اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/daeyat/kearieh/30.htm?print_it=1

حقوق محفوظة أم تشريع محفوظ

أ.خيرية الحارثي

 
بسم الله الرحمن الرحيم


لو أن كلَّ إنسانٍ على وجه البسيطة تفكَّر أن هناك يومًا يجمع الله فيه العباد للعَرْض والحساب، يومًا طويلاً رهيبًا، تجثو فيه جميع الأمم على الرُّكب، إنه يوم الوجل والإشفاق، أظنه لو شغل حيِّزًا عظيمًا من تفكيرنا، ما تجرَّأنا على التقصير في حقِّ الله، ولما ظلم بعضنا بعضًا، ولما هجر من هجر، ولما عمل أحدنا عملاً تجري عليه سيئاته إلى ذلك اليوم، يوم الحسرة والندامة؛ يقول - عز من قائل-: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56]، إنه اليوم الذي يَنسى فيه المفرط شهواته التي باع دينه من أجلها.

ففي هذا العصر الذي تهدده الأمواج من كل حدب وصوب، يبرز لنا من بناتنا وأبنائنا من تثقل بهم أهواؤهم، وتنزع بهم أنفسهم إلى نزعة طائشة تشرد بهم عن سواء السبيل، وتزين له فعلاً لا ينظر إلى عواقبه، فيُسخِّر مواهبه لأغراضه الدنيويَّة، ويريد أن يؤلف الأمة على خلق جديد، ويصوغها على هواه، ضاربًا بعرض الحائط جميع عواقبه، كلما لاحت له الفرصة.

إن هذا الدين القَيِّم العظيم المنسق، الذي ارتضاه الحكيم العليم لعباده دون زيادة أو نقصان، إخلاص، واتِّباع، ورضا، يسير فيه المسلم على ما يحبه ربُّنا ويرضاه، لا ما يحبه الهوى والنفس الأمارة بالسوء.

فهذه واحدة من أخواتنا المسلمات تريد أن تجدد في حجاب المسلمة وتطوره وتصمِّمه، متناسيةً أن الحجاب عبادة، وليس لها الحق في تصميم أو تبديل أو تطوير، وبعد هذا تقول: تريد من يحفظ لها حقوقها، متصورة أنها صاحبة حق، وأنها ستقدِّم للنساء في بلاد الحرمين خيرًا عظيمًا، وما هو إلا شرٌّ مستطير، ومشروع مُدَمِّر، وخسران واضح، بل هو وصمة عار تفري وتستشري في مسلسل تحوُّل المجتمع النسائي العفيف للتخلِّي عن الحشمة ونبذ الحياء، في عصر هو مرتع خصب منفتح، يواجه شبابه وفتياته تيارًا سحيقًا لما تُقدمه وسائل الإعلام من شهوات تفلُّ الحديد.

ثم تقولين: حقوق! حقوق ماذا؟! وهل فرض الحجاب - العباءة - ألعوبة في يديك، أو يد غيرك لتصمِّمي وتزيِّني؟!

لك الله، أيتها العباءة، الكل يتآمر عليك، والأصوات تتصارع إلى تطويرك؛ لأنك قديمة، ومنهم من يسعى إلى تحطيمك؛ ظنًّا منه أنك قيود وانغلاق، فمن غير الممكن أن يسقطوك بالكُلِّيَّة؛ فأنت صَدَفة لنساء هذا البلد الطاهر المتوَّج بأهل الخير والصلاح؛ لكنهم يناوشون على نار هادئة.

فالتحرُّر في الحجاب، والتصميم في العباءات يسير على مكث، وينضج على مراحل؛ حتى يُصَبَّ علينا شواظٌ من نحاس، وها هي صارت بألوان زاهية، وخطوط لامعة، ونقوش و\"خنصرة\" على الأجسام تجذب لبَّ الحليم، ولها مُسمَّيات وألقاب، فمن فراشة إلى خفاش، وربما ستصل إلى ما لا نعلم، ولعلَّ المراحل المقبلة تثبت صحة أقوالنا، نسأل الله السلامة!

ماذا تنشدين؟ وإلى ماذا يا أختي تسعَين؟ إن كنت تطلبين مالاً وشهرةً، فاطلبيه من تجارة مُبَاحة، فما أوسعَ الرزقَ الحلالَ! ولك فرصة التوسع الطيِّب؛ فالمسلم يتحرَّى بعمله وجه الله، ويجعله مطمح نظره في صغريات الأمور وعظيمها، فالله - تعالى - يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].

وإن كانت موهبة، فسخِّريها؛ لتصميم الملابس النسائيَّة المحتشمة، فتكون موهبتك قد بنيت على أساس ركين من الطهر والنزاهة، اصرفي موهبتك لإرضاء الله وإيثار ما لديه من ثواب، واقنعي بالطيب الميسور.

وإن كنت تقصدين بهذا التصميم والتطوير تقدُّمًا وحضارة، فإننا نتساءل: إلى متى سنظل تحت هذه المظلة الوهمية؟! فزينة الحجاب ليست صكًّا للمعاصرة والتقدُّم، الحضارة هي الاستهداء بنور الإسلام، والسعي المتواصل للمحافظة على هويته؛ فهو المنطلق الأول لعملية النهوض الحضاري، أما التقدُّم الزائف فما هو إلا زيف ترحيب، كترحيب القط بالفأر.

إنني لا أنسى قول صديقة لي من دولة عربيَّة مسلمة متزوجة من رجل ألماني مسلم، كان يقول لها: (لو أسلمت ألمانيا، لحملت الدنيا على كفَّيها)، فلم تكفهم الحضارة يوم فقدوا نور الإسلام، وهذا العالم برناردشو يقول: إن العالم لو أخذ بالإسلام، لبرأ من جميع عِلله التي يشكو منها، والتي أصبحت مهددة لوجوده.

وما التبرُّج والتزيُّن الذي تفعله نساء اليوم إلا جاهليَّة، الجاهلية التي دعا الله الناس إلى نبذها والتخلُّص منها ومن آثارها، في أكثر من آية تضم مقارنات بين الحالتين؛ حضًّا للمسلمين على اجتناب واحدة والتمسُّك بالأخرى: يقول الله - سبحانه -: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154].

وإن كانت لك نية غير ذلك - وحاشاك - كالتحرُّر ولفت أنظار الرجال، فلا تكوني ممن يرفع لهم حواجز البوابات، والتحريض على إشعال نار الفتنة، وإضرامها تحت مواصفات فتَّانة تُدَقُّ جذورها عميقًا، يصعب اقتلاعها.

فالمسلمة التي منحها الله العقل، وكرَّمها بالحجاب والستر، تتخذ العبرة مما أصاب كثيرًا من مثيلاتها في البلاد الإسلاميَّة يوم تخلَّت عن حجابها، وذُقْنَ من ويلات التفلُّت والسفور جراحات لا يستهان بها، ولا تخفى على كلِّ ذي لبٍّ، يوم أن استندوا على آرائهم وأهوائهم؛ يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم، فيهدم الإسلام ويثلم).

حقِّقي إسلامك؛ فالمسلم يأخذ الإسلام بشموله، أقيمي وزنًا لأقوالك وأفعالك، زني عملك بميزان الشرع، تفكري في عملك وما حقيقة الدوافع إليه، كوني من المتقين؛ ففي تقوى الله النجاة؛ فهي وصية الأولين والآخرين، وقد كان سلفنا الصالح يشد بعضهم بعضًا بها، فإذا رأى أحدهم أخاه على منكر، قال له: اتقِ الله؛ فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من المبشرين بالجنة، وثاني الخلفاء الراشدين، قيل له: اتقِ الله، فبكى.

فالتقوى تَجَرُّد من حظوظ النفوس، وتَحَرُّر من قيود الهوى.

وكتاب ربنا حافل بآيات التقوى، ولو تمسك بها المسلمون، لكانت لهم الحارس الذي لا ينام، تأخذ باليد عند العثرة في الدنيا، وتنجي بإذن الله من الارتكاس يوم القيامة، ولنتأمل في بعض آيات ربنا؛ يقول - عز وجل -: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71 - 72]، ويقول - جل وعلا -: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61]، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156].

فلا تكوني يا أختي الحبيبة صديقةً للأعداء ووفيَّة للخَوَنة، وأداة طيعة في أيديهم، فإن لم يكن لديك ما تنصرين به دينك، فلا تكوني عونًا على هزيمته.

فبِرَبِّك، عَلاَمَ يتآمر الذين يطالبون بتحرير المرأة، ممن يذرفون عليها دموع التماسيح؟ أيطلبون لها العزة والرفعة والعِفَّة؟ أو لسواد عينيها؟ لا وربي؛ إنهم ينادون بشعائر الفجور، ويترقبون متى تسقط نساؤنا وبناتنا في الوحل الذي سبقونا إليه؛ لأنهم يعلمون أن الأمة لا تسقط إلا بسقوط نسائها.

إن بناتنا وأخواتنا وأخواتك بحاجة إلى من يسوقهن بعيدًا عن المزالق والانحرافات، فلنبذل طاقاتنا وجهدنا، وأموالنا وأنفسنا؛ لتأهيلهِنَّ؛ لمواجهة فِتَن هذا العصر، ولنتحرك قبل أن تكون العاقبة الوخيمة؛ فإن الأمة تشتكي من قلة من يعيشون لها، وكثرة من يعيشون لأنفسهم، إننا نعيش أزمات خانقة، وليس لنا منفذ ومتنفس إلا في التمسك بهذا الدين الذي ارتضاه لنا اللطيف الحكيم، فلنكثف المجابهة، ولنكن على حذر.

 

خيرية الحارثي
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط