اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/arabic/majed/40.htm?print_it=1

فاجعة الخبر

ماجد بن محمد الجهني

 
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد:

فلقد شهدت بلادنا في الفترة الأخيرة أحداثاً داميةً لم يكن المرء المسلم في كثير من أحواله متوقعاً لوصولها إلى هذا المستوى المؤلم الذي وصل إلى حدٍ مفجعٍ جعل كل واحد منا يتساءل وبكل حرقةٍ : ماهذا الذي يجري في بلاد الحرمين ؟ ولصالح من؟ ومن الذي يقف وراء هذا السعي الدؤوب لتشتيت شمل ووحدة هذه البلاد التي كان الدين ومازال وسيظل أصيلاً في قلوب أبناءها؟.

الحقيقة أن الذهول والصدمة لم تفارق محياي وأنا أتأمل في تسلسل الأحداث بهذا الشكل المتسارع ولم أفق من تلك الصدمة إلا على هول الواقعة الباقعة والمصيبة المؤلمة في مدينة الخبر التي كانت المسرح الأخير لهذا العبث المروع بالحرمات الثلاث :حرمة الدين وحرمة الدم وحرمة البلاد .

نعم الذهول لم يرتسم علي فقط وإنما على كل من قابلت حيث السؤال الكبيرالمؤلم : إلى أين يسير بنا هؤلاء؟ وماهو موقع جزيرة الإسلام في فكرهم؟ وهل أصبح الأصل في بلادنا لدى هؤلاء أنها دار حرب يسفكون فيها مايشاءون من الدماء وكأن هذه الدماء قد وكلوا على سفكها بصكوك شرعية لايرون الحق إلا بها ومن خلالها؟.

أسئلةٌ مُرةٌ جوابها يتبين من خلال التأمل الرصين والواعي في الأصول الفاسدة التي بنى عليها هؤلاء أفكارهم ومن ثم رتبوا على هذه الاعتقادات الباطلة هذه الأفعال الشنيعة التي يتبين يوماً بعد آخر عوارها وشدة انحرافها عن منهج الحق والدين وإلا فأي عقل هذا الذي يسمي ماحدث في مدينة الخبر بمسمى (غزوة الخبر) كما في تلك البيانات الانترنتية المنحرفة التي تتلاعب بالمصطلحات في أسلوب ينم عن جهل مركب وإيغال شديد في حمأة الجرأة على الاعتداد بالرأي الأعوج والزهد في رأي كل ناصح وموفق من أهل العلم والمشورة.

أي غزوة هذه التي قتلت مسلمين قبل أن تقتل معاهدين؟ ، أي غزوة تلك التي يكون وقودها دماء وأموال المسلمين وزعزعة الأمن في ديارهم لكي تصبح في النهاية هدفاً سهلاً لكل طامع ،ومضحكةً يشمتُ بها كل حاسد؟ فيالله ما أعظمها من فرية وما أشدها من جريمة تلك التي استحلت فيها دماء حرمها الله عزوجل.

إن المؤمن لايزال في فسحة من دينه مالم يقارف دماً حراماً كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، وإن ممن سقط في تلك الجريمة رجال من المسلمين وعندها يتساءل المرء بكل حرقة قائلاً لهؤلاء: ماهو جوابكم أمام عزوجل عن سقوط حراس الأمن المسلمين الذي استخففتم بحرمة دمائهم ؟ وماهو جوابكم أمام الله عزوجل عن دماء أولئك المعاهدين الذي خفرتم ذمة المسلمين فيهم بتأويل فاسد نقل للعالم أجمع صورةً تقول : إننا أمةٌ لانحترم عهودنا بل لانحترم أصولنا العقدية التي ينسى بعضنا شيئاً منها حين يقع تحت تأثير حب الانتقام ممن أدموا جراح إخواننا في مكان آخر وهو مالايليق بمسلم أن يفعله ، فنحن لسنا كغيرنا من الأمم همجٌ رعاعٌ لايحتكمون إلى دين ولايردعهم وازع.

إن المؤمن الحقيقي لايعتدي على أموال الناس ولا على أنفسهم فقد أخرج الإمام أحمد من حديث فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع :( ألا أخبركم بالمؤمن ؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده....الحديث). قال العلامة الألباني رحمه الله : وهذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات.

نعم هكذا أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فالمؤمن يأمنه الناس كل الناس دون تحديد لون أو جنس أو أرض أو حتى دين ، يأمنونه على أموالهم وأنفسهم ، والمسلم من سلم الناس وأيضاً كل الناس من لسانه ويده ، فأين هذه الأعمال وأصحابها عن هذا المعنى الإيماني العظيم.

إن الذي قارفه هؤلاء بفعلتهم تلك من الذنوب الشنيعة التي ورد فيها الوعيد الشديد الذي يجعل المؤمن يصاب بالخوف الشديد من الله عزوجل قبل أن يقدم على مثل هذا الوادي السحيق والذي تزل فيه الأحلام بأصحابها فعن أم الدرداء قالت: سمعت أبا الدرداء يقول :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(كل ذنب عسى الله أن يغفره ، إلا من مات مشركاً ، أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً) أخرجه أبوداوود وابن حبان والحاكم وأبو نعيم وابن عساكر وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي . وقال العلامة الألباني رحمه الله : وهو كما قالا.

قال السندي في حاشيته على النسائي :" وكأن المراد كل ذنب ترجى مغفرته ابتداءً إلا قتل المؤمن ، فإنه لايغفر بلا سابق عقوبة ، وإلا الكفر فإنه لايغفر أصلاً ، ولو حمل على القتل مستحلاً لايبقى المقابلة بينه وبين الكفر (يعني لأن الاستحلال كفرٌ ، ولافرق بين استحلال القتل أو غيره من الذنوب إذ كل ذلك كفر). ثم لابد من حمله على ما إذا لم يتب ، وإلا فالتائب من الذنب كمن لاذنب له ، كيف وقد يدخل القاتل والمقتول الجنة معاً ، كما إذا قتله وهو كافر ثم آمن وقُتل" . أ.هـ.

فهل يعي أمثال هؤلاء مامعنى استحلال الدماء المسلمة بشبهة التترس وبشبهة أنهم يحرسون الأمريكان والغربيين؟ هل يعي هؤلاء مامعنى حقن دماء المسلمين والأبرياء؟ هل فقه هؤلاء الموقع الطبيعي لمن استحل دم مسلم ولم يتب من ذلك وماهو الفرق بينه وبين من كفر بالله؟

إنني أتساءل بكل مرارة وأقول لهؤلاء لماذا أوجبتم السيف والقتل بالشبهة على إخوان لكم في الدين مع أن المسلم لايرى السيف إلا على من وجب عليه السيف وذلك أن شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله تعصمه من ذلك ، يقول صاحب الطحاوبة ( ولانرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف)أ.هـ.

وفي الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لايحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة".

بل إن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد درأ الحدود بالشبهات صيانةً لحرمة الدماء وتعظيماً لشأنها وحتى قال عليه الصلاة والسلام " ادرءوا الحدود بالشبهات" وهذا والله من أعظم الأمارات الدالة على ماللدماء من حرمة ومكانة توجب على المسلم صيانتها لا خيانتها والفتك بها دون تورع.

وحتى دماء المستأمنين لها من الحرمة في الإسلام مالايخفى على من له أدنى حظ من العلم فقد قال عليه الصلاة والسلام : "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ".

وعن رباح بن ربيع قال " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلاً فقال : انظر علام اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال : امرأةٌ قتيلٌ ..فقال: ماكانت هذه لتقاتل! قال : وعلى المقدمة خالد بن الوليد ، فبعث رجلاً فقال: قل لخالد لايقتلن امرأةً ولاعسيفاً" رواه أبو داود بإسناد صحيح.

فياسبحان الله امرأة وفي غزوة وقتيل ثم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه العظيم الذي ينم عن عظمة هذا الدين وعظمة المرسل به رحمة للعالمين والذي وجه خالداً بعدم الاعتداء هذه المرأة حتى وهم في حالة حرب والتحام بين الصفوف ، فكيف بمن لايراعي ذلك في دار سلم وليست دار حرب وفي دار إسلام وليست دار كفر فيقتل فيها ويفجر ويروع ويخيف ويفسد ويجعل عاليها سافلها ثم هو يفتخر بذلك ويدبج في ذلك البيانات تلو البيانات .

ألا وإن وجود المنكرات والمعاصي والكبائر لايجب أن يحمل على مثل هذه التصرفات التي تؤدي إلى فتن عظيمة وهرج ومرج ، والمؤمن وإن رأى من إمامه مايكره فعليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعليه ألا يكون عوناً على المنكر مع وجوب السمع والطاعة مالم يؤمر بمعصية فإن أمره إمامه بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فقد أخرج مسلم في صحيحه من طريق عوف بن مالك الأشجعي مرفوعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( خيارأئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، ويصلون عليكم وتصلون عليهم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم . قيل: يارسول الله ! أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال : لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه ، فاكرهوا عمله ، ولاتنزعوا يداً من طاعة) ، إذا فلا منابذة بالسيف ما أقاموا فيكم الصلاة ولا ينزع المسلم يداً من طاعة مع عدم إغفال كراهية المنكر وإنكاره ومحبة المعروف والأمر به.

وقد وأخرج مسلم أيضا من حديث ابي هريرة مرفوعا ( من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ، مات ميتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ، ولايتحاشى من مؤمنها ، ولايفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه).

هذه الأدلة وغيرها كثير مما لايتسع المقام لذكره هي مما ينبغي على المسلم أن يستحضره وهو ينظر لهذه الأحداث وإن الواجب على علمائنا أن يتداعوا لتدارس مثل هذه الظاهرة ونأمل أن تتيسر لهم الأمور لكي يساهموا بعلاج هذه الظاهرة بكل حكمة وروية فإن الأمر جلل والمصاب عظيم ولاينبغي أن ينبري لعلاجه إلا حكماء القوم وأما سفهاء القوم وأصحاب الأقلام الصحفية العوراء الزائغة الذين يرون في هذه الأحداث فرصتهم الذهبية لتصفية الحساب مع التيار السلفي ومحاربة رموزه ويرونها فرصةً لنشر أفكارهم الرذيلة التي قاتلوا سنين لنشرها في المجتمع فهؤلاء يجب أن يبعدوا لثبوت فشل أطروحاتهم ولثبوت حرصهم على استمرار دائرة العنف ولو كان الأمر بأيديهم لأضافوا للقائمة أسماءً وإن كانوا قد حاولوا وفشلوا ، وإنني أرى في أنه يجب أن يحاكم منهم من يثبت تورطه في الاعتداء على حرمات الدين التي هي أعظم من حرمات الدماء ، فإن فقدان الناس لأرواحهم يهون بجانب سعي بعض حثالة الفكر والرأي لحرب المجتمع في أغلى مايملك في عقيدته ودينه.

إن سفينة مجتمعنا تواجه الغو بطرفيه الديني واللاديني وعليه فإن من مستلزمات علاج هذه الأزمة أن ننظر في طرفي الموضوع وأن نأخذ على يد الغلاة حتى تنجو السفينة.
 

صليل القلم
  • صليل القلم
  • مختارات
  • الصفحة الرئيسية