صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الانتقائية في الاقتداء !!

 لبنى شرف / الأردن


من يقرأ سيرة النبي المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام، ويرى ما كان عليه من هدي قويم وخلق نبيل، ويرى الرحمة التي أودعها الله في قلبه تجاه أمته، يحبه حبًّا عظيمًا، ويتمنى لو يوفّق إلى الاقتداء به في كل صغيرة وكبيرة.
قال تعالى: ﴿فَبِما رَحمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ ولو كنتَ فَظًّا غَليظَ القلبِ لانفَضّوا مِن حَوْلِكَ﴾؛ [آل عمران:159]، يقول سيد قطب: "فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم، فجعلته ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحيمًا بهم، لينًا معهم، ولو كان فظًّا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب، ولا تجمعت حوله المشاعر؛ فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحِلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام والرعاية، والعطف والسماحة، والود والرضاء.. وهكذا كان قلب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت حياته مع الناس، ما غضب لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئًا من أعراض هذه الحياة، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية، ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه؛ نتيجة لما أفاض عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نفسه الكبيرة الرحيبة، وكان هذا كله رحمة من الله به وبأمته".
ولكن من الملاحظ أن بعض المسلمين يقومون بأفعال يقولون إنهم يقتدون فيها بالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإنها سنة، ويُنكرون على غيرهم عدم اتباعهم لهذه السنن النبوية، ولكنهم في واقع الحال لا يقتدون بالنبي ـ عليه الصلاة والسلام، كالذين يَنكحون أربع نساء، ولكنهم يخالفون هدْي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيوته ومع زوجاته وفي تربية أولاده، فهل هذا اقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم، أم هو إرضاء لأهوائهم ورغباتهم؟ وهل السنة هي أن يتزوج الرجل بأربع زوجات، أم أن يهتدي بهديه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع زوجاته، وإن كانت واحدة؟ إن الزواج هو سنة رسول الله ورسل الله أجمعين ـ عليهم السلام، وأما التعدد فرخصة من الله تختلف باختلاف حاجات الرجال لها، فهناك من لا يطيق الزواج بأكثر من واحدة، فهل هو بهذا مخالف للسنة في فهم من يقول: إن التعدد هو السنة؟ وهل الإمام ابن تيمية والإمام النووي ـ اللذان لم يتزوجا أصلًا ـ قد ضيعا السنة؟ إننا ما سمعنا أن أحدًا من الصحابة عدّد اقتداء بالنبي ـ عليه الصلاة والسلام؛ فالتعدد كان موجودًا في الجاهلية، بل إن أحدهم كان يخاف أن يتزوج بأخرى، فلا يعدل بين زوجتيه، فيجيء يوم القيامة وشقُّه مائل.
ليت الذين يحرصون على التعدد يحرصون أيضًا على الاقتداء بالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حسن معاشرته لزوجاته، وفي أنه تزوج الكبيرة، والمطلقة، والأرملة، وقليلة الحظ من الجمال.
 

أتاني بالنصائح بعض ناسِ *** وقالوا أنت مِقدامٌ سياسي
تزوج باثنتين ولا تبالي *** فنحن أولوا التجارب والمراسِ
فقلت لهم معاذ الله إني *** أخاف من اعتلالي وارتكاسي
فصاحوا سنة المختار تُنسى *** وتُمحى أين أربابُ الحماسِ؟
فقلت أضعتُم سننًا عِظامًا *** وبعض الواجبات بلا احتراسِ
لماذا سُنَّةُ التعداد كنتم *** لها تسعون في عزمِ وباسِ
وشرع الله في قلبي وروحي *** وسُنة سيدي منها اقتباسي
إذا احتاج الفتى لزواج أخرى *** فذاك له بلا أدنى التباسِ
ولكن الزواج له شروطٌ *** وعدلُ الزوج مشروطٌ أساسي
 

وهناك من يقتدي بالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولكن في بعض الجزئيات التي لا يتعدى أثرها صاحبها، كالاقتداء به ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الأمور المتعلقة باللباس مثلًا، واللحية، والشعر، والسواك وما شابه، فهذه الأمور لن يتأثر بها غيره إن فعلها هو، أو إن لم يفعلها، ولكنه إن عطس ولم يضع شيئًا على فمه ـ كما كان يفعل عليه الصلاة والسلام ـ فسوف يتأذى ويتقزز منه الناس، وكذلك إن كان فظًّا في معاملته فسينفر منه الناس، فلماذا لا يقتدي بالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في مثل هذه الأمور كاقتدائه به في تلك الأمور؟ ألأنها شاقة على نفسه، أما قضايا اللباس واللحية والسواك.. فسهلة التطبيق، أم ماذا تراها تكون الأسباب؟!
أو كالذي يرى - بحسب فهمه - أن (المسبحة) بدعة، ولكنه في المقابل لا يتحرى الدقة في مواعيده، أو ربما يخلفها! وكذلك التي تحرص على الاقتداء بالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في صلاته وفي صيامه، ولكنها لا تتورع عن الغِيبة، ولا عن إيذاء جاراتها!
لماذا هذه الانتقائية في الاقتداء؟ لماذا الاهتمام بمثل هذه الأمور - التي ذكرت – والتركيز عليها، وإهمال القضايا المتعلقة بالمعاملات، وحقوق العباد؟ ألا يخشى هؤلاء وأمثالهم أن يفتنوا الناس، أو أن يصدّوهم عن دين الله؟ الأمر – كما أرى - يحتاج إلى إعادة نظر، وإلى وقفة صادقة مع النفس.
أعجبني كلام الرافعي، عندما قال: "وأنا فما ينقضي عجبي من هؤلاء العلماء الذين هم بقايا تتضاءل بجانب الأصل؛ يبحثون في سُنن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: كيف كان يأكل ويشرب ويلبس ويمشي ويتحدث؟ كأنهم من الدنيا في قانون المائدة، وآداب الولائم، ورُسوم المجتمعات؛ أمّا تلك الحقيقة الكبرى، وهي كيف كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقاتل ويحارب؛ لهداية الخلْق؟ وكيف كان يسْمو على الدنيا وشهواتِها؟ وكيف كان بطباعه القوية الصريحة تعديلًا فعّالًا في هذه الإنسانية للنواميس الجائرة؟ وكيف كان يحْمِل الفقر ليكسِر به شِرَّةَ النواميس الاقتصادية التي تقضي بجعلِ الأخلاق أثرًا من آثارِ السَّعَة والضيق، فتُخرجُ من الغنيِّ مُتعفِّفًا ومن الفقيرِ لِصًّا؟ وكيف استطاع ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفقره السّامي أن يُحوِّلَ معنى الغِنى في نفوس أصحابه، فيجعله ما استغنى عنه الإنسانُ من شهوات الدنيا وتَرَك، ما نالَ منها وجَمَعَ؟ أما هذا ونحوُه من حقائق النبوَّة العاملة في تنظيم الحياة فقد أهملوه؛ إذ هو لا يوجَد في الكتب وشُروحِها وحواشيها، ولكن في الحياة وأثقالِها وأكْدارِها".


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
لبنى شرف
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط