصمود والانتصار في معاركنا.

الخاتمة

يجب أن يسود بين المسلمين مفهوم الاستعلاء على قوى الكفر بديلا عن الانبطاح والتركيع. فالمسلمون الأوائل عند مجابهة حضارة الروم والفرس كانوا يشعرون أنهم هم الأعلون حتى وإن كان الروم والفرس متفوقون عليهم في التقدم العلمي وتقنيات الحياة. لكن كان إيمانهم يعطيهم دفعة كبيرة للاستعلاء على سائر من حولهم، وذلك تطبيقا لقوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ اْلأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ ] آل عمران: 139 [ .

إن السُنة التي يتعامل بها الله سبحانه وتعالى معنا تتمثل في وجوب أن نتصف بعدة صفات: عدم معصية الله، وإعداد ما في الاستطاعة، واليقين في نصر الله، وصدق اللجوء إلى الله، وضرورة مراجعة النفس وتغييرها إلى الأفضل. فمتى تقاعسنا عن تحقيق أحد هذه الشروط، تساوينا مع الأعداء عند الله، فعندئذ تسود سُنة ربانية أخرى، تتمثل في إحراز الفئة الأقوى للنصر.

إن المتأمل في واقع خطط الأعداء في القديم والحديث يجدها تتمثل في إغراق الشعوب في الملذات والملهيات والشهوات، حتى تغدو كالقطعان السائمة التي لا تعرف معروفا ولا تُنكر منكرا، بحيث تصبح شعوبا لا هم لها إلا الترفيه والتسلية. وتنفق الولايات المتحدة وربيبتها دولة يهود الكثير والكثير على إضلال الشعوب، فهذا سلاحهم وطبعهم منذ القديم.

قال صموئيل زويمر رئيس جمعيات التبشير لزملائه من المبشرين في مؤتمر القدس عام 1935: إنكم أعددتم شبابا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية. وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده له الاستعمار: لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل. ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات. فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز فللشهوات. ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء [12].

وهكذا تخمد جذوة الإيمان في الصدور، فتصاب حركة المسلمين بالشلل والتوقف التام. إن المحرك الأساسي للمسلمين هو الدافع العقدي. فلو تحولت حركة المسلمين لكي تصبح في سبيل تحقيق شهوات النفس، فهذا هو بداية طريق الانحراف عن جادة الصواب، والهزيمة في كل ميادين الحياة، وفي معركة القتال بالطبع. إن على المسلمين أن يسايروا التطور الحادث في جميع مناحي الحياة، ولكن بنظرة مختلفة لما ينظر إليها الآخرون. فهم يفعلون ذلك بدافع من إيمانهم بالله. فكل عمل يفعلونه فإنهم يبتغون من ورائه وجه الله. وهذا هو الفارق الجوهري بينهم وبين غيرهم. وما لم يحدث ذلك، أي ما لم يظهر الجيل الرباني الذي يحمل هم مرضاة الله سبحانه وتعالى من وراء جميع أفعاله، فلا تنتظر من المسلمين تحقيق أي تقدم أو انتصار، بغض النظر عن إمكانياتهم أو تقنياتهم.

12 من ربيع الثاني عام 1425 ( الموافق في تقويم النصارى 30 مايو عام 2004 ).

-----------------------
[1] صحيح / صحيح سنن أبي داود للألباني، 4297
[2] العقد الفريد: 1/119.
[3] عبد الكريم زيدان، السنن الإلهية في الأمم والجماعات، مؤسسة الرسالة، 2002. ص ص: 66-67.
[4] أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/65.
[5] تاريخ الأمم والملوك: 2/307.
[6] سعيد عبد العظيم، طبيعة الصراع بين المسلمين واليهود، دار الإيمان، 2001. ص: 60.
[7] الكامل في التاريخ: 2/260.
[8] البداية والنهاية: 7/53.
[9] البداية والنهاية: 7/53.
[10] البداية والنهاية: 7/54.
[11] كل هذه الروايات مأخوذة من: عبد الله عزام، آيات الرحمن في جهاد الأفغان.
[12] عبد الله التل، جذور البلاء، المكتب الإسلامي، 1998. ص: 276.
 

مـقـالات